كنتم خير أمة أُخرِجت للناس (الحلقة الأولى)

كنتم خير أمة أُخرِجت للناس (الحلقة الأولى)

مها دبوس

الإسلام هو دين الله الحق الذي أنعم به على البشر أجمعين، حتى يرقى بهم إلى أعلى الدرجات الروحانية ويهديهم إلى سبل التعرف على خالقهم والتقرب منه. وهو الدين الكامل والشريعة النهائية،ولن تحتاج البشرية بعده إلى أي تعاليم جديدة من الله حتى نهاية الزمان.

جاء الإسلام من أجل الناس جميعا، ولم يُخصص لفئة أو قوم أو شعب معين. فقد قال الله سبحانه وتعالى الرسول :

قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبِعوه لعلكم تهتدون (الأعراف: 159)

ولما كان الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله للبشرية جمعاء، فقد وعد الله المسلمين بالنصر

والغلبة على كل أعدائهم، وبسيادة دينهم على كل الأديان الأخرى. فقال سبحانه وتعالى:

هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا (الفتح: 29)

وبالفعل صدق الله وعده، وانتصر المسلمون الأوائل على أعدائهم، وانتشر دينهم في العالم الذي شهد نهضة عظيمة على يد المسلمين في ذلك الوقت. وأصبحت أمة المسلمين أعظم الأمم التي سادت العالم وتفوقت على غيرها من الأمم في كل المجالات المادية والروحانية. وتحقق قول الله سبحانه وتعالى للمسلمين:

كنتم خير أُمُة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (آل عمران: 111)

والتاريخ يشهد بأن المسلمين الأوائل كانوا حقا خير الأمم على وجه الأرض.

ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟ وكيف صارت اليوم خير أمة أخرجت للناس؟

لقد تدهورت أحوال المسلمين ماديا وثقافيا وأخلاقيا، واختفت الروحانيات تماما من كل

المجتمعات الإسلامية. وفقد المسلمون سيادتهم في العالم، بل أن أتباع الديانات الأخرى تمكنوا من السيطرة عليهم وفاقوهم في كل المجالات. وأصبح المسلمون في مذلة وهوان بعد أن كانوا قادة العالم ورواد الحضارة. لماذا حدث ذلك؟ لماذا أصبح هذا هو حال خير أمة أخرجت للناس؟ وماذا حدث للوعود الإلهية التي وعد بها الله أتباع رسوله المصطفى ، الذي أرسله سبحانه وتعالى بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله؟ لماذا لا ينصر الله المسلمين على أعداء دينهم الآن كما فعل في الماضي؟

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:

ذلك بأن الله لم يك مغيِّرًا نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم (الأنفال: 54)

    إن الله لا يحرم الناس أبدا من أي نعمة تمتعوا بها إلا إذا تغيروا هم بأنفسهم وفقدوا استحقاقهم لهذه النعمة. والغرض من ذلك هو أن الله يريد أن يُبَيِّن لهؤلاء الناس أن هناك خطأ في سلوكهم أو في أعمالهم، حتى ينتبهوا إلى هذا الخطأ ويصلحوا من أنفسهم. ويفعل الله ذلك بسبب حبه لهؤلاء الناس ورغبته في إصلاحهم، وبالتالي فإنه يفعل ذلك من أجل مصلحتهم، مثل الأب الحنون الذي يعاقب أولاده حتى ينتبهوا إلى أخطائهم ويصلحوا من

أنفسهم، وبذلك يضمن تربيتهم أحسن تربية.   إذن فلابد وأن يكون السبب وراء هذه المعاناة التي يعاني منها المسلمون اليوم هو أعمالهم وسلوكهم. ولا بد وأن يكون قد طرأ التغير السيء في نفوسهم حتى يصل بهم الحال إلى ما هم عليه اليوم ويفقدوا تأييد الله لهم. لقد كان المسلمون الأوائل في أحسن حال، وحققوا نهضة عظيمة في كل المجالات، وعلَّموا غيرهم من الأمم، واستمروا في تقدمهم إلى أن بدأت الأمة الإسلامية في نسيان دينها والابتعاد عن تعاليم ربها، وعند ذلك تدهورت أحوال المسلمين وفقدوا سلطتهم وسيادتهم على العالم. وكما يقول الله سبحانه وتعالى: إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون (يونس: 45)     لقد هجر المسلمون دينهم الأصلي، ونسوا الله فأنساهم أنفسهم. وبدلا من أن يأمروا الناس بالمعروف وينهون عن المنكر، راحوا يقلدون غيرهم من الأقوام الذين لا يؤمنون بالله، واتبعوا تقاليد الآخرين وعاداتهم البعيدة كل البعد عن تعاليم دين الإسلام الحنيف، مما أدى إلى فقدانهم لذاتهم التي ميزتهم عن سائر الناس والتي مكنتهم من سيادة العالم. وبالتالي تفرقوا واختلفوا وأصبحوا فريسة سهلة تنقض عليها الوحوش المفترسة من كل جهة.

صحيح أن هناك من بين المسلمين بعض الأفراد المخلصين لدينهم، وهم يحاولون بأقصى جهدهم أن يتمسكوا بتعاليم الإسلام الحقيقية، وأن يطيعوا أوامر الله ورسوله على قدر المستطاع، ولكنهم قلة، ضعفاء ومتفرقون. أما أغلب المسلمون اليوم فقد نسوا دينهم وابتعدوا عن تعاليمه، بل إن بعضهم لم يكتف بذلك فقط، ولكنه علاوة على ذلك راح يستهزئ بالدين أيضا، وبذلك أتاح الفرصة لأعداء الحق أن ينالوا من الإسلام ويشككوا فيه ويسيئوا إليه، حتى يُنفِّروا الناس من دين الله الحنيف ويُبعدوهم عن اتباع تعاليمه.

ولكن بكل تأكيد، إن الله لن يترك دينه ليكون فريسة في أيدي مثل هؤلاء العابثين، ولن يسكت أبدا على هذه الصورة المنفرة التي يحاول أعداء الإسلام أن ينسبوها إلى دينه الكامل النهائي، هذا الدين الذي أرسله الله وارتضاه للناس أجمعين حتى يظل معهم من أجل هدايتهم حتى آخر الزمان، هذا الدين الذي وعد سبحانه وتعالى أن يحفظه للبشرية ويحميه وينصره ويظهره على الدين كله.

ولن ينسى الله أبدا وعوده للمسلمين، ولن يخذل خير أمة أخرجت للناس. وإذا كان المسلمون قد نسوا الله فإنه سبحانه وتعالى لن ينساهم، ولن يُضيع أمة حبيبه المصطفى . ولن يتخلى الله أيضا عن بقية البشر ولن يتركهم على ضلالهم، ظانين ظن السوء بهذا الدين الحنيف.

فهناك كثير من الناس، لا يدينون بالإسلام وحتى لا يؤمنون بوجود الله عز وجل، بسبب عدم وصول الرسالة الإلهية إليهم بالصورة الصحيحة. إن هؤلاء قد كفروا لأنهم لم يعرفوا أبدا الدين الحقيقي، بل إن كل ما وصل إليهم صورة مشوهة من الدين الأصلي، وبطبيعة الحال أنهم نفروا من هذا الدين ولم يؤمنوا به. فكيف يحاسب الله هؤلاء الناس إذا لم يكونوا قد اتطلعوا بالفعل على الرسالة الإلهية الحقيقية؟ فقد قال الله سبحانه وتعالى:

ولو أنَّا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنَتَّبع آياتك من قبل أن نذِلَّ ونخزى (طه: 135)

إذن فلا يمكن أبدا أن يحاسب الله هؤلاء الناس قبل أن يرسل إليهم من يُوصِّل إليهم الصورة الحقيقية للدين.

صحيح أن الله قد أرسل رسوله الكريم ونبيه المصطفى بالهدى ودين الحق إلى الناس أجمعين. وصحيح أنه قد جاء للبشر حاملا إليهم القرآن الكريم الذي يحتوي على الشريعة الكاملة وكل التعاليم السامية التي تهدي البشر إلى وسائل رفعتهم ونهضتهم، وأنه أيضا بَيَّن لهم الطرق التي يجب عليهم سلوكها من أجل بلوغ أعلى الدرجات الروحانية، حتى يتعرفوا على خالقهم وينالوا شرف القرب منه. ولكن كل هذا لا يكفى، لأن الناس بطبيعتهم ينسون ويختلفون ويحيدون عن الحق بمرور الوقت. ولذلك فإنهم في حاجة دائمة ومستمرة إلى من يُذكِّرهم بما نسوه، ويُقَوِّمَهم ويعيدهم إلى طريقهم الأصلي الذي حادوا عنه.

وبالطبع إن الله قد وعد المسلمين بحماية هذا الدين، وحفظه من الضياع حتى آخر الزمان. ومما لا ريب فيه أن الله قد صدق وعده وحفظ الإسلام للبشرية حتى يومنا هذا. وحتى الآن هناك بعض المسلمين الذين نجدهم متمسكين بدينهم ومحاولين بأقصى جهدهم أن يطيعوا أوامر الله ورسوله، حسب فهمهم وعلى قدر استطاعتهم. وهؤلاء يحاولون دائبين أن يرفعوا شأن الإسلام ويعيدوا إليه مجده وعزته. ولكنهم كما ذكرنا من قبل، قلة ضعيفة، متفرقة ومشتتة. وهم في أَمَس الحاجة إلى هداية الله لهم، من أجل تحقيق ما يهدفون إليه. فهُم حيارى تائهون لا يدرون أين هو الطريق السليم، ولا يعرفون ما هي تعاليم الإسلام الحقيقية حتى يتبعوها حق الإتباع. وقد زهد البعض منهم في الدنيا وابتعد عن الناس تماما حتى لا يفسدوا دينهم، وبذلك أصبح إنسانا سلبيا وعالة على المجتمع. والبعض الآخر انحرف إلى استخدام القوة والعنف ظانا أنه بذلك سيعيد للإسلام مجده وقوته.

وبهذه الأعمال تسببوا في نفور الناس من الإسلام، وبدلا من أن يُدخِلوا الآخرين في دين الإسلام، تسببوا في إبتعادهم عنه أكثر. وهناك فريق ثالث منهم، وهم الذين يقفون عند مفترق الطرق، ولا يدرون ماذا يفعلون، وأي الطرق يسلكون، ولذلك يظلون في مكانهم ولا يتقدمون أبدا. ومهما زاد عدد هؤلاء، فإنهم لا يتفقون على رأي ولا يتحدون أبدا.

لقد تفرق المسلمون اليوم واختلفوا وأصبحوا طوائف كثيرة لا يعلم عددها إلا الله وحده.

وبالرغم من أن كل المسلمين يؤمنون بالرسول نبيا لهم، ويتبعون تعاليم القرآن الكريم شريعة لهم، فهم اليوم منقسمون إلى فرق كثيرة وتابعون لقادة يختلفون أشد الاختلاف. وبالرغم من انتشار الإسلام في أنحاء كثيرة من الأرض، فإن المسلمين لا يعرفون تعاليم دينهم الصحيحة ولا يطبقوها على أنفسهم، فالإسلام منتشر في العالم بالإسم فقط وليس بالفعل. والمسلمون كثرة ولكنهم كغثاء السيل.

إن كل هؤلاء المسلمين في حاجة ماسة إلى هداية الله لهم حتى يوجههم بنفسه سبحانه وتعالى إلى الطريق الصحيح الذي يؤدى بهم إلى اتباع تعاليم الدين الإسلامي الحقيقية. وبكل تأكيد أن الله لن يتخلى عن هؤلاء المسلمين، ولن يخذلهم أبدا، ولابد وأن يوفر لهم سبل الهداية التي يحتاجون إليها بشدة، حتى يتحقق وعده بحفظ هذا الدين حتى آخر الزمان. فقد قال عز وجل:

إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (الحجر: 10)

وحفظ الذكر لا يتحقق فقط بحفظ نص القرآن الكريم من الضياع أو التغيير، ولكنه يعنى أيضا حماية المعاني الحقيقية لآيات القرآن الكريم من التشويه بالمفاهيم الخاطئة والأفكار الفاسدة التي قد تبتدعها العقول الملتوية وتلصقها بمعانيه السامية.

ويعني أيضا المحافظة على شريعة القرآن الكريم وتعاليم الإسلام من التبديل بالعادات القبيحة والأعمال السيئة التي قد تقوم بها النفوس المريضة وتنسبها إلي تعاليمه الراقية.

إن الناس في كل زمان في حاجة دائمة ومستمرة إلى من يوجههم ويهديهم إلى طريق الدين السليم الذي انحرفوا بعيداً عنه. وهذا الكلام أيضاً على المسلمين اليوم. فبالرغم من وجود القرآن الكريم معهم، إلا أنهم في حاجة لمن يصلح لهم مفاهيمهم الخاطئة ويُبيّن لهم معاني القرآن الحقيقية، ويعلمهم أمور دينهم ويزيل الغبار الذي علق به على مر السنين، حتى يروه على صورته الأصلية كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى يتمكنوا من اتباع تعاليمه الصحيحة حق الاتباع.

بدون شك أن هناك في أمة الإسلام علماء وفقهاء كثيرون متعمقون في الدين وفي أمور الفقه والشريعة، وقد يظن البعض أن هؤلاء يمكنهم هداية بقية المسلمين. ولكن هذا غير ممكن، لأن الكثير من هؤلاء العلماء يختلف مع الباقين في الرأي، وهم لا يتفقون على معاني العديد من آيات القرآن الكريم أو حتى على تعاليم الدين. إذن فإن هؤلاء العلماء أنفسهم في حاجة إلى من يبين لهم الصواب من الخطأ ويحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون.

إن الإسلام في حاجة ماسة إلى قائد واحد يكون على هداية من الله سبحانه وتعالى ويتبع الدين الإسلامي الصحيح حتى يكون قدوة لبقية المسلمين ويوحد صفوفهم جميعاً تحت راية واحدة. إن هذا النظام ليس غريباً عن الإسلام. لقد كان هذا هو النظام المطبق في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين من بعده. كان الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه هم قادة المسلمين، وكانوا يتبعون تعاليم دينهم الصحيحة وكانوا يطبقون الشريعة القرآنية في إدارتهم لشؤون الدولة الإسلامية. وكان الإسلام وقتها بخير. كان المسلمون أمة واحدة وجماعة متحدة، يعملون كَيَدٍ واحدة، يجاهدون في صف واحد، يردون هجوم العدو بعزم واحد، ولهم هدف واحد. وقد حققوا في ذلك الوقت مجد الإسلام وعزته وانتصروا على كل أعدائه ورفعوا راية: (لا إله إلا الله. محمد رسول الله) في كل أركان الأرض المعمورة في تلك الأيام.

إذن فالحل هو أن تعود الخلافة الراشدة إلى أمة الإسلام مرة أخرى حتى يتحد المسلمون ويعود للإسلام مجده وعزته وسيادته. لكن السؤال هو: كيف تعود الخلافة إلى الإسلام؟

إننا إذا تعمقنا النظر في هذا الموضوع سنجد أنه من المستحيل على المسلمين أن يتفقوا على اختيار خليفة واحد من بينهم. فكل فريق منهم سيحاول أن يجعل الخليفة المنتخب من بين أفراد فرقته حتى يتمكن لهم تطبيق معتقداتهم الخاصة بهم ووجهة نظرهم في الدين. وبذلك سيبدأ النزاع من جديد ولن يصل المسلمون إلى أي حل. فما هو الحل إذن؟

لو بحثنا في آيات القرآن الكريم سنجد الحل واضحاً في قوله سبحانه وتعالى:

وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (النور: 56)

هذه الآية تخبرنا صراحة أن الله وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من المسلمين بأن يستخلفهم في الأرض كما استخلف من سبقوهم من عباده. وهذا يعني أن الله وعد المسلمين بأن تكون الخلافة الإسلامية الراشدة فيهم، ما داموا ثابتين على إيمانهم وصالحين في أعمالهم. وبالتالي إذا اختفت الخلافة الراشدة من أمة الإسلام، دل هذا على عدم إيمان المسلمين إيماناً صحيحاً وعدم صلاحهم في أعمالهم. والآية المذكورة هنا تُبيّن لنا أيضاً أن الله بنفسه هو الذي يستخلف من يراه مستحقاً لهذه النعمة. وهذا يعني أنه إذا أراد الله أن يعيد الخلافة الراشدة إلى أمة الإسلام مرة أخرى، فإنه لن يترك هذا ليكون حسب رغبة الناس، ولا عن طريق انتخاب المسلمون لشخص معين من بينهم، بل إن هذا سيتحقق بمشيئة الله وطبقاً لقراره. إنه سبحانه وتعالى هو بنفسه الذي سيستخلف من يشاء، وهو الذي سيحدد من هو الإنسان المستحق لأن يكون قائداً للمسلمين.

ولكن لماذا جعل الله اختيار الخليفة قراره الذي يتخذه هو بنفسه؟ هذا سببه ولا شك أن الذي يشغل منصب قائد المسلمين لا بد وأن يكون أكفأ إنسان على وجه الأرض للقيام بهذه المهمة العظيمة. ولذلك فقد تولى الله بنفسه تعيين هذا الإنسان لأنه هو وحده الذي وسع كل شيء علما وهو وحده المحيط ببواطن الأمور.

إذن فليست هناك أي فائدة تُرجى من محاولات المسلمين الفردية أو الجماعية من أجل اختيار قائد أو خليفة للمسلمين، أو من أجل إعادة الخلافة الإسلامية إلى العالم مرة أخرى، لأن الله بنفسه هو الذي سيتخذ هذا القرار، وهو الذي سيحدد من هو الإنسان المناسب لهذا المنصب، وهو سبحانه وتعالى الذي سيوجه هذا الإنسان ويرشده من أجل هداية سائر المسلمين. وكل ما على المسلمين أن يفعلوه هو أن يتمسكوا بدينهم ويثبتوا على إيمانهم ويقوموا بالأعمال الصالحة ويطيعوا الله ورسوله في كل الأمور. فإذا اختار الله هذا الخليفة من بينهم، وجب على المسلمين أن يطيعوا الله بطاعة الإنسان الذي اختاره سبحانه وتعالى منهم ليكون قائدهم ورائدهم، وإلا أصبحوا مثل إبليس الذي أبى واستكبر أن يسجد لآدم عندما جعله الله خليفة الأرض.

ولكن كيف يحدث هذا؟ كيف يختار الله من بين المسلمين خليفة لهم؟ وكيف يعرف هذا الإنسان الذي اختاره الله أنه هو خليفة الله المختار؟ وكيف يكلفه الله بالمهام التي اختاره من أجلها؟  وكيف يوجه الله هذا الإنسان ويرشده كي يتمكن من القيام بالأعمال التي كلفه بها؟ هل يعني ذلك أن هذا الإنسان سيكون مبعوثاً من عند الله؟ هل يعني أنه سيتلقى الإرشادات من الله عن طريق الوحي؟

إننا إذا درسنا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم سنجد أنه قد تنبأ بكل ما كان مقدراً أن يحدث للأمة الإسلامية من بعده، خاصة ما حدث بالفعل لدين الإسلام في الأيام الحالية. وأنه قد صرح بنفسه صلى الله عليه وسلم بأنه في هذا الوقت الذي تتدهور فيه أحوال المسلمين إلى هذه الدرجة، سيبعث الله شخصاً ليحيي دين الإسلام الأصلي الذي أتى به سيد المرسلين محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وليعيد للإسلام مجده وعزته، وليوحد صفوف المسلمين تحت راية واحدة، وليدعوا الناس أجمعين إلى الدخول في هذا الدين الحنيف، حتى يتغنى العالم بأسره بنشيد: (لا إله إلا الله. محمد رسول الله)، وينتشر دين التوحيد الذي ارتضاه الله للبشر حتى آخر الزمان، في كل أنحاء الأرض.

ولكننا لن نخوض في هذه الأحاديث، أولاً لأننا لا نستطيع إعطائها حقها وسردها بالتفصيل نظراً لضيق المساحة المتاحة هنا، وثانياً لأن الكثير من الناس يفضلون الإعتماد فقط على آيات القرآن الكريم في معتقداتهم. ولذلك فإننا سنكتفي هنا بإثبات هذا الكلام من آيات القرآن الكريم فقط.

ولكن قبل أن نبدأ في دراسة آيات القرآن الكريم، وبيان النبوءات الموجودة فيه بخصوص هذا المجدد الموعود للأمة الإسلامية، علينا أن نتذكر نقتطين هامتين:

النقطة الأولى هي أن القرآن الكريم هو الكتاب الكامل الذي أنزله الله ليكون هدى للمتقين حتى آخر الزمان. ولا يمكن أن يطرأ عليه أي تغيير ولا يمكن أن تُنسخ أي آية من آياته، بل إنه لا يمكن أبداً أن ينسخ ولو حرف واحد من نصه، فهو الذي قال عنه المولى عز وجل:

لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (فصلت: 43)

إذن فلو كان هذا الكتاب الكريم محتوياً على أي نبوءات كان مقدراً لها أن تحدث في وقت ما في المستقبل، فلا بد وأن تكون قد وردت بشكل مُعيّن، بحيث لا تُنسخ الآيات المحتوية على هذه النبوءات، بعد أن تتحقق الأنباء التي أشارت إليها. ولذلك لا يجوز أن ترد النبوءات في القرآن الكريم بشكل مباشر، ولا يجوز أن يُذكر فيه أن حادثة معينة ستحدث في تاريخ محدد، بل أن النبوءات يجب أن ترد في صيغة لطيفة لا تناقض أي آية أخرى من آيات القرآن الكريم، ويجب أن تكون سارية المفعول ومعناها مفهوم، قبل وبعد حدوث هذا النبأ المذكور فيها.

والنقطة الثانية التي يجب علينا أن نتذكرها أيضاً هي أنه عندما تُنبئ الكتب السماوية بمجيء أي مبعوث إلهي في المستقبل، فإنها لا تذكر ذلك بشكل ظاهر ومباشر. بل على عكس ذلك، فإن هذا يكون بشكل مستتر. وأحياناً تستخدم لغة التشبيه والمجاز في التعبير عن حوادث المستقبل. وهذا سببه أن الله يريد أن يهدي فقط من يبحث عن الحق بصدق وإخلاص. ولذلك فإن الله يبين صفات أي مبعوث منتظر بهذا الشكل، حتى لا يتعرف عليه إلا من يستحق هذا الشرف، ومن يبذل المجهود من أجل الاهتداء إلى الحق، وإلا فلن يكون هناك أي فضل لمن يؤمن بهذا المبعوث. وأحسن مثال على هذا هو ما ورد في الكتاب المقدس من نبوءات عن مجيء رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. إذا درسنا هذه النبوءات سنجد أن الباحث المخلص الصادق الدؤوب على معرفة الحق، هو فقط الذي يفهم معناها الحقيقي. أما الباقون فَهُم صم، بكم، عمي، لا يفقهون منها شيء!

وبعد ذكر هاتين النقطتين، نبدأ الآن في دراسة القرآن الكريم، باحثين عن أي إشارات لمجيء هذا المبعوث الإلهي.

إن أول سؤال يطرأ على ذهن أي مسلم هو: كيف سيبعث الله أي إنسان بعد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين، كما جاء صراحة في القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى:

ما كان محمدا أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليماً (الأحزاب: 41)

والسؤال الثاني الذي سيطرأ على ذهن المسلم أيضاً هو: إذا كان الله سيبعث بالفعل شخصاً ليعيد للإسلام مجده، فكيف سيتكلم الله معه؟ إن كلام الله مع مبعوثيه يكون عن طريق الوحي، والاعتقاد السائد في هذه الأيام هو أن الوحي قد انقطع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. فكيف إذن سيحدث هذا؟

بالطبع أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين. وبالطبع أيضاً أن القرآن الكريم الذي أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم هو آخر الكتب المنزلة من عند الله، وأن الدين الإسلامي هو آخر الأديان السماوية، وهو الشريعة الكاملة النهائية. وقد أنعم الله به على البشر وارتضاه لهم، ولن ينزل بعده أي كتاب جديد أو أي شريعة أخرى حتى آخر الزمان.

ولكننا لا نتكلم هنا عن بعث نبي مشرع، يأتي بدين جديد، ولا نتكلم أيضاً عن نزول الوحي الحامل للشريعة. بدون شك أن هذا لن يحدث أبداً بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه جاء بالدين الكامل والشريعة النهائية، وليست هناك أي حاجة للبشر لأكثر من هذا. إن النبوة التشريعية التي أنعم بها الله على الرسول صلى الله عليه وسلم هي التي انقطعت بعده، ولن يأتي الآن أي نبي حامل لشريعة جديدة بعد أن نزل القرآن الكريم المحتوى على أسمى شريعة وبعد أن أتى به الإنسان الكامل – سيد البشر وأفضل خلق الله – سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم.

إن ما نقصده هنا هو بعث إنسان صالح تقي، تابع مخلص لشريعة القرآن الكريم، وخادم أمين لدين الإسلام، يطيع الله رب العالمين، ويسير على منهج سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، كي يزيل الشوائب التي علقت بالإسلام على مر الزمان، ويزيل الخلاف بين المسلمين ويوحد صفوفهم، ويعلمهم أحكام الدين وشرائعه، ويهدي الناس جميعاً ويوجههم إلى طريق الإسلام الصحيح. إن القرآن الكريم لم ينف أبداً إمكانية بعث مثل هذا الإنسان من عند الله.

Share via
تابعونا على الفايس بوك