رحيل الدكتور المسلم محمد عبد السلام

رحيل الدكتور المسلم محمد عبد السلام

محمد نعيم الجابي

صفعة للعالم الإسلامي الغارق في أوحاله

إن ضريبة هذا الزمن الرمادي أن صفحاته لا تليق إلا بمشاهير الممثلين والمطربين. ويكفي وقوف أحدنا أمام كشك مجلات لتطل أمامه الأغلفة الملونة الرؤوس والوجوه المبتسمة.. دائما لأولئك النجوم !! كلمة “النجوم” وضعتها بين قوسين لأنها صفة تطلق على أناس يُفترضر أن تكون نجوميتهم مصدر تنوير لشارع الحياة المظلم.. كما يفترض أن تكون نجوميتهم القدوة لجيل ملَّ الصفعات المتتالية و(بهذلة) الزمان.

لماذا هذه المقدمة؟! ما الذي جرى حتى نستيقظ من سباتنا الشتوي والصيفي المستمر؟

إنه رحيل نجم، نجم ليس من النوع (الفالصو) المتداول هذه الأيام، بل نجم لمع في سماء العلوم وقدم نظريات قادت إلى ثورة في عالم فيزياء الكمّ Quantum Physics  مما كان له انعكاساته على اكتشافات علمية هامة جدا كشفت آفاقا جديدة ما كانت لتحدث لو لا وجود رجل مستنير الذهن، متوقد الذكاء، ذو شخصية جذابة والأهم من ذلك كله أنه مخلص لأسمى الديانات السماوية ألا وهي الإسلام.

قد يرى البعض أن حصول البروفسور الدكتور المسلم الراحل عبد السلام على جائزة نوبل للسلام في الفيزياء هو الحدث الأسمى في حياته لأنه مثل إشراقة المعاصرة، ولكني أرى أن أسمى حدث في حياته هو التزامه بالفهم الديني المتوازن والمعاصر الذي تلقاه في حضن الجماعة الإسلامية الأحمدية من خلال تشجيع والده السيد شودري محمد حسين الذي قبل الأحمدية في عام 1914 م ويرجع له الفضل في بث الروح الإسلامية في ابنه أولا واستثمار هذا الإبن للعلوم القرآنية في بحوثه أخيرا. وما يذكر في هذا المجال أن والده اعتاد أن يروي له في الصغر حكايات من التاريخ الإسلامي والقصص الخيالية، ويطلب منه أن يعيد روايتها مما عزز فيه ملكة قوة الذاكرة. وكذلك علمه والده تغيير نبرات صوته والتوازن في سرعة الصوت أثناء الخطابة وإلى ذلك يعزى الأسلوب الجذاب للدكتور عبد السلام في عرض أفكاره.

ثمرة الدعاء

قد يكون مفيدا أن نعلم أن ولادة الدكتور عبد السلام هي ثمرة دعاء وبكاء وتضرع من قبل والده كي يمنَّ الله عليه بغلام ذكي يملك مواهب علمية فريدة تستفيد منها أمة الإسلام.

وإذا أردنا أن نتابع خطوات ثمرة ذلك الدعاء نجد أن الطفل عبد السلام أدخل إلى الصف الرابع بالمدرسة المتوسطة وعمره ست سنوات ونصف فقط. وفي هذا الفصل تعلم جدول الضرب حتى الرقم 40، وبدأ في تعلم القرآن الكريم وتفسيره في سن مبكرة، وكان ترتيبه الأول في الصف الرابع 1934، وفاز بالجائزة الأولى في جمال الخط 1936، ومثلها في رسم الخرائط 1937، أثناء المعرض التعليمي. وكان الأول في المحافظة في الصف الثامن 1938.

ثم درس راحلنا الغالي في الكلية المتوسطة الحكومية في (جانج)، وأنّبه والده مرة لأن ترتيبه كان الثاني في امتحان الفترة، ولم تتكرر بعدها فلقد كان بفضل الله الأول في كل امتحان دخله في باكستان، وكان أسلوبه في تحصيل العلم جاداً لدرجة أنه كان يغلق باب غرفته بالقفل حتى لا يقاطعه زملاؤه الطلاب. وتحققت مقولة(من جد وجد) حين حصل على البكالوريوس وبدرجات تامة في اللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي والرياضيات البحتت والتطبيقية، وهي أعلى معدلات حملتها سجلات جامعة (البنجاب).

الجماعة الإسلامية الأحمدية ودعم علمي غير محدود

مع حلول مناسبة اليوبيل الفضي للجماعة الإسلامية الأحمدية قدمت الجماعة في إطار سعيها لرفع المستوى العلمي لأفرادها، منحة دراسية متواضعة تقدم بشكل مستمر للمتفوقين ولم يكن لينالها سوى طالب مجد اسمه عبد السلام. وقد حصل عليها ثلاث مرات أهلته ليكمل تحصيله العلمي. وبعد حصوله على الماجستير بترتيب الأول في الرياضيات، نال منحة من حكومة البنجاب للدراسة في جامعة(كامبردج) في بريطانيا. وفي حزيران من عام 1943 نشرت له الجامعة أول مقالة في الرياضيات وذلك في مجلة math’s Student وكان فحواها يدور حول أسلوب سهل في حل مجموعة من المعادلات الرياضية.

ثلاث مناسبات سعيدة

صادفت الدكتور عبد السلام ثلاث مناسبات سعيدة كان دائما يتحدث عنها. فقد أجلت الحكومة البريطانية آنذاك امتحان الالتحاق بالخدمة المدنية حتى ععام 1947، وما كان لطالب طموح أن يضيع سنة من عمره دون هدف. وقدر الله أن أحد المُلاك الزراعيين في منطقة (سارجودا) واسمه (خضر حياة توانه) كان قد عرض منحة دراسية يمكن أن يستفيد منها أبناء صغار المزارعين. وكانت هذه المنحة من نصيب راحلنا الغالي فوجد مكانا غير متوقع في كلية”سان جورج بكامبردج”، والمثير في الأمر وجود البروفسور “ديراك” الحائز على جائزة نوبل في ميكانيكا الكم كمدرس في تلك الكلية.

ولم يقف قطار المناسبات السعيدة فقد استطاع عبد السلام الالتحاق بالكلية بعد أن وجد مكانا في السفينة المتوجهة إلى بؤيطانيا ولو فاتته تلك السقينة لاكتشف عبد السلام أن المنحة قد ألغيت بعد تقسيم الهند !

في إنجلترا وجد الشاب عبد السلام صديقا مخلصا مؤمنا وهو الأستاذ محمد ظفر الله خان الغني عن التعريف والذي شغل منصب وزير خارجية باكستان وله مواقفه المعروفة في الدفاع عن قضية الشعب الفلسطيني . وقد تولد تناعم بين الاثنين ظل ينمو ويزهر مع مرور الأيام.

16 ساعة من العمل اليومي المثابر

تلك الساعات التي بذلها ذلك الشاب المثابر جعلته يلتهم كل ما وصل إلى يديه من الكتب العلمية والدينية وأوصلته تلك الهمة النادرة إلى الحصول على مرتبة الشرف tribos في سنتين بدلا من ثلاثة وبذلك حجز مكانه كمنافس علمي له شأنه وخاصة في علوم ميكانيكا الكم والنسبية Quantum Mechanics & Relativity  التي أصبحت فيما بعد موضوعاته الخاصة.

وبعد أن تزوج في عام 1949 في باكستان، عاد عبد السلام إلى “كامبردج” وإلى عمله في نظرية normalization in meson theory  والتي حصل من خلالها على درجة الدكتوراة وزمالة كلية “برنستون”. وفي عام 1950 _ نال جائزة سميث من جامعة “كامبردج” لأبرز عمل إعدادي لدرجة الدكتوراة في مادة الفيزياء.

مزمارالحي لا يطرب

تنطبق هذه المقولة تماما على التجاهل واللامبالاة التي قابلت الدكتور عبد السلام عند التحاقه بالكلية الحكومية في لاهور (باكستان) كرئيس لقسم الفيزياء في كليته وفي جامعة البنجاب ( 1951)، فلقد تملكه إحساس بعدم تقدير من حوله لنصائحه العلمية من جهة وللحالة المنحطة للطلاب الذين لا هم لهم إلا اجتياز الامتحانات بدلا من أن يتجهوا إلى البحث العلمي. ولا شك أن كونه مسلما أحمديا كان سببا في الإصرار على تهميشه دون النظر إلى عواقب ذلك الوخيمة التي انعكست في المستقبل بشكل جلي على باكستان التي لم تحاول تدارك مواقفها تجاهه إلا بعد فوات الأوان. ولما قامت فتنة عام 1953 ضد المسلمين الأحمديين تعرضت حياته للخطر، فغادر باكستان عام 1954 ليعمل محاضرا في كامبردج. وكان رده على أولئك الذين يشككون في مصداقية الأحمدية أن منَّ الله عليه بأن يكون له شرف شغل منصب أول محاضر مسلم في الجامعة وليس ذلك فحسب بل إنه أكد للجميع حقيقة نبل إسلامه إذ كان الأستاذ الوحيد الذي يرفض وظيفة في كلية الثالوث المسيحية بكامبردج.

مسيرة علمية ظافرة

وبالتدريج بدأت الرسائل العلمية تنشر له تباعا   Propagates of Quantaised fields  عام 1955، وكذلك Generalised Disperrtion Relation  عام 1956، وفي العام أصبح أستاذا لمادة الفيزياء النظرية في الكلية الإمبرالية للعلوم والتكنولوجيا. ومنذ وصوله لهذه الكلية أصبحت مركزا لنشاط كبير في الفيزياء النظرية. الدكتور عبد السلام بفضل الله نشر50 ورقة بحث علمية في السنين الثماني الأولى بهذه الكلية. وانتخب زميلا للكلية الملكية للعلوم وعمره 33 سنة. وألهم عددا كبيرا من تلاميذه وبث فيهم الروح ليصبحوا علماء مرموقين.

وفي عام 1959 منح وسام نجم باكستــان وبالاشتراك مع (جون وارد) نسف نظرية البروتون والنيترون وجسيمات لامدا.. بأن تنبأ (علمياً) بوجود أسرة ذات مجال ثماني من جسيمات ميسون، والتي اكتشف بعد ستة أشهر بالتجارب المعملية عم طريق أبحاثه في حقل Parity Violation . حاز على السلام على جائزة هويكنز 1957، وجائزة آدمز 1958، ووسام ماكسويل 1961، ووسام هيوز من الجمعية الملكية 1984، لتنبؤه علمياً بدوران ثماني، يلعب فيه ميزون دوارا في التفاعلات القوية كدورات البروتونات في الإلكتروديناميكية:

Octet of spin one meson playing part in strong intraction to the protons in electro dynamics.

و أيضا للعلاقة ما بين  Zerorest mass للنيوتريونParity non conserving  في التفاعلات الضعيفة.

ثم بدأت السويد وروسيا والولايات المتحدة وغيرها تنعم عليه بالعضويات الشرفية بأكاديمياتها العلمية. وبعد محاولات فاشلة لإقناع الحكومة الباكستانية بتأسيس مركز بحث علمي على مستوى عالمي في باكستان وجد البرفسور عبد السلام في عام 1964 من يستمع لنصائحه عندما عين مديرا للمركز الدولي للفيزياء النظرية في تريستا بروما(إيطاليا). وفي عام 1968 نال جائزة الذرة من أجل السلام. وفي عام 1971 نال الميدالية الذهبية وجائرة يوليوس روبرت أوينيمر التذكارية 1977، ووسام (ماتيشي) من الأكاديمية الإيطالية بروما 1978. ثم وسام جون تورنس تيت من المعهد الأمريكي للفيزياء 1978، ونيشان الامتياز من باكستان 1979، ثم جائزة نوبل العالمية في الفيزياء 1979، ووسام أينتين من اليونكو 1979.. وغيرها .

وقد منحت له جائزة نوبل بالإشتراك مع غيره على نظريته التي أظهرت وجود تفاعلات معينة بين الجسيمات الأولية.

فمثلا ما يسمى بالقوى الضعيفة التي تدفع كل تيترون في النهاية إلى أن ينحل إلى بروتون وإلكترون يمكن اعتبارها كجزء من القوى الإلكترومغنطسية المعروفة والتي تعمل بين كل الجسيمات المشحونة. وقد فتحت النظرية بذلك الطريق إلى ثورة عظمى في فيزياء الكم.

لا تتركوا للتاريخ فرصة كي يلومنا!

كان هذا ملخص محاضرة ألقاها البرفسور الراحل في الكويت عام 1971 وهو يتألم لضياع ثروات الأمراء والسلاطين على قنوات فرعية لا تسمن ولا تغني من جوع في حين يحتاج الشباب المسلم.

إلى كل قرش ليرسم إشراقة المستقبل ويعيد ذكره جامع طليطلة الأندلسية الإسلامية. تعال معي أيها القارئ الكريم لنستمع إلى كلمات هذا العالم الجليل:

” العلم  ضروري لما يزودنا به من فهم لما وراء هذا العالم الذي نعيش فيه وإدراك المقاصد الإلهية. إنه ضروري لما يمكن أن تقدمه لنا مكتشفاته من منافع مادية. وأخيرا، ولأنه كوني، فهو وسيلة للتعاون بين كل بني البشر، وبالذات بين العرب والأمم الإسلامية. إننا مدينون للعلم العالمي .. ينبغي أن نسدد بكل احترام للذات. ومع ذلك فإن المشروع العلمي  لا يمكن  أن يزدهر من دون مساهماتكم الشخصية كما كان الحال في القرون الماضية للإسلام. إن المعدل هالعالمي بنسبة من واحد إلى اثنين بالمائة من الدخل القومي الإجمالي يعني إنفاق أربعة بلايين دولار سنويا من العرب، ومثلها من الدول الإسلامية، على البحث العلمي والتطور، وينفق عشر هذا المبلغ على العلوم البحتة. إننا بحاجة إلى قاعدة علمية في بلادنا، يديرها علماء، ومراكز علمية دولية بالجامعات أو خارج الجامعات … تنال الدعم السخي  والضمان والاستمرارية .. للرجال والأفكار. لا تدعوا أحدا يسجل علينا في في المستقبل أ، العلماء في القرن الخامس عشر الهجري كانوا هناك، ولكن العجز كان في وجود أمراء يسهمون في سبل العلم بسخاء” .

لا شك أن القارئ الكريم شعر معي بالغصة التي يشعر بها قائلها وهو يرى الحالة المؤسفة التي وصلت إليها الأمة الإسلامية سواء على صعيد الأموال العربية التي تصب في خانة الأعداء، أو على صعيد التحجر الفكري الذي فصل ما بين الدين والعلم وجعل التفسيرات الإسلامية تبتعد عن روح المكتشفات العلمية الحديثة وقدمنا للغرب على شاكلة أناس يعشقون القتل والتدمير وينبذون الحضارة والتعمير. إن رسالة الراحل الدكتور المسلم عبد السلام هي رسالة نبيلة تمثل النماذج العلمية العظيمة التي قدمها الإسلام في الماضي وهي جسر يمكن لشباب المسلم اليوم أن يعبر عليه متمسكا بالروح الحقيقية لتعاليم الإسلام.

أنا هنا أتوجه لكل قارئ شاب يرى في العلم ضالته بتساؤل أطمح في الإجابة إذا كانت المفاهيم الإسلامية الحقيقة هي التي قادت في الماضي علماء من أمثال ابن سينا والرزاي للوصول إلى المكانة العلمية العالمية المرموقة، فما الذي قاد رجل مثل الدكتور عبد السلام للوصول إلى ذات المكانة؟.. أليس ذلك دليل كاف وواف على أن ما تقدمه الجماعة الإسلامية الأحمدية للعالم هي مفاهيم إسلامية نقية قادرة على أن تكرر البعثة الأولى للإسلام ؟.

أفلا يتفكرون؟…

وُلد راحلنا الغالي الدكتور عبد السلام في 29 يناير 1926 بساهيوال، باكستان. وتوفي في 21 تشرين الثاني 1996 بأكسفورد، بالمملكة المتحدة.

إنا لله وإنا إليه راجعون

Share via
تابعونا على الفايس بوك