في رحاب القرآن
  وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (131)

شرح الكلمات:

سفه- سفه نصيبَه: نسيه. سفِه نفسَه: حملها على السفه؛ أهلكها؛ جهلها (اللسان). وورد في الحديث: البغي من سفه الحق.. أي من جهله (مسند ابن حنبل ج1،ص427).

اصطفيناه –اصطفاه: اختاره؛ أخَذه صِفْوة (المنجد).فمعنى اصطفيتُه: قرَّبته إليَّ بسبب أعماله الحسنة.

الصالحين –الصالح: الذي فيه صلاحية. هناك فرق بين الأعمال الحسنة والأعمال الصالحة، الأعمال الصالحة هي المناسبة للحال، مثلا الصلاة عمل حسن، ولكنها لا تكون عملا صالحا إذا كان الحال يتطلب ضرب العدو. وإنما العمل الصالح عندئذ هو الاشتغال بدفع العدو. فالصالح الخير المناسب للظروف. إن السيئة أحيانا تكون مناسبة للظروف ولكنها ليست حسنة، لذلك لا يقال لها عمل صالح. فالصالح يتطلب شرطين: أن يكون خيرا، وأن يكون مناسبا للحال.

التفسير:

بهذه الآية ذكر الله مثال إبراهيم بدلا من مثال محمد. لأن الكلام موجه إلى قوم فيهم اليهود والنصارى أيضا، وما كان مثال محمد ليأتي بالنتيجة المرجوة لأنهم ما كانوا يؤمنون به، ولكن مثال إبراهيم يكون عليهم حُجة، لأن العرب واليهود والنصارى والصابئين كلهم يؤمنون بإبراهيم. فكان من الضروري أن يكون المثال لشخص تحترمه الفرق كلها على السواء. .وكان إبراهيم أنسب مثال، لأنه كان ذا مكانة كبيرة ليس عند العرب وحدهم وإنما عند اليهود والنصارى والصابئين أيضا.

يقول الله مخاطبا العرب واليهود والصابئين أن الحري بكم أن تختاروا طريق إبراهيم، وتؤمنوا بمن أرسله الله حَكَمًا، وتَدَعوا التعصب والتحيز والنعرة القومية مثلما ترك إبراهيم لله تعالى كل ما له، وعندئذ يتيسر لكم التقرب من الله تعالى.

ومن محاسن اللغة العربية أن تغيير حرف الجر مع الفعل يأتي بالمعنى المضاد له. فعبارة (يرغب إلى) تعني يحب ويشتاق، (ويرغب عن) تعني ينفر ويبتعد ويُعرض. والحق أننا لو تدبرنا بعمق وجدنا أن العواطف المغايرة تنبع من منبع واحد، وشكله المغاير إنما يدل على اختلاف في الكيفية والأسلوب وليس على اختلاف في الحقيقة. إن الرغبة والكراهة في الحقيقة عاطفتان من نوع واحد، والاختلاف هنا فقط في كيفية ظهور العاطفة. ولنأخذ الرغبة مثلا، فعندما يرغب الإنسان في شيء يتجه إليه ويقترب منه، وفي نفس الوقت يبتعد عن غيره.. وهذه هي الكراهية. كأن منبع الرغبة هو الحب، ومنبع الإعراض أيضا الحب. كذلك الشجاعة والجبن فدافعهما حماية النفس، فعندما يهاجم الإنسان شيئا يكون الدافع حماية نفسه، وعندما يفر من العدو فأيضا لحماية نفسه منه، ولكن الأسلوب في كلا العملين مختلف. فباستخدام (عن) و(إلى) أشار إلى أن كثيرا من العواطف تصدر من منبع واحد والاختلاف فقط في كيفية التعبير عن هذه العاطفة.

من معاني سَفِهَ: نَسِيَ، فمعنى قوله تعالى (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) أنه لا يُعرض عن دين إبراهيم إلا من أغمض عينه كلية عن مصالح نفسه. والحق أن ترك الإنسان سنة الأنبياء لا يضر الأنبياء شيئا وإنما يضره هو. يمكن أن ينتفع الإنسان بالابتعاد عن ملِك ظالم، ولكن الذي يترك ملكا عادلا لا يضر الملك وإنما يضر نفسه، لأنه حرمها من عدل الملك وخيره. كذلك الإنسان الذي لا يتبع الأنبياء ولا يتأسى بأسوتهم فإنما يضر نفسه، لأنه يُحرَم من تلك المنافع التي تُنال باتباعهم. لقد ذكر الله من قبل النموذج الذي قدمه إبراهيم حيث نجح في الابتلاءات والاختبارات، ولبّى كل دعوة من الله تعالى، حتى إذا قيل له: اصحب ابنك وزوجتك واتركهما في برية ليس فيها قطرة ماء ولا حبة غذاء.. قام بلا أدنى تردد أو شكوى، وقطع مسافة مئات الأميال، وترك أهله وابنه في واد غير ذي زرع، ورجع بنفسه. وبعد عرض هذا النموذج الإبراهيمي العظيم الشأن يقول الله تعالى: كل من يعرض عن هذه السنة الإبراهيمية ولا يقوم بالتضحيات التي يطالَب بها في سبيل الله.. ويظن أنه أحسن إلى نفسه، وأنقذ ماله من التلف، وصان أولاده من الهلاك، وجنَّب أحاسيسه وعواطفه من المعاناة؛ ولكن الحق أنه قد نسي مصالح نفسه.

ومن معاني (سفه نفسه) حمَلها على السَّفه، فمعنى قول الله تعالى (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه)..أن دعاء إبراهيم عن بعث نبي عظيم يتضمن كنوز رحمة عظيمة للعالم، فمن لا يكترث بهذا الدعاء ولا يؤمن بمحمد الذي هو مصداق لهذا الدعاء فإنه يرتكب حمقا وغباء لا نظير لهما، ذلك أنه غير مستعد للانضمام إلى نظام رائع لتلاوة آيات الله وتعليمها، وترويج كتابه: ولبيان ما وراء أحكام الله من حكم وضرورات، ولإصلاح أفكار الناس وأعمالهم وتزكية نفوسهم. ومن أعرض عن هذا كله فلا يحرم نفسه من تعاليم سامية تنفعه في الروحانية فحسب، بل إنه يهمل أيضا التوجيهات والتعاليم التي ترفع مستوى الإنسان في سياسته واقتصاده وحضارته وأخلاقه، كما أنه يغفل عن فلسفة الأحكام فلا يُصلح فكره وعمله. فهل يقال عمن يعرض عن هذا النظام إلا أنه يرتكب حماقة كبرى؟

ومن معاني (سفه نفسه) أهلكها وأوبقها، فالمراد من قوله تعالى (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) أن المعارضين لمحمد رسول الله.. سواء من مشركي مكة أو من اليهود والنصارى.. عليهم أن يتذكروا أنهم إذا لم يؤمنوا بهذا النبي الذي جاء مصداقا لدعاء إبراهيم، وأهملوا الأهداف من بناء الكعبة، وأغمضوا النظر عن الغرض من مكوث هاجر وإسماعيل في مكة.. فسوف يهلكون أنفسهم.. بمعنى أنهم فضلا عن إهلاك أنفسهم بحرمانها من هذه التعاليم السامية فإنهم يهلكونها بإيقاعها في عذاب الله.. كما فعل أبو جهل، فإنه إذا لم يعمل بتعاليم الإسلام حرم من فضل الله تعالى، وهذه نتيجة طبيعية للكفر. ولكن كانت هناك نتيجة شرعية للكفر رآها بنفسه إذ عاقبه الله، فمات ذليلا مهانا بأيدي غلاميْن أنصاريين في غزوة بدر (البخاري، كتاب المغازي).

ومن معاني سفِه: جهل..فيعني قوله تعالى (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) أنه لا يعرض عن ملة إبراهيم إلا الذي يريد أن يبقى جاهلا بالحقائق السامية. أي أن هذا التعليم العظيم الشأن النازل نتيجة للدعاء الإبراهيمي يصقل المؤهلات الكامنة في الإنسان، ويرفعه إلى أعلى درجات النجاح. فلا يمكن أن يرفضها إلا الذي هو عدو لنفسه ويريد أن يبقى جاهلا بـهذا التعليم السامي. ولكن الذي لا يريد أن يتأخر عن غيره في سباق الرقي لا يمكن أن يتخلى أبدا عن مثل هذه التعاليم.. لأن تركها يعني إبقاء النفس في حالة من الغفلة والجمود. وذلك كما حدث مع منكري سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود في هذا الزمن، إذ يوجد بهم جمود وعدم إحساس بصفة عامة. يقولون: نحن نصلي ونصوم ونخرج الزكاة ونتصدق.. ومع ذلك لماذا لا نحظى بلقاء الله؟! مع أن حالهم هو عندما يقفون للصلاة داعين (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم) يوقنون أن أبواب كل الرقي مسدودة في وجوههم. وعندما يفكر الإنسان مثل هذا التفكير.. فكيف يمكن أن يتولد فيه وهو يصلي ويدعو. .حماس وخشوع يوصله إلى الله؟ عندما يذكر عندهم إبراهيم يقولون: أنى لنا أن نشترك في النعمة التي نزلت على إبراهيم؟ وعندما يذكر إسماعيل يقولون: كيف يمكن أن ينعم الله علينا بما أنعم به على إسماعيل؟ وعندما يذكر إسحاق يقولون: كيف يمكن أن يقدر الله لنا النعم التي أنزلها على إسحاق؟ وعندما يذكر داود وعيسى وموسى يقولون: كيف يمكن أن يتيسر لنا من نعم الله ما تيسر لهم؟ فكلما يرون خيرا يقولون لا يمكن أن يكون لنا نصيب منه. إذن كيف يمكن أن يتولد في قلوبهم الحماس وقت الدعاء؟ ولكن سيدنا المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام) رفعنا إلى مقام بحيث إذا ذكر أمامنا أحد أنبياء الله فإننا نقول: يمكن أن يهبنا الله كل النعم التي وهبها لهم، وإن أبواب مراتب القُرب التي نالها الأولون مفتوحة أمامنا أيضا. فنحظى بنعمه، بينما لا ينفك معارضونا محرومين من نعم الله التي نحظى بها.

فيقول الله هنا أن الهدي النازل، استجابة لدعاء إبراهيم يستثير قوى الإنسان، ويرتقي بالنفس الإنسانية إلى أعلى مراتب الرقي. إنه لا يعلِّم بأن الإنسان وُلد آثما، بل يقولا إنه جُبل بفطرة صالحة، وخُلق للتقدم في الخير، ولذلك يوجد في قلب كل مسلم رغبة في أن يكون صالحا ويتقدم في الصلاح، ويزداد قربا إلى الله تعالى. ولكن إذا اعتقد الإنسان بأنه خُلق آثما فإنه يصبح ميْتا، ويقول: لا حاجة لعمل صالح. ولكن الله تعالى يقول: لا يمكن أن يستغني الإنسان عن هذا التعليم، لأن فيه منافع وفوائد كثيرة، ولا يعرض عنه إلا الذي يجهل حقوق نفسه ومصالحها.

وبقوله تعالى (ولقد اصطفيناه في الدنيا)بين أن إبراهيم كان ذا صفوة وحظوة عنده سبحانه تعالى، وكان عبدا مختارا ذا فضيلة وقربٍ لديه.

(وإنه في الآخرة لمن الصالحين) وسيكون في الآخرة من عباد الله الذين يعملون في الجنة أعمالا مناسبة للحال. ويُستنبط من ذلك بوضوح أن الجنة أيضا مكان عمل، وليس –كما يتصور عامة المسلمين –بأن الإنسان في الجنة يبقى عاطلا من العمل منهمكا في الأكل والشرب. ولو كان الأمر كما يقولون لقال الله تعالى إن إبراهيم سينال من الحور العين كذا، ومن أطايب الطعام والشراب كذا، ولكنه بدلا من ذلك “إنه في الآخرة لمن الصالحين “.. ويتبين من ذلك أن الإنسان يعمل صالحا في الآخرة أيضا. فهل يتصور أحد أن إبراهيم لن يصلي في الآخرة – والعياذ بالله؟ أو أنه لن يكون في قلبه الرغبة للتقرب إلى الله في تلك الحياة؟

فلا بد إذن أن تكون الآخرة أيضا حياة عمل، وستبقى أبواب قرب الله مفتوحة هناك كما هي مفتوحة هنا.

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك