في عالم التفسير
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (93)

التفسير:

كان قوله تعالى”فلم تقتلون أنبياء الله من قبل “ردا وجيزا على قول اليهود: لو كان هذا النبي من بني إسرائيل لآمنا به. والآن بدأ يرد عليهم مفصلا بأنكم تدعون الإيمان بموسى عليه السلام، وقد رأيتم معه البينات والبراهين الواضحة، ومع ذلك لما ذهب إلى الطور ليتلقى البركة اتخذتم عجلا أشركتموه في العبادة مع الله تعالى.. فكيف تدعون أنه لو كان هذا النبي من بني إسرائيل لصدقناه؟ وما دمتم قد عاملتم ذلك النبي الذي تتفاخرون به هذه المعاملة السيئة..فكيف يصدق قولكم لو كان هذا النبي من بني إسرائيل لآمنا به؟

هنا أيضًا ذكر الله أن موسى قد جاء بالبينات كما ذكر من قبل أنه تعالى أتى عيسى البينات، ورغم ذلك يستدل المسيحيون بكلمتين “البينات والمعجزات” على ألوهية المسيح وبنوته. ولو كانوا مصيبين في استدلالهم.. فلماذا لا يؤمنون بألوهية موسى أيضًا؟.. وهذا يكشف أنهم مخطئون في استدلالهم هذا.

قوله “وأنتم ظالمون” إن غصب الحقوق (أي الظلم) على نوعين: غصب حقوق الله تعالى، وغصب حقوق العباد. ولقد نبه الله اليهود بقوله “وأنتم ظالمون” إلى غصبهم حقوق الله.. أي أنكم مشركون حيث تعتدون على حقوقي. علما بأن الظالم يعني أيضًا المشرك.. لأن الظلم لغويا يعني وضع الشيء في غير محله، وحيث إن المشرك يعزو صفات الله تعالى إلى غيره لذا يسمى ظالما.

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (94).

شرح الكلمات:

اسمعوا– سمع له: أطاعه. وأصل اسمعوا هنا: اسمعوا له، فحذفت له والمعنى: أطيعوه، لأن مجرد السماع بعد اتخاذ العهد والميثاق لا يعني شيئا.

أشربوا– الإشراب مخالطة المائع الجامد، وتوسع فيه حتى صار في اللونين، وقالوا: وأُشْرِبتُ البياضَ حمرةً أي خلطته بالحمرة [البحر المحيط]. وأُشرب فلان حب فلان: استولى حبه على قلبه. يقول الشاعر:

إذا ما القلب أشرب حب شيء       فلا تأمل له عنه انصرافا

معنا”اشربوا في قلوبهم العجل” أن حبه استولى على كل ذرة من كيانهم.

التفسير:

لقد بين الله هنا مثالا آخر لإخلاف اليهود العهد، حيث يقول: تذكروا حينما أُخذ منكم عهد في زمن موسى، وتم ذلك في مكان مقدس بجانب الطور، ولكنكم أخلفتموه، ولم تكترثوا لحرمة المكان وقداسته. الحق أن العهد الذي يتم في مكان مقدس يتفوق على غيره من العهود أهمية وحرمة، حتى أن القرآن الكريم أيضًا يأمر بأخذ بعض الإيمان المعينة بعد أداء الصلاة (المائدة:107).. ذلك لأن القلوب في ذلك الوقت تكون عامرة بخشية الله وخوفه.

أما ذلك العهد الذي أخذ من بني إسرائيل فقد بينه وقال: “خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا “.. أي أطيعوا، ولكنهم بدلا من الطاعة قالوا: ” سمعنا وعصينا”.. أي لقد سمعنا ما قلت ولكننا لن نطيعك.

ويمكن أنهم لم ينطقوا بقول ’سمعنا وعصينا‘، وإنما عبر بهذه الكلمات عن عصيانهم العملي: أي أن حالتهم الروحية ساءت لدرجة أنهم ما كانوا يسمعون أمر الله وكانوا يعصونه. فكلمة (قال) قد ترد مجازا للتعبير عن حال الشيء، كما قال الشاعر”امتلأ الحوض وقال قطني “أي بلسان حاله قال: لم يبق فيَّ مكان فارغ.

وقد يكون المراد أنهم قالوا الكلمتين في وقت واحد.. ذلك أن الإنسان يجيب بطريقتين: باللسان أو بالقلب، فقالوا سمعنا بأفواههم، بينما كانت قلوبهم لا تنفك مصرة على رفض هذه الأوامر قائلة: وعصينا.

أما مسألة إشراب العجل في قلوبهم فقد تمت على النحو التالي بحسب التوراة: فقال لهم هارون: “انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها. فنـزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وآتوا بها إلى هارون.

فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل وصنعه عجلا مسبوكا. فقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر. فلما نظر هارون بنى مذبحا أمامه. ونادى هارون وقال: غدا عيد للرب “(سفر خروج 2:32-5).

والمراد من إشراب العجل في القلوب إشراب حب العجل فيها.. أي استيلاء حبه عليها، ذلك لأن الذهب لا يشرب.

ويرد الله على اليهود بقوله “قل بئسما يأمركم به إيمانكم “..أي إن كنتم حقا مؤمنين صادقي الإيمان فكيف سوغ لكم إيمانكم الشرك في غياب موسى لعدة أيام؟ فالكفر أحسن من إيمان كهذا.

وقد اختار الإمام المهدي والمسيح الموعود هذا الأسلوب القرآني في بيت من الشعر بالفارسية فقال:

بعد از خدا بعشقِ محمد مخمّرم          گر كفر ايں بود بخدا سخت كافرم

أي:  إني نشوان بعد عشق الله تعالى بعشق محمد .. فإذا كان هذا كفرا فوالله إني كافر أشد الكفر (إزالة أوهام ص181).

فالله تعالى يقول: إن كنتم تدعون بالإيمان فإن إيمانكم هذا يأمركم بأمور سيئة للغاية، حيث كنتم ولا زلتم تكفرون بالأنبياء. وسواء كان ذلك باللسان أو بالفعل فإنه لا يأتي بخير أبدا فكيف تدعون بالإيمان مع كل هذا؟ الأحسن أن تسموا إيمانكم هذا كفرا، لأن الإيمان ومعارضة الأنبياء ضدان لا يجتمعان.

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (95).

التفسير:

إن كل أمة تدعي بحصر النبوة فيها لا بد أن تحدد دائرة النجاة أيضًا. ولما كان اليهود يزعمون بكل شدة وقوة أن النبوة منحصرة في بني إسرائيل، لذا ظنوا أنهم وحدهم يحظون بنعم الله تعالى وينجون من عذابه في الآخرة، ولن تكتب النجاة لأمة سواهم. وهذا الزعم في بادئ الرأي أمر بسيط، ولكن نتائجه خطيرة بالغة الخطورة. وللأسف أنه لم يفطن لهذه الحقيقة قبل القرآن. إنه أمر سخيف يرفضه العقل تماما. ثم لم يكن اليهود وحدهم أصحاب هذا الزعم، بل كانت هناك أمم أخرى تزعم مثل زعمهم. فالهندوس مثلا يحصرون النجاة فيهم دون سواهم. والمسيحيون –مع أنهم بدءوا اليوم يدعون عامة الناس إلى دينهم، ويقولون بأن كل من آمن بكفارة المسيح نجا من النار- ولكنهم أيضًا كانوا قبل بعث المسيح الناصري يقصرون النجاة عليهم وحدهم.

ودعوتهم الناس إلى دينهم اليوم أيضًا ليست موافقة لتعليم المسيح نفسه فقد قال:”لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة “(متى 24:15). ولما جاءته امرأة كنعانية غير إسرائيلية تستهديه قال لها في صرامة: “ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب “(متى 26:15).

ثم إن الحواريين أيضًا لم يجيزوا دعوة الأمم الأخرى إلى أناجيلهم، فقد قيل:”أما الذين تشتتوا من جراء الضيق الذي حصل بسبب استفانوس فاجتازوا إلى فينيقية وقبرص وأنطاكيا وهم لا يكلمون أحدا بالكلمة إلا اليهود فقط”(أعمال الرسل 19:11).

وعندما سمع الحواريون أن بطرس دعا غير الإسرائيليين في بعض الأماكن إلى المسيحية غضبوا جدا. وعند رجوعه إلى أورشليم خاصمه أهل الختان (أي بنو إسرائيل) قائلين:”إنك دخلت إلى رجال غير مختونين وأكلت معهم “(أعمال الرسل1:11،2).

إذن، فالأناجيل تمنع من دعوة عامة الناس إلى المسيحية. ولما كانت المسيحية محدودة في أمة معينة، فلا بد أن تكون النجاة عندهم محصورة فيمن يؤمن بالمسيح. ولكن الإسلام يرفض بشدة الزعم بأن باب النجاة خاص بأمة معينة، بل إنه منح لكل إنسان حق النجاة وقال:”وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”.. أي لم تكن الغاية من خلق الإنسان إلا ليكون عبدا لله، ويتصف بصفاته حتى تترآى في مرآة قلبه.

لقد أبطل الله في هذه الآية اثنتين من دعاوى اليهود هما: أن الجنة حق مستحق لهم، وأنه لن يدخلها أحد سواهم، مبينا لهم أنكم تدعون أن الجنة تخصكم وحدكم وأن النبوة قاصرة عليكم دون سواكم .. فتعالوا تمنوا الموت حتى نحسم هذه المسألة إن كنتم صادقين.

ولقوله تعالى” فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ” معنيان: الأول- تعالوا باهلوا المسلمين بالدعاء إلى الله تعالى أن يهلك الكاذبين؛ فإن تكونوا صادقين ينجكم الله وتزدهروا ويهلك المسلمين، والعكس بالعكس. وهكذا يتضح جليا من هم المقربون إليه ومن المغضوب عليهم، ويتبين أي الفريقين أقرب إلى الصدق في دعواه حول الجنة والنجاة ..ذلك لأنه ليس هناك في الدنيا أي طريق آخر لاختبار صدق الأديان المختلفة إلا بتأييد الله لها ونزول الآيات السماوية للصادق منها.

وجدير بالملاحظة أن الله تعالى لم يقل هنا ’فتمنوا موتكم‘ بل قال (فتمنوا الموت) ذلك لأن من شروط المباهلة أن يدعوا كلا الفريقين بنـزول عقاب الله على الكاذب منهما ولا يجوز تعيين فريق واحد.. وذلك طبقا لما جاء في آية المباهلة (فنجعل لعنة الله على الكاذبين)(آل عمران 62).

والمعنى الثاني لقوله تعالى (فتمنوا الموت) هو: إذا كنتم صادقين في دعواكم أنكم أنتم وحدكم أهل النجاة .. للزم أن يكون كل فرد منكم متفانيا في حب الله قائما على قمة الصلاح والطهارة، وقلبه مورد للأنوار الإلهية والبركات السماوية: فلم لا تقضون على حياتكم الدنيئة، ولماذا يجرف سيل حب الدنيا أمة تستحق الجنة وحدها دون سواها، إنما كان عليها أن تتفانى في حب الله ورضاه، وتتحمل المشاق وتبذل النفس والنفيس في سبيله والاستسلام التام له، لأنه خصها بالجنة.

ولكن الله عز وجل يخبر مسبقا:(ولن يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم).. أي أنهم لن يسلطوا هذا الموت على نفوسهم.. لأنهم قد تعودوا على حياة البذخ والتمتع بالملذات، ونسوا نصرة دينه، وفقدوا الإخلاص والحماس للبذل في سبيله، لذلك هم غير متيقنين بأنهم يدخلون الجنة .. فضلا عن أن تكون لهم وحدهم دون سواهم، بل عادوا لا يؤمنون بها.. لأن حب الدنيا قد سرى في كل ذرة من كيانهم، مما يدل دلالة واضحة على أنهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت.

وإذ ا تساءل أحد أنه ذكر من قبل ادعاء اليهود (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)… وهنا يذكر قولهم إن الدار الآخرة لهم وحدهم دون سواهم.. فلماذا هذا التعارض، وكيف يصح نسبة القولين إليهم في وقت واحد؟

فلنعلم أن اليهود فرقتان، وبينهما اختلاف في الآراء والعقائد، فإحداهما تزعم أنها تدخل النار أياما معدودة ثم تخرج منها؛ والأخرى تقول: لن ندخل النار إطلاقا. فالآية السابقة تحدثت عن مزاعم الفرقة الأولى، وأما هذه الآية فتحدثت عن الفرقة الثانية التي تزعم أن النجاة مخصوصة لهم دون سواهم، وأن النبوة أيضًا وَقْف عليهم وحدهم. وقد ورد عنها أنه يؤتى بعصاة اليهود إلى باب جهنم، فيتوبون هناك فيرجعون بدون عذاب ويدخلون الجنة (Every Man Talmud. 5 ودائرة المعارف اليهودية تحت كلمة Gehenna).

والواقع أن سائر الأديان الأخرى تقريبا كانت تحصر النجاة في اتباعها فقط. وتشدد الهنادك حتى أنهم أمروا بصب الرصاص المغلي في أذن (الشودر)- وهم أحط طبقة في نظام الهنادك- إذا سمع شيئا من كتابهم الديني (الفيدا) .. لأنهم لا يستحقون في نظرهم سماع كلام الله وإن كانوا من خلقه.

والبوذيون، مع أنهم أقل عصبية من غيرهم، وبرغم دعوتهم العامة إلى دينهم.. إلا أنهم أيضًا زعموا بحصر النبوة فيهم دون غيرهم. لذا فإن نظريتهم لم تكن آفاقية وعالمية كالإسلام.

ويمكن هنا أن يعترض قائل بأن المسلمين أيضًا يعتقدون- كاليهود – بأن النبوة الآن انحصرت فيهم، ولا نجاة إلا في الإسلام، فأي فضل في ذلك لهم على غيرهم؟

ونرد على ذلك أولا – بأن الإسلام لا يقول إن كل مسلم يدخل الجنة بالضرورة وإن كان مسلما بالاسم، كما أنه لا يغلق باب النجاة على أمة دون أمة. فمثل هذا الاعتراض لا ينطبق على الإسلام، لأنه نزل لهداية كل شعب وكل أمة، ورسالته موجهة إلى كل فرد من الإنسانية، ولو صدّق بنو إسرائيل هذا النبي لنالوا النجاة، وكذلك فإن هذا الباب مفتوح أيضًا أمام الأمم الأخرى.

ثانيا- الإنسان يعطى بعض الأشياء كحق له، وبعضها رحمة وكرما. ومن صدق دين الحق صارت النجاة حق له؛ بمعنى أن الله تعالى يعده بالنجاة، وإن لم تكن النجاة حقا مستحقا له. ومن هنا فالذي يؤمن بأن الإسلام دين الحق أصبحت النجاة حقا له. لنفس السبب فإن كل من اتبع أي دين حق نال النجاة كحق له. إلا أن هناك أناسا تكتب لهم النجاة رحمة بهم وتكرما من الله تعالى، ورحمته واسعة للغاية كما قال الله عز وجل “ورحمتي وسعت كل شيء”(الأعراف:157). قد عمت هذه الرحمة اليهود والنصارى والهنادك من دون تمييز، ونظرا لهذه الرحمة الواسعة يمكن لكل أحد أن يدخل جنة الله وينال رضاه. وإنما يصح الاعتراض على الإسلام إذا كان يمنع الآخرين من الدخول فيه، ولكن ما دام قد فتح بابه على سعته لكل شعب ولأتباع أي دين، ودعاهم للانضمام إليه برحابة صدر.. فكيف يصح هذا الاعتراض؟ وإنما الاعتراض على الملل التي أغلقت أبوابها في وجوه أتباع الملل الأخرى ولا تسمح لهم بالانضمام إليها.

وخلاصة القول أن الإسلام لا يحصر النجاة في أتباعه، لأن رحمة الله العامة ليست خاصة بالمسلمين وإنما تعم غير المسلمين أيضًا.

ولا يقول الإسلام إن دخول الجنة منوط بالنطق بشهادة الإسلام، وإنما يعلن أنه إذا تفوه أحد بكلمة الإسلام ولكن لم يجتنب السيئات لم يستحق الجنة. كما يمكن أن يدخل الجنة دون أن يكون مسلما.. لأن الجنة لا تنال فقط بمجرد الإقرار باللسان، وإنما تنال بالقيام بواجبات عديدة.

كما أن دخول الجحيم ليس مداره على مجرد الإنكار باللسان، وإنما هو نتيجة لأسباب شتى. لا يمكن أن يدخل أحد النار وإن كان منكرا لحقائق كبرى ما لم تقم عليه الحجة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يؤاخذ الله من مات في الصغر، أو من بلغ أرذل العمر فصار كالمعتوه، أو المجنون، أو الأصم، وإنما يبعث لهم نبي من جديد، وتتاح لهم الفرصة للتمييز بين الحق والباطل فمن قامت عليه الحجة أدخل النار، ومن اهتدى أدخل الجنة. (روح المعاني تفسير قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا). فالنظرية الإسلامية حول النجاة هي أن الله تعالى إنما يؤاخذ من لا يقبل الحق، أو يتهرب من سماعه حتى لا يضطر لقبوله، أو من قامت عليه الحجة ولم يؤمن. ولقد أشار إلى ذلك الإمام المهدي والمسيح الموعود قائلا: “إذا علم الله تعالى أن أحدا لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله، ولسنا ندخل في ذلك. وأما اللذين جهلوا أمر الإسلام تماما وماتوا كالصغار الذين يموتون قبل سن الرشد أو المجانين أو الذين يسكنون في أرض لم تصل إليها دعوة الإسلام فهم معذورون) (حقيقة الوحي، 187). وقال في مكان آخر : (وإن قلتم : ماذا تقول في نجاة الذين لم يصل إليهم كتاب إلهامي؟ قلنا: إذا كان هؤلاء همجا لا يعقلون شيئا فإنهم لا يحاسبون على شيء، ويجري عليهم ما يجري على المجانين ومسلوبي الحواس. ولكن الذين يتمتعون بشيء من العقل والشعور فإنهم يحاسبون بقدر عقولهم وشعورهم ) (البراهين ألاحمدية مج 3 ص 203 ). وإن تساءل أحد: إذا أمكن أن ينال أحد النجاة بدون قبول الإسلام فماذا يعني قول الله تعالى (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) (آل عمران: 86)؟ نقول: إن هذه الآية تبحث في النجاة التي هي حق كَتَبَهُ الله على نفسه لمن يدخل في دين الإسلام، فلن ينالها إلا المسلمون. ولكن –كما أسلفنا- ليست هذه النجاة حقا أوجبه الإنسان على ربه، وإنما هي أيضًا من أفضاله ونعمه تعالى.. لأن الإنسان لا يملك أي حق على الله عز وجل. فالمسلم ينال النجاة بعمله بالقرآن أما الآخرون فتكتب لهم النجاة رحمة بهم. فمثلا: الصغار الذين يموتون قبل البلوغ والصم، والمجانين، والمعتوهون، فيتاح لهم فرصة للإيمان، أو يحكم الله فيهم حسب إيمانهم الفطري، ويرى هل عملوا بحسب إيمانهم ذلك أم لا.. وإلا فمنذا الذي يمنع الله تعالى –إن أراد- أن يغفر لأحد؟ إ نه مالك يغفر لمن يشاء. أما قوله تعالى (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه).. فإنما جاء ليبين أن من أعرض عن الإسلام حرم من النجاة بحسب القانون العام، لأنه بنفسه سد في وجهه باب النجاة، وحرم نفسه من أخذ هذا الحق. ثم إن هناك أسبابًا أخرى للنجاة ولا مانع إطلاقا من نجاة أحد لسبب منها.

 

وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (96)

التفسير:

لهذه الآية تفسيران بالنظر إلى معنى قوله تعالى: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين). فإذا كان المراد بتمني الموت هو المباهلة .. يكون المعنى أنهم لن يدخلوا معكم في المباهلة أبدا، وهروبهم من المباهلة دليل على أنهم يعرفون في قرارة نفوسهم أنهم لم يفعلوا ما يرضي الله تعالى، بل أسخطوه بأعمالهم، وأنهم إن باهلوا المسلمين لعاقبهم الله عليها.. وإلا فما المانع من الإقدام على المباهلة؟

وإن عنينا بقوله(فتمنوا الموت) الاستسلام لله لكسب رضاه، والقضاء على أهواء النفس- وهو أول خطوة إلى الحياة الأبدية، فمعنى الآية أنهم لن يستعدوا أبدا للموت الروحاني الذي يهبهم الله به الحياة الأبدية، لأن كثرة المعاصي قد طوقتهم ومسخت روحانيتهم. فلن يفكروا بعد ذلك مجرد تفكير للقضاء على أنفسهم لمرضاة الله تعالى.

ويبين قوله تعالى (والله عليم بالظالمين) أن علامة الكاذبين أنهم لا يُقدِمون على المباهلة أبدا، بل لا يزالون يتهربون منها بشتى الأعذار.. ولكن إلام الفرار؟ لا بد أن يعاقبوا حتى يتبين الصادق من الكاذب. فالويلات التي تكالبت وتوالت على اليهود توضح للناس حقيقتهم ومصيرهم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك