حكمة فتح مكة المكرمة
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (150) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (151).

شرح الكلمات:

خرجت –إلى جانب المعنى المعروف للخروج هناك معان أخرى له منها:

أوّلا-خرج عليه: برز لقتاله (الأقرب)، ومعنى القتال والحرب مذكور في آية أخرى حيث قال الله تعالى (فإن رَجعَك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا.. إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين) (التوبة: 83). فالخروج هنا بمعنى البروز للقتال.

وثانيا –خرج عليه: خلع طاعته، يقال: خرجت الرعية على الوالي: خلعت الطاعة.

وثالثا-خرج الوالي على السلطان: تمرّد (الأقرب).

حجة –الحجة: دليل يجعل المرء غالبا على خصمه. قال الأزهري: الوجه الذي يكون به الظفر يسمى حجة (لسان العرب). ومن حيث الغلبة على الخصم يسمى حجة (كليات أبي البقاء). وقد وردت الحجة بمعنى الدليل الغالب في الحديث النبوي الشريف عن الدجال، قال (إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم) (ابن ماجة –أبواب الفتن)..أي إذا خرج الدجال وأنا بينكم فسوف أقدم الأدلة التي ينهزم أمامها. هذا الحديث يؤكد من ناحية أن الحجة هي الدليل الذي يهزم الخصم، ويبين أيضا أن القتال ضد الدجال لن يكون بالسيف بل بالحجة والبرهان، لأن الرسول قال (فأنا حجيجه)أي غالبه بالحجة.. أي بالدليل والبرهان وليس بحد الحسام. إن العلماء المعارضين يعترضون على سيدنا المهدي والمسيح الموعود أنه لم يُهلك الدجال قتالا بالسيف، بل نسخ الجهاد بالسيف كلية؛ مع أن هؤلاء لو تدبروا في كلمات هذا الحديث أدنى تدبر لاتضح لهم أنه من الضروري التغلب على الدجال بالأدلة والبراهين، وإلا كان لا بد أن يذكر حديثا من الأحاديث أن الدجال سوف يهلك بالسيف.

والحجة أحيانا تأتي بمعنى الدليل الضعيف مع وجود قرينة معه..كما جاء في القرآن الكريم (حجتهم داحضة عند ربهم) (الشورى: 17).

والحجة الدليل المحض كما ورد في القرآن الكريم (ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه)(البقرة: 259) فالحجة هنا بمعنى الدليل فقط، والقرينة أنه لا يمكن للفريقين التغلب على الآخر في وقت واحد.

إلا الذين ظلموا-تأتي “إلا” بمعنى “لكن” فيقولون: ما لك عليّ حجة إلا أن تظلمني..أي ولكنك تظلمني (البحر المحيط، وتفسير فتح البيان، تحت الآية نفسها). وتأتي “إلا” بمعنى العطف مثل(لا يخاف لديّ المرسلون إلا من ظلم ثم بدّل حسنا بعد سوء)..حيث تعني “ولا من ظلم..”(مغنى اللبيب ج1 حرف الهمزة).

فمعنى قوله تعالى (لئلا يكون على الناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم)..أي أن الناس..العاقل منهم والظالم..كلهم لا يستطيعون أن يقدموا دليلا يشكك في صدق المسلمين.

التفسير:

قال المفسرون في قوله تعالى (ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام) أن معناه: يجب عليكم حيثما كنتم أن تجعلوا المسجد الحرام قبلتكم على أي حال. وسبب ذلك عندهم أن الله عندما أمر بالتوجه إلى القبلة..فربما يظن أحد أن هذا الأمر خاص بأهل المدينة لا للجميع، لذلك قال الله تعالى: من حيث خرجتم فاتجهوا نحو المسجد الحرام.

ولكن الحقيقة أنه..سواء كان الخطاب إلى رسول الله أم إلى المسلمين جميعا..فلا تعني الآية أن يتجهوا إلى القبلة..وذلك لعدة أسباب.

أولا-لأن الصلوات التي يؤديها الإنسان وقت إقامته في بلده أو قريته أكثر من تلك التي تحين وقت خروجه من البلد عموما..لذلك كان من الواجب أن يصدر أمر يُغطي أكثر ما يمكن من الصلوات بدلا أن يصدر أمر تقل الفرصة للعمل به في حالة السفر. فمثلا يمكن أن يخرج المرء من البلد في العاشرة صباحا أو بين العصر والمغرب أو في منتصف الليل..وكل هذه أوقات لا مجال للصلاة فيها عادة. إذن والحال هذه، فإن قول الله تعالى (من حيث خرجت فول وجهك شطر السجد الحرام) يصبح بلا فائدة أو معنى، لأنه قلما يخرج الإنسان من البلد وقت الصلاة..فإما أن يكون قد أدى صلاته قبل الخروج، أو يمكن أن يؤديها بعد خروجه. فلا علاقة للصلاة بوقت الخروج. كان من الممكن التسليم بهذا المعنى لو كان هناك صلاة لها علاقة خاصة بخروج الإنسان من بيته وبلده، ولكن الجميع يعرفون أنه ليس هناك صلاة خاصة بوقت الخروج. فإذن لا يصح تطبيق معنى هذه الآية أبدا على خروج الإنسان من بيته وبلده بإرادة السفر.

ومما يؤكد قولنا أن هذه الآية لا تتعلق بالتوجه إلى القبلة وقت الصلاة هو أنه في حالة السفر أحيانا لا يمكن الاتجاه إلى القبلة، وتجوز الصلاة عندئذ في أي جهة يكون عليها الإنسان. مثلا إذا كان على مطيته ولا يستطيع النزول عنها، فبحسب القرآن والسنة النبوية تجوز صلاته سواء كان وجهه إلى القبلة أم لا. ولا تبقى الجهة ذات معنى عندئذ، وإنما يستوي الشرق والغرب والجنوب والشمال، ويكفي التوجه القلبي إلى الكعبة المشرفة (البقرة: 116ومسلم، صلاة المسافرين). في هذه الأيام، عندما يركب الإنسان في القطار، فلا يمكن أن يتقيد بجهة، لأن القطار يتجه مرة إلى الشمال ومرة إلى الجنوب أو إلى أي جهة أخرى، ولكن هذا لا يخل بصلاة الراكب فيه. فلو صح المعنى الذي يقول به المفسرون ما أمكن أن يعمل به المسافر على مطية أو قطار أو طائرة. وما دام الإنسان لا يستطيع وقت الخروج أن يتجه إلى جهة معينة فكيف يمكن أن يكون معنى هذه الآية أن يلتزم الإنسان بالتوجه نحو الكعبة المشرفة من حيث خرج مسافرا؟

ثم إنه لا يصح هذا المعنى أيضا لأن المعنى الحرفي للآية أنك من حيث خرجت يجب أن تتجه إلى البيت الحرام. والواضح أن الإنسان لا يؤدي صلاته وهو يخرج وإنما يؤديها عند توقفه في مكان ما. لو كانت كلمات الآية “فحيث ما كنت فول وجهك شطر المسجد الحرام “لصح المعنى الذي يذهب إليه المفسرون، ولكن الله تعالى يقول هنا (من حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام). فتبين من كل ذلك أن هذه الآية لا تعني التوجه إلى المسجد الحرام وقت الصلاة.

يقول المفسرون إننا لو لم نربط هذا الخروج بالصلاة للزم التكرار في القرآن. ولكن قولهم هذا أيضًا خطأ. إنهم يجدون في القرآن تكرارا لأنهم لا يستطيعون الربط الصحيح بين مواضيع القرآن ومطالبه الصحيحة. فحيثما يجدون إشكالا يدخلون في متاهة الناسخ والمنسوخ، فيأخذون بآية ويعتبرون الأخرى منسوخة، ويتخلصون من الإشكال. مع أننا لو نظرنا إلى حقائق القرآن الكريم التي بينها سيدنا المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام)لم نجد في القرآن أي تكرار، ولم نضطر إلى القول بنسخ آية منه.

الواقع أن الرسول عندما أُخرج من مكة وجد أعداء الإسلام فرصة للاعتراض قائلين: إذا كان هو الموعود حقا ومصداقا للدعاء الإبراهيمي، وإذا كان له علاقة خاصة بالكعبة المشرفة..فلماذا طرد من مكة؟ إذن فليس هو مصداقا للدعاء الإبراهيمي. فيرد الله على هذا الاعتراض قائلا (من حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام)..يا محمد..إن خروجك من مكة مؤقت. ونعدك أننا سوف نمكنك من الرجوع إليها مرة أخرى والاستيلاء عليها. وعندما يقطع الله مع عباده المؤمنين وعودا فإنه يتوقع منهم أيضا أن يبذلوا من جانبهم جهودا لتحقيقها، ولا يصح أن يعدهم الله فيجلسوا عاطلين، ويظنوا أنه ما دام الله تعالى قد وعد فلا بد أن يحققها بنفسه، ولا حاجة لنا لبذل الجهود سعيا لتحقيقها.

لقد وعد الله قوم موسى أنه سيعطيهم”أرض كنعان”. فخرج موسى مع قومه..وعندما وصل إزاء هذا البلد قال لقومه: ادخلوها واستولوا عليها بالقتال. ولكن قومه أخطئوا وظنوا أن الله سوف يحقق لهم الوعد لا محالة ويعطيهم البلد بنفسه، إذ لا معنى للوعد في نظرهم إذا هم بذلوا الجهد وفتحوا البلد بمشقة القتال. فقالوا لموسى (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) (المائدة: 23-25وخروج 8:3-17)..لقد أخْبَرْتنا يا موسى، أن الله وعدك سيعطينا هذا البلد، فمن واجبك أنت وربك أن تفتحا لنا البلد، ولو فتحناه بأنفسنا فما معنى وعودك لنا؟ فاذهب أنت وربك وقاتلا..أما نحن فسننتظر هنا، فإذا فتحتم لنا البلد فسوف ندخله.

وقولهم هذا يبدو معقولا في الظاهر، لأن الإنسان إذا وعد أحدا بمنحة شيئا، وجاء الموعود يسأل تحقيق الوعد، فقال له: اذهب واشترِه من السوق..لذم الناس هذا الإنسان وقالوا: إذا كان على الموعود أن يشتريه من السوق فلماذا الوعد بإعطائه؟ لكن قول أصحاب موسى –رغم معقوليته شكلا –إلا أنه في الحقيقة غاية الحمق فيما يتعلق بالجماعات الإلهية. فالله تعالى لم يمدح بني إسرائيل على ذلك، ولم يقل: لا حاجة بكم للقتال وسنعطيكم هذا البلد، بل قال لهم: إنكم تطاولتم علينا، ولذلك سوف نحرمكم هذا البلد، فاذهبوا تائهين في البراري ضائعين في الفيافي لأربعين سنة، ولن ترثوا هذه الأرض بل سيرثها أجيالكم بعدكم (المائدة 27،وسفر العدد 33:14).

فالقول الذي يبدو من حيث المعايير الإنسانية صحيحا معقولا، يعتبر غاية الحمق بالنسبة للجماعات الإلهية، ويجلب على الإنسان عذاب الله. ذلك أن الإنسان عندما يعِد، وهو لا يملك التصرف في التغيرات السماوية والأرضية..فإنه يعد فقط بشيء يكون تحت تصرفه. ولكن وعد الله تعالى يعني أنكم لا تستطيعون الحصول على هذا الشيء بجهودكم الشخصية.. فهذا مستحيل لكم.. ولكنكم سوف تنالونه بمعونتنا ونصرتنا. هذه الأمة التي عاشت لمئات السنين تحت نير العبودية عند فرعون، واشتغلت بالأعمال الشاقة المهينة من صنع اللبن وقطع الأخشاب..أنّى لها أن تستولي على بلد عظيم يحكمه قوم عاد؟ لم يكن ذلك الاستيلاء سهلا عليهم. يقول الله تعالى: إن استيلاءكم على هذا البلد مستحيل في الظاهر، ولكننا نعدكم بإعطائكم إياه، وسوف تستولون عليه بمعونتنا ونصرتنا. ووعد الله لعباده لا يعني أن الله تعالى يحقق وعده بنفسه ولا حاجة للعبد في بذل الجهود.. ولكنه يعني أنكم إذا بذلتم الجهود وأخذتم بالأسباب فسوف نعينكم وننصركم فتفلحون. فكأن وعود الله تعالى من نوع، ووعود العباد من نوع آخر، فوعود الله للعباد دور فيها..هو أن يأخذوا بالأسباب لتحقيقها، وإذا لم يتدخل العباد ويبذلوا الجهود لتحقيقها استوجبوا العقاب. ولكن وعود العباد تختلف عن الوعود الإلهية، لأن العبد لا يستطيع أن يعد غيره ويقول (سوف أغير لك قدر الله)..لأن هذا ليس من خياره، ولو وعد بذلك لقال له الناس: من أنت حتى تدّعي ذلك؟ ولكن الله تعالى هو القادر على أن يقول: لو فعلتم ذلك فسوف أنصركم وأغير لكم قدري؛ لأن القدر بيده، ويمكن أن يغيره متى يشاء.

فعندما وعد الله رسوله بفتح مكة قال للمسلمين: لا تكونوا مثل قوم موسى فتظنوا أنه ما دام الله تعالى قد وعدكم بالفتح فسوف يفتحها لكم بنفسه.. ولا حاجة لكم بالأخذ بالأسباب؛ بل عليكم أيضا أن تبذلوا جهودكم لتحقيقه. إن وعد الله يعني أنكم ضعفاء. إذا لو لم تكونوا ضعفاء ما تركتم مكة. فهجرتكم منها يعني أنكم ضعفاء، وأن عدوكم قوي، ولكن الله تعالى سوف يقويكم وسوف يمكنكم بفضله ونصرته من انتزاع مكة من أيديهم.

إذن فمعنى قوله تعالى (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام) أنكم من حيث خرجتم يجب أن يكون فتح مكة أول غاية وهدف لكم.

ثم من معاني الخروج البروز للقتال؛ فتعني الآية أنكم كلما خرجتم للقتال وحاربتم في أي مكان واتجهتم إلى أي اتجاه فيجب أن يكون خروجكم هذا تمهيدا لفتح مكة. فمثلا لو خرجتم للقاء عدو في الجنوب ثم أدركتم أن هناك أعوانا له في الغرب قد يهاجمونكم من الخلف فتصديتم لهم..فذلك يعني أن حربكم في الغرب هي تمهيد لحرب العدو الذي في الجنوب. وكذلك لو كان للعدو أنصار في الشمال أو في أي مكان، فمحاربتكم إياهم هو حرب للعدو الجنوبي..لأن هدفكم الحقيقي هو الهجوم على العدو في الجنوب. إلى هذا المبدأ يشير الله هنا ويقول: أيا كان البلد الذي تخرجون لمحاربة أهله فيجب أن تكون وجهتكم مكة، لأن الله تعالى يريد أن تفتحوها وتستولوا عليها.

وعندما نلقي نظرة على غزوات النبي نجد هذا العامل بارزا جدا، فكان فتح مكة هو الهدف الأسمى لقتاله وحروبه. لقد هب لقتاله عدد من الأمم، وأثاروه فعلا واشتبكوا معه، فإذا رأى في حرب أنها تُفوت عليه هدفه هذا ولا تحققه، أو أحس بأن القتال مع عدو سوف يؤخر فتح مكة.. فكان يغض النظر عنه رغم استفزاز العدو له. ولكن إذا أثاره قوم وكانت هزيمتهم خطوة لفتح مكة قاتلهم النبي. كل الغزوات الإسلامية كانت تنطوي على هذه الحكمة.. وعلى وجه الخصوص الغزوات التي تمت قبل فتح مكة.. فقد كان هدفها الوحيد التمهيد لفتح مكة.

فهذه الآية لا علاقة لها بأداء الصلاة والتوجه إلى الكعبة، وإنما معناها أنكم من حيث خرجتم متجهين إلى الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب..فيجب أن تكون وجهتكم هي مكة …ويكون فكركم وخيالكم وعقلكم دائما متجها إلى فتح مكة والاستيلاء عليها، وبالتالي توطيد الإسلام في الجزيرة العربية.

ومن معاني “الوجوه” التوجهات والاهتمامات (المفردات). فالمقصود إذن أن يكون لكم اهتمام وهدف واحد، وهو فتح مكة، ولتكون لكم الكعبة المشرفة، لأنه ما لم تقع مكة في قبضة المسلمين لا يمكن أن يدخل سائر العرب في الإسلام.

هذه هي الخطة والغاية التي عينت للمسلمين..ولا شك أنها كانت خطة خارج نطاق مقدرة المسلمين. نعم، لم تكن في الجزيرة العربية حكومة منظمة، ولكنها لم تكن أيضا تحت حكم طائفي. كان ملوك عديدون على صلة بهم ، ويتعاهدون معهم. وصحيح أنه لم تكن لمكة حكومة منظمة حق التنظيم ولكنها على كل حال كانت عاصمة حكومة يبلغ سكانها ما يقرب من مليون ونصف المليون. كانت القبائل حولها تنظر إلى أهلها، وكانوا يطيعون حكامها في قراراتهم وأوامرهم. ثم إن مكة كانت بلدا كبيرا بمقياس ذلك الزمن يقطن بها خمسة عشر ألفا من السكان، ولم يكن أهلها فقط، بل كل سكان الجزيرة العربية كانوا محاربين مطبوعين على القتال ماهرين في فنونه. ولم يكن محاربتهم أمرا سهلا بالنسبة للمسلمين. عندما نزلت هذه الآية على النبي لم يكن عدد المقاتلين في المسلمين يزيد على أربع أو خمس مئات، أو ألفا على أكثر تقدير. وكان عدد المسلمين رجالا ونساء. وكبارا وصغارا عشرة أو اثني عشر ألفا. أما عتادهم الحربي فلا يستحق الذكر. وعندئذ حين لم يكن أي تناسب بين المسلمين والكفار في العدد والعدة، ولم يكن لقوتهم الحربية أي وزن..قال الله للكفار متحديا: إن هؤلاء المسلمين الذين ترونهم قلة ضعيفة بلا حيلة..سوف يفتحون بلدكم في يوم من الأيام، ويستولون على عاصمتكم، وينالون السلطة فيها حتى يقومون منها بنشر تعاليم الإسلام وأحكامه، ويمحون الكفر والشرك من أرض الجزيرة العربية.

هذا التحدي بالنظر إلى حال المسلمين كان ضربا من الخبل. ثم أنه لم يكن موجها لأهل الجزيرة العربية وحدها، بل كان له أثر واسع، فلم يكن يضمن نبأ عن فتح مكة، ولا نبأ بالتغلب على الجزيرة العربية فحسب، وإنما كان أيضا تحديا قويا لليهودية والمسيحية والمجوسية.. بأن الإسلام سوف يظهر على كل هذه الأديان ويسود في العالم كله.

كانت هذه الدعوة دعوة جنونية بحسب الظروف يومئذ، ولذلك كان الكفار يسمون الرسول مجنونا، وأصحابه مجانين. كانوا لا يرون في هذه الدنيا المادية أية أسباب مادية لتحقق هذه الدعوة. والحقيقة أن الأعمال غير العادية لا تُنجز ما لم يكن في الإنسان أحيانا ما يسميه الأطباء (هَوَس) وما لم ينس الأمور الأخرى كلها، وما لم يتولد في نفسه قلق واضطراب كل حين، وما لم يوجد فيه نوع من الجنون. وإلى هذا الأمر ينبه القرآن الكريم هنا ويقول: عليكم أن تنسوا كل الأهداف الأخرى، وتضعوا في حسبانكم أن فتح مكة للإسلام أول واجب عليكم، واعلموا أنه ما لم يتم الاستيلاء على هذا المركز وهذا الحصن لن يتم لكم فتح سائر العرب ثم الدنيا من بعدها.

وهنا ينشأ سؤال: لماذا قال الله تعالى (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام).. ولماذا لم يقل: ومن حيث هاجمتم فاجعلوا المسجد الحرام غايتكم؟ والجواب: أن الإنسان وقت خروجه يقرر هدف هجومه، وليس بعد القتال يحدد هدفه. ولما كان الله يريد توجيه أنظار المسلمين إلى هدف فتح مكة قال: من حيث خرجتم..انظروا ماذا يكون أثر هذا الخروج على فتح مكة. إذا لم يكن مساعدا على إنجاز فتح مكة فدعوه.

ولكن هذا لا يعني أن الإسلام يعلم أتباعه بهذا الأمر الحروب العدوانية..لأن التاريخ يؤكد ويثبت أن الحروب مع الكفار قد بدأت قبل نزول هذه الآيات.

وجدير بالملاحظة أن الله خاطب هنا رسوله فقط حيث قال (ومن حيث خرجت)..ذلك لأنه لم يكن هناك بعد النبي حاجة إلى فتح مكة. لقد قدر سبحانه وتعالى ألا يقع هجوم بعد ذلك على مكة..بل ستبقى في قبضة المسلمين كلية. وكأن في هذا النبأ أنه لن يتم فتح مادي لمكة مرة أخرى..لأن الله تعالى قد خلق جماعة فعالة لتوطيد عظمة مكة، وسوف تبقى في قبضة المسلمين إلى الأبد.

قوله تعالى (وإنه للحق من ربك).. نزلت هذه الآيات بعد الهجرة بستة عشر شهرا، ولم تكن المصاعب عندئذ قد زالت من طريق النبي تماما، ولم يكن رعبه وهيبته وحكمه قد استتب بعد صورة كاملة. فكان من الأمور المضحكة أن يقال عندئذ بأن النبي سوف يفتح مكة. لذلك قال الله تعالى: ليقل المعارضون ما شاءوا، وليسخر المخالفون كما يحلو لهم..ولكن هذا الأمر سوف يتم بإذن ربك، ونبه المستهزئين: إنكم تعتبرون هذا مستحيلا، ولكن هذا النبأ سوف يتم أمام أعينكم.

كما أورد الله هذا القول أيضا لأن الإنسان يخاف الحرب ويخشى أن يخرج منها بالهزيمة بدلا من الفتح.. ولكن إذا توجه إلى أهدافه المخصوصة فإن ذلك يرفع من همته. فإذا شعر أحدهم بالقلق داخل نفسه طمأنه هذا القول الإلهي (وإنه للحق من ربك).. أي أنه حق من لدن الله تعالى وسوف يتم بإذنه، وهو حاميكم وناصركم.

ثم إن كلمة (ربك) تشير إلى أن وراء كل عمل دافعا، وإن أفضل دافع لإنجاز عمل أن يحس الإنسان أن هذه هي رغبة ربه المحسن إليه، وفي هذه الصورة فسوف يضحّي بحياته أيضا في كثير من الأحيان. فيجب أن تفكروا أيها المسلمون أن ربكم المحسن إليكم يريد أيضا أن يتم فتح مكة على أيديكم. لسوف يتم هذا في يوم من الأيام، ولكن عليكم أن تفعلوا شيئا تردون به إحسان المحسن..من واجبكم أن تبذلوا في هذا السبيل كل غال ورخيص، ولا تترددوا في تقديم أي تضحية لتحقيق هذا الهدف العظيم.

قوله تعالى (وما الله بغافل عما تعملون). لا تحمل هذه العبارة تهديدا بالعقاب، ولكنها تعني أن الله يرى تضحياتكم، ويعرف أن الإسلام لن يبلغ الكمال ما لم يتم فتح مكة، لذلك عليكم بذل جهودكم ومساعيكم باستمرار، ولا تدعوا هدف فتح مكة يغيب عن الأنظار، والله تعالى لن يضيع أعمالكم. لقد أثار الله بذلك المسلمين لتقديم التضحيات، وقال لهم: إني أرى تضحياتكم، ولكن جوائزكم لن تكتمل حتى تنجزوا مهمة فتح مكة. فحاولوا أن يتم هذا الإنجاز بأسرع ما يمكن..لأنه كلما تأخر إنجازه تأخر رقيكم.

ولكنهم –رغم كونهم فقراء محتاجين– لا يطلبون منه جزاء على عمل لهم. إنهم لا يطالبون الله بأي إنعام منه على صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجهم ورعايتهم لأحوال الفقراء، وإنما يرون هذه الأعمال نفسها إنعاما من الله تعالى..

يقول المستشرقون أن الآية (151)تكرار وهذا يخالف الفصاحة(Introduction to the Quran, Richard Bill مدخل إلى القرآن، رتشارد بل)

يقولون ما دام قد أمر آنفا بكلمات لا ينقصها الوضوح في قوله (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام).. فلماذا كرر نفس الكلمات بعده مباشرة بدون فائدة.

ولنتذكر أن قول أعداء الإسلام صحيح إلى حد ما..إذ لا فرق في المعنى بين العبارتين الواردتين في أول الآيتين؛ ولكن ليس صحيحا أن كلتا الآيتين جاءتا لغرض واحد.. وإنما الهدف من الآيتين مختلف. لو كان الهدف من الآيتين واحدًا لكان اعتراض الأعداء صحيحا، ولكن إذا أُعيد الكلام لغرض جديد فهذا لا يناقض حسن الكلام، ولا ينافي البلاغة، وإنما التكرار الذي يتعارض مع البلاغة فهو ما لا فائدة منه ولا غرض. ومثال ذلك قولنا في مجلس للناس: اجلسوا. ثم نقول بعد قليل: اجلسوا. في المرة الأولى كان الكلام موجها للواقفين في ذلك الوقت، وفي الثانية لمن لم يجلسوا بعد. فإعادة جملة واحدة هنا ليس مخالفا للفصاحة، ولا يسمى تكرارا، لأن لكل جملة غرضا وهدفا.

كذلك ليس هناك أي تكرار في هذه الآية. لأن الله أعاد نفس الجملة السابقة لغرض وحكمة. ففي الآية الأولى بين ضرورة أن تكون النقطة المركزية لحروب المسلمين هي فتح مكة . ثم جمع في الآية الثانية فتح مكة وتحويل القبلة وبين سببهما وقال: (لئلا يكون للناس عليكم حجة). والحجة دليل يغلب به الإنسان خصمه. وهذا ليس تكرارا، لأن المعنى لا يكتمل ما لم يذكر الأمران مرة أخرى. فالله تعالى يقول هنا: إذا لم يتم فتح مكة فسيكون للناس عليكم حجة، وكذلك إذا لم تتجهوا إليها فسيكون لهم حجة عليكم، لذلك لا بد أن تهتموا بالأمرين معا. إذا لم تفتحوا مكة فسوف تبقى عوائق عديدة في طريق رقيكم، وسوف يظل الباب مفتوحا على مصراعيه لاعتراض أعداء الإسلام عليكم.

فكلتا الآيتين لهما هدف مستقل. الموضوع الذي ذكر في الآية الأولى بإيجاز ذكر في الثانية بتفصيل وتوسع، وبأسلوب جديد وبتوضيح أكثر للفوائد المتعلقة بفتح مكة وتحويل القبلة.

كما أن الخطاب وُجِّه إلى جميع المسلمين في الآية الثانية، وقيل لهم: أيها المسلمون، أينما أقمتم وحيثما خرجتم..واجبكم أن تحفظوا الكعبة المشرفة، وأن تحموها من هجمات الأعداء. ولم يذكر هذا الموضوع في الآية الأولى.

وهناك زاوية أخرى للنظر تُبطل هذا الاعتراض..فالآية الأولى تناولت أولئك الناس الذين هم على درجة عليا من الأخلاق والروحانية، ويتفوقون على الناس العاديين؛ أو بعبارة أخرى..هم من حيث الروحانية مندمجون في ذات الرسول وصاروا أظلالا كاملة له وليسوا منفصلين عنه، ولذلك لم تكن هناك حاجة لذكرهم على حدة، لأن الله تعالى يعلم أن هؤلاء كان يكفيهم حافزا أن يقال (وإنه للحق من ربك). لو تدبرنا وجدنا أن الناس صنفان: صنف من الدرجة العليا، وصنف دون ذلك، ويكفي أصحاب الدرجة العليا الإشارة الرقيقة الدقيقة. أما أصحاب الدرجة الدنيا فهم بحاجة إلى محرك قوي. فمثلا عندما يصلي الأولون لا يخطر ببالهم أي خاطر عما ينالون من جزاء نظير صلاتهم. إنهم يرون أنهم يصلون شكرا لله على إحساناته وأياديه، وليس طلبا لجزاء أو مقابل، يقولون: وهل إحسانات الله وصنائعه السابقة قليلة حتى نتمنى مقابلا وثمنا للصلاة؟ إنهم يرون من عظيم رحمة الله وفضله أنه تعالى هيأ لهم فرصة في هيئة الصلاة لأداء الشكر على أياديه. وعلى نقيض ذلك، فإن أصحاب الدرجة الدنيا لو صلوا بضعة أيام ثم أصابهم ضرر لقالوا: ما ثمرة الصلاة؟ لقد صلينا ولم تنفعنا الصلاة. ومثل هؤلاء يصلون صلاة تجارية يطلبون لها مقابلا؛ ولكنهم ينسون أن الله تعالى – حتى قبل ولادتهم –فد أودع قلوب أمهاتهم حبا؛ وإنه عز وجل –حتى قبل خروجهم إلى الدنيا – قد فجر صدور أمهاتهم ينابيع من اللبن لغذائهم؛ وينسون أن الله سبحانه –حتى قبل مولدهم –خلق في قلوب آبائهم رأفة، ووفقهم لكسب الرزق؛ وينسون أن الله تعالى قد زودهم للرقي الديني والدنيوي بالسمع والبصر وسائر الحواس والقلوب والعقول؛ وينسون أن الله تعالى قد خلق –لاستمرار حياتهم –الشمس والقمر والنجوم والنار والهواء والماء والأرض والغذاء، وينسون أنهم لم يُعطوا هذه النعم نتيجة عمل منهم، وإنما أعطاهم الله إياها بمحض رحمانيته.

وعلى النقيض هناك من عباد الله الذين لا تكفيهم الإشارة الرقيقة الدقيقة، ولا يخطر في بالهم الحصول على أي مقابل. نعم، وإنهم يحبون أن يسألوا الله تعالى ما يحتاجونه من شيء شأن السائلين، ولكنهم –رغم كونهم فقراء محتاجين– لا يطلبون منه جزاء على عمل لهم. إنهم لا يطالبون الله بأي إنعام منه على صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجهم ورعايتهم لأحوال الفقراء، وإنما يرون هذه الأعمال نفسها إنعاما من الله تعالى.. إذ هيأ لهم بها فرصة لأداء الشكر على نعمه. لقد حكيت لكم مرارا قصة أحد أولياء الله تعالى، الذي استمر طيلة عشرين سنة يردد دعاء واحدا، ولم يحظ دعاؤه هذا بالقبول. وأثناء هذه الفترة زاره أحد مريديه. وبينما هذا الولي يردد دعاءه في هدأة الليل تلقى إلهاما أن دعاءه هذا لن يقبل. وأراد الله تعالى أن يسمع المريد هذا الإلهام، ولكنه سكت بدافع الخجل والاحترام ولم يقل للولي شيئا. وفي الليلة التالية نهض الولي كعادته من نومه وأخذ يردد نفس الدعاء إلى أن تلقى نفس الإلهام بأن دعاءه لن يقبل. وأسمع لله المريد هذا الإلهام، ولكنه سكت أيضا. وفي الليلة الثالثة كان الولي جالسا على مصلاه فتلقى نفس الإلهام، وسمع المريد صوت الإلهام، ولم يستطع السكوت، فقال للولي: إذا لم يقبل الدعاء مرة أو مرتين فلا بأس أن يكرره الإنسان، ولكن قد قيل لك مرارا أن دعاءك هذا لن يقبل، ومع ذلك لا تنفك تردده وتسأله؟ فقال الولي: إنك تعبت في ليلتين أو ثلاثة؟ إنني أردد هذا الدعاء منذ عشرين عاما، وأتلقى في كل مرة نفس الجواب، ولكنني مستمر في دعائي.. وأنت تريدني بعد أن سمعت هذا ثلاث ليال أن أتركه؟ إن عملي هو أن أسأل الله، وإن عمل الله تعالى أن يقبل أو يرفض. فأنا أقوم بعملي، والله يعمل عمله، وله كل الخيار أن يقبل أو يرفض.

فعباد الله من الطراز الأول لا يضيقون، وإنما يقومون بواجبهم وأعمالهم، ولا ينتظرون لها مقابلا أو جزاء. لذلك كان كافيا أن يُقال لهم (وإنه للحقّ من ربك)ليعلموا أن الله تعالى يرغب في أن يقوموا بهذا العمل.

أما في الآية التالية فإن الله وجّه قوله لأولئك الذين هم أصحاب الإيمان الأدنى –وهم عادة يسألون عن أجرهم قبل القيام بالعمل –لذلك تناول الله ذكرهم، وقال بأن ثمار فتح مكة تتمثل في نعم كذا وأفضال كذا. (لئلا يكون للناس عليكم حجة).. إنكم لو خرجتم لفتح مكة فأول نعمة تنالونها من الله هي أنه لن يبقى لدى الناس فرصة للاعتراض عليكم، ولن تكون بيدهم أية حجة ضدكم.

والإنعام الثاني هو (ولأتم نعمتي عليكم).. أي سوف توهبون من الله الحكومة والملك.

والإنعام الثالث هو (لعلكم تهتدون). والهداية في الحقيقة تعني الوصول إلى الهدف والمقصود، فتشير هذه الكلمات إلى أنكم سوف تلتقون بأصدقائكم وأقاربكم. من قبل كان المرء منكم بعيدا عن زوجته، والزوجة نائبة عن زوجها، والابن عن أبيه، والأب عن ابنه، ولكن بخروجكم إلى مكة سوف تحققون منفعة أخرى..فتلتقون بأهليكم هؤلاء. وسوف تزول الخصومة والنـزاع الذي انفصلتم بسببه عنهم.

الإنعام الأول إنعام “معنوي” عقلي.. أي تنالون طمأنينة ذهنية. والإنعام الثاني إنعام مادي.. أي تنالون الحكم والملك. والإنعام الثالث إنعام قلبي.. أي تلتقون بأقاربكم وتنالون راحة وطمأنينة قلبية.

فالأمر الأول في الآية الأولى كان لهدف، أما الأمر الثاني في الآية الثانية فكان لهدف آخر. ففي الأمر الأول تناول موضوع الحرب، وبين الهدف من ذلك (وانه للحق من ربك).. أي أن الله تعالى قد وعد بذلك، فمن واجبكم أن تسعوا وتبذلوا الجهد لتحقيق ما وعد به محبوبكم. فكأنه ذكر هدفا ساميا لا ينظر إليه إلا أصحاب الإيمان الكامل، وبين أنه كما يجب أن يكون هدفكم الأسمى هو نيل رضوان الله تعالى وتحقيق مشيئته بغض النظر عن أي مقابل أو إنعام، كذلك من مقتضى علاقتي السامية معكم ألا أهمل أعمالكم، ولا أدع شيئا يضيع منها. فإذا ما بذلتم جهودكم فسوف تثور غيرتي، وأنزل عليكم أتم البركات.

وفي الأمر الثاني أعاد نفس الحكم لأولئك الذين لم يكونوا على المقام العالي من الإيمان كما تبوّءه الأولون، ولم يكونوا أظلالا كاملة للرسول ، وبين لهم أنكم تنالون ثلاث فوائد من فتح مكة: أولها أن العدو لن يستطيع الاعتراض عليكم؛ وثانيها أنكم تنالون بالفتح الدنيوي الأمن والأمان، وثالثها أنكم سوف يلتئم شملكم مع أعزائكم وأقاربكم الذين فارقتموهم وانفصلتم عنهم بسبب الاختلاف الديني. فكأنكم تنالون الراحة من ثلاثة أنواع: روحية ومادية وقلبية. ولما كانت الفوائد المذكورة في الآية الثانية هي أدنى من الغرض المذكور في الآية الأولى، وأراد الله تعالى ضم جماعة الإيمان العادي إلى أصحاب الإيمان العالي..ذكر الله تعالى هذا الأمر وأعاده مرة أخرى، ولما كانت هذه الفوائد مما تحصل عليه الجماعة العليا أيضا..لذلك ذكرهم الله معهم. لو لم يذكر هؤلاء معهم لنشأ تساؤل: إذا كان أصحاب الإيمان الأدنى ينالون هذه النعم أفلا ينالها أصحاب الإيمان الأعلى؟ ولإزالة هذه الشبهة ذكر الله هؤلاء أصحاب الإيمان العظيم، وبين أنهم وإن كانوا لا يطمعون في الإنعامات ولا يبالون بالجوائز على أعمالهم.. إلا أنهم لن يبقوا محرومين من الفوائد والمنافع المنوطة بفتح مكة، بل سيتمتعون بها كما سيتمتع بها الآخرون. والعجيب أن الله تعالى لم يقل هنا (حيثما خرجتم) بل قال (حيثما كنتم). ذلك أنه كان بين المسلمين بعض الضعفاء والمعوقين من المرضى والعرج وغيرهم الذين حال ضعفهم البدني دون المشاركة في القتال. وبالنظر إلى هؤلاء قال الله تعالى (وحيثما خرجتم) بدلا من “حيثما كنتم “..لبيان أن الثواب ليس وقفا على المشاركين عمليا في القتال، بل سيحظى به أيضا من لا يقدرون على الخروج بسبب ظروفهم القهرية..كالمريض الذي يلازم الفراش أو المعوَّق الذي لا يستطيع الحراك وغيرهما من الضعفاء الذين منعهم ضعفهم من الاشتراك في فتح مكة. وللحيلولة دون صدمة لأولئك الذين منعتهم ظروفهم القهرية من القتال.. قال الله تعالى (حيثما كنتم).. ليطمئنوا إلى أنهم يُعَدّون من المشاركين في الحرب. فلو أن هؤلاء استمروا في الدعاء لفتح مكة، ولم تنفك قلوبهم تتحسر شوقا، يتمنون لو أنهم قادرون على الاشتراك في القتال.. فإن الله تعالى لن يضيع أجرهم، بل سوف يثيبهم كما يثيب أولئك الذين يخرجون فعلا للقتال، فالضعيف والمعوق الذي يعجز عن الاشتراك في الحرب، يمكن له أن يدعو ليل نهار: يا رب، اكتب الفتح للمسلمين، وأدخلهم مكة منصورين، أو لو أنه جاءه شخص غير مسلم فيبلغه رسالة الإسلام ويدخله فيه.. فيعتبر كمثل المشارك عمليا في القتال والحرب.

ولاختيار جملة (حيثما كنتم) بدلا من (حيثما خرجتم) حكمة أخرى.. وهي أن يغطي بها زمن السلم عندما لا يكون هناك حرب. فأمر الله تعالى بذلك المسلمين أنه عندما تخرجون للحرب، وكذلك عندما تكونون في البيوت وقت السلم.. يجب أن يكون فتح مكة أمام أعينكم دائما في كلا الحالين، ولا يغيب عن أنظاركم أبدا.

كما أن هذه الكلمات تنبه المسلمين إلى أن عليكم الاهتمام الدائم المستمر بترقية مركزكم، وبتعليم أهليكم وإصلاحهم وتربيتهم. تذكروا أنه لو حدث فساد أو خلل في مكة المكرمة فإن هذا سوف يؤثر في العالم الإسلامي كله، ولو تقدمت وازدهرت مكة فهذا أيضا سوف يؤثر في العالم الإسلامي كله؛ لأن الناس سوف يأتون مكة مرة بعد أخرى للحج والعمرة، ويجتمعون هناك من كل أطراف العالم، فمن واجبكم ألا يحدث فيها أي خلل أو فساد، لأنه لو حدث ذلك فلا بد أن يؤثر على العالم.

في زمننا هذا أيضا..لا يزال معارضونا يقولون عن سيدنا المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام)كيف يمكن لنا أن نعتبره صادقا في دعواه.. ما دام علماء مكة المكرمة قد أصدروا الفتوى بكفره؟ من هنا يمكن أن تقدروا مدى أهمية صلاح أهل مكة. لا شك أن بيت الله لن يقع –بفضل الله تعالى – في أيدي غير المسلمين، ولكن مكة يمكن أن تتعرض للهجمات الشيطانية، وهي تتعرض فعلا. كذلك يمكن أن تقع في أهلها أنواع من الفساد والسوء، لذلك ينصح الله المسلمين في هذه الآية: أيها المسلمون، حيثما تقيمون في أرجاء هذا العالم.. فمن واجبكم أن تهتموا بمكة، وتعتنوا بإصلاحها ورقيها دائما.

وللأسف الشديد، فإن المسلمين قد أهملوا هذا الواجب الهام، وكانت النتيجة أن العديد من المفاسد والسيئات قد تسربت فيهم أنفسهم. عندما أدرس التاريخ الإسلامي أتحير برؤية أن عدد سكان مكة والمدينة كان يتراوح بين عدة آلاف إلى مائة ألف على الأكثر، في حين أن عدد سكان بغداد ودمشق والقاهرة وبعض المدن الأخرى في إيران والهند وغيرها كان يبلغ المليون أو المليونين. إنني أرى أن من أكبر أسباب انحطاط الأمة الإسلامية أن المسلمين لم تبق عندهم الرغبة في الإقامة في مركزهم الروحاني بقدر رغبتهم في الإقامة في العواصم السياسية والحكومية، وكانت النتيجة أن الأساس بقي صغيرا، وصار البناء كبيرا؛ ولا يبقى البناء الضخم على أساس صغير.

إن كل إنسان فيه بعض المزايا وبعض المساوئ، وإذا كان يرتكب بعض الأخطاء فإنه أيضا يقوم ببعض الأعمال الحسنة. فمثلا –أدولف هتلر-الزعيم السابق لألمانيا، الذي جاهد كثيرا لترقية شعبه، لو كان فيه إسلام لكان باليقين رجلا عظيما. ولكن لم يكن الدين مربيا له فوقع في كثير من الأخطاء، وبدلا من أن يأخذ قومه إلى الرقي..دفع بهم إلى الانهيار والزوال. ولما كان معماريا لذلك كان لكل ما يتعلق بالبناء والعمارة تأثير شديد فيه. لقد كتب في كتابه المشهور (كفاحيMine Kampf ص 80-96)، الذي بين فيه خطته للعمل والذي عرض فيه بحثا طويلا ليدلل على أن الشعب الألماني هو الأجدر والأحق بأن يكون الأكبر في أوروبا.. يقول: إن البناء الكبير يبنى فقط على أساس كبير، فلو أقمتم أساسا مساحته أربعة أذرع، وشيدتم عليه بناء سعته أذرع فلا بد أن يسقط هذا البناء، ولكن إذا كان الأساس أربعة والبناء ثلاثة أذرع فسوف يكون بناء أقوى. ولبناء العمارات الكبيرة الشاهقة لا بد أن يكون الأساس قويا متينا كبيرا. ينبغي أن يكون اتساع الأساس أكبر من اتساع المبنى. انظروا إلى الأهرامات المصرية القائمة الصامدة لآلاف السنين..تجدوا السبب أنها مشيدة على شكل مثلث.. قمته صغيرة المساحة وقاعدته شديد الاتساع. هذه الأبنية قد أقيمت قبل موسى –عليه السلام- بمئات السنين، ولم يقم أحد بترميمها، ولكنها تقف شامخة إلى اليوم. والسبب في ذلك أن أساس أحدها يبلغ 50 فدانا، بينما القمة مدببة؛ فيتوزع الثقل على الأساس بتوازن واعتدال فلا يسقط البناء. يقول هتلر: إن ألمانيا أكبر بلاد أوروبا، وسكانها يبلغون ثمانين مليونا. في حين أن بريطانيا أربعون مليونا، ومثلها أسبانيا وفرنسا وإيطاليا. فلو أن هذه البلاد وسعت رقعتها لضعفت قوتها، وتغلب عليها البلاد الأخرى. ولكن أساس ألمانيا قوي وكبير، ولذلك يمكن لألمانيا ذات الأساس العريض أن تتوسع بضم بعض المناطق الروسية إليها، حتى إذا تم فتحها صارت جزءا من ألمانيا واستوعبتها بسهولة، ولا يستطيع أهل هذه المناطق التغلب عليها.

ولكن المسلمين لم يعرفوا هذا السر حق معرفته، مع أن القرآن قد أخبرهم به، فمن ناحية، أمر الله سيدنا إبراهيم فرفع أسس الكعبة المشرفة، ومن ناحية أخرى أمر الناس أن يحجوا هذا المكان من كل أرجاء العالم، وأيضا أمرهم بالعمرة.. وبهذا نبههم إلى زيارة هذا المكان في كل أيام السنة. وأيضا قال النبي عن المدينة أنه يجب على كل القبائل أن يرسلوا مندوبين لهم إليها ليمكثوا فيها ويتعلموا الدين. ولكن المسلمين لم يدركوا هذا السر، فكانوا يعمرون مراكزهم السياسية، وكانت كل عاصمة سياسية لهم أكثر سكانا من مركزهم الديني، وكانت النتيجة أن أكثر الناس اتجهوا إلى المراكز السياسية وظل المركز الديني ضعيفا. إنني أرى أن الإسلام لم يصبه الضرر بأكثر مما أصابه من دمشق أو بغداد أو القاهرة أو أصفهان أو بخارى أو ري أو مرو، لأن هذه المدن شغلت اهتمام الناس عن المراكز الدينية وجذبتهم إلى نفسها. لو كانت مكة والمدينة أكبر المدن ما حدث هذا الفساد والخراب. أنشئت الجامعات في بغداد مع أن مكانها الصحيح هو المدينة. وأقيمت جامعة الأزهر في القاهرة مع أن مقرها الصحيح هو مكة. الأمة التي تريد نشر قوتها الروحية والعلمية.. عليها توسيع وتوطيد مركزها الديني إلى أقصى حد ممكن. وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره). وينصح المسلمين أن يهتموا دائما بمكة، وبإصلاح أهلها، لأنها مكان للحج والعمرة وغيرهما من الأهداف والمقاصد الدينية. ولو تسرب الفساد إلى أهلها ولم يعودوا صلحاء..فلسوف يتأثر بهم زائروها وينتقل إليهم الفساد.

الحقيقة أنه كلما كان المركز قويا كلما كان نظام الجماعة قويا، واستمرت الجماعة في الترقي في المجالات الروحانية. فعلى الذين يقيمون خارج المركز أن يعتنوا ويهتموا به اهتماما خاصا، وعلى أهله أيضا أن يهتموا بإصلاح أنفسهم، ويسعوا للرقي في مجال الخير والروحانية دائما.

قوله تعالى (لئلا يكون للناس عليكم حجة). هنا يقول الله تعالى أن الهدف من هذه الأوامر هو ألا يجد الكفار دليلا يسبب لكم الخجل والندم. لا شك أن الرجال الروحانيين لا يبالون إذا أثيرت في وجوههم الاعتراضات، ويقولون لا بأس فليعترضوا، ولكن أصحاب الإيمان الضعيف يعيرون لهذا الأمر اهتماما كبيرا، ويقولون إن الناس يعترضون علينا بكذا وكذا، وأحيانا يضيقون ويرتدون. فيقول الله لهم: حسنا، ننيط بكم هذا الأمر، فأنجزوه بهمة حتى لا يكون في يد العدو أي حجة عليكم تخجلون لها.

هذا الاعتراض كان يمكن أن يوجه من خمسة وجوه:

الأول-ورد في كتب اليهود أن هذا النبي الموعود سوف يأتي ويفتح مكة بعشرة آلاف من القدوسيين (تثنية1:33-2). فلو أن المسلمين لم يفتحوا مكة لكان لليهود أن يعترضوا بأن النبأ الوارد عن النبي الموعود لم يتحقق على يد هذا النبي، فكيف نصدقه؟

الثاني-كما كان يمكن لهم أن يعترضوا بأن القرآن قد تنبأ بنبأ وثبت خطأه. فقد قال: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) (القصص86).. فالله تعالى الذي فرض عليك القرآن هو الذي سوف يرجعك إلى هذا المكان الذي يزوره الناس في الحج والعمرة مرة بعد أخرى. فإذا لم يتم فتح مكة على أيدي المسلمين لسنحت لأعداء الإسلام فرصة الاعتراض ولقالوا إن القرآن –فضلا عن التوراة –يتنبأ بفتح مكة ولكن لم يتحقق هذا النبأ.

الثالث –لو لم يؤمر المسلمون بالاتجاه إلى الكعبة لأثار هؤلاء الخصوم اعتراضا آخر بأن النبي الذي دعا من أجله إبراهيم (عليه السلام)كان له علاقة ببيت الله، وقد كان مقدرا أن يأتي لعمران هذا البيت (البقرة: 130)، ولكن محمدا جالس في مكان آخر ولا علاقة له بالكعبة. فكيف نعتبره مصداقا للدعاء الإبراهيمي؟

الرابع –ولو لم يتم فتح مكة لاعترض الناس بأن الهدف من بعث هذا النبي هو نشر التوحيد، ولكن لا يزال في الكعبة المشرفة 360 صنما (البخاري، كتاب المغازي).. فكيف تحقق النبأ الذي يقول إنه جاء ليطهر هذا البيت.

الخامس –لو لم يتم فتح مكة لقال المعترضون أن النبأ القائل (وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة) (البقرة:130)لم يتحقق. لقد قيل إن هذا الرسول سيبعث لإصلاح أهل مكة، ولكن أين تحقق هذا النبأ وكيف تم؟

إذن فلو لم يتم فتح مكة وإصلاح أهلها لأثار العدو أنواع الاعتراضات، لذلك أمر المسلمين بفتح مكة على وجه خاص، وقال لهم: يجب ألا يقع هناك سوء ولا فساد.. وألا يجد العدو دليلا لا تستطيعون دحضه. ولكنكم لو قمتم بفتح مكة فلسوف تفحمونه ولن يستطيع الاعتراض عليكم.

قوله تعالى (إلا الذين ظلموا منهم).. يمكن أن يكون الاستثناء هنا متصلا، وقد يكون منقطعا. ولو اعتبرناه متصلا فمعناه أنكم إذا فتحتم مكة فلن يبقى لأحد اعتراض عليكم إلا الذين ظلموا.. فهؤلاء لن يزالوا في إثارة الشر، وسوف يروجون الأقاويل، ولكن قولهم لا يستحق أي اهتمام.

ويكون الاستثناء منقطعا إذا كانت الحجة بمعنى الغلبة، والمعنى: لا تخافوا الظالمين منهم بل خافوني فقط..لأنكم ما دمتم قد تمكنتم من التغلب عليهم فلن يضروكم شيئا.

وكما جاء في شرح الكلمات فإن “إلا” تكون أيضا بمعنى”لكن”، وبناء على ذلك يكون المعنى: بعد فتح مكة لن يبقى في أيدي الناس عموما أي حجة ضدكم، ولكن لو استمروا في الاعتراض فلن يكون هذا منهم إلا ظلما، ولا منطق في ذلك.

وكذلك ترد “إلا” بمعنى “الواو العاطفة”، ويكون المعنى: ذلك كيلا يكون للناس عموما عليكم حجة ولا للذين ظلموا منهم خاصة. أي بعد فتح مكة سوف تتم الحجة على أعداء الإسلام بحيث إنه سوف يسد أفواه الظالمين أيضا ولن يستطيعوا الاعتراض.

وفي قوله تعالى (ولأتم نعمتي عليكم) يقول الله: إننا أصدرنا هذا الأمر لإتمام نعمتي عليكم. والمراد من النعمة هنا الإسلام، ويعني إتمامه توطيده بصورة كاملة. وهذا البرنامج كان أيضا من أهداف فتح مكة، فبمجرد أن تمّ فتحها تواردت على النبي وفود العرب من كل الجزيرة العربية، يمدون إليه يد السلم (البخاري،المغازي). وفي آخر الأمر، ونتيجة لهذا الفتح، دخلت كل الجزيرة العربية في الإسلام. ثم إن العرب في مدة وجيزة جدا نشروا الإسلام في كل العالم. وتلك النعمة، ونعمة الإسلام التي نزلت من الله لبني نوع الإنسان توطدت واستحكمت في العالم.

قوله(ولعلكم تهتدون) أي أن من فوائد فتح مكة أن الله سوف يفتح أبواب الهادية لأمتكم، فيدخلون في الإسلام جميعا. فإسلام قومك رهن بفتح مكة. صحيح أن العديد من الناس كأفراد دخلوا الإسلام قبل فتحها، ولكن الآخرين كانوا يرون أنه لو فتح هذا النبي مكة فدينه صادق، وإذا لم يتمكن من فتحها فهو كاذب. (البخاري، كتاب المغازي). وعندما تم فتحها عرفت القبائل العربية أن الإسلام دين حق فجاءت وفودها من كل ناحية لإشهار دخولها في الإسلام. بل إن بعضا من ألد أعداء الإسلام دخلوا في بيعة النبي بعد فتح مكة، وأبرز مثال لذلك “هند”.

كانت قبل هذا الفتح من ألد أعداء الإسلام والمسلمين، وكانت من بين الأفراد الذين أصدر الرسول الأمر بقتلهم عقابا لهم. كانت امرأة ذكية جدا، فاختفت أثناء الفتح في بيتها ولم تخرج منه، وعندما ذهبت النساء لمبايعة الرسول خرجت متحجبة – وكان الأمر بالحجاب قد نـزل من قبل –وانضمت إلى النساء وبايعته. ولم يكن النبي يعرف أن هند بين النساء. وعندما ردد في كلمات البيعة “ألا يشركن بالله شيئا”، قالت هند “يا رسول الله، هل نشرك بعد هذا الذي جرى؟ كنت وحيدا وكل القوم والعرب في جانب أصنامهم التي زعموا أنها تساعدهم، فنصرك الله.. فكيف يمكن أن نشرك به؟ ولما سمعها النبي سأل: هل هذه هند؟ قالت نعم يا رسول الله، ولكنك الآن لا تستطيع أن تنال مني فقد دخلت في بيعتك. (السيرة الحلبية ج3 ص110).

فقد كان فتح مكة آية عظيمة حتى أن عدوا لدودا مثل هند أدركت أن الحق قد حصحص وظهر تماما.

وكان السبب الثاني لدخول العرب في الإسلام أنهم كانوا على يقين أنه لا يستطيع صاحب دين كاذب فتح مكة أبدا؛ ولو حاول فسوف يدمر ويباد. وكان عندهم حادث من الماضي القريب كمثال لذلك. ففي عام المولد النبوي حاول حاكم اليمن أبرهة غزو مكة، ولكنه فشل في ذلك رغم جيشه الكبير، وتفشى في جنوده وباء شديد فدمرهم، فرجع خائبا خاسرا (السيرة النبوية لابن هشام ج1، أمر الفيل). فعرف العرب أن الله تعالى يحفظ بيته الحرام ولا يستطيع أحد الاستيلاء عليه بحد السيف. لذلك عندما فتح النبي مكة أدرك العرب وتيقنوا أنه صادق وأن دينه من عند الله، فدخلوا في الإسلام أفواجا.

وهناك حديث يؤكد أن العرب كانوا ينتظرون فتح مكة، فقد قيل: كانت العرب تلوَّم بإسلامهم الفتح فيقولون: اتركوه وقومَه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم (البخاري، المغازي).

وأيضا كما بينا من قبل فإن قوله (لعلكم تهتدون) يعني أيضا أنكم سوف تلتقون بأهلكم وأعزائكم، وتزول ما بينكم من نزاعات وحروب.

فكأن هناك ثلاثة أنواع من النعمة التي سوف تحظون بها: الأول –أن لا يكون للناس عليكم حجة، فبفتح مكة تنالون الراحة الذهنية، وسوف يُفحَم العدو ولن يثير أي اعتراض.

الثاني –ولأتم نعمتي عليكم، وهو الإنعام المادي، فتنالون الحكم والملك، ويتوطد الإسلام أولا في الجزيرة العربية، ثم يخرج منها وينتشر في العالم كله.

وفي آخر الأمر، ونتيجة لهذا الفتح، دخلت كل الجزيرة العربية في الإسلام. ثم إن العرب في مدة وجيزة جدا نشروا الإسلام في كل العالم. وتلك النعمة، ونعمة الإسلام التي نزلت من الله لبني نوع الإنسان توطدت واستحكمت في العالم.

والثالث –لعلكم تهتدون: فهنا ذكر إنعاما قلبيا، وذلك بسبب إسلام قومكم سوف تزول القطعية التي كانت بينكم وبين أقاربكم، ويزول عن قلوبكم هذا الاضطراب والقلق.

فهذا ليس تكرارا، وإنما فيه إضافة موضوعية. فهذه الآية أيضا تتضمن موضوع فتح مكة. وهناك دليل آخر على ذلك: فسورة الفتح التي تتناول موضوع فتح مكة ذكرت نفس الأهداف من هذا الفتح كما ذكرت هنا. يقول الله تعالى (إنا فتحنا لك فتحا مبيتا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما *) (الفتح: 2-3).. إننا وهبناك فتحا مبينا عظيما، وسيكون ثمرته أن الله سوف يغفر كل الذنوب التي ارتكبت ضدك، والتي يحتمل أن ترتكب في المستقبل.

فهذه الآية تذكر ثلاثة أهداف لفتح مكة: الأول-دفع اعتراض الأعداء، وهذا في قوله تعالى (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر). والمراد من (ذنبك) هنا الاعتراضات التي تثار ضدك.. لأنهم بعض ألا حيان ينسبون فكرة أحد إلى غيره..كأن تقول (هذا ذنبي) معبرا عن تصور غيرك أنه ذنبك، وكما جاء في القرآن الكريم (ولهم علي ذنب) (الشعراء: 15) يقول سيدنا موسى أنهم يتصورون أني ارتكبت ذنبا في حقهم. يقول الله: بتحقق نبأ فتح مكة سوف يدفع الله الاعتراض الذي يثيره المخالفون بأنك نبي كاذب. ليس هذا فقط، بل إن هذا الدليل سوف يفحم كل المعترضين في المستقبل أيضا.

والغرض الثاني لفتح مكة هو إتمام النعمة(ويتم نعمته عليك).

والثالث سوف تتقدمون وتترقون في طريق الهداية (ويهديك صراطا مستقيما). هذه الأغراض الثلاثة قد ذكرت في الآية المفسرة وفي سورة الفتح أيضا.

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك