الاستثمارات الصغيرة ودورها في التنمية الاقتصادية

الاستثمارات الصغيرة ودورها في التنمية الاقتصادية

خالد صالح

الإيدز الاقتصادي

The Economical Aids

ربما يبدو الكلام عن الاستثمارات الصغيرة في عصر الشركات المتعددة الجنسيات نوعًا من اللهو الذي لا معنى له، فالذي انعقدت عليه النوايا هو تعليق قضايا النمو الاقتصادي في عنق الشركات العملاقة التي لها نفوذ مالي وسياسي وقادرة أكثر من غيرها على صنع استثمارات ضخمة ذات عوائد كبيرة في فترة قليلة من الزمان، بدون الدخول في تفاصيل ومناقشات حول مزايا وعيوب الاستثمارات المادية الضخمة، أكتفي فقط بعرض سريع لنتائج عصر الليبرالية الجديدة كما يُسمى في مناطق الاستثمار الجديدة للشركات المتعددة الجنسيات في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق: انهيار كمي وكيفي في السوق الوطني أشاع الشفقة بين طبقات المجتمع، انتشار جرائم الرشوة، الفساد الأدبي، الدعارة، نمو خطير لمنظمات إجراميّة مسلحة، انهيار خطير في نظام العناية الصحية، ذيوع هستيري للنمط الاستهلاكي مما يهدد بتدمير شامل للتقاليد الأخلاقية التي تحفظ الشعوب في وقت أزمتها..

إنّ الإيديولوجية الاقتصادية التي تروّجها المؤسسات المالية الغربيّة في بلدان العالم الفقير تحمل في طياتها جراثيم الموت والخراب، والأسوأ في هذه القضية إنّ البلدان الفقيرة تحمل قليلاً من المناعة الأخلاقية ضد فيروس الإيدز الاقتصادي. إن النمو الاقتصادي لا يمكن أن يحدث دون قاعدة روحيّة تحدد للإنسان الأولويات الهامة في حياته، وافتقاد القاعدة الروحيّة تحوّل المجتمع إلى غابةٍ يسعَ الجميع فيها لافتراس بعضهم البعض، ليس هذا كلامًا إنشائيًّا بل هي حقيقة علميّة لا مفرّ منها. إنّ نموذج النمو الرأسمالي في الغرب لم يمر دون أن يترك بلايين الضحايا في الغرب والشرق على السواء وتاريخًا حالكًا أسودًا من تجارة العبيد وعصور المستعمرات وإنتاج أسلحة الدمار الشامل.

ولا أجد نفسي مضطرًا إلى القول أنّ بلدان (العالَم «الفقير كما يزعمون») غير مجبورة على اتباع النمط الغربي في أحداث النمو الاقتصادي بكل ما فيه من آفات ورزايا، بل إنّ هذه البلدان يمكنها بالعودة إلى جذورها الروحيّة العميقة والأصليّة أن تجد طريقًا متوازنًا ومستقرًا في بناء الوطن.

إنّ الخطر الأكبر الذي يهدد البلدان النامية في هذه الحقبة الزمنيّة، هو تدمير القوة الاقتصادية لعشرات الملايين من أصحاب الأعمال الصغيرة والمهن الحرة، حتى إنّ لهجة إعلام بعض هذه الدول تتناول بشكلٍ أو بآخر باحتقار دور الاستثمارات الصغيرة تسعى جاهدةً لتقنينها.

إنّ هذا الاتجاه الخطير قد يؤدي إلى طابورٍ طويل من ملايين المتعطلين عن العمل وتدمير القوة الاقتصادية الوطنيّة لصالح مؤسسات ماليّة تصبُّ في نهاية الأمر في جيوب الدول الغنيّة، وهذا يكشف لنا بكل وضوح عن نِفاق السياسة الغربيّة التي تشجع بشكل أو بآخر الأعمال الصغيرة في بلدانها وتقدّم لها كل مساعدة، بينما تسعى من ناحيةٍ أخرى للقضاء عليها في البلدان النامية؟!!

لقد ساهمت الاستثمارات الصغيرة في البلدان النامية من تقديم فرص العمل لملايين من الناس وساعدت على تقديم منتجات ذات جودة فائقة، لا يمكن أن تُباريها فيها المصانع ذات الماكينات الضخمة، كما أنها قدمت بلايين من العملة في مجال الادخار وحب إنشاء العقارات السكنيّة، استصلاح الأراضي الزراعية، استحداث مجالات عمل جديدة لقطاعات واسعة من الشباب .

ورغم أن الشركات العملاقة تقدم منتجاتها في معلبات أنيقة يُبررون بها الأثمان المرتفعة ويخفون بها أحيانًا رداءة المنتوج، ستظل ألبان المزارع البسيط أكثر حلاوة ودسامة من علبة اللبن الأنيقة التي مرت عليها عشرات الماكينات حتى أصبح اللبن ثلاثة أرباعه ماء. وستظل قطعة السجاد التي نسجته أنامل العامل البسيط في صعيد مصر أو شيراز بإيران أو كشمير أرقى وأجمل من السجاد الذي تنتجه ماكينات بلا حس ولا مشاعر. وسيظل البقال البسيط على علاقة حارة بزبائنه أكثر من محلات «السوبر ماركت» الضخمة الأنيقة التي لا يعرف فيها أحدًا أحد.

إن النمو الذي يواجهه الآن أصحاب الاستثمارات الصغيرة، يفرض عليهم منافسة غير متكافئة، لكن هذا لا يعني أن الأمر قد حُسم لصالح الشركات العملاقة، لا أظن هذا ولكن الأمر يستدعي أن يطور أصحاب الأعمال الصغيرة قدرتهم الفنية والتجارية، وأن يتوحدوا فيما بينهم ويصيغوا سياسة حادة لحماية أقواتهم وأقوات أولادهم من القرش المفترس الذي يسعى لابتلاع الجميع.

Share via
تابعونا على الفايس بوك