البحث عن مسيح الإسلام

البحث عن مسيح الإسلام

خالد صالح

نشأ كاتب هذه السطور في بيئة إسلامية تقليدية طيبة، وتشرَّب محبة الله ورسوله منذ نعومة أظفاره. وواقع الأمر كان لدي اشتياق عميق لأعرف الله تبارك وتعالى حق المعرفة، وأحيا حياة إسلامية صحيحة. لذا كنت مولعًا في صباي بقراءة السيرة النبوية المطهرة وسير الصالحين من عباد الله، وكان دائمًا يداعب خيالي حياةٌ بطولية نقية كحياة الصالحين العظماء، حياة ملؤها المحبة الخالصة لله، والتضحية في سبيل هذه المحبة بأي شيء مهما كانت قيمته وعظمته.

مع تقدمي في السن تولدت في ذهني أسئلة صعبة حول الدين والتدين، وكانت لدي رغبة جارفة للتعرف على كل الأديان أيًّا كانت. لم يعجب هذا التوجه أحدًا ممن أعرفهم، وكنت عندما أذهب لأسأل أحدًا ممن أظن أن لديه الدراية بعلوم الدين.. كان ينظر إليَّ ويخاطبني بلهجة ملؤها التحقير والازدراء. كان البعض يظن أن بي مسًّا من الجنون أو روحًا شيطانية تلبَّسني، وأنني مريض نفسيًّا ينبغي أن أذهب لمصحة الأمراض النفسية. لم يحترم أحد تساؤلاتي أو شكوكي، وانتهى بي الأمر إلى أن أصبحت منبوذًا محتقرًا من الجميع. فثارت حولي الأقاويل والحكايات. كل هذا حدث لي عندما كنت صبيًا لم أتجاوز من العمر ستة عشر ربيعا؟!!

بدأت أسأل نفسي وأقارن بين الصورة النقية التي كنت أحملها عن الإسلام في ذهني وبين واقع الحياة الذي صدمني بعنف. وقلت: يا سبحان الله! ألا يوجد من بين كل هؤلاء العلماء والمشائخ والمتدينين الأفاضل من هو قادر على احتواء صبي صغير السن ويترفق به وبتساؤلاته.. بدلاً من الإساءة والشتم حتى قيل لي أنني فضحت عائلتي كلها أمام الجميع؟!

كانت هذه الصدمة العنيفة التي عشتها في مطلع حياتي سببًا في انعزالي عن الجميع انعزالاً شبه كامل. فلم أكن لأكلم أحدًا أو أتخذ صديقًا، بل كان كل معارفي بعد هذا من غير المسلمين. وشددت الرحال بعيدًا، وبدأت أقرأ من جديد باحثًا عن طريق آخر. فاستغرقت في علاقة حميمة مع المسيحيين. وأخذت أقرأ في الأناجيل وأدرسها كما يدرسها علماء اللاهوت. وأشبعت تاريخ الكنيسة بحثًا. وصدمت من خلال هذه الدراسات بحقيقة الكتاب المقدس. فمعظم نصوصه لا تسلم من النقد بسبب ضعفها وعدم ثبوت نسبتها إلى المسيح أو لتلاميذه. كما أن عقائد المسيحية لم تقرَّر بشكل حاصل إلا بعد قرون عدة من وفاة المسيح . وبعد معارك طاحنة بين طوائف النصرانية المختلفة. (1)

كما أن الكثير مما شاع حول شخصية المسيح تغير بسبب الكشوف الجديدة لنصوص نصرانية قديمة تقدم المسيح بشكل مختلف. فمنها ما تحدث عنه كرجل متزوج من مريم المجدلية، بل إن بعض هذه النصوص يقرر أن المسيح ولد من علاقة زوجية بين الصديقة مريم والصديق يوسف النجار.. وقد باركها روح الإله التي أعدت هذا الصبي لرسالة روحية بالغة الأهمية. (2)

لذا فليس من المستغرب أن تنهار الكنيسة في الغرب. ليس لدى قادتها بالفعل أجوبة على تساؤلات الناس الجادة المبنية على حجج عقلية منطقية وتاريخية ودينية صحيحة. إلا أن دراستي للمسيحية بشكل عميق وأكاديمي قادتني للعديد من الأفكار الممتعة. فلقد أحببت شخص المسيح.. هذا الإنسان البار الوديع، الذي يترفق بضعفاء الناس الذين يفعلون ما يفعلون بسبب الجهل وعدم العلم. وقادني هذا الاكتشاف إلى أن المسيح لم يأتِ بديانة جديدة كما هو شائع بين العامة.. فما جاء إلا ليكمل الشريعة الإلهية المنزلة على موسى (3). وهذا التكميل هو إعلان المقاصد الحقيقة للمشرع الأعظم. وكان المسيحيون الأوائل يذهبون للعبادة في هياكل اليهود (4)، ويقدسون يوم السبت (5)، بل في فترة لاحقة كان يُطلق لفظ مسيحي أو مسيحيين على أتباع المسيح على سبيل السبّ والشتيمة (6)، وليس إقرارًا لهم كأصحاب ديانة مستقلة. وواقع الأمر أن أتباع المسيح الأوائل كانوا “أهل طريق”، وهو تعبير يستخدم في الشرق إشارة إلى جماعة من الناس تنتظم حول معلم روحي يعلمهم أسرار الحياة الروحية، وتتميز هذه الجماعات بالزهد والتقوى وخشية الله، ولكنها لا تُعتبر أديانًا مستقلة؟!

ولم تكن كثير من الطقوس -التي اعتبروها فيما بعد علامة مميزة للمسيحيين- إلا امتدادًا لممارسات جماعة أهل الزهد الموجودة في هذا الوقت. ومن أمثلة ذلك طقس “العشاء الربّاني” أو ما يسمى أحيانًا “كسر الخبز أو القداس”. فهو مجرد امتداد لطقوس الأسِينيين”.. (7) وهم جماعة من الزهاد في تلك الفترة، ولا يحمل معنى أكثر من إعلان محبة أعضاء الطريقة لبعضهم البعض. وهذه الطقوس شائعة أيضًا بين أعضاء الطرق الصوفية في الشرق. فبعد ذكر الله تعالى يجتمعون سويًا لأكل الثريد باللحم.

أما طقس المعمودية فهو أيضًا مما كان شائعًا في ذلك الوقت. فكل من تاب عن ذنوبه يغتسل في ماء النهر على يد معلمه الروحي كعلامة على التجدد الروحي والتطهر الذي يعيشه الإنسان. وقد مارسه قبل المسيح سيدنا يحيى النبي المشهور باسم المعمدان والآسينيون وأهل الزهد الآخرون. واليوم نجد من يدخل الإسلام يلزمه أن يغتسل للتوبة. ولا علاقة لهذه الممارسات بعقيدة الثالوت التي استحدثها الرومان الوثنيون ليجتذبوا الشعوب الوثنية إلى المسيحية التي ألفها “مجمع مقدونية”.

على أي حال أود أن أعود لأتأمل مرة أخرى ولو قليلاً في شخص المسيح. لأن هذا قادني إلى تغير جديد في حياتي.

قلت إن المسيح كما هو ثابت تاريخيًّا من كل المراجع والنصوص المحترمة لم يعلن أنه جاء ليؤسس ديانة جديدة، بل كانت كل تصرفاته قائمة على إبراز الروح السمحة للشريعة وإعلان حقائقها. خذ مثلاً حواره مع اليهود حول السبت (8).. لقد قال لهم إن الله شرع شريعة السبت لراحة الإنسان، ولم يخلق الله الإنسان من أجل السبت. بل صنع السبت من أجل الإنسان. أو عندما تحدث إليهم حول قضية الحدود عندما طالبوا برجم امرأة زانية (9) . كشف ستارهم وعدم أهليتهم أجمعين لتطبيق الحد.. لأنهم أنفسهم خاطئون. أو في حواره حول قضية العنف (10). فضلاً عن هذا أعلن أن الله نزع منهم –اليهود- ملكوته وقرر أن يعطيه لأمة أخرى (11). ولم ينادي بأي شيء خلاف توحيد الله. والعبارات التي أُغلِقَ على اليهود فهمها فجدَّفوا عليه بسببها لا يجد فيها العارف بِلُغة أهل الله أي نوع من الشرك أو التثليث أو أي شيء من هذا الافتراء، بل إنها تكشف عن فناء ذات حضرته في محبة الله تعالى. فلم يعد يرى لوجوده الشخصي بقاءً بل ذوبانًا في طاعة الله.

هذه الفترة الطويلة التي قضيتُها في مطالعة المسيحية وتاريخها وكتبها المقدسة كشفت لي أوجهَ شَبَهٍ تستدعي التساؤل بين الأمة الإسرائيلية والأمة الإسلامية، فظننت فترة من الزمان أن الإسلام منقول تمامًا من اليهودية. ولكن أظهرت لي الدراسة المتعمقة خطأ ظني، وكشفت لي حقيقة الأمر. فالأمتان متشابهتان إلى حد ما: فقد كانت النشأة الأولى لكل منهما قبائل تغلب عليها السمة الرعوية وقلة الحظ الدنيوي والجهل الروحاني. وتحيط بها أمم كانت تسود العالم، ليس بقوتها العسكرية فحسب، بل بالحكمة والفلسفة أيضا. فكانت مصر الفرعونية زمان موسى بكل ثقلها المادي والمعنوي. وكانت الإمبراطورية الرومانية والفارسية زمان المصطفى . وكان على النبيين الكريمين شق الطريق وسط جحيم لا يطاق من الكراهية والعداء من حولهما عسكريًّا واقتصاديًّا ودينيًّا. وأن ينتصرا على كل ذلك. ولقد حققا ذلك بمعونة خالق السماء والأرض جل علاه، وانهارت كلتا الأمتين انهيارًا تامًّا. وزال مجدها لزمان طويل حتى تمكن اليهود من بناء دولة على أرض فلسطين: الله وحده يعلم مصيرها. لكن الذي أثار انتباهي أن هذا الزلزال الصاعق الذي أطاح بين إسرائيل ودولتهم في القرن الأول الميلادي وشتتهم في أرجاء الأرض جاء بعد نبوءة صارمة من المسيح (12) . فلقد أعلن حضرته أن ثمن رفض اليهود له وجفاء قلوبهم سيكون غاليًا جدًّا. ولقد تحقق ذلك فعلاً.

رجعت مرة أخرى إلى القرآن وخصوصًا فيما يتعلق بقضية انهيار أمة اليهود وبرفضهم مسيحَهم عيسى، وقفزتْ هذه الفكرة إلى ذهني مرة واحدة: لعل لأمة محمد هي الأخرى مسيحًا منتظرًا!؟

إنني أعرف بحكم نشأتي كمسلم أن المسيح عيسى سيرجع في الدنيا آخر الزمان، ليحكم بالإسلام، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويفيض المال في زمانه. وهذا يعني أن المسيح سيخوض حروبًا فكرية في زمان عودته كتلك الحروب الفكرية التي خاضها في بعثته الأولى ضد المتعصبين والملحدين ويعلن حقائق الشرع. ولكن ما سمعته أنه سيقف إلى جانب المهدي.. وهو شخصية دينية أخرى منتظرة ليخوضا حربًا مسلحة ضد أعداء الدين حتى يقضيا عليهم قضاءً مبرحًا.

وفي قاديان -وهي قرية مجهولة لا تُرى على خريطة العالم وبالتحديد في بلاد الهند- كانت هناك شخصية أخرى لم يأت لإعلان وفاة دين محمد، بل جاء ليعلن أن دين محمد هو الدين الحي الخالد إلى الأبد، وأنه جدير بالبقاء لأنه الدين الوحيد الذي يعلن للإنسان مشيئة الله الحقة.

لكن اطلاعي مرة بعد مرة وبروح حية على نصوص القرآن هداني لمبدأ قرآني هام وحاسم، ألا وهو مبدأ حرية العقيدة. فكيف سيأتي المهدي والمسيح ليقضي الاثنان بسيفهما على مبدأ قرره الله تعالى منذ بداية الخلق، وأعلنه كأساس لحكومته:

فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ؟!

الواقع أنه تولد في قلبي اشتياق لمسيح محمدي.. أعني من أتباع نبينا محمد . يعلن محبة الله وغفرانه، ويترفق بالبؤساء والضالين، ويشن حربًا فكرية صارمة على المتعصبين الذين يغلقون أبواب رحمة الله في وجوه عباده، ويضيقون على الخلق حياتهم بعجرفتهم وقسوتهم وضيق صدورهم وعلمهم وضيق أفق تفكيرهم، وينشر دين الرحمة والعدل والسلام بين خلق الله، ويجدد الحياة في شرايين الأمة التي أضناها التعب وأنهكها المرض وضلت طريقها، فلم تعد تعرف لنفسها سبيلاً.

هذا الاشتياق الحار للمهدي أو المسيح أو لكليهما أو للمبعوث المنتظر.. دفعني من جديد للبحث عن علامات المنتظر أيًّا كان. فتتبعتُ نصوص الكتاب المقدس عن مجيء المسيح الثاني واطلعت على الأحاديث الخاصة بعودة المسيح. كان ثمة حاجز لم أستطع تجاوزه: فمن خلال دراستي التاريخية أعرف أنه في نهاية القرن التاسع عشر كانت ثمة حالة تَرقُّب عالمية لعودة المسيح في الشرق والغرب، وكان دارسو نبوءات الكتاب المقدس مقتنعين بشكل حاسم أن المسيح سيظهر في هذه الفترة ليقيم مملكة الله.. لقد عبرت هذه الفترة ولم يبق منها إلا تحطم آمال حركة الادفنتست وشهود يَهوه وغيرهما من الحركات المسيحية في العالم.. الذين انتظروا عودة المسيح على سحاب السماء. وقامت أيضًا حركات مهدوية في الشرق ادعى كل قائم بها أنه المهدي المنتظر موعودُ أمة محمد . لقد انتهت معظمها بشكل درامي عنيف، سالت فيه الدماء أنهارًا.. كحركة مهدي السودان. وحركة “الباب” في إيران. غير أن باب إيران وخليفته “البهاء” ذهبا إلى أبعد من هذا.. فلقد أعلنا أنهما جاءا لإشهار ميلاد ديانة جديدة، وكتابة شهادة الوفاة لأمة محمد إلى الأبد.

وكان على هذا الرجل البسيط -حضرة مرزا غلام أحمد- أن يخوض حربًا ضروسًا ضد عشرات الاتجاهات القساوسة والمتنصرين والذين جرحوا جسد الإسلام وهو من قبل على يد العلماء المضللين والمشائخ المتعصبين الذين كانوا يتفاخرون بأن الإسلام انتشر في العالم على أسنة الرماح، وأنه سيعود على أسنة الرماح، وضد الملحدين وغيرهم. هذا فضلاً عن الانهيار الخلقي والروحي الذي كان يعيشه مسلمو الهند في هذا الزمان، بل إن صح القول الذي كان يعيشه كل المسلمين في العالم. أعلن سيدنا غلام أحمد أنه المسيح والمهدي المنتظر، وأنه جاء ليضع بذرة الانبعاث الروحي الجديد العالمي النطاق لرسالة محمد ، وأن هذا سيتم بفضل الله وعونه، وليس على أسنة الرماح. فثارت الثوائر ودارت الدوائر، واتُّهم بالجنون والعمالة للإنكليز، ودُبرت ضده المؤامرات، لكنه أعلن بمنتهى البساطة أنه على استعداد للمباهلة مع الجميع ليتبين الصادق من الكاذب.

عندما اطلعتُ لأول مرة على الطريقة التي يعلن بها الأحمديون الإسلام كدت أبكي لهذا القدر الهائل من الشفافية العميقة في تفهم النصوص القرآنية وربط الأمور الروحية بالحياة الدنيوية. ويعلم الله جل شأنه أنني عندما أقرأ خطب سيدنا أمير المؤمنين مرزا طاهر أحمد أشعر بجذب روحاني وذهني لم يسبق لي الشعور بمثله مع أي كتاب قرأته من قبل.. رغم اطلاعي على كافة تيارات الفكر الإسلامي.

عندما أنظر لحالة العالم الإسلامي، وأتذكر تجربتي الشخصية في التعامل مع من يسمونهم بالعلماء-وهم في واقع الأمر حفّاظ نشيطون لنصوص فقهية وُضعت في عصور التسلط السياسي- يرِد على ذهني حديث النبي الكريم :

“يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى، علماؤهم شر مَن تحت أديم السماء، مِن عندهم تخرج الفتنة وفيهم تعود.”

لقد رفض اليهود مسيحهم عيسى بن مريم فحق عليهم غضب الله. وها بمشائخ النفط ومن سار نهجهم وانتفع من دينارهم.. يؤلبون الأمة الإسلامية المسكينة على مسيحها الذي قدر الله على يديه لها البقاء والحياة، ويزجون بالشباب الغض البريء في مجاهل الهمجية المقيتة والتعصب القبيح.. زاعمين أنهم يهدونهم سبيل الرشاد، وهم في الواقع يوردونهم مورد التهلكة عفانا الله وإياكم!

إن أمة محمد خير أمة أخرجت للناس تواجه تحديًا ليس هينًا. تحديًا يتعلق بمصيرها الكامل.. فإما عودة إلى رسالة نبي الإسلام.. أمير السلام.. سيدنا محمد وأتباع مسيحه ومهديه سيدنا أحمد، أو يستبدل الله قومًا غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم.. عافانا وإياكم الله من سوء العقاب. والسلام على من اتبع الهدى. وبمشيئة الله للحديث بقية إن كان في العمر بقية.

المراجع1 و7- De Verbrener Finis J. Slavenbug 19932- Eepander Testament J. Slavenbug 19933- إنجيل متى: 5-7

4- سفر أعمال الرسل 2: 46

5- رسالة بطرس الرسول الأولى 4: 14 -16

6- سفر أعمال الرسل 9: 2

8- إنجيل متى 12: 1 إلى 8

9 و 10- إنجيل يوحنا 8: 1 إلى 11

11- إنجيل متى 22: 27 إلى 29

Share via
تابعونا على الفايس بوك