مؤتمر المودة والسلام

مؤتمر المودة والسلام

التحرير

 

الذي يشهد المؤتمر السنوي للجماعة الإسلامية الأحمدية، ويرى الوجوه من كل الأجناس والأعراق، ويستمع إلى أحاديثهم بلغات مختلفة، لابد وأن يتساءل عن سر اجتماع هؤلاء الناس. فما الذي يوحد هذه الأعراق والأجناس. وهل جاءوا فقط من أجل هذا المؤتمر فحسب، أم أن هنالك شقًّا اقتصاديًّا يدفعهم لكي يتركوا بيوتهم وأوطانهم ويتكبدوا عناء السفر وكلفته الكبيرة على الكثيرين منهم، ليشهدوا منافع لهم. وما أن ينقضي المؤتمر يعود كلٌّ إلى وطنه حتى يتبدد هذا الظن، وتتملك الحيرة هذا المشهد، الذي لم يستطع أن يدرك كنه هذه الرغبة في اللقاء بين أناس لا يوجد ما يمكن أن يوحدهم.

ومع اعتقاد علماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد أن العامل الاقتصادي هو العامل الكفيل بتوحيد الناس وبنزع فتيل الخلافات بين الأمم، وتحقيق السلام العالمي، ومن ثم القضاء على الأحقاد والعداوات القديمة، إلا أن الله تعالى العليم الحكيم قد حكم في هذا الأمر حكمًا مطلقًا، فقال جل وعلا، وهو الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ . أي أن هذا العامل لا يمكن أن يؤلف القلوب حتى ولو أُنفقتْ عليه ثروات الأرض كلها. فلا يمكن أن تتألف القلوب إلا بالله مؤلف القلوب ومقلبها.

ولقد شهدنا في العقود الماضية وفي السنوات الأخيرة تركيزًا من الدول العظمى على هذا العامل. فأخذوا يمُنُّون الناس بالرفاه الاقتصادي وبالسوق المفتوحة ظانين أن ذلك يمكن أن ينهي الصراعات الأكثر تعقيدًا في تاريخ العلم الحديث. فما كان إلا أن فشل هذا الأمر فشلًا ذريعًا، فلم يفلح المال في تأليف قلوب الأعداء. لا بل إن الأطراف المتعادية هم مستعدون دائمًا للتضحية بكل ما يملكون في سبيل قهر أعدائهم والانتصار عليهم. وهذه هي طبيعة البشر منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها. فعلى الإنسان أن يذعن للقانون الإلهي، ويحاول أن يستفيد منه في الوصول إلى غاياته، وألا ينفق جهده في أمور لا جدوى منها. ولقد أودع الله في الإنسان رغبات وحاجات حبيبة على قلبه يسعى للحصول عليها بكل ما أوتي من قوة. ولقد جعل الله تعالى هذه الرغبات عوامل هامة في تحديد سلوك الإنسان ورسم مستقبله. ورتب هذه الرغبات بحيث جعل بعضها يمكن أن يتم التنازل عنه في سبيل رغبة أخرى. فمن المعلوم أن المال وإن كان الحصول عليه من أعظم الرغبات الإنسانية إلا أن الإنسان يبذله رخيصًا في سبيل الحصول على رغبات أخرى. لا بل إن الرغبة في الحصول على المال في كثير من جوانبها إنما هي للحصول على الرغبات الأخرى بسهولة ويسر. ولقد جعل الله تعالى نفسه على قمة هرم هذه الرغبات بحيث أن نعيم النفس وطمأنينتها لا يمكن أن تتحقق إلا بوصاله وإن غفل كثير من الناس عن ذلك. كذلك جعل الوصول إليه مرهونًا ببذل هذه الرغبات والحاجات وتخطيها وتسخيرها من أجل هذه الغاية. فبذلك أصبحت هذه الرغبات خادمًا للإنسان يسخره في سبيل الوصول إلى مبتغاه، بينما يراها مَن ضل السبيل آلهةً تستعبده ويقضي حياته متلهفًا عليها وطامعًا بها. ومن أجل أن يصل الإنسان إلى مبتغاه أنشأ الله جماعة المسلمين. فكان سيدنا محمد والذين معه صورة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً. تنبأت بها التوراة وسجل القرآن الكريم هذا النبأ. فهُم أشدّاءُ على الكفار رحماء بينهم، تراهم رُكّعًا سجدًا يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود. فانقلبت الأرض وتغيرت معالمها بهذه الجماعة. ولم يستطع أعداؤها النيل منها إلا بعد وقت طويل عندما تراجع ما في نفوس المسلمين وتغير، فغيَّر الله تعالى النعمة التي أنعمها عليهم. وفقد المسلمون العنصر الأهم الذي وحّدهم ألا وهو حب الله، وغدوا أعداءً تمزقهم الخلافات والمصالح والرغبات الدنيوية. فمنع بعضُهم الأغنياء المال عن إخوانهم الفقراء. وأمّنوا أعداءهم على ثرواتهم وخافوا عليها من إخوانهم. وركن قادتهم وزعماؤهم إلى الدنيا وشهواتها وارتضوا بذلّة أمتهم في سبيل أن يعيشوا حياةً وادعةً مترفةً. فأخلدوا إلى الأرض وهبطت همتهم وعزيمتهم وأصبحوا لا همّ لهم إلا أن يأمَنوا. فليس في حسبانهم أن يقاتلوا عدوهم وإن قاتلهم. وكتبهم الله في الأذلين. فماذا يمكن أن يكون العلاج؟ ألا يجب أن نوقن أن هذه الأمة لن يصلح آخرُها إلا بما صلح به أولُها. ألا يجب أن نوقن بأن جماعة المسلمين هي الحل لكل هذه المضلات. فكيف إذا أنشأها الله وأعادها من جديد وأنتم عنها معرضون. وكيف يمكن أن تعاد بغير الإمام المهدي الذي هو الضمان لعدم هلاك آخر هذه الأمة، الذي قال في حقه المصطفى : “كيف تهلك أمة أنا في أولها والمسيح بن مريم في آخرها”. فلا ملجأ لكم إلا جماعتكم هذه التي هي “سفينة نوح” في آخر الزمان، أنشأها الله بأعينه ووحيه. من لم يركب مع المؤمنين فيها كان من المغرقين. هل تظنون أن هنالك حلاً غير ذلك، نبّئوني بعلم إن كنتم صادقين. لقد نشأت هذه الجماعة برجل واحد وحيد من الأمة في قرية خاملة الذكر في أقصى بلاد المسلمين. اجتمع الناس حوله في بادئ الأمر عندما أخذ يدافع عن الأمة دفاعًا مستميتًا. فطبقت سيرته الآفاق وكتب عنه الكثيرون من المشايخ ومدحوه مدحًا عظيمًا. ولكن ما لبث أن جاء بدرر ثمينة تخالف أفهام الناس وعلمائهم ومشايخهم، فانقلب المدح ذمًّا وعاداه المسلمون في بقاع الأرض واتهموه بالخروج من الإسلام. أفئن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ويريد الشهرة والرياسة ألم يكن من الأهون عليه ألا يأتي بما يخالف أفهام الناس وما وجدوا عليه آباءهم فيصبح المسلمون جميعًا أو كثيرًا منهم من مريديه؟!. فكل الأمور مهيأة له، فهو البطل الذي دافع عن الإسلام والذي كانوا ينتدبونه ليمثل المسلمين أمام زعماء الديانات الأخرى، والذي كان يبطل حجتهم ويدحضها. فما أهون أن يصبح الشيخَ الأكبر الذي يُذكَر بالثناء في كل بقاع أرض الإسلام. ولكنه لم يسلك هذه الطريق بل سلك طريق سيده المصطفى الذي أرضى اللهَ بسخط الناس، الذي خالف كل من في الأرض، فلم يأبه بمخالفتهم، وعرضت عليه الدنيا والملك فرفض كل شيء ومضى هو والقلة المؤمنون لتأسيس جماعة المسلمين. وعانى وقاسى من أهله أنواع الأذى وصنوف العذاب. فتبين للعالم لاحقًا أن المسلك الذي سلكه هو المسلك الصحيح وشهدت السماوات والأرض على ذلك.

فهل يتخيل أحد في وقت بعثة سيدنا الإمام المهدي أن هذا الرجل سيفلح في إنشاء جماعة تبلغ الآن عشرات الملايين وتزداد بشكل مطرد يباركه الله في كل يوم. لا يمكن لمن لا يعرف سر تأليف القلوب، التي إن تألفت تلاصقت المناكب وتعاضدت الزنود وتراص المؤمنون، لا يمكن له أن يفهم أو يتوقع ذلك. لا يمكن لعبد هواه وشهواته ورغباته أن يفهم كيف يمكن أن يبذل غيره الهوى والرغبة والشهوة رخيصة على مذبح رضى الله تعالى. لا يمكن أن يفهم ذلك، لأنه لا يعلم أن النشوة الحقيقية إنما هي بالله ومع الله. وأن حرة شوق الفؤاد لا يطفئها إلا ماء الله البارد الذي يثلج الصدر فينعم الإنسان بالنعيم الأبدي الذي لا يزول.

من أجل ذلك يجتمع المسلمون الأحمديون، من استطاع منهم، من كل بقاع الأرض، ليلتقوا بإمام زمانهم وخليفتهم أيده الله بنصره العزيز، ولكي يروا كيف يأتي الله الأرض ينقصها من أطرافها، ولكي يستمعوا إلى آخر أخبار انتصار الإسلام ويروا بعض إخوانهم فرسان هذا الانتصار، ولكي تحاول كل جماعة في كل بلاد من البلدان أن تهدي لإخوانها أنباء فتح جديد، ولكي تتوطد الصلات الاجتماعية وتتلاقح الثقافات لكي يطلع على الأرض فجر جديد. جعلنا الله ممن يشهدون فجر هذا الانتصار ومن روّاده، وجعله قريبًا، إنه قريب مجيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك