إبداعات أدبية خالدة

إبداعات أدبية خالدة

العام الجديد

مقتبسات من  كتابات الأديب الراحل مصطفى لطفي المنفلوطي.

 

في مثل هذا اليوم من كل عام يقف ركب هذا العالم السائر على منزلة من منازل الحياة، فينزل عن مطاياه ليستريح فيها ساعة من وعثاء السفر بعد أن نال منه الأين والكلال، وأضناه سرى الليل وسير النهار خمسة وستين وثلاثمائة يوم.

هنالك يجتمع السفر (*) في صعيد واحد فيتعارفون ويتفقد بعضهم بعضا، فيجدون أن فلانا مات جوعا، وفلانا مات ظمأ، وآخر افترسه سبع، وآخر قتله لص، وآخر مات غيلة، وآخر سقط حيًا وآخر طارت به قنبلة وآخر هوت به طيارة، وآخر اجتاحه بركان، وآخر تردى عليه معدن، ثم يعودون إلى جرائد الإحصاء ليدونوا فيها حاضرهم، كما دونوا فيها ماضيهم، ثم يوازنون بين هذا وذاك فيجدون أن الحاضر شر، وأن ميادين الحروب لا تزال ملوثة بالدماء ومصانع الموت لا تزال تفتن في عدده وتستكثر من أدواته، وأن جذور الشر القديمة لا تزال عالقة بنفوس البشر، حتى ما يتمنى أحد أن تقع عينه على أحد وأن سحب البغضاء القاتمة لا تزال مخيمة على المجتمع الإنساني من أدناه إلى أقصاه شعوبا وقبائل وأجناسا وأنواعا، ومذاهب وأديانا، ومنازل وأوطانا، فيبغض الرجل صاحبه لأنه يخالفه في جنسه، فإن عرف أنه يوافقه أبغضه لأنه يخالفه في دينه، فإن وافقه فيه أبغضه لأنه ينطق بغير لغته فإن نطق بها أبغضه لأنه لا يشاركه في وطنه فإن كان مشاركا له أبغضه لأنه يزاحمه في حرفته فإن بعد عن طريق مزاحمته أبغضه لأنه يخالفه في رأيه، فإن لم يخالفه أبغضه لأنه لا يحاكيه في لونه، فإن لم يجد شيئا من هذا ولا ذاك أبغضه لأنه شخصٌ سواه! كأن قضاء حتما على الإنسان أن يبغض كل صورةٍ غير الصورة التي يراها كل يوم في مرآته.

فإذا فرغوا من النظر في جرائد حسابهم، والموازنة بين حاضرهم وماضيهم، أضافوا إلى سيئاتهم الماضية سيئة الغش والكذب، فتناسوا كل هذا ووضع كل منهم يده في يد أخيه مهنئا له بالعيد السعيد داعيا له بدوام الغبطة والهناءة، ثم تنادوا للرحيل ليستقبلوا المرحلة الآتية بعد قطع المرحلة الماضية.

علام يهنّئ الناس بعضهم بعضا؟ وماذا لقوا من الدنيا فحرصوا على البقاء فيها؟ ويغتبطوا بقطع المراحل التي يقطعونها منها؟ وهل يوجد بينهم شخصٌ واحد يستطيع أن يزعم أنه أصبح سعيدا كما أمسى؟ أو أمسى سعيدا كما أصبح؟ أو إنه رأى بروق السعادة قد لمع في إحدى لياليه ولم يرَ بجانبه مثل ما يرى في الليلة البارقة من رعودٍ قاصفة، ورياحٍ عاصفة وصواعق محرقة، وشهُبٍ متطايرة؟

بأي نعمة من النعم، أو صنيعةٍ من الصنائع، تمنُّ يد الحياة على إنسان لا يفلت من ظلمة الرحم إلا إلى ظلمة العيش، ولا يفلت من ظلمة العيش إلا إلى ظلمة القبر كأنما هو يونس الذي التقمه الحوت، فمشى في ظلمات بعضها فوق بعض! وأية يدٍ من الأيادي أسدتها الأيام إلى رجلٍ يظل فيها من مهده إلى لحده حائرا مضطربا، يفتش عن ساعة راحة وسلام تهدأ فيها نفسه، ويثلج صدره، فلا يعرف لها مذهبا ولا يجد إليها سبيلا، إن كان غنيًا اجتمعت حوله القلوب الضاغنة، واصطلحت عليه الأيدي الناهبة، فإما قتلته، وإما أفقرته، وإن كان فقيرًا عدَّ الناس فقره ذنبا جنته يداه، فتتناوله الأكف بالصفع والأرجل بالركل والألسن بالقذف، حتى يموت الموتة الكبرى بعد أن مات الموتة الصغرى. وإن كان عالما ولع الحاسدون بذمِّه وهجوه، وتفنَّنوا في تشويه سمعته، وتسويدِ صحيفته ولا يزالون به حتى يعطيهم العهود والمواثيق التي يرضونها أن يعيش عالمـًا كجاهل وحيًّا كميت، وأن يكتم علمه في صدره، فلا يفضي به إلى لسان ولا قلم، حتى يدركه الموت، وإن كان جاهلا اتخذه العالمون مطيّة يركبونها إلى مقاصدهم وأغراضهم من حيث لا يهادنونها ولا يرفقون بها حتى يعقروها، وإن كان بخيلا ازدرته القلوب، واقتحمته العيون وتقلصت له الشفاه، وبرزت له الأنياب، وانقبضت له الأسِرّة، والتهبت له الأنظار، وأرسلت إليه الأضغان ألسنة نيرانها حتى تحرقه، وإن كان كريما محسنا عاش مترقبا في كل ساعة من ساعات ليله ونهاره شرَّ الذين أحسن إليهم إما لأنه أذاقهم جرعةً باردة فاستعذبوها فاستزادوه فلم يفعل، فهم ينتقمون منه، أو لأنهم من أصحاب النفوس الشريرة الذين يُخيّل إليهم أنّ المحسن يريد أن يبتاع منهم نفسه بما يُسدي، وهم يأبون إلا أن يتناولوا منه الإحسان بلا مقابل فهم ينقِمون عليه إن عرف كيف يُفلت من أيديهم.

لا سعادة في هذه الحياة إلا إذا نشر السلام أجنحته البيضاء على هذا المجتمع البشري، ولن ينتشر السلام إلا إذا هدأت أطماع النفوس، واستقرت فيها ملكة العدل والإنصاف، فعرف كل ذي حق حقه، وقنع كل بما في يده عما في يد غيره، فلا يحسد فقير غنيًا، ولا عاجزٌ قادرًا، ولا محدودٌ محدودًا، ولا جاهلٌ عالما، وأشعرت القلوب الرحمة والحنان على البائسين والمنكوبين فلا يهلك جائع بين الطاعمين ولا عارٍ بين الكاسين، وامتلأت النفوس عزة وشرفًا، فلا يبقى شيء من تلك الحبائل المنصوبة لاغتيال أموال الناس باسم الدين مرةً  والإنسانية أُخرى، ولا ترى طبيبا يدعي علم ما لم يعلم ليسلب المريض روحه وماله، ولا محاميا يخدع موكله عن قضيته ليسلب منه فوق ما سلب منه خصمه، ولا تاجرا يشتري بعشرة ويبيع بمائة، ثم ينكر بعد ذلك أنه لص خبيث، ولا كاتبًا يضرب الناس بعضهم ببعض حتى تسيل دماؤهم فيمتصها كما يضرب القادح الزند ليظفر بالشرر المتطاير منها.

وما دامت هذه المطالب أحلاما كاذبة وأماني باطلة، فلا مطمع في سلام ولا أمان، ولا أمل في سعادة ولا في هناءة، ولا فرق بين أمس الدهر ويومه ولا بين يومه وغده، ولا فرق بين مغفلات أيامه غير ما عرفت وما ذاق أحدٌ من نعمائه غير ما ذقت، وليفرح بالعام الجديد من حمد ماضي أيامه وسالف أعوامه.

(النظرات، الجزء الثاني)

 * السفر: الـمُسافرون

Share via
تابعونا على الفايس بوك