بيان لطيف من عالم إيصال الخلق بالخالق
  • التعاليم الإسلامية تحقق الرقي بكل أنواعه
  • التقاليد الفاسدة تؤثر بفهم الدين
  • صفات المؤمنين والصالحين وعقباهم
__
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ   (الرعد 20)

شرح الكلمـات:

يتذكَّر: تذكّرَ الشيءَ وذكره: حَفِظَه في ذهنه. وتذكّر ما كان نسيَ: فطِنَ له. وتذكّر الله: مجّده وسبّحه (الأقرب).فالمراد من قوله تعالى: إنما يتذكر أُولواْ الألباب :

1) إنما العقلاء هم الذين يفهمون القول.

2) إنما العقلاء هم الذين يحفظون القول.

3) إنما العقلاء إذا أخطأوا تنبهوا فوراً وتذكروا أوامر الله تعالى.

التفسـير:

لقد بيّن في هذه الآية أن التعاليم الإسلامية السامية تحقق للناس الرقي بكل أنواعه، إذ من المحال لمن فَهِمها وانتفع بالعمل بها أن يكون مثل الأعمى، أي الذي ليس به علم ولا دراية بما في هذه التعاليم من منافع وفوائد.

القاعدة عند المقارنة بين شيئين هي أن نقيس الشيء الأول بالثاني. فمثلاً إذا أردنا التأكيد على الشيء الأول بأنه نافع، فقولنا: هل يستويان يعني: هل يمكن أن  يكون هذا ضاراً كما هو الثاني. أما إذا كان الشيء الأول سيئاً فالمراد من قولنا هذا: هل يمكن أن يكون هذا نافعاً كمثل الثاني.كذلك إذا قلنا: هل يستوي الأعمى والبصير فالمراد أن الأعمى لا يتمتع بالنعمة أو الراحة التي يتمتع بها البصير: أما إذا قلنا: هل يستوي البصير والأعمى؟ فالمراد: أن البصير لا يعاني كمعاناة الأعمى. إذن فقوله تعالى: أفمن يعلم أنما أُنزل إليك من ربك الحقُّ كمن هو أعمى تأكيـد بأن المسلمـين لا يمكـن أن يقعـوا في الأضرار والخسـائر التي يمكن أن يصـاب بها الكفار.

فلكي يفهم الإنسان أمـور الدين عليه أن يحافظ على الملكات العقليـة ولا يدعها تتـشوّه وتفـسد بتـأثير التقـاليد الفـاسدة.

أما قوله تعالى إنما يتذكر أولوا الألباب فقد بيّن فيه موضوعاً جديداً، هو أن ما أشرنا إليه من قبل من مقارنة بين التعاليم الإسلامية الحقة وبين عقائد الكفار أو بين المسلمين والكفار، إنما يفهم هذه المقارنة وينتفع بها أولو الألباب.. أي الذين عندهم ملكات عقلية لفهم أمور الدين، أما الذين يشوهون هذه المَلَكات ويضيعونها فلن يَعُوا من هذه المقارنة شيئاً. فلكي يفهم الإنسان أمور الدين عليه أن يحافظ على الملكات العقلية ولا يدعها تتشوّه وتفسد بتأثير التقاليد الفاسدة.

وإنه لمما يؤسف له أن أكثر الناس يدفنون القدرات العقلية -هذه الجوهرة الثمينة- تحت غبار التقاليد والعواطف والأهواء، فيبقون بظاهرهم أناساً، ولكنهم في باطنهم يصبحون حيوانات عجماء. فيا ليت أحداً يتدبر كلمة الحكمة هذه وينتفع بها.

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ   (الرعد 21)

شرح الكلمـات:

عَهْد: العَهدُ: الوصيّةُ؛ المَوثِقُ؛ اليمينُ يحلفُ بها الرجل؛ الذي يكتبه ولي الأمر للولاة إيذاناً بتوليتهم (الأقرب).

التفسـير:

لقد وهب الله تعالى للناس كافةً القوى العقلية، ولكنهم لا ينتفعون بها  عموماً، بل يشوّهونها بتعطيلها وعدم استخدامها، ومع ذلك يدّعون أنهم أهل ذكاء ودهاء، ولذلك شرع الله الآن في بيان علامات أولي الألباب، لكي يعرف الإنسان هذه الجوهرة الخفية بعلاماتها.

وأُولى هذه العلامات أنهم يدركون لُبَّ الأمر وحقيقته دون الإصرار على التمسك بالقشور وحدها، محاولين أن يفوا بالوعد الذي عقدوه مع الله تعالى. وذلك أن من واجب العقل أن يميّز بين الخير والشر ويختار الأفضل، ويرفض الذي هو أدنى. وبما أن أولي الألباب هؤلاء يدركون أن كل بركة وخير يكمن في وفائهم بما عاهدوا الله عليه،  فلذلك يبذلون قصارى جهدهم للوفاء بهذا العهد، ساعين أن يجعلوا كل ما سواه من أمور في حياتهم خاضعاً لهذا العهد مع الله، فإذا توافق هذا الأمر مع هذا العهد عملوا به، وإلا تجنبوه، ولا يدَعون أحداً ينقض هذا العهد.

وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ   (الرعد 22)

شرح الكلمـات:

يَصِلون: وَصَلَ الشيءَ بالشيءِ: لأَمَهُ وجمعه؛ ضدُّ فَصَلَهُ (الأقرب).

يخشون: الخَشيةُ: خَوفٌ يشوبه تعظيمٌ وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما لا يُخشى منه، ولذلك خُصّ العلماء بها في قوله تعالى إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ (المفردات). فالمراد من قوله تعالى يخشَون ربهم أنهم يخافونه خوفاً فيه توقير وتعظيم، وهم يعرفون سبب هذا الخوف.

التفسـير:

والعلامة الثانية لهؤلاء العقلاء، أنهم بعد الوفاء بعهدهم مع الله وبعد إنشاء العلاقة الشخصية معه ، ينشئون صلتهم بمن أمرهم الله بالاتصال به بحسب درجته، بدءاً من الملائكة والرسل والخلفاء والأولياء والأبرار، ومروراً بالعاملين على النظام القومي والأقارب والمحسنين والجيران والفقراء والمساكين وعامة أهل البلد والمسافرين والإنسانية جمعاء، حتى الحيوان الذي يستعينون به في متطلبات الحياة بل وغيره مما لا يستعينون به من بهيمة أوطير أو وحشٍ أو حشرة أو نبات أو جماد.

فكأنه تعالى عندما ذكر هذه العلامة لهم قد حثّنا على الشفقة على المخلوقات عامةً، وعلّمنا كيفية الأخذ بالأسباب المادية حيث وضّح أنه ليس العاقل من يحاول البحث عن الله تعالى عن طريق الخلق، وإنما العاقل من يصل إلى الله ثم يعود إلى خلقه بالعطف والحنان كما أمره الله تعالى، أي يكون حبه للخلق نابعاً من حبه لله تعالى، وليس العكس. وإلى ذلك تشير الآية القرآنية التي جاءت وصفاً للنبي ثم دنا فتدلّى، فكان قابَ قوسين أو أدنى (النجم: 9و10). يعني أن محمداً صعد واقترب أولاً من الله تعالى، ثم هبط بأمر الله من هذا المقام، ليشمل الخلق برحمته وحنانه، وقدَّم للعالم أسوة حسنة في الشفقة على خلق الله تعالى، وصار وسيلة بين الخالق وخلقه، كمثل طَرَفَي وتر القوس حيث يكون أحدهما على جانب والآخر على جانب آخر.

والآية بيان لطيف للجهود الجبارة الجليلة التي بذلها الرسول لإيصال الخلق بالخالق   ، ولكني لست بصدد تفسير هذه الآية، ولذلك تركت الأمور التفصيلية جانباً مكتفياً بذكر النتيجة فقط.

وباختصار فإن قوله تعالى والذين يَصِلون ما أمر الله به أن يوصل يبين أن أولي الألباب يبلغون الذروة والكمال في طاعة الله وحبه، ثم بأمر منه يتجهون إلى الخلق ويُنشئون معهم علاقة الأخوة والمودة والإحسان.

والعلامة الثالثة هي ويخشون ربهم . وقد سبق أن بينت في شرح الكلمات أن الخَشية هي خوف الإنسان من ضياع شيء غالٍ وثمين يعرف قدره وقيمته. فهي ليست كخوفنا من وحش كاسر، وإنما المقصود منها اليقين بأن المَخوف شيء عظيم القدر غالي الثمن، وحرمان الإنسان منه بسبب غفلته وتهاونه يمثّل خسارة فادحة. إن الإنسان حينما يحوز على مقام الوصال والقرب من الله تعالى، يدرك أن هذا هو مقام الراحة الحقيقية والفضل الأصيل، فلا يستطيع حتى أن يتصور ضياعه من يده. فلا ينفك ساعياً للحفاظ عليه، ويحاول جاهداً ألا يقع في غفلة تحرمه من قرب الله ورضوانه.

والشق الآخر من علامتهم الثالثة هي أنهم يخافون سوءَ الحساب أي أنهم إذا كانوا يحافظون دوماً على ما تيسر لهم من الحظوة لدى الله، فإنهم يخافون أيضاً أن يقصِّروا فيما أحرزوه من درجة سامية في مجال الشفقة على خلق الله  فيستوجبوا سخطه .

لقد بيّن من قبل عند ذكر العلامتين الأولى والثانية أن الوصال بالله هو الأصل، وأن الشفقة على خلقه تكون النتيجة لهذا الوصال. ولذلك استخدم القرآن كلمةَ الخَشية عند الحديث عن التقصير في الوصال بالخالق، وكلمةَ الحزن عند الحديث عن الإهمال بالخلق، وهذا يكشف أن الأول هو المقصود بالذات.

وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ   الرعد 23)

شرح الكلمـات:

صبروا: الصبرُ: تركُ الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله، فإذا دعا اللهَ العبدُ في كشف الضر عنه لا يُقدَح في صبره. وقال في الكليات: الصبرُ في المصيبة، أما في المحاربة فشجاعةٌ. وصبرَ الرجلُ على الأمر: نقيضُ جزِع.. أي جرُؤَ وشجُع وتجلّد. وصبر عن الشيء: أمسكَ. وصبرَ الدّابةَ: حبسها بلا علفٍ. وصبرتُ نفسي على كذا: حبستها، وتقول: صبرت على ما أكره وصبرت عمّا أُحبّ (الأقرب)

فالصبر معناه: 1- تجنبُ الجزع والفزع عند الخطوب. 2- الامتناع عن الشيء وكبح النفس عن الرذائل والمعاصي. 3- المثابرة على فعل الحسنات.

يدرأون: دَرَأَه: دفعه؛ وقيل: دفعه شديداً (الأقرب)

عُقبى: العُقبى: جزاءُ الأمر؛ آخرُ كل شيء؛ الآخرة. (الأقرب)

التفسـير:

لقد ذكر هنا أربع علامات أخرى لأولي الألباب.  فعلامتهم الرابعة أنهم صابرون.. أي أنهم يجتنبون الجزع والفزع عند المحن، مثابرين على فعل الخيرات، كابحين  أنفسهم عن اتباع رذائل الشهوات، ولا يرون الكفاية في ذلك بل يطهِّرون نياتِهم، فيأتون هذه الأعمالَ ابتغاءَ مرضاةِ ربِّهم، وليس لمصلحة شخصية أو منفعة قومية، أو  بسبب ضعف طبيعي فيهم من عجزٍ أو جبن بمعنى أنهم إذا كانوا لا ينتقمون من المعتدي رغم  مقدرتهم على الانتقام منه فذلك امتثالاً لأمر الله الذي يريدون كسب رضوانه.

لقد صرّح سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود وقال: ليس العَفيف من يتجنب المعصية لعدم قدرته على ارتكابها، وإنما العفيف من يقدر على ارتكابها ومع ذلك يرتدع عنها. فمثلاً هناك أحد لا يستطيع الخروج من بيته ليلاً بسبب الجبن فكيف يمكن لهذا الجبان أن يقول: انظروا أنا لا أقوم بالسرقة أو قطع الطرق على الناس. أو كيف يمكن لشخص نحيفٍ ضعيفِ البنية لا يستطيعُ أن يرد على أحد إذا ضربه أن يدعي أنه صابرٌ، ولا ينتقم.كلا إنه ليس صابراً، بل هو عديم القدرة على الانتقام. ولكن الذى لا ينتقم من المعتدي عليه ابتغاءَ مرضاة الله فإنه يستحق بكل جدارة أن يُدعى صابرًا. (فلسفة تعاليم الإسلام، الخزائن ج10، ص340).

وأما علامتهم الخامسة فهي وأقاموا الصلاة أي أنهم يؤدون الصلاة مواظبين عليها، مراعين شروطها كلها. بمعنى أن علاقتهم بالله تعالى تتسم بصفة المثابرة والدوام، فلا يتخللها انقطاع ولا فتور.

وبيّن علامتهم السادسة بقوله تعالى وأنفقوا مما رزقناهم سرّاً وعلانيةً ، فإنهم ينفقون مما آتاهم الله على الفقراء خُفيةً، كي لا يعتبره المتلقّي منّةً عليه. كما ينفقون أموالهم علانية حثاً للآخرين لِيَتَأَسَّوا بأسوتهم، ويقوموا بإخراج الصدقات وفعل الخير لوجه الله تعالى.

وأما علامتهم السابعة فأشار إليها بقوله تعالى: ويدرأون بالحسنة السيئةَ ، وقد علّمنا الله بذلك عدة طرق لدفع السيئة:

الأولى: أن هؤلاء  يعملون أعمالاً حسنة ليتأسى الآخرون بأسوتهم ويكفوا عن المساوئ، وكأنهم في محاولتهم لقمع السيئات من المجتمع لا يكتفون بالوعظ باللسان وحده، بل يقدمون للآخرين نموذجاً عمليًا، لأن نصح الإنسان وحده أقل وقعًا وتأثيرًا من أن يعمل بما يدعو إليه الناس.

الثانية: أنهم يدعون الآخرين إلى فعل الخيرات، وهكذا تنمحي المساوئ من المجتمع تلقائياً، بمعنى أنهم لا يركّزون على الحديث عن الفحشاء والمنكر، بقدر ما يرَكِّزون على بيان الصالحات إبرازاً لمحاسنها ونتائجها، وهكذا يصرفون الأذهان عن التفكير في السيئة.

الثالثة: أنهم يقضون على السيئة بالحسنى، أي بما يتلاءم مع الموقف، بمعنى أنهم لا يصرّون على الانتقام ومعاقبة المعتدي في كل حال، كما تأمر التوراة (التثنية20:19)، ولا يركّزون على جانب العفو والرفق بالظالم دوماً، ولا يدعون إلى إدارة الخد الأيسر بعد أن لطمهم أحد على الأيمن كما ينصح الإنجيل (متى39:5)، بل يجعلون القضاء على الشر نُصْبَ أعينهم دائماً، فيسلكون الطريق الأمثل لذلك، فيعاقبون المعتدي إذا كان العقاب سيردعه عن العدوان، أو يعفون عنه إذا كان الرفق والعفو يصلحه، بل إذا اقتضى الأمر فإنهم يحسنون إليه ويصنعون به المعروف إلى جانب العفو عنه.

الرابعة: أنهم لا يقاومون الشر بطرق شريرة غير مشروعة، وإنما يقاومونه متمسكين بمبادئ الحق والعدل.

ثم قال أولئك لهم عُقبى الدار . إن كلمة (العقبى) تعني عموماً العاقبة المحمودة، فكأن الله تعالى يعلن هنا أن من كان مصيره سيئاً فكأنه لا عقبى له في الواقع.

والدار تعني هنا الجنة، لأنها هي الدار الحقيقية، أما الدنيا فهي مقام مؤقت عابر. فالمراد من قوله تعالى لهم عقبى الدار أنهم سوف يَلْقَون في الآخرة مصيرًا حسنًا.

   جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (الرعد 24)

شرح الكلمـات:

جنّات: جمعُ جنة. أصل الجَنّ سَترُ الشيء. يقال: جَنَّه الليلُ: سَتَره. والجنة: كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض. وقد تُسمى الأشجار الساترة جنّةً. وسُميّت الجنة إما تشبيهًا بالجنة في الأرض وإن كان بينهما بَوْن، وإما لسَتْرِه تعالى نعمَها عنّا المشار إليها بقوله تعالى فلا تعلم نفسٌ ما أُخفيَ لهم من قُرّة أعين (المفردات)

عَدْن: عَدَن بالمكان عَدْناً: أقام به. عدَن البلدَ: توطّنهُ؛ قيل: ومنه جنّات عدْن أي جنّات إقامة لمكان الخلود. (الأقرب)

التفسـير:

قوله تعالى جناتُ عدنٍ بدلٌ من قوله عقبى الدار ، والمراد أن أولي الألباب هؤلاء سيرثون جنات خالدة.

ومَن صلح من آبائهم… .. أي أن الصلحاء من آبائهم وأزواجهم وأولادهم أيضاً سيرثون معهم هذه الجنات.

تتحدث هذه الآية عن إحدى الحقائق العظيمة التي ينفرد القرآن ببيانها بين سائر الكتب السماوية، ألا وهي أنه ما من خير وشر يصيب الإنسان إلا ويشاركه فيه الآخرون بطريق أو بآخر. الواقع أن نجاح التاجر في تجارته أو المزارع في زراعته يتوقف على التعاون من آلاف الناس الآخرين، سواء بقصد منهم أم بدون قصد. ومن أجل ذلك فرض الشرع الإسلامي على أموال الناس الزكاة التي تؤخذ منهم وتُردّ على غيرهم من ذوي الحاجة كحق ثابت لهم. والحال نفسه بالنسبة للأمور الأخرى. خذوا مثلاً أحد الدعاة الذي يقوم بواجب التبليغ خارج وطنه، بعيداً عن الأهل. فالحق أن زوجته أيضاً تساهم في مهمته التبليغيّة، لأنها تسهر في غيابه على رعاية بيته وتربية أولاده، مما يسهّل عليه أداء واجب الدعوة. كما أن والديه أيضاً يسهمان في إنجازاته، إذ لولا تربيتهما الحسنة لما توجه إلى مجال خدمة الدين، بل إن أولاده أيضاً مساهمون في تبليغه، لأنهم يهيئون له راحة البال ولايضايقونه. فبما أنه يتمكن من أداء هذه الأعمال الصالحة بمساعدة أقاربه وتعاونهم.. فقد جعل الله لهم نصيباً فيما يُعطَى هذا الإنسان الصالح من أجر وثواب، كما أن أحداً إذا تبوّأ درجةً عالية في الجنة، فإن الله تعالى سوف يرفع درجات أقاربه في الجنة ليسكنوا معه شريطة أن يكونوا من الناجين.

ليس العَفيف من يتجنب المعصية لعدم قدرته على ارتكابها، وإنما العفيف من يقدر على ارتكابها ومع ذلك يرتدع عنها.

مع العلم أن كلمة أزواجهم هنا لا تعني الزوج والزوجة فقط، بل جاءت بمعناها الواسع أي أصحابهم وزملاؤهم ممن كانوا مساعدين لهم في صالح أعمالهم. من هنا نفهم: لماذا لا تنال المرأة درجة النبوة؟ فالآية تقول إن الله تعالى سوف يسكن زوجة النبي أيضاً في المقام الذي يتبوّأه النبي، وكأن المرأة وإن كانت لا تتولى منصب النبوة في  هذه الدنيا، إلا أن الله تعالى سوف يشركها في نفس النعم التي سينعم بها على نبيه.

كان رسول الله فردًا واحدًا، وسيشرك معه في نعمه في الآخرة إحدى عشرة زوجة. ثم إن الصدّيقين هم أزواج الأنبياء أي زملاؤهم، ولم يحرم الله تعالى النسوة من درجة الصدّيقية، فاللاتي يكن حائزات على درجة الصديقية سوف يسكنهن الله تعالى حيث يكون النبي ، مثل جميع الصديقين الرجال، لأنهم وإياهن جميعاً زملاء للنبي كونهم حائزين على درجة الصدّيقية.

ثم قال والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ، وهذا لا يعني أن الجنة تغطي مساحة شاسعة  أو أن لها أبواباً كثيرة، بل المراد أن فاضل الأخلاق وصالح الأعمال التي تسببت في دخولهم الجنة سوف تتمثل لهم في الآخرة كأبواب عديدة للجنة يدخلون من أيها شاءوا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك