حماية منقطعة النظير للقرآن الكريم
  • الوحي ينزل على جميع البشر
  • القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي تكفل الله عز وجل حمايته بنفسه
__
لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (8)

شرح الكلمـات:

لوما: حكى النحّاس: “لوما” و”لولا” و”هلا” واحد. (تفسير القرطبي، تحت هذه الآية)

التفسـير:

منذ عدة سور لا يزال الحديث يدور حول دعوى النبي   أن الإسلام سوف ينتصر في آخر المطاف ببركة الوحي النازل عليه   ، لأنه كلام متسم بمزايا كثيرة بحيث لن يستطيع المعارضون الصمود أمام تأثيره. فلم يملك الكفار جوابًا على ذلك إلا أن قالوا إنك مجنون يا محمد، ودليلنا أنك تقول إن الملائكة تنـزل عليك بالوحي، ولو كان الأمر كذلك لرأى الناس أيضًا هذه الملائكة نازلةً عليك. وما داموا لا يرون أي ملك ينـزل عليك فهذا دليل أن ادعاءك وهمٌ، وبالتالي برهان على إصابتك بالجنون.

مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (9)

شرح الكلمات:

الحق: حقَّه حقًّا: غلَبه على الحق. وحقّ الأمرَ: أثبتَه وأوجبَه؛ كان على يقين منه. حقَّ الخبرَ: وقَف على حقيقته. والحق: ضد الباطل؛ الأمرُ المقضيّ؛ العدلُ؛ المِلكُ؛ الموجودُ الثابتُ؛ اليقينُ بعد الشكّ؛ الموتُ؛ الحزمُ (الأقرب).

منظَرين: أنظَرَه الدَّينَ: أخّره، يقال: كنت أُنظر المعسرَ أي أُمهله (الأقرب).

التفسـير:

كلمة الحق في قوله تعالى ما ننـزّل الملائكةَ إلا بالحق إما تعني الكلامَ الحق، فيكون المراد أن الملائكة إنما تنـزل حاملةً وحي الله تعالى، ولكنكم أيها الكفار لستم من المرسَلين أو ممن يستحقون تلقّي الوحي حتى تشرّفكم الملائكة بكلام الله .

أو تكون كلمة الحق هنا مفرد الحقوق، فيكون المراد أن الملائكة تنـزل على كل إنسان بما يستحقه من الخير أو الشر. والملائكة التي تنـزل على محمد ملائكة رحمةٍ، وهو الذي يمكن أن يراها، ولا يمكن أن يراها من استحق غضب الله . إن أئمة الكفر هؤلاء ستنـزل عليهم ملائكة العذاب التي لن تنفعهم رؤيتها شيئًا، إذ ستأتي لتهلكهم، ولن تُمْهِلهم أكثر.

وهذا ما حدث يوم بدر إذ نزلت ملائكة العذاب وقد رآها بعض الكفار بصورة الكشف، ولكن ما كان لهم أن ينتفعوا برؤيتها، لأن ذلك اليوم كان يوم هلاكهم. (السيرة النبوية لابن هشام: الملائكة تشهد وقعة بدر)

قد بيّن الله تعالى هنا أمرًا هامًّا جدًّا ألا وهو أن كلام الملائكة يكون مطابقًا لباطن الإنسان.. بمعنى أن إلهام كل إنسان يكون وفق حالة قلبه. يظن الناس عمومًا أننا إذا تلقينا إلهامًا فقد أصبحنا من أهل الله الكبار، ولكن هذا وحده لا يكفي، لأن كل واحد يتلقى الإلهام بحسب فطرته وحالة باطنه. كان هناك شخص ساذج من أهل المناطق الجبلية يأتي إلى قاديان بحثًا عن العمل، وكان يقوم بالأعمال المنـزلية عندنا عمومًا، وكان في بعض الأحيان يزور الخليفةَ الأول لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ، وكلما نصحه حضرته بالصلاة ردّ عليه قائلا: الصلاة لا تلائمني. وبعد أيام وجده حضرة الخليفة في المسجد قائمًا يصلي، ولما فرغ من صلاته سأله الخليفة: ما هذا يا فلان!؟ فأجابه: لقد تلقيتُ البارحة إلهامًا يقول: قمْ أيها الحيوان وصَلِّ، ولذلك تراني بدأت الصلاةَ.

والواضح أن هذا لا يمكن أن يكون من إلقاء الشيطان، بل إنه من إلهام الرحمن يقينًا، ولكنه كان وفق منـزلة هذا الشخص. فلا ريب أن تلقّي الإلهام ليس بشيء، بل لا بد من النظر في نوعيته، لنرى هل يحتوي الإلهام على أي تعبير عن حب الله لصاحب الإلهام، أو هل فيه ما يدل على عظمة شأنه في الحضرة الإلهية أم لا.

كما أننا نعرف من الآية قانونا عاما يؤكد أن الملائكة إنما تنـزل بالحق، والبديهي أن المؤمنين يتفاوتون في الدرجات، فمنهم الأدنى ومنهم الأعلى ومنهم من هو نبي مرسل من عند الله تعالى. ثم إن الأنبياء أيضًا ذوو درجات مختلفة. لا شك أن تسمية النبي تطلَق على خاتم النبيين   كما تطلَق على زكريا وإلياس ويوسف وغيرهم عليهم السلام، ولكن كما أن اشتراكهم في الاسم لا يعني تساويهم في الدرجة، كذلك تمامًا لا يتساوى وحيهم رغم أن لهم صفةً نبوية مشتركة، وإنما ينـزل الوحي على كل نبي بحسب درجته عند الله تعالى.

وحين نأخذ هذا الأمر في الاعتبار نجد حلاً للسؤال القائل: لماذا لم تكن الأسفار السماوية الأخرى كالإنجيل والتوراة والزبور وغيرها منقطعةَ النظير كالقرآن الكريم؟ ذلك أن الله تعالى قد جعل ذلك الوحي مباركًا بحسب درجات أولئك الأنبياء ومهماتهم، إذ كيف يمكن أن يفوّض الله إليهم أعمالاً متفاوتة النوعية والدرجة، بينما لا يهيئ لهم أسبابًا متفاوتة؟ من البديهي أنه سيهيّئ لهم الأسباب التي تتلاءم مع رسالاتهم، وسيعيِّن العمّالَ وفق نوعية الأعمال.

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (10)

شرح الكلمات:

الذكر: (انظر شرح كلمات الآية 7)

التفسـير:

من معاني “الذِّكر” الشرفُ والنصيحة. وهذا هو المعنى الذي ينطبق هنا. لقد قال الكفار من قبل معيِّرين الرسولَ   : يا أيها الذي نزل عليه هذا الكلام المشرِّف العظيم إنك لمجنون، فجاء الرد عليهم من الله تعالى بقوله: ألا إنا نحن الذين نزّلنا عليه هذا الكلام المشرِّف العظيم.

إن هذه الآية تبلغ من العظمة والروعة بحيث إنها تشكّل بمفردها برهانًا قويًّا ساطعًا على صدق القرآن الكريم. لقد تكرر فيها التأكيد بطرق شتى وأدوات مختلفة مثل: (إن)، وضمير المتكلم للجمع (نا)، ولام التوكيد، وضمير المتكلم للجمع (نحن)، ثم مرة أخرى (إن) ولام التوكيد. ذلك أن المعارضين كانوا سخروا من النبي   قائلين إنك لمجنون ، فرد الله عليهم مؤكدا قوله بأربعة توكيدات، فقال إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون . نعم، نحن الذين أنزلنا عليه هذا الكلام المشرِّف حقًّا، ونحن الذين سنحمي هذ الكلام حتمًا.

ما أقوى هذه الكلماتِ وما أشدَّها وقعًا، وما أجلَّ هذا الميثاقَ الذي يأخذه الله على نفسه!

ثمة أمر آخر جدير بالانتباه وهو أنه من ضمن ما قصده الكفار بتعييرهم النبيَّ   هو أن هذا الكلام العظيم الذي تزعم أنه سيكون مدعاة لشرف العالم أجمع يتطلب أن تنـزل معه الملائكة! فرد الله عليهم أنكم أيها الحمقى تطالبون بنـزول الملائكة مع هذا الوحي! ألا، فاعلموا أن هذا الكلام فيه من السمو والعظمة ما يجعل قدرة الله بذاتها تتكفل بحفظه ورعايته، وسنرى بعد ذلك من الذي يتجاسر على محاولة الإساءة إليه.

وهذا لا يعني أن الملائكة لا تحفظ القرآن الكريم، لأنه ما دام الله الذي هو سيدهم ومالكُهم حريصًا على حفظه فكم بالحري أن تقوم الملائكة أيضًا بحفظه؛ والحق أن الله قد أشار بقوله وإنّا له لحافظون إلى موضوع إضافي، وهو أن هذا الوحي يحتوي على مزايا ومحاسن خصوصية بحيث إن الملائكة أيضًا لا تقدر على حفظها وحراستها، ولذلك سنتولى هذه المهمة بأنفسنا. لا شك أن الملائكة تقوم بحماية كل شيء، ولكن الله يتولّى بنفسه حمايةَ بعض الأشياء لحِكمة معينة، والحكمة الكامنة هنا هي الفارق الذي يميّز القرآنَ عن باقي الأسفار، والذي سوف أشرحه لكم بعد قليل.

إن هذه الآية الشريفة برهان عظيم على صدق القرآن الكريم، وإن كل من لم يُعمِه التعصب إذا تدبر فيها بأمانة أدرك أنها ليست من ادعاء البشر. إن المفسرين كلهم أجمعين متفقون على أن هذه السورة مكية بلا خلاف. فيرى ابن هشام أنها نزلت في السنة الرابعة من البعثة النبوية.

إن المستشرقين الغربيين توّاقون عمومًا لمخالفة المفسرين المسلمين فيما يتعلق بزمن نزول السور، وقد اخترعوا لذلك ما يسمّونه في زعمهم “قاعدة الشهادة الداخلية”.. أي أن موضوع السورة نفسه يعيّن زمنَ نزولها. وقد أساءوا استخدام هذه القاعدة لدرجة أنه لم يبق هناك من شك في أنها ليست شهادة القرآن الداخلية وإنما هي شهادة خفايا باطنهم الخبيث. إلا أنني فرحت كثيرا عندما عرفت أثناء مطالعتي لما كتبه المستشرقون أنهم أيضًا لم يجدوا بدًّا من اعتبار هذه السورة مكية. فيقول سبرينجر: إنها نزلت في السنة الرابعة من البعثة. وأما رودويل- الذي يعتبر نفسه نابغة في موضوع ترتيب سور القرآن- فإنه هو الآخر قد وضعها في ترتيبه للقرآن بين السور التي نزلت في السنوات الأولى من البعثة.

ولكن نولدكه (Noeldeke) يختلف قليلا، بناءً على القاعدة الخاطئة نفسها التي يسمونها الشهادة الداخلية، فيقول:

1: بما أن السورة تتحدث عن تعذيب الكفار للمؤمنين فلا يمكن أن تكون مما نزل في الفترة الأولى من البعثة.

2: لقد ورد فيها لفظُ يسبّح بحمده ، وهذا اللفظ لم يرد في السور التي نزلت في أوائل البعثة النبوية، وعليه فلا يمكن أن تكون السورة من الفترة الأولى.

3: جاءت فيها كلمة (المشركين)، وبهذا فلا يمكن أن تكون من السور الأوائل.

ثم يضيف قائلا: ولكنها مكية دون ريب حيث نزلت في أواخر الفترة المكية.

لست هنا بصدد ما إذا كان نولدكه مصيب في رأيه أم غيره، وإنما أريد التأكيد على أن الباحثين العصريين سواء من العرب أم من الغربيين متفقون مع المفسرين القدامى على أن هذه السورة مكية.

وأما إذا افترضنا نزولها في السنوات الأخيرة من الفترة المكية فهذا أيضًا لا يقلل من عظمتها شيئًا، لأن تلك الفترة كذلك كانت من أحلك الظروف بالنسبة للمسلمين، حيث عاشها النبي   محاصَرًا مع أتباعه في شعب أبي طالب، ولم يتيسر للمسلمين ملاذ يحتمون به. وفي تلك الظروف العصيبة الحالكة يقول الله : لا داعي لأن تنـزل الملائكة بهذا القرآن، فإن الله تعالى ذاته سيتولى حمايته والحفاظ عليه.

لله، ما أجلَّ هذا الكلامَ وما أشدَّه قوةً!! إن الذين يعرفون اللغة العربية هم الذين يمكن أن يدركوا جيدًا مدى قوة قوله تعالى إِنا نحن نزَّلْنا الذِّكْرَ وإنا له لَحافظون . أليس غريبًا حقًّا أنه في الوقت الذي كان المسلمون فيه محاصَرين من قبل الأعداء خائفين على حياتهم.. يصدر الإعلان السماوي أن يا أيها الكافرون، قوموا ولا تدّخروا وسعًا ولا تألوا جهدًا في القضاء على رسالة القرآن، فإنكم لن تنجحوا في مرامكم، لأن الله تعالى سوف يتولى حمايته وحفظه. وهكذا – وعلى الرغم من العداء الشديد – يأتي يوم يتحرر فيه النبي   وأصحابه من حصار الأعداء، ويحقق الازدهار، وتتكون حوله   جماعة عظيمة، وتتم حماية القرآن كما ينبغي، ولا تزال هذه الحماية قائمة إلى يومنا هذا، وستظل إلى يوم الدين! فانظروا، هل كتب الله هذه الحماية المنقطعة النظير لأي كتاب سماوي آخر؟  (يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك