المقطعات القرآنية

بسم الله الرحمن الرحيم

الم : تسمى هذه الحروف مقطَّعات لتقطُّعها في النطق، ويتراوح عددها بين واحد وخمسة حروف. ومن ناحية النوع هي أربعة عشر حرفًا: ا، ل، م، ص، ر، ك، هـ، ي، ع، ط، س، ح، ق، ن، والأخيران منها (ق، ن) يردان في بداية سورتين بشكل منفرد، والبقية منها ترد مثنى مثنى أو أكثر.

وقد اختلف المفسرون في هذه الحروف.. فقال بعضهم: إنها أسرار لله، وليس لنا أن نبحث عن حقيقتها. وقال البعض: إنها للتحدي بأن القرآن رغم تألُّفه من هذه الحروف كلام معجز. وإذا كان كلام الإنسان يؤلَّف من هذه الحروف فلِم لم يستطع العرب أن يؤلفوا منها مثل القرآن؟ وقال بعضهم: إنها أسماء السور. كما قيل إنها القَسم الذي أقسم به الله على موضوع السورة. لكن هذه المعاني لا تصلح لأن تكون دافعا لوضع المقطعات في بداية السور.

وفسرها بعضهم بأنها ملخص لكلام ذي مغزى ومعنى، يقولون مثلاً: إن الألف يدل على الله، واللام على جبريل، والميم على محمد ، أي هذا الكلام أنزله الله على محمد بواسطة جبريل، هذا المعنى يصدق على (الم) ولكنه لا يصدق على جميع المقطعات.

وقال البعض إنها تدل على صفات الله التي تبيّنها السورة بعدها، وهي الحروف الأولى أو الأهمّ من هذه الصفات الإلهية. وهذا المعنى الأخير أصح وأجدر بعظمة القرآن وأكثر اتفاقا مع ما يشهد به القرآن نفسه بهذا الشأن.

وقال البعض: إنها من ناحية قيمتها العددية تشير إلى آجال الحوادث التي وردت الأنباء بحدوثها في السورة، أو أن السورة تخص بالذكر أحوال تلك الأيام. هذا المعنى أقرب إلى الصحة أيضًا، وعلى الأقل فإن سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه يصدقه كما سأذكر.

وقد زعم بعض المستشرقين أنها تدل على أسماء الذين ألفوا هذه السورة بأمر محمد (ترجمة سيل نقلاً عن غويليس). فالألف عندهم يدل على أبي بكر، والعين تدل على علي أو عمر، والسين يدل على سعد، والطاء على طلحة، والهاء تشير إلى أبي هريرة رضي الله عنهم.

وهذا مما يشهد على جهل المستشرقين، ولكن بالرغم من هذا الجهل فإن كل واحد منهم يعد نفسه نابغة في مسائل الإسلام. والأغرب من ذلك أنهم أرادوا بالهاء أبا هريرة مع أنه أسلم قبل وفاة رسول الله بثلاث سنوات فقط، بينما سورتا مريم وطه المبتدئتان بهذه الحروف مكيتان، وقد تم نزولهما قبل إسلام أبي هريرة بخمس عشرة سنة.

ومما يجب أن نأخذه في الاعتبار أن هذه السورة لو كانت من تأليف الصحابة رضي الله عنهم لكان يعني ذلك أن رسول الله قد أشهد بنفسه هؤلاء الأشخاص على كذبه (نعوذ بالله من ذلك). فما دام قد استطاع أن يكتب سائر القرآن من عنده فلماذا كلف الصحابة تأليف هذه السورة خاصة، وكيف أشهدهم على هذا الافتراء.. وإذا افترضنا أنه فعل ذلك فلِمَ أقام الحجة على نفسه بوضع أسماء هؤلاء الكتاب في أول السور؟! وهذا مما لا يفعله حتى من فقد عقله!

ثم إن حديث رسول الله أيضًا يشهد على كون هذه الحروف وحيًا. روى البخاري في كتاب التاريخ ونقله الترمذي والحاكم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : “مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ (الم) حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ” (الترمذي أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء في من قرأ حرفا من القرآن). علما أن المراد من الحرف هنا الكلمة، لأن الحرف قبل تدوين النحو كان يستعمل للكلمة أيضًا، ولكن بعد التدوين اختص استعماله بحروف الهجاء أو بالألفاظ التي ليس لها معنى مستقل. وإذن كيف يمكن الظن بأن هذه الحروف للدلالة على أسماء الذين زعم أنهم قد ألفوا هذه السور. ثم الأغرب من ذلك أنهم يزعمون أن هذه الحروف كعلامات للأسماء، لكن أصحاب هذا الزعم ترجموا (الم): (أَمَرَ لي محمد)، الذي لا يدل على اسم ما. فكيف تكون هذه الحروف رمزًا لما يزعمون؟

وحديث جابر بن عبد الله الذي سيأتي أيضًا يشهد بأن رسول الله بيّن أن (الم) من الوحي.

سبق أن ذكرت أن من معاني هذه الحروف دلالتها على آجال الحوادث التي تنبئ بها السورة. وصاحب هذا الرأي عالم يهودي.. كان قد أبدى وكرر رأيه هذا عند رسول الله فلم ينكره، وكأنه صدقه إلى حد ما. ولذلك فإن هذا المعنى أيضًا جدير بالانتباه ويفتح آفاقا جديدة للمتدبرين.

والحديث الذي يذكر هذا المعنى، رواه البخاري وابن إسحاق في تاريخهما، كما رواه ابن جرير عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله.. وهو: “مرَّ أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله وهو يتلو فاتحة سورة البقرة ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ فأتى أخاه حييَّ بن أخطب في رجال من اليهود، فقال: تعلمون والله، لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ فقال: أنت سمعت؟ فقال: نعم. فمشى حُيَيّ في أولئك النفر إلى رسول الله ، فقالوا: يا محمد، ألم يُذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ؟ قال: بلى، قالوا: أجاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال: نعم، قالوا: لقد بعث الله من قبلك الأنبياء، ما نعلمه بَيَّن لنبيٍّ منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك! فقال حُييّ بن أخطب وأقبل على مَن كان معه: الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة. أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجَلُ أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله فقال: يا محمد، هل مع هذا غيره. قال: نعم. قال: وما ذاك؟ قال: المص. قال: هذه أثقل وأطول: الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون، فهذه إحدى وستون ومائة سنة. هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم. قال: وما ذاك؟ قال: الر. قال: هذا أثقل وأطول. الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان. فهذه إحدى وثلاثون سنة ومائتان. فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم. المر. قال: فهذه أثقل وأطول: الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان. فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان. ثم قال: لقد لَبِسَ علينا أمرُك يا محمد حتى ما ندري أقليلاً أُعطيتَ أم كثيرا. ثم قاموا، فقال أبو ياسر لأخيه حييٍّ ومن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جُمع هذا لمحمد كلُّه: إحدى وسبعون وإحدى وستون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبع مائة وأربع وثلاثون سنة. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره.” (تفسير فتح البيان)

يتبين من هذا الحديث أن اليهود أرادوا بهذه الحروف الآجال أيضًا، وصرحوا بذلك لرسول الله ، فلم ينكره. ولكن استدلالهم بهذه الحروف على أجل الأمة المحمدية صريح البطلان، لأن أجل هذه الأمة ممتد إلى يوم القيامة. ومع ذلك فإن سكوت رسول الله عند استدلالهم لا يخلو من حكمة. فبالنظر إلى ذلك وإلى مواضيع السورة يمكن أن نقول بأن هذه الحروف من حيث قيمتها العددية تشير إلى ذلك الزمن الذي أنبئ عن أحداثه في تلك السورة خاصة.. وذلك بأن تقع تلك الحوادث بعد البعثة النبوية إما خلال نهاية هذه المدة أو أنها تبدأ من عندها.

وإذا أقمنا وزنا لهذه الحقيقة فمن الواضح جدًا أن محتويات البقرة خلاصة لما جرى بعد البعثة خلال إحدى وسبعين سنة.. توفي حضرة معاوية في ستين للهجرة، وإذا زدنا على ذلك ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة تصير هذه المدة ثلاثا وسبعين سنة. وأعلن معاوية بيعة يزيد قبل وفاته بسنة أو سنتين. فبهذا تحدد فترة بداية ازدهار الإسلام بإحدى وسبعين سنة، لأن تفاقم الفتنة كان في هذه السنة.

وسورة مريم تبدأ بـ كهيعص التي مجموعها مائة وخمسة وتسعون. والسورة تتضمن ازدهار النصرانية الثاني بعد رقي الإسلام. والتاريخ يشهد أن المسيحية في هذه السنة، أي 195 بعد البعثة النبوية، بدأت تسترد قوتها. وهذه في نفس السنة التي دبر فيها، لأول مرة في تاريخ الإسلام، عزل الملك العباسي المعتصم بالله أثناء محاربته الروم، وجعل مكانه عباس بن المأمون ملكًا، وذلك كي يضعف الإسلام ضد النصرانية، وفي هذه الأيام نفسها هاجم النصارى واستردوا بعض المناطق من الأندلس، وفي الزمن ذاته بلغت الشقاوة بالمسلمين أن تآمر خلفاء الأندلس مع ملك الروم على الخلافة العباسية، والعباسيون بدورهم عززوا علاقات الصداقة مع ملك الإفرنج على حساب الدولة الإسلامية الأندلسية، وهكذا مهدوا الطريق لازدهار النصرانية بإدخال النصارى في سياسة المسلمين. وأرى أننا لو فكرنا بنفس الأسلوب في سائر السور، تبينت لنا معانيها من الناحية الزمنية أيضًا.

والآن أسرد بحث المقطعات الذي يتأسس على التفسير الذي فسر به سيدنا علي وابن عباس رضي الله عنهم، وهو أن المقطعات تتضمن عدة أسرار، منها ما يتعلق بأشخاص هُم على صلة بالقرآن بحيث لا بد من ذكرهم فيه، ولكن المقطعات إلى جانب ذلك تعمل عمل القفل، فلا يمكن لرجل أن يدرك معاني القرآن إلا بفتحها، وبقدر ما تنفتح له هذه الأقفال يتمكن من الإطلاع على معانيه.

وبحثي بهذا الصدد يدل على أن معاني القرآن تتجدد بتجدد هذه الحروف. فإذا ابتدأتْ سورة بحروف منها فاعلم أن السور التي تليها ولا تبدأ بمقطّع جديد تابعة للسورة السابقة في الموضوع، وإن المتماثلة في المقطَّعات متفقة في الموضوع ومنخرطة في سلك واحد. وعندي، طبقًا للمبدأ المذكور، يستمر الموضوع الواحد من البقرة إلى التوبة، فإن هذه السورة كلها مرتبطة بـ الم التي تبتدئ بها البقرة. ثم آل عمران تبدأ بنفس الحروف، ثم النساء والمائدة والأنعام خالية من المقطعات، فكأنها تابعة لما قبلها. بعد ذلك تبدأ الأعراف بـ المص ، وفيها الم بحالها، لكن زيد في آخرها ص . بعد ذلك الأنفال والبراءة خاليتان من المقطعات، فيستمر الموضوع المتعلق بـ الم إلى براءة. أما الصاد الذي زيد في آخر الأعراف فيشير إلى موضوع التصديق، الأعراف والأنفال والتوبة تبحث في ازدهار الإسلام ورقيه، لكن الأعراف تشير إلى موضوع التصديق بصورة مبدئية، والأنفال والتوبة تذكرانه مفصلاً ولذلك قد زيد هنا الصاد.

ثم سورة يونس تبدأ بـ الر بدلاً من الم ، وبقيت (الـ) بحالها، لكن الراء حلت محل الميم. فهنا تغير الموضوع.. لأن البحث من سورة البقرة إلى التوبة كان من وجهة نظر علمية، فمعنى الم أنا الله أعلم. لكن البحث من سورة يونس إلى الكهف يحمل طابع الحوادث التاريخية ويقتصر على الاستنتاج من تلك الحوادث، لأجل ذلك قال الله عز وجل الر ، أي أنا الله أرى وأعرض عليكم هذا الكلام معتمدا على رؤيتي لتاريخ جميع أمم الأرض. فهذه السورة كلها تبحث في صفة الرؤية، والسور التي قبلها تختص بصفة العلم.

أرى من المناسب أن أذكر هنا بإيجاز ما يزعمه بعض المفسرين من أن المقطعات مهملة وأنها وضعت قبل السور بدون جدوى. الحق أن المقطعات نفسها تبطل زعمهم، لأننا إذا تعمّقنا في القرآن كله، وجدنا المقطعات مرتبة ترتيبا وثيقا. البقرة تبدأ بـ الم ، ثم آل عمران تبدأ ب الم ، ثم النساء والمائدة والأنعام بلا مقطعات. ثم تبدأ الأعراف بـ المص ، ثم الأنفال والبراءة خاليتان. ثم سور يونس وهود ويوسف تبدأ بـ الر . ثم زيد الميم إليها في الرعد، لكن الزيادة تختلف عما مضى، إذ الصاد في الأعراف بعد الميم، وهنا وضع الميم قبل الراء، فلو كانت الزيادة عن غير قصد لكان وضع الميم بعد الراء، لكن توسط الميم بين اللام والراء يدل على أن هذه الحروف تؤدي معنى خاصا.

كذلك عندما نجد أن السور المبتدئة ب الم متقدمة، وتليها السور المبتدئة بـ الر .. يتضح لنا تماما أن الميم متقدم على الراء من ناحية المعنى. وأيضًا في سورة الرعد اجتمع الميم والراء، وتقديم الميم على الراء أكد بأن هذه الحروف وضعت لِمعانٍ خاصة، وكذلك نجد أن المتقدمة منها معنًى متقدمة في الترتيب أيضًا. بعد الرعد استهلت إبراهيم والحجر بالراء، لكن النحل والكهف ما ابتدأتا بها، فكأنهما تابعتان في الموضوع لما قبلهما. ثم سورة مريم تفتح بـ كهيعص ، ثم سورة طه بـ طه ، ثم الأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان كلها خالية من المقطعات، وكأنها تابعة لـ طه . ثم الشعراء تبدأ بـ طسم ، فبقي الطاء من طه بحاله وزيد عليه السين والميم مكان الهاء. وبعد ذلك سورة النمل تبدأ بـ طس الذي حذف منه الميم أبقى طس . ثم عادت سورة القصص مبتدئة بـ طسم ، كأن حرف الميم أضيف إلى موضوع السورة، أو أعيد. بعد ذلك بدأت سورة العنكبوت بـ الم وتكرر بحث علم الله من ناحية أخرى، ولأجل ضرورة جديدة. ( إنني وإن لم أكن هنا بصدد بحث الترتيب، لكن إذا سئلت عن تكرار الم ، قلت: أن خطاب الم في السور الأولى كان للكفار، أما في العنكبوت فالخطاب موجه للمؤمنين).

ثم بعد العنكبوت، الروم ولقمان والسجدة تبدأ بـ الم . ثم الأحزاب وسبأ وفاطر بلا مقطعات. وكأنها تابعة لما قبلها. بعد ذلك سورة يس تبدأ بالياء والسين. ثم الصافات بلا مقطعات. ثم سورة ص تبدأ بالصاد، والزمر خالية من المقطعات، وهي تابعة لما قبلها. ثم سورة غافر وفصّلت والشورى تبدأ بـ حم ، لكن زيد في الأخيرة حرف عسق . وبعدها الزخرف تبدأ أيضًا بـ حم ثم الدخان والجاثية والأحقاف كلها تبدأ بنفس الحروف، ثم سورة محمد والفتح والحجرات بلا مقطعات وتابعة لما قبلها، ثم سورة ق تبدأ بالقاف، ثم يستمر موضوع واحد إلى آخر القرآن.

فكرَّر الحروف المتجانسة ثم حذَف البعض. وتعويض البعض يدل على أن الذي وضعها لم يضعها إلا لغاية.

ولتحديد معاني المقطعات أرى من الأفضل أن نرجع للقرآن نفسه. فالسورة الأولى تستهل بـ الم ، وجاءت بعد هذا المقطع آية: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ . ثم في آل عمران جاء بعد هذا المقطع:

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ .

ومما تجب ملاحظته هنا أن لَا رَيْبَ فِيهِ و بالحق بمعنى واحد، فالكتاب الذي ذكر بعد الم في البقرة هو نفس الكتاب الذي وصف بالحق في آل عمران.

ثم الأعراف تبتدئ بـ المص ، وتلا هذه الحروف آية:

كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ .

هنا أيضًا ذكر نفس الكتاب الموصوف بـ لَا رَيْبَ فِيهِ ، فقوله تعالى فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ يدل على نفس الميزة.

ثم بعد عدة سور تبدأ العنكبوت بـ الم أيضًا، ويليها قوله عز وجل: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ . هذه الآيات أيضًا تدل على كتاب حق، لأن الاختبار أو الابتلاء لا يكون إلا لجلاء الشك وإبطال الريب. فهنا نفس البحث الذي تشير إليه البقرة باختلاف بسيط وهو أن الخطاب في البقرة عام، وهنا خطاب خاص بالمؤمنين، حيث قيل لهم كيف يستحقون معاملة المقربين ولا يزال الشك يخالط قلبهم.

وفي سورة الروم نفس البحث وإن أصبح غاية في الدقة.. يقول الله عز وجل الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . أي أن كلام الله نزل بصدد الروم وسيتحقق بلا شك. كأن الله عز وجل تحدى هنا بجزء من كلامه واستغنى عن الكل وأكد تحققه بحرفي (مِن) و (س) في قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ .

ثم تبدأ لقمان أيضًا بـ الم ويليها قول الله عز وجل:

تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .

وصفة الحكيم أيضًا تدل على أمر يقيني، فكأنه تكرار لموضوع البقرة.

بعد ذلك سورة السجدة تبدأ بـ الم أيضًا، ويليها قول الله عز وجل: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ هنا أيضًا ذكر الكتاب الذي لا ريب فيه.

فهذه الآيات كلها توضح جليا أنه أينما ذكر الم تبعها موضوع خاص يؤدي إلى علم يقيني لا يساوره ريب. فمع هذه الحقيقة الناصعة كيف يمكن أن نتوهم ونقول أن هذه الحروف مهملة لا تهدف إلى شيء؟ فالحق أن الم ترمز إلى إزالة الشك وتمكين اليقين. والشيء الذي يبطل الشك هو العلم الكامل الذي يدل عليه معنى الم أي “أنا الله أعلم”.. أي من أراد استئصال الشك واحتراز اليقين فليتوجه إلى ما ألقيت إلى الرسول من الكلام.. وليدرس ما أنزلت إليه من الكتاب.

الآن أتناول البحث عن الر . إذا أمعنا النظر في السورة المبتدئة بهذه الحروف وجدناها تبتدئ ببحث واحد.. فقد استهلت سورة يونس بقوله عز وجل:

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ .

ثم يقول الله عز وجل في سورة هود:

الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ .

ثم ورد في سورة يوسف:

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ .

ثم جاء في سورة الرعد:

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ * اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ .

هنا اجتمع موضوع الميم والراء.

ثم ورد في سورة إبراهيم:

الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ

ثم في سورة الحجر:

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ * رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ .

إذا أمعنا في هذه المواضع، تبين أن البحث يدور حول موضوعين اثنين، التاريخ القديم وخصوصًا عقاب المجرمين وخلق الكون، والاستفهام الإنكاري في سورة يونس يدل على أن الأنبياء بين بشير ونذير لن تنقطع بعثتهم قط. وبيّن في سورة هود أن كل قوم في تطور دائم، وأنه لا بد أن يتطور في مدى معين. ووضح بذكر الخلق أن تقدم العالم خاضع لقانون الارتقاء. بعد ذلك أشار في سورة يوسف إلى تاريخ العالم بصورة واضحة. ثم بإضافة (ميم) في سورة الرعد جمَع موضوعَي الم و الر ، حيث أشار بـ(ميم) إلى أن القرآن كلام يقيني، ثم دعا إلى النظر والتفكير في خلق الكون. ثم في سورة إبراهيم كرّر التوجيه إلى التفكير في قوانين القدرة، مبيّنا أنكم لو فعلتم ذلك فستجدون فيه آثار يد الخالق الحكيم. وفي سورة الحجر دعانا إلى التفكير في القانون القديم. ومن البين أن قانون الكون وحوادثه المختلفة مرتبطة بالرؤية، والحق أنه لا يستطيع أحد التحري عن الحقيقة إلا إذا كانت ظواهر الكون وقوانينه منكشفة أمامه. فعلاقة هذه السور بالرؤية واضحة كما تشهد بها كلمتا الم و الر اللتان قيل فيهما أنني أنا الله أعلم وأرى. فلا التاريخ القديم غائب عني ولا خلق الكون وقوانينه خافية علي.. فهدايتي هي التي يمكن أن تغنيكم عن كل شيء آخر في إدراك الحقائق المتعلقة بالعلم والرؤية.

وجدير بالذكر أيضًا أن المقطعات، وإن كانت معانيها تتغير بتغير الأحرف، لكنها متفقة في أمر واحد وهو أن السور التي تفتتح بالمقطعات يستهل موضوعها بالوحي، ومعظم هذه السور تصرح بكلمة الكتاب والقرآن، وبعضها تشير إلى كتاب قديم مثل سورة مريم، أو إلى كلام خاص مثل سورة الروم.

هذان المعنيان المذكوران أي أن المقطعات (أولا) تدل على الصفات الإلهية وكل حرف يمثل الصفة التي تبحث فيها السورة، وأنها (ثانيا) تدل على قيمتها العددية (الآجال)، ومجموع عدد هذه الحروف يحدد الحوادث الواقعة إلى مدى المقدار من الزمن، كلاهما صحيح، وليس من اللازم أن يكون أحدهما صحيحا دون الثاني. ويوافقني في هذا الرأي بعض العلماء من صدر الإسلام أيضًا.. كما روي عن ابن أبى حاتم عن أبى جعفر الرازي عن أبى العالية يقول: “… ليس فيها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسماء الله، وليس فيها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه، وليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجالهم”. أي أن في هذه الحروف إشارة إلى كل الصفات الإلهية، والحوادث من أزمنة مختلفة، والكلام الإلهي المعجز. ورأي أبي العالية في غاية الروعة والصواب والصدق. وقد نقله ابن جرير بلفظ آخر وصدّقه.

يمكن أن يقال عن المقطعات: لماذا اختار القرآن الكريم هذا الأسلوب المبهم؟ ولماذا لم يبين هذه المعاني بكلمات واضحة كي يفهمها العرب وغيرهم على حقيقتها؟ فالجواب أن هذا الأسلوب ليس غريبا عند العرب، بل إن كبار الشعراء العرب كانوا يستعملونه.. كما قال أحدهم: “قلنا قفي لنا فقالت قاف”. ويعني قوله “قاف” وقفت. وقال آخر:

بالخير خيراتٌ وإنْ شرٌّ فا

ولا أريد الشـر إلا أن تا

فالشاعر قد اكتفى هنا بـ “ف” بدل “فشَرٌّ” و بـ “تا” بدل “تشاء”.

وفي حديث رسول الله : من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله عز وجل وكتب بين عينيه آيس من رحمة الله. (ابن ماجة، كتاب الديانات).. أي أنه إذا قال: “أقْ” مكان أقتل، فجزاؤه بما ذكر من اليأس والحرمان.

فالعرب متمسكون بهذا الأسلوب المرتبط بالقرينة في النظم والنثر، ومن الأمثال الرائعة لهذا الأسلوب ما اختاره القرآن من المقطعات. والأمم الغربية قد بالغت اليوم في استعمال هذا الأسلوب.

وهناك مئات بل آلاف من الحروف التي تتقدم مختلف الكلمات، والناس يفقهون معناها ولا يستغربونها.

Share via
تابعونا على الفايس بوك