أي الديانات العالمية خالدة اليهودية أم المسيحية أم الإسلام؟

أي الديانات العالمية خالدة اليهودية أم المسيحية أم الإسلام؟

أبو العطاء الجالندهري

أصبح تيار الللادينية جارفا يكتسح العقائد والأخلاق والتقاليد القديمة، وغمرت أمواج الفوضى والاضطراب أقاليم الشرق وبلدانه، فتنمَّر الإلحاد، وبدأ ينشب مخالبه في جسم هذا الدين الحنيف، وينوشه من كل ناحية بجوارحه الحادة الشديدة، فصار الدين لحما على وضم.

نظرة واحدة في حالات أهل الديانات وحملة لوائها والمنتمين إليها تدلك دلالة واضحة على أن الوازع الديني في النفوس قد ضعف بل تلاشى، وأصبحت تعاليم الأديان مضغة في أفواه الخلق لا تسمن ولا تغني من جوع. فصارت القلوب أرضًا خصبة لجراثيم اللادينية وموبقات الأخلاق السامية، وتسربت الأوبئة في شرايين البشرية، وهنالك كانت الطامة الكبرى.

ظن الناس الدين غلاًّ، فتحرروا منه، وحسبوا الأخلاق تقاليد القرون المظلمة فنبذوها نبذًا، واعتبروا العقائد شيئا لا يتلاءم والعصر الحاضر، فتبرأوا منها شيئا فشيئا. فتقلص ظل سلطان الدين، ووهنت روابطه بأهله. ولم يقتصر هذا الحال على أهل دين دون آخر، بل عم الداء الوبيل وفشا المرض العضال بين الجميع، فنيلت المسيحية بما نيلت، وأصيبت اليهودية في صميمها، وتعرض الإسلام لأخطار جمة.

وأحس المفكرون من كل قوم بطغيان هذا الطوفان وشعروا بفداحة البلية، فهموا بالحيلولة دون وقوع الكارثة. وأرادوا تغيير مجرى التيار الغربي، ولكنهم باءوا بالفشل، ولم تثمر مساعيهم ثمرة تذكر، فخارت عزائمهم، وتقاعسوا عن الميدان. فزهد الشبان والشيب في الدين، بل ناصبوه العداء، وعزموا على تقويض دعائمه، ظانين أنه أكبر عدو للبشرية، وأنه لولاه لما تفرق الناس شعابا ولما أصبحوا فرقا وأحزابا. فسادت اللادينية بين الناس وصار لها سلطانها الفعلي، ولم يبق من الدين سوى مظاهر التقاليد.

قضى الناس برهة من الزمان قصيرة وهم منتشين بنشوة الإلحاد وسكارى بخمرة اللادينية، ولكن الخطوات السريعة التي خطوها في هذا السبيل الشائك أظهرت لعقلاء القوم ضحالة رأيهم وعلموا أن مركز الإنسانية قد تزلزل، وأن دعامة تبادل الثقة بين الناس تصدعت، وأنه لا بد لبني الإنسان من الرجوع إلى دين يتغلغل في أعماق قلوبهم ويجعلهم في طمأنينة وسكون. فقاموا ينشدون دينا يكفل لهم الوحدة والمحبة والسلام، ويتفق مع العقل والعلم والفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها.

إن اختلاف الأديان هو أحد الأسباب العاملة على نشر الإلحاد عند قصيري النظر، فلذلك يريد ذوو الألباب دينا يجمع جميع الناس تحت لوائه، لأن العالم يقطع الآن أشواطًا واسعة نحو الوحدة العالمية. يريدون دينا تثبت مبادئه وأصوله أمام هجمات الدلائل العقلية والعلوم الجديدة والمكتشفات الحديثة، وتكون له الكلمة الأولى والأخيرة في تطبيق النظريات العلمية وتمحيصها.. دينا لا تزول آثاره ولا تفنى معالمه، وتبقى ثمراته خالدة لا تنقطع على مر الدهور وكر العصور. فالعالم بأجمعه في عوز شديد إلى دين عالمي خالد يعزز العقائد في القلوب ويرسخ مبادئه علميًا في النفوس، ويرفع المستوى العقلي ويسمو به إلى الدرجة العليا، ويدخل إلى قلوب الناس طمأنينة وثقة تامة بالله وقدرته، ويفتح عليهم باب التقرب إليه في كل حين وآن!

فدين كهذا هو الذي يكون دين المستقبل، وهو الذي كتب له الخلود والبقاء، وهو الذي يشرئب إليه الناس بأعناقهم، وهو بغية القلوب وأمنية الناس أجمعين.

إن اليهودية لم تتقدم إلى الناس بدعوى أنها ديانة عالمية فهي كانت ولا تزال ديانة طائفة خاصة من البشر ودائرتها ضيقة جدًا. وكذلك المسيحية فإن مؤسسها لم يدع أحدًا من غير الإسرائيليين إلى دينه مطلقا، وكان طيلة أيام حياته يردد نغمته المعهودة:

“لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّة” (مَتَّى 15: 24).

ولكن المسيحية لما اشتد عداء اليهود لها وازداد إعراضهم عنها، قام بعض دعاتها وبشروا بها الأمم الأخرى، وذلك بالرغم من مخالفة جماعة من تلاميذ المسيح لذلك التبشير. ومنذ ذلك الحين دُعيَ إليها الناس في بلاد مختلفة. وأما الإسلام فهو بطبيعته دين عالمي، وإن مؤسسه دعا الملوك والدهماء إلى دينه من كل شعب وأهل دين. فسؤالنا إذن، وهو أي الديانات ديانة عالمية خالدة، ينحصر في المسيحية والإسلام فقط.

لا جرم أن الديانة المسيحية الحاضرة والديانة الإسلامية تختلفان في بعض العقائد كل الاختلاف، وفي بعض آخر بعض الاختلاف. ومن هناك تحصل اختلافات عديدة في الأخلاق والمثل العليا عند أصحاب كلتا الديانتين. يقول المستشرق الأستاذ (جب):

( لقد عرفنا حق المعرفة أن بواعث الناس ووسائلهم ومثلهم العليا في حياتهم اليومية إنما تصدر عن عقائدهم المتغلغلة في نفوسهم) (وجهة الإسلام ص 8).

فالعقائد لها أكبر تأثير في أخلاق الإنسان وأعماله اليومية، وذلك التأثير يقوي ويضعف حسب قوة العقائد وضعفها. ونحن لا يسعنا أن نهمل النظر في عقائد الديانتين عندما نود أن نعرف أيهما تكون عالمية خالدة، ولكن هذه المقارنة طويلة، وإنما نقول الآن إن الديانة العالمية الخالدة لا بد أن تكون عقائدها مبنية على مبادئ العقل والمنطق، وأما الديانة التي يجاهر أهلها بأنها في واد والعقل البشري في واد، وأنه لا دخل للعقل في الدين، كما يقول القساوسة وعامة المسيحيين في كل مناسبة وغير مناسبة علنا وجهارًا، فمثل هذه الديانة تعلن إفلاسها بنفسها، وأنها إذا عاشت في العصور الغابرة، عصور العزلة والتقليد والظلام فهيهات أن تعيش رافعة رأسها في عصر العلم والمعرفة والنور، عندما ترى كافة الناس يحكمون العقل في العقائد والمبادئ الدينية ويضعونها تحت مصباح الفطرة ونور البصيرة. ولسنا مغالين ولا مدفوعين بعاطفة دينية وعقيدة إذا أعلنا بأن عقائد الدين الإسلامي هي التي تقنع العقول الثاقبة بمتانتها وسدادها إذا وضعت في ميزان العقل والامتحان، وقد شهد بهذه الشهادة كثير من أولي الألباب من أهل الشرق والغرب.

ثم إن تقويم الأخلاق موقوف على تقويم العقائد، وأن أكثرية الملحدين تتشبث بفساد أخلاق أهل الديانات وتستخدمه كدليل ضد الديانات وصحتها. فتقويم العقائد إذن وإصلاحها من الواجبات الأولية لصد تيار الإلحاد وقطع دابر الذين هم به يبشرون. ويا ليت الناس يقارنون بين عقائد الإسلام المعقولة وبين عقائد دياناتهم المختلفة لكي يميزوا الغث من السمين ويعرفوا الحق حقا والباطل باطلا ويومئذ يفرح المؤمنون.

وبعد هذا كله فهناك ناحية أخرى لا تقل أهمية عن سالفتها بل تفوقها من جهة آثارها العالمية، وهي شرط للديانة العالمية الخالدة هام جدًا، وذلك أن تكون تلك الديانة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ويجني فئة من أتباعها بين الفينة والفينة قطوفَ لقيا ربهم العلي. فيكونون شهود مشاهدة وعيان، لا شهود سماع وبيان، على صدق تلك الديانة الخالدة. وكلما فقدت ديانة ما هذه الشهادة انطمست أنوارها وذهبت الأيام برونقها واندفع أتباعها مع تيار الإلحاد، لأن حكايات السابقين وروايات الأولين لا تستطيع أن تغذي الأرواح المتعطشة وتروي غليل نفوس العشاق الصادقين، لا سيما وقد مضت على تلك البيانات دهور وقرون تلو قرون، وعندئذ يتفكر الإنسان ويقول لو كان الإله موجودًا وهو الذي كان يكلم الأنبياء شفاهًا فيما سلف من الزمان فلماذا لا يكلم أحدًا في هذا الزمان والناس في أشد الحاجة إلى كلامه المبين؟ وإذا كانت ديانة ذلك السائل لا تجيب عن هذا السؤال إجابة مقنعة فينشأ سوس اللادينية وينخر في عود العقائد، ولا يلبث أن يعود الرجل ملحدًا دهريًا، ولو بقي يتظاهر بإتيان بعض الطقوس الدينية خوفًا من المجتمع والوسط الذي يعيش فيه.

وموجز القول أن الديانة التي لا تعطي لأهلها قوة اليقين الجديد عن طريق كلام الرحمن مع عباده عند الحاجة لن تكون ديانة عالمية خالدة، لأن العقول تحررت من قيد التقليد القديم، والناس قد جربوا العلوم والمعارف، فإذا بها لا تحسم داء الفسق والفجور ولا تنير الأبصار الروحية، بل زادت أصحابها إيغالا في الذنوب وتغلغلا في الحياة الشريرة، فصرخوا من أعماق قلوبهم في حاجة إلى مصلح يزف إلى البشرية بشرى الإله الحق الدائم الباقي ويهديهم إلى الدين العالمي الخالد. يقول الشيخ رشيد رضا:

(فقد صارت الدنيا كبلد واحد، ولكن شعوبها قد ازدادت تعاديًا وضراوة بإيقاع بعضها ببعض، ومكنتهم وسائل العلم من استثمار خيراتها وكنوزها بما يكونون به سعداء كلهم، فما زادهم ذلك إلا شقاء. وإن أشدهم شقاء وتعاديًا وشرًا لأرقاهم في المعارف والفنون. فعلم بالحس والاختبار أن العلم البشري عاجز عن إصلاح الناس. ويشعر كثير من رجال العلم والسياسة بالحاجة الماسة إلى هداية الدين الإلهي وتمني بعضهم لو يبعث فيهم نبي جديد). (الوحي المحمدي ص 174)

هذه أمنية رجال العلم والسياسة وشعور قلبي لأناس كثيرين، وفيه دليل واضح على أن الناس لا تصلح شؤونهم إلا عن طريق الكلام الإلهي. فهذا هو العلاج الوحيد لمرض الإلحاد، وبه يظهر أي الديانتين ديانة عالمية خالدة.

إن المسيحية لا تقول بأن الله يبعث من بين أتباعها رجالا يكلمهم ويظهرهم على أمور غيبية، ويكون هؤلاء بدورهم شاهدين على أن طريقة النصرانية تصل بسالكها إلى الحضرة الإلهية، وإخواننا المسيحيون لا يرجون من الله هذه الدرجة. وأما الإسلام فهو يقول بأن المؤمنين ينالون كل نعمة روحية حصل عليها الأولون وأبواب جميع الدرجات مفتوحة للذين يطيعون الله والرسول سيدنا محمدًا بن عبد الله أفضل المرسلين :

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا .

وقد نال المسلمون كل درجة روحية، نالها السابقون ولا يزال الخير في مؤسس الإسلام وفي أمته إلى يوم الدين.

والآن حان لنا أن نقول بكل قوة ونعلن للملأ بصوت أعلى بأن الدين الإسلامي هو وحده دين عالمي خالد، وأن تعاليمه وحدها سوف تكون المرجع الأخير للعالمين، وليس هناك دين غيره يثبت في العراك العنيف بين الدين والفلسفة، ويزيل وساوس الإلحاد، ويقشع سحب اللادينية بقوة الحجة والبرهان، وليس هناك دين غيره يفتح على الإنسان باب الوحي والإلهام، ويدخل الطمأنينة إلى قلبه ويجعله من المقربين. فالإسلام هو الدين العالمي الخالد، وهو المنهل الصافي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وإليه ترجعون.

Share via
تابعونا على الفايس بوك