نكران نعم الله يؤدي إلى الشرك
  • الصلة بين الوحي الإلهي ونفي الشرك.
  • العلاقة الطردية بين توحيد الباري والتقدم البشري.
  • وجوب خضوع العقل البشري لجلال الله وتنزيهه عن كل حاجة وعيب.
  • النبي محمد عبدالله ورسوله مثالًا حيًا على كمالات الله.
وَالله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ (النحل: 73)

شرح الكلمات:

أنفُسكم: الأنفس جمعُ النفْس. ونفسُ الشيء: عينُه (أي ذاتُه) (الأقرب).حفَدة: جمعُ الحافد وهو: الخادمُ؛ الناصرُ؛ التابعُ؛ ولدُ الولدِ (الأقرب).الباطل: ضدُّ الحق (الأقرب).

التفسـير:

من خلال آيات عديدة وبطرق شتى ما زال الله تعالى يؤكد ضرورةَ أمرين هما نزول الوحي ونفي الشرك تأكيدًا يكشف أن كلا من الموضوعين وثيق الصلة بالآخر، وأن الواحد يدعم الآخرَ؛ حيث بيّن الله تعالى أنه بدون الوحي يصاب الإنسان بمرض فتاك كالشرك، وأن من مقتضى التوحيد الكامل أن يهدي الله تعالى عبادَه؛ وفيما يلي بيان ذلك.إذا كان الإله إلـهًا واحدًا فكيف يمكن أن يترك أمر هداية العباد في يد غيره. نعم، لو كان هناك أكثر من إله لترك الواحدُ مهمةَ الهداية للآخر مثلما يفعل الوالدان فيما يتعلق بتربية الأولاد حيث يعتمد الأب أحيانًا على الأم، ويحدث العكس أحيانًا أخرى. ولكن ما دام الخالق والمالك واحدًا فإلى من يوكل أمر الهدى؟ إنه لا بد أن يتولى بنفسه هداية الناس.كما أن التوحيد يقتضي الكمال، ولكن خلق الناس بدون هدف وغايةٍ منقصةٌ تتعارض مع عقيدة التوحيد، فإذا كان الإنسان لم يُخلَق إلا لغاية فلا بد له من حياة بعد الموت، وبالتالي لا بد من نزول منهج من عند الله تعالى يجعل الإنسان صالحًا للعيش في تلك الحياة الخالدة. ومن أجل ذلك فقد ساق الله في الآيات السابقة أدلة شتى على الحياة بعد الموت.لقد ذكر الله تعالى موضوعي التوحيد والهدي السماوي باستمرار وبطرق مختلفة بحيث يدعم أحدُهما الآخرَ، مما زاد البيان قوةً وروعة بحيث اتضح تمامًا أن أركان العالم الروحاني يشدّ بعضها بعضًا كما تشدّ أجرامُ العالم المادي بعضُها بعضًا. وحيثما رأيتَ وجدتَ حقيقةً واحدةً ونظامًا واحدًا.وفي هذه الآية أيضًا عاد الحديث مرة أخرى إلى تأكيد التوحيد، حيث نبّه الله تعالى أن اعتياد الناس احتكارَ المال والحكم يدل على أمرين:الأمر الأول – وهو ما قد سبق بيانه – أن الإنسان يَكره بفطرته أن يُشرك في أمواله وسلطته أحدًا هو تحت حكمه، ولذلك يتطلب الأمر التدخُّلَ من قِبل قوة خارجية تغيّر هذا النظام الفاسد بنظام يقوم على مبدأ تَساوي البشر ويضمن للجميع حقوقهم.والثاني هو توحيد البارئ، حيث يذكّر الله تعالى الإنسانَ أنه حين يخوّله نعمةً يسلّم أيضًا بملكيته المحددة لها، كما يجيز انتقال حقوقه بشأنها إلى أولاده بالوراثة؛ والإنسان حين يريد نقل خير أمواله، التي هي في الواقع منحة إلهية، فلا يمنحها إلا لأولاده، كما لا يعطي الآخرين الحقَّ في أن يعطوا أملاكه من يشاءون؛ فما لهذا الإنسان يقع في الباطل.. أي في الشرك، ويصبح ناكرًا لنعمه ؟ أما وكيف يحصل هذا النكران لنعم الله فقد ذُكر مفصَّلا في الآية التالية.

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (النحل: 74)

التفسـير:

يقول الله تعالى إننا قد سلّمنا بحقهم في الوراثة ونقلِهم أموالَهم وسلطتهم إلى أولادهم أو لمن هو على صلة بهم، ولكنهم يردّون على صنيعنا هذا بأنهم يمنحون – في زعمهم – سلطتَنا وحُكمَنا لمن لم نعطه إياها أو لا نريد أن نعطيه. إن أموالهم وعقاراتهم هذه ليست مِلكًا لهم في الحقيقة، وإنما هي منحة منا، ومع ذلك نمنح لهم حق التصرف فيها كما يحلو لهم وأن يعطوها من يشاءون، فكيف لا يكون لنا نحن إذًا حرية التصرف في أمر ديننا، بحيث نجعل مَن يشاء من عبادنا وارثًا للدين.كما أشار الله تعالى في هذه الآية أن الشرك يوقف رقي الأمم أيضًا، لأن المشرك عندما يصرف اهتمامَه عن الله إلى ما لا يملك له نفعًا ولا ضرًّا فإنه لا ينتفع من التوسل إليه، وإنما يتضرر بكل تأكيد؛ إذ لم يتوسل إلى الله الذي كان بالفعل قادرًا على أن يعطيه النعم بكل أنواعها؛ وبالتالي يتوقف الرقي العقلي دومًا لدى الأمم المشركة، ويصاب تفكيرهم بخلل كبير جدًّا فيما يتعلق بأمور الدين. ولكن الأمم غير الوثنية لا تزال تحرز التقدم عقليًّا – رغم انحرافها عن الحق – لأنها لا تفتأ تفكر في تلك الذات التي هي منبع القوى كلها، فتصيب شيئًا من الحقائق من حين لآخر رغم حرمانها من الوحي والإلهام.

فَلَا تَضْرِبُوا لله الْأَمْثَالَ إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل: 75)

التفسـير:

أي لا تسعوا لسنّ القوانين عما يخص ذات البارئ تعالى، إذ لا علمَ لكم بسعة قدرته ؛ فهو الذي سوف يمنح بنفسه السلطةَ الدينية مَن يشاء من عباده وبقدر ما يشاء، وسوف يهبها للذين يراهم كأولاد روحانيين له نظرًا إلى إخلاصهم وتفانيهم.علمًا أنه في لغة الوحي قد سمِّي بعض الأنبياء أبناءً لله ومثالـه قول المسيح للحواريين: “فاذهبوا وتَلْمِذوا جميعَ الأمم، وعمِّدوهم باسم الأب والابن والروح القدس” (متى 28: 19). فكلمة “الابن” هنا تعني أن الله تعالى قد اصطفى المسيح وجعَله وارثًا للملكوت السماوي.وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله وقالوا اتخذ الرحمنُ ولدًا سبحانه بل عبادٌ مكرَمون (الأنبياء: 27).. أي يخطئ المشركون في قولهم بأن الله اتخذ ولدًا له في الحقيقة، بل الذين يسميهم الله أبناءً له إنما هم عباده، وإنما المقصود بهذه التسمية أن الله يحبهم ويكرمهم. ولكن المؤسف أن بعض الجاهلين يغترّون بهذه الألقاب ويعتبرون عباد الله المتواضعين أبناء له حقًّا، بينما يهبّ بعضُ الأغبياء الآخرين ويطعنون في هذه الأسماء والألقاب.وقد بين الله تعالى بقوله إن الله يعلَم وأنتم لا تعلَمون أن ما يستخدمه الله من ألقاب وكلمات فإنه يرمز إلى بعض الحقائق التي لا تتنافى مع الصفات الإلهية الأخرى، ولكنكم أيها الأغبياء تستخدمون تلك الألقاب في المعنى الذي يدل على جهلكم المطلق، إذ لا يمتّ ما تقولونه إلى الحقيقة بصلة بتاتًا. وعلى سبيل المثال حين يطلق الله على عبد من عباده “ابن الله” فإنما يقصد به الإشارة إلى حبه الشديد لذلك العبد الطاهر، ولكن المشرك يعتبره ابنًا حقيقيًا لله تعالى وهكذا يحوِّل هذه الصلةَ الطاهرة بين الرب والعبد إلى صلة مادية، مما يمثّل إساءة إلى ذات البارئ تعالى، كما يحطّ من شأن هؤلاء المكرَمين؛ لأنهم باعتقادهم هذا ينكرون عظمتهم الحقيقية التي حصلت لهم بمعرفة الله والتضحية في سبيله تعالى، أما العظمة المادية التي يعزونها إليهم فهي موهومة كما لا تساوي أمام العظمة الروحانية شيئًا.

ضَرَبَ االله مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (النحل: 76)

التفسـير:

لقد نبّه الله تعالى في الآية السالفة أن على الإنسان أن يقف عند الحد الذي يحدده الله تعالى في الأمور الروحانية وإلا ستزلّ قدمُه وتنحرف به بعيدًا عن جادة الصواب، كما أخبر الله في الآية السالفة أنه حين يريد تكريم بعض عباده المحبوبين ويطلق عليهم أسماء غير عادية فإنما يقصد بذلك عكس ما يقصده المشركون بإطلاق تلك الألقاب على بعض من مخلوقاته؛ أما في هذه الآية فضرب الله تعالى مثالاً يزيد الأمر جلاء فقال: هلا فكّرتم فيمن هو فريسةٌ للجشع والهوى ومقيد بأصفاد الأوهام والتقاليد القومية شأنَ العبد الذي لا يستطيع استغلال كفاءاته كما ينبغي لكونه مملوكًا لغيره.. فهل يمكن أن يتساوى هو ومن هو حر من قيود الأوهام والتقاليد القومية، ويستغل ما حباه الله به من قوًى وكفاءات في خدمة الإنسانية بحرية تامة سرًّا وعلانية؟ كلا. فلا شك- والحال هذه – أن الله سيكون في عون الذي يستغل قواه الموهوبة من عنده في خدمة عباده؛ وبالتالي لا بد أن يكون النجاح حليفه هو.وهذا المثال إشارة إلى شخص النبي حيث أخبر الله أن هذا هو الإنسان الذي بإمكانه أن يرث نعم الله تعالى، ومهما استعمل الله تعالى في حقه من كلمات المدح والتكريم فهو أحق بها وأهلها.وقد أشار بهذا المثال أيضًا إلى أنكم لا تشركون فيما خوّل الله لكم من نعم إلا أولادَكم وأُسركم فحسب، ولكن محمدًا يُشرك العالم أجمع في نعم الله تعالى؛ فنجاحه مضمون وفشلكم أكيد.ويمكن تفسير قوله تعالى سرًّا وجهرًا بثلاثة أوجه هي:1- أن محمدًا يسدي للإنسانية خدمةً خفية لا يراها الناس كالدعاء والاستغفار لهم، كما يخدمهم خدمة ظاهرة جلية مثل أخلاقه الفاضلة التي كان يعاملهم بها والتي قد أشارت إليها السيدة خديجة رضي الله عنها في قولها الشهير: “كلا، والله ما يُخزيك اللهُ أبدًا. إنك لتصِل الرحِمَ، وتحمِل الكَلَّ، وتُكسب المعدومَ، وتَقري الضيفَ، وتُعين على نوائب الحق.” (البخاري: كتاب الوحي، باب كيف كان بدء الوحي). والمراد من قولها “وتُكسب المعدوم” أنك تتحلى بتلك الأخلاق السامية التي قد اختفت من بين الناس.2- أنه يعمل على خدمة الإنسانية ليلَ نهارَ، ولا يدّخر وسعًا في نفع البشرية غاضًّا الطرف عن راحته.3- أن خدماته نوعان: نوع هو خافٍ أي لا يقدره الناسُ حق قدره لجهلهم إياه، مع أنه خدمة عظيمة كقيامه بتبليغ الحق لهم؛ ونوع ظاهرٌ بادٍ يقدّره الناس ويعترفون به بلسانهم؛ ومثال ذلك أن شخصًا جاء النبي وشكا إليه أن أبا جهل لا يرد له ماله، فخرج النبي معه من فوره وطَرَقَ على أبي جهل بابه؛ فلما رأى النبيَّ واقفًا أمامه أصيب بالذهول لأنه لم يتوقع مجيئه إليه إذ كان يؤذيه دائمًا، فسأله في حيرة: ما الذي وراءك؟ فقال النبي : هل أكلتَ مالَه؟ قال: نعم. قال: أَعْطِه ماله على الفور ولا تؤذِه. قال: نعم، ورجع وقد مُلئَ قلبه رعبًا وهيبةً، وردّ للغريب ماله. فلما شاع هذا الخبر بين القوم لاموا أبا جهل قائلين: ويلك يا جبانُ! تأمرنا بخلاف ما صنعتَ مع محمد! فقال: ويْحَكم! والله، خرجتُ إليه وإن فوق رأسه فَحْلاً من الإبل ثائرًا، ما رأيت مثلَ هامته ولا أنيابِه لفحلٍ قط! والله لو أبيتُ لأكلني (السيرة النبوية لابن هشام: أمرُ الأراشي).من الممكن أن تكون رؤية أبي جهل للبعير مع النبي رؤيةَ كشفٍ، بيدَ أنه لم يُشر إلى ذلك قط؛ وقد يكون أبو جهل قد اختلق من عنده قصةَ البعير الفحل ليخفي عن زملائه الرعب الذي استولى عليه لدى قيام النبي بتأييد الحق بهذه الصورة المذهلة.هذا، وإن هذه الآية تتضمن أيضًا الإشارة إلى ضرورة يوم القيامة؛ ذلك أن بعض حسنات الإنسان تبقى خافية على الناس فلا يستطيعون أن يجازوه عليها بأي طريقة، فلذا من الضروري أن يكون هناك يوم يُكشف فيه للناس مثل هذه الأعمال وينال صاحبها جزاءها.

Share via
تابعونا على الفايس بوك