تأثير الغذاء على الأعمال والأخلاق الإنسانية
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(173)

التفسير:

كما سبق أن ذكرنا فإن الشريعة الإسلامية لا تأمر بأكل الحلال فقط، بل بأكل ما هو طيب منه.

كذلك فإنه لم يضع إزاء الحلال حراما، بل اعتبر بعض الأشياء مكروهة، وكره للمؤمنين استخدامها. وكأن هناك أربعة مدارج يجب اعتبارها: أولها الطيب، والثاني الحلال، والثالث الحرام، والرابع المكروه. يرتقي من الحلال إلى الطيب، وينحط من الحرام إلى المكروه. فهذه ميزة تميز الإسلام عن سائر الديانات، فهي تحدثت عن الحلال والحرام فقط، ولكن الإسلام –فضلا عن بيان الحلال والحرام –يذكر أن هناك أشياء طيبة وأخرى كريهة، ويبين ما هي التي تحل في بعض لأحوال وإن كانت حرامًا، وما هي التي تحرم في بعض الأحوال وإن كانت حلالا. وهكذا يفتح بابا لطيفا للتمييز بين الإثم والسيئة. فمثلا شريعتنا تنهى عن إيذاء الآخرين. فلو تناول أحد ما هو حلال ولكن يسبب أذى للآخرين أصبح تناوله حراما. كما قال النبي (من أكل من هذه الشجرة –يعني الثوم –فلا يأتين المساجد) (مسلم، كتاب المساجد). وفي حديث آخر بين النبي سبب ذلك فقال (إن الملائكة تتأذى مما تتأذى منه الإنس) (المرجع السابق). تبين من ذلك أن الثوم وإن كان أكله حلالا إلا أن النبي نهى عن أكل الثوم والبصل وما يشبههما عند الذهاب إلى المساجد.. حتى أنه نهى آكله من أداء الصلاة في المسجد. وطبعا لن يترك الصلاة بحال، وإذا لم يصلها في المسجد فليصلها في البيت، ولكن مخافة أن يؤذي الآخرين أمره النبي بالامتناع عن العبادات الاجتماعية.

فمن ميزات الإسلام الكبرى التي لا يبارى فيها أنه-علاوة على بيان مسائل الحل والحرمة-بين أن الحلال أدنى درجة بين المأكولات، وأن المكروه أدنى درجة مما هو محرم. فعلى المؤمن ألا ينظر إلى الحلال والحرام فقط، بل عليه أن يسلك سبلا دقيقة للتقوى، فيختار الطيب من بين الحلال، ويبتعد عما هو مكروه منها.

وهنا لم يذكر الله الحلال بل اكتفى بقوله (طيبات)، ذلك أن الله يخاطب هنا المؤمنين من الطراز الأول. أما قبله في قوله تعالى (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا.. ) فبما أن القرآن لا يخاطب الكفار في المسائل التفصيلية ولا يأمرهم فيها، فالمراد بالناس هناك المؤمنون العاديون المائلون إلى الأهواء الطبيعية، ونظرا لضعفهم قال (كلوا مما في الأرض حلالا طيبا). فهؤلاء يمكن أن لا يحددوا أنفسهم بالطيبات فقط بل ينحصروا في دائرة الحل والحرمة ولا يتحملوا قيودا. أما في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) فخاطب المؤمنين من الدرجة الأولى، ووصاهم أن يأكلوا الطيبات مما رزقهم. ولذلك قال في الآية الأولى أن نتيجة الامتثال لأمرنا هو اجتناب خطوات الشيطان، أما هنا فقال لو أكلتم من طيبات ما رزقناكم وفقتم في أداء الشكر الله تعالى.. أي توفقون للقيام بأعمال صالحة تجذب أرواحكم إلى عتبة الله تعالى، كما صرح بذلك في موضع آخر: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) (المؤمنون: 52).

كأن الإسلام يعترف بتأثير الغذاء على الأعمال والأخلاق الإنسانية اعترافا بينا، وأمر المسلمين أن يضعوا هذا في الاعتبار دائما، فيُؤْثروا أكل الطيبات حتى تعتدل أخلاقهم، فلا يُرى فيها أي اعوجاج. وعندما يقتصر الإنسان في طعامه وشرابه على الطيبات فقط.. فلا ينتهي عما نهى الله عنه فحسب، بل يوفق أيضا للقيام بالصالحات. فعلى المؤمن كامل الإيمان ألا يأكل كل حلال، بل عليه أن يهتم بأكل ما هو طيب منه.

ثم إن الله اكتفى هنا بقول (الطيبات)، لأن الحلال متضمن فيها.

 

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(174)

شرح الكلمات:

الميْتة – ما لم تلحقه الذكاة، والحيوان الذي يموت حتف أنفه (الأقرب).

الدم-المراد هنا الدم المسفوح الذي يسيل عند الذبح، وليس ما بقي داخل الذبيحة.

أُهِلَّ-مبنى للمجهول من أَهَلَّ، يقال: أهلّ الهلال وأُهِلّ: ظهر وطلع. أهلّ القوم الهلالَ: رفعوا أصواتهم عند رؤيته. أهلّ الصبي: رفع صوته بالبكاء. أهلّ الرجل: نظر إلى الهلال. أهلّ الشّهرُ: ظهر هلاله. أهلّ السيف بفلان: قطع فيه. أهلّ العطشان: رفع لسانه إلى لَهَاته ليجتمع له ريقه. أهلّ الله السحابَ: جعله ينهل أي المطر. أهل الشهر: رأى هلاله. أهل الملبي: رفع صوته بالتلبية. يقال: أهلّ المُحْرِم بالحج والعمرة: لبى ورفع صوته. أهلّ فلان بذكر الله: رفع صوته به عند نعمة أو رؤية شيء يعجبه. أهلّ بالتسمية على الذبيحة “قال باسم الله”. وما أُهِلّ به لغير الله: ما نودي عليه بغير اسم الله عند ذبحه (الأقرب).

باغٍ-اسم فاعل من بَغى يبغي. البغي: الظلم؛ الجرم والجناية؛ العصيان؛ كل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء. والباغي: الطالب؛ الظالم؛ العاصي لله والناس (الأقرب).

عادٍ-العادي الذي يتجاوز الحدود أي أنه يفرط أو يقصر عن العمل بالقانون (الأقرب).

إثم-المراد هنا العقوبة.. لأنهم في بعض الأحيان يستخدمون السبب مكان المسبِّب، والإثم هو سبب العقوبة لذلك ذكروه. والإثم؛ الذنب(اللسان).

التفسير:

يجب أن نتذكر أن ما نهى الله عنه في الشرع الإسلامي هو على قسمين: الأول حرام والثاني ممنوع أو منهي عنه. وكلمة الحرام لغة تشمل النوعين، ولكن القرآن في هذه الآية إنما حرم أربعة أشياء: الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله. وهناك أشياء أخرى نهت الشريعة الإسلامية عن تناولها.. وهي تندرج تحت الممنوعات ولا تندرج تحت الحرام بالاصطلاح القرآني. فقد روي عن ابن عباس قال ” (نهى رسول الله عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير) (مسلم، كتاب الصيد) وهناك رواية أخرى تقول (نهى عن لحوم الحمر الإنسية) (المرجع السابق). وهذه المنهيات لا تتعارض مع آيتنا الحالية وغيرها من الآيات، فكما أن الأوامر على أنواع: بعضها فرض، وبعضها واجب، وبعضها سُنة، كذلك المناهي على أنواع: هناك المحرمات والممنوعات والتنـزيهات. فهناك أربعة أشياء محرمة. أما الباقية فهي ممنوعة. وأما التي تندرج تحت المنع التنـزيهي وينبغي على الإنسان تجنبها فهي أكثر من ذلك. والنسبة بين الحرام والممنوع كالنسبة بين الفرض والواجب. فالأشياء التي حرَّمها القرآن حرمتُها أشد نسبيا مما حرمه الرسول . وكما بينتُ من قبل فإن مثالها في الأوامر كمثال الفرض والواجب والسنة؛ فالحرام بإزاء الفرض، والممنوع بإزاء الواجب. وكما أن هناك فرقا بين الفرض والواجب فيما يتعلق بالعقوبة إذا تركه أحد، كذلك فإن عقوبة تناول شيء مما نهى عنه القرآن أشد من عقوبة تناول شيء مما نهى عنه الرسول . ولكن كلاً من الجريمتين قابل للمؤاخذة، جالب لسخط الله في كل حال. إن تناول أو ارتكاب الحرام يؤثر في إيمان الإنسان ولا بد أن تكون نتيجته سيئة، ولكن تناول أو ارتكاب المناهي الأخرى لا يؤدي بالضرورة إلى الإثم وعدم الإيمان. هناك العديد من الفِرق المسلمة _كالمالكية مثلا-يأكلون هذه الأشياء بتأويلات مختلفة، ولكن هذا لا يؤثر في إيمانهم، بل لقد وُجد بينهم في الماضي كثير من الأولياء.. ولكنكم لن تجدوا بين من يأكل لحم الخنزير والميتة أحدا من أولياء الله تعالى.

فهناك مدارج للحرمة، وعلاوة على هذه المحرمات القرآنية الأربعة هناك ممنوعات تندرج تحت اصطلاح الحرام أيضا. هذه الحرمة من حيث اللغة ويندرج تحتها كل ما يُنهى عنه ويسمى حراما.. كالأشياء التي نهى عنها الرسول . ولكن من حيث الاصطلاح القرآني هناك أربعة أشياء فقط محرمة.

كأن الإسلام يعترف بتأثير الغذاء على الأعمال والأخلاق الإنسانية اعترافا بينا، وأمر المسلمين أن يضعوا هذا في الاعتبار دائما، فيُؤْثروا أكل الطيبات حتى تعتدل أخلاقهم، فلا يُرى فيها أي اعوجاج.

وقد نهى الله هنا عن أكل الميتة، لأن دماء الميتة تحتوي على العديد من السموم. ويغلب الظن في الميتة أنها ماتت بسبب المرض أو التسمم بمادة سامة أو بلسع حيوان سام، أو لبلوغها أرذل العمر، وفي هذه الأحوال كلها لا يصلح لحمها للأكل. أما الحيوان الذي مات بسبب السقوط أو حادث آخر.. فالقاعدة أن الصدمة الشديدة تؤثر في الدم على الفور وتسممه. فلا يصلح للأكل من اللحوم في الحقيقة إلا ما يكون من حيوان مذبوح.. أما غير ذلك فلا بد أن يكون له تأثير سيئ. وهذه ليست بأمور وهمية، بل لقد أثبت الطب الحديث أن كل حيوان مات لتقدمه في العمر أو بصدمة شديدة أو بمرض.. فإن أنواع الجراثيم والديدان تتولد في دمائه. فقد جاء في كتاب Text Book of Medical jurisprudence and Toxicology المعروف في الطب أن الجراثيم تتولد بسرعة في لحم الميت وتنشأ عنها سموم يُطلَق عليها السموم الجيفية أو الجيفين وهذه السموم مهلكة جدا وتأثيرها كتأثير جوز القيء “ptomaines or Cadaverice Alkaloides” والأتروبين (ص 117 ، 134 ، 452 ، 491 ، 619 ، 620من الكتاب).

كذلك يحتوي الدم على العديد من السموم الضارة بالصحة. يقول علماء الفسيولوجي إن الدم في الجسم الإنساني بمثابة بركة فيها الكثير من السمك والضفادع والديدان التي تتغذى منها وتلقي فضلاتها فيها، ولما كانت هذه الخلايا الهائلة العدد كلها تسبح فيها وتفسدها.. كان من وظائف الدم أن يأخذ هذه المواد الفاسدة إلى الأعضاء التي تقوم بتصفيتها.

فالدم مليء بأنواع السموم والمواد الرديئة، وقد جعل الله في الجسم نظاما للتنقية، ولكن الدم عندما يخرج من الجسم يصحب معه هذه السموم التي تبقى فيه، ويكون استخدامه ضارا جدا بالصحة. ولذلك يفسد الدم بعد بضع دقائق، بل عندما يتعرض للهواء تنمو فيه الميكروبات بسرعة. ولذلك فإن اللحم الذي يغسل منه الدم يبقى مدة أطول من اللحم الملطخ بالدم؛ وهذا يبين التأثير الضار للدم.

أما لحم الخنـزير فيؤثر على جسم الإنسان وأخلاقه تأثيرًا سيئا جدا. إنه يؤثر في الجسم تأثيرا سلبيا لأنه يبقى في الوسخ والوحل، ويميل إلى الرغبات الفاسدة، وهذا يصيب لحمه بأنواع الأمراض. يقول جوناتان نيكولسن Jonathan Nicholsonفي كتابه (لحم الخنزيرSwine Flesh) إنه لدليل رائع ضد الخنزير عندما نقول إن الدودة الشريطية والاسكورفولا والسرطان والتريكينا غير معروفة بين اليهود الملتزمين اللذين لا يمسون لحم الخنزير أبدا.

وإذا لم نسلم بقوله هذا، فمما لا يحوم حوله الشك أن هذه الأمراض توجد في الأمم التي تأكل الخنزير أكثر. هناك مرض مهلك يتولد من أكل لحم الخنزير وهو الدودة الشعريةTrichinosis، وتظهر في المريض بسببه أولا علامات الكوليرا، ثم يصاب بالحمى، ثم يتوجع جسمه، وأخيرا يصاب بالالتهاب الرئوي. وقد جاء في الكتاب المذكور آنفا(Medical jurisprudence أنه لا علاج لهذا المرض.

ومن لحم الخنزير تتولد في الأمعاء ديدان شريطية وتبقى في الجسم لسنين وقد كتب Dr. F. Butler MP. FRCP في كتابه (Practice Of Medecine) أن الخنزير يصاب بهذا المرض بسبب أكله للبراز.

ولكن ما هو أفتك وأخطر، بل الباعث الحقيقي لحرمته.. هو ما يصيب الأخلاق من مفاسد بأكل لحمه. إن الخنزير هو الوحيد بين جميع الحيوانات الذي ترتكب ذكوره اللواط فيما بينها. والذين يتعودون على أكل لحمه يضعف عندهم الحياء ويتصفون بالديوثية. كما أنه حيوان غير شجاع، وإنما متهور طائش.. عندما يغضب لا يرى يمينا ولا شمالا.. وإنما يهاجم رأسا. وبسبب هذه العادة يصيده الصيادون بسهولة وبسرعة. فعندما يُطلق عليه الرصاص فإنه يغضب ويندفع إلى الصياد رأسا ليهاجمه.. فيقع صيدا سهلا. كما أن الأمم التي تأكل لحم الخنزير لا تتصف بالشجاعة بل تكون متهورة.

ولقد كتب سيدنا الإمام المهدي مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية في كتابه الشهير (فلسفة الأصول الإسلامية) حول حرمة لحم الخنزير فقال:

(ههنا نكتة جديرة بالذكر، وهي أن الله حرم لحم الخنزير وقد ضمَّن اسمه الإشارة إلى تحريمه منذ البداية، فلفظ خنزير مركب من كلمتين: خنـز ومعناها فاسد جدا و”أر” أي أرى، فيكون المعنى المركب (أراه فاسدا جدا). فحتى الاسم الذي أطلقه الله على هذا الحيوان منذ الابتداء يدل على خبثه. ومن الاتفاق العجيب أن اسمه في الهندية سؤر وهذا أيضا مركب من كلمتين: سوء و”أر” أي أراه سوءا.

وأما معنى الاسم فاسد جدا فهو لا يحتاج للشرح. منذا الذي لا يدري أن هذا الحيوان أشد حرصا على أكل النجاسات، وأنه فوق ذلك عديم الغيرة ديوث؟ والعلة في تحريمه ظاهرة من أن قانون الفطرة يقضي بأنه لا يكون تأثير لحم هذا الحيوان النجس الخبيث في الجسم والروح إلا خبيثا. وقد أثبتنا فيما مضى أن الأغذية تفعل فعلها لا محالة في جسم الإنسان. فهل من شك في أن تأثير هذا الخبيث يكون خبيثا؟ كما أكد الأطباء اليونانيون ذلك قبل الإسلام.. إذ يرون أن لحم هذا الحيوان يقلل من الحياء ويزيد الديوثية على وجه الخصوص) (فلسفة الأصول الإسلامية، الخزائن الروحانية، شرح الكلمات: 10ص338).

والشيء الرابع الذي حرّمه هو ما يُذبح إشراكًا بالله تعالى، وما يضحّى به استرضاء لذوات وشخصيات غير الله تعالى. ولما كان هذا العمل انتهاكا لعظمة الله وقداسته إذ يخلعون صفاته على ذوات أخرى، فتناوُل مثل هذا الطعام واللحم يجعل الإنسان عديم الغيرة. والحق أن تناوله دلالة على عدم الطهارة القلبية وقلة الغيْرة.. لذلك حرّمه الإسلام. وهذه الحرمة ليست بسبب مضاره الطبيعية وإنما لمضاره الدينية، لأن الذي يأكل لحم مثل هذه الذبائح لغير اسم الله فإنه يثبت بأكله أنه لا يحب أبدا توحيد الله. إنه يدعي حبَّ الله في الظاهر، ولكنه في باطنه قد أخفى العديد من الأصنام التي يعبدها. فأكله هذا اللحم ينجّس قلبه ويشبّهه بالمشركين.

يعترض المسيحيون أن القرآن قد حرّم هذه الأشياء مقلدا التوراة (تفسير القرآن لويري، البقرة175).. ولكن قولهم هذا باطل، لأن هناك العديد من الأشياء التي حرّمتها التوراة ولكن القرآن لم يحرمها.. مثلا: حُرِّم لحم البعير في التوراة (الأحبار4: 11)، ولكن الإسلام أجاز أكل لحمه. ولو قالوا إنه لم يحرم من أجل العرب، قلت إن التوراة حرمت الأرنب (المرجع نفسه: 6)، ولكن الإسلام أباح أكله. فإذا ادعوا أن البعير أُحل من أجل العرب فلماذا أُحل الأرنب؟

ثم لو كانت هذه الأوامر القرآنية تقليدا للتوراة للزم أن يورد القرآن كل الأوامر التوراتية، ولكنه ترك العديد منها؛ فمثلا: ورد في التوراة أن من يأكل الميتة فعقوبته أن يصبح نجسا وتبقى ثيابه نجسة إلى المساء (الأحبار11: 39-40)، ولكن القرآن لم يذكر هذا الأمر الذي هو في الحقيقة لغو. فالقول بأن القرآن حرم أشياء تقليدا للتوراة خلاف للأمر الواقع.

ثم إن التوراة لم تذكر أي سبب أو حكمة للتحريم، ولكن القرآن بيّن سبب الحرمة، فقد جاء فيه: (قل لا أجد فيما أُوحِي إليّ محرما على طاعم يَطعمه إلا أن يكون مَيتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنّه رجس، أو فسقًا أُهِل لغير الله به. فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فإن ربك غفور رحيم) (الأنعام: 146). قوله تعالى (فإن ربك غفور رحيم) يعني أن هذا المضطر إذا أكل منه فإن الله تعالى سوف يحميه من التأثير السيئ لما أكل. ولقد بين الله هنا أن حرمة الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير ترجع إلى كونها ضارة.. لأن الرجس تعني النجس والعذاب.. فالمراد أن هذه الأشياء نجسة أو مؤذية للإنسان روحانيا وبدنيا.

ولقد تناول الله ذِكر الحلال والحرام في سورة المائدة (4) وفي سورة النحل (116) وذكَر هنالك كل هذه الأشياء نفسها، إلا أنه شرح الميتة في سورة المائدة وقال إن الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبعُ أيضا تندرج تحت حكم الميتة.

وتناول ما أهلّ لغير الله به على حدة، لأنه.. وإن كان لا يضر ضررا ظاهريا.. يضر روحانيا، ويؤدي أكله بالإنسان إلى الإباحية واللادينية، فتنقطع صلته بالله. فالتوراة قد حرمت بعض الأشياء بدون ذكر الحكمة وراء تحريمها، ولكن القرآن حرمها مع ذكر حكمتها. فليس صحيحا أن القرآن الكريم نقل بعض مسائل الحل والحرمة من التوراة.

قوله تعالى (فمن اضطر غير باغ ولا عاد).. أول شرط للاستثناء هو أن يكون الآكل مضطرا. والاضطرار يعني أن يُكره الشخص على عمل شيء لا يحبه أو يضره. وهذا الإضرار على نوعين: الأول –التهديد الخارجي، والثاني –التحريض الداخلي.. مثل هيجان العواطف أو متطلبات الطبع (المفردات).

والشرط الثاني ألا يكون باغيا متمردا مخالفا للقانون.

والشرط الثالث ألا يكون متعودا على تجاوز الحدود. والبغي أن يكون مثلا في زيارة صديق مسيحي ويطلب طعاما، فيقدم له لحم الخنزير، فيشرع في تناوله بدون تردد. هذا هو البغي والعصيان. إنما يجوز أكل لحم الخنـزير للمرء فقط عندما يكون في صراع بين الموت والحياة، ولا يجد شيئا للأكل إلا لحمه. فاستخدام لحم الخنزير عندئذ يعتبر أقل ضررا من عدم استخدامه.

ولكنه أضاف قوله (ولا عاد) لبيان أنه ليس مسموحا أبدا للمضطر أن يتناول هذا اللحم ملء البطن.. وإنما مسموح له أن يتناول منه ما يسد رمقه وتستمر به حياته. ولو أنه راعى هذه الحدود فلا إثم عليه. أما إذا فكر في نفسه: لقد أتيحت لي الفرصة لأكل لحم الخنزير لأول مرة فلأَشبعْ منه.. فهذا غير جائز. يجب أن يكون الاضطرار حقيقيا وليس وهميا.

وقوله تعالى (إن الله غفور رحيم) يثير سؤلا: ما دام تناول هذه الأشياء في الحالة الاضطرارية ليس إثما.. فلماذا قال (إن الله غفور رحيم) ؟ وإذا كان تناولها في هذا الحال إثما.. فما معنى قوله (فلا إثم عليه) ؟

الدم في الجسم الإنساني بمثابة بركة فيها الكثير من السمك والضفادع والديدان التي تتغذى منها وتلقي فضلاتها فيها، ولما كانت هذه الخلايا الهائلة العدد كلها تسبح فيها وتفسدها.. كان من وظائف الدم أن يأخذ هذه المواد الفاسدة إلى الأعضاء التي تقوم بتصفيتها.

يتبين من الآيات القرآنية الأخرى أن ما يرتكبه الإنسان من تقصيرات إنما يرتكبها وبالا على أعمال سيئة سابقة خفية عن أنظاره. ولما كان الله تعالى يذكر هنا أولئك الذين أبيح لهم تناول لحم الخنزير وغيره في حالة اضطرارية.. لذلك قال (إن الله غفور رحيم).. تنبيها لهم إلى أن وقوعكم في هذه الحالة الاضطرارية دليل على أنكم لستم حائزين على مقام سام من التقوى، وإلا لأنقذكم الله من هذه الورطة، وهيأ لكم الرزق من الغيب بصورة أخرى. ولقد خلا في الأمة المحمدية إلى اليوم مئات الآلاف من أولياء الله.. ولا يمكن إثبات أن أحدا منها _وإن لم يكن من كبارهم –تعرض لجوع أو فاقة ألجأته لأكل الميتة أو لحم الخنزير. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فليدرك هذا المضطر أنه لا بد قد ارتكب في حياته السابقة من الذنوب والتقصيرات ما كان وباله أن رأى هذا اليوم المشئوم الذي اضطُر فيه إلى أكل لحم الخنزير.. رغم ادعائه الإيمان والانتساب إلى أمة محمد . صحيح أنه من المباح له في هذه الحالة لُقيْمات من لحم الخنزير أو الميتة حتى ينجو من الموت، ولكن ما دام قد وصل إلى هذه الحالة وبالا على بعض أعماله السيئة الخفية، لذلك عليه أن يراقب أعماله ويحاسب نفسه، ويُسيل دموع الندامة على تقصيراته، ويتوب إلى الله ويستغفره، ويستمر في الابتهال ليغفر له خطاياه ويستره في رداء مغفرته. ولو أنه فعل ذلك بصدق قلب فإن الله غفور رحيم.. وسوف يجده كذلك، وسوف يحفظه من الوقوع في هذه الحالة الاضطرارية.

هناك حادث وقع لأحد الصحابة، فقد أسره العدو في الحرب وأخذه إلى قيصر، فأراد قيصر قتله، ولكن الحاشية أشارت عليه بعدم قتله، لأن المسلمين أيضا لا يقتلون أسراهم، ولو علم عمر –رضي الله عنه –أن أحدا من أصحابه قُتل أسيرا لانتقم له انتقاما شديدا. فقال قيصر: أريد أن أعاقبه عقابا يكون عبرة للآخرين. فأشاروا عليه أن يطعموا الصحابي لحم خنزير. فجوَّعوه عدة أيام، ثم قدموا له لحم خنزير، فرفض تناوله بكل شدة. وبينما كانوا يُكرهونه على تناوله أصيب قيصر في رأسه بصداع شديد لم يستطيعوا علاجه منه. فقالت له الحاشية: ربما كان هذا الوجع بسبب إيذاء الأسير، فقرروا أن يكتبوا لخليفة المسلمين يسألونه الدعاء كي يُشفى. ولما كان من غير اللائق بهم أن يضطهدوا مسلما أسيرا عندهم بينما كانوا يسألون الدعاء من الخليفة.. فاضطروا لتقديم الطعام المناسب له.

فأقوياء الإيمان لا يضعهم الله في موقف يضطرهم لتناول طعام حرام، وإنما يهيئ لهم الأسباب من عنده لكل خير وبركة.

والجواب الثاني عن سبب ورود قوله تعالى (إن الله غفور رحيم) أن الإنسان إذا تناول هذا الطعام لحالة اضطرارية قصوى فإن تأثيراته السامة التي بسببها حرَّمته الشريعة لا تزال تشكّل خطرا عليه، ولا يتم تلافيها إلا إذا تمسك الإنسان برداء الإله الغفور الرحيم، سائلا إياه: يا رب، لقد استفدت من رخصتك، وتناولت الطعام السام إنقاذا لنفسي، فارحمني بفضلك واحفظ روحي وجسمي من تأثيراته المهلكة. من أجل هذه الحِكم اختتم الله الآية بقوله (إن الله غفور رحيم).. لكيلا يطمئن الإنسان، بل يحاول تلافي الأمر ويطلب من الله الحماية من هذه التأثيرات.

وربما نظرا لهذه الرخصة من الشريعة قال سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود إنه لو تعسر الوضع على سيدة حامل، واضطرت لمساعدة من طبيب رجل، ولكنها رفضت وماتت في هذا الحال.. فموتها يعتبر انتحارا. كذلك لو أن الإنسان أشرف على الموت من شدة الجوع فأكل شيئا من لحم الخنزير أو الميتة فلا إثم عليه.

Share via
تابعونا على الفايس بوك