في رحاب القرآن
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (99).

التفسير:

لقد بين الله هنا أن الملائكة مجرد وسائط؛ كما أن الهواء واسطة لإيصال الصوت إلى الأذن. فمن يعاديهم إنما يعادي من يرسلهم، ويتهمه بالخطأ في انتخاب الوسيط. فتبين من هذه الأفكار أن اليهود أعداء الله تعالى، لأن إهانة السفير هي في الحقيقة إهانة للملك. ومن رفض أحد الملائكة فكأنه اتهم الله بعدم التوفيق في اختيار سفير مناسب، ومن ثم ففي عداوة جبريل عداوة لله. كما أن عداوته تثير عداوة الملائكة كلهم لأنه واحد منهم. ثم إن عداوته تثير عداوة الأنبياء كافة،لأنه الذي نزل عليهم بالوحي منذ الأزل.

وتكرر ذكر جبريل مرة أخرى ليحذر اليهود من عداوة جبريل، وإلا أدت عداوتهم له إلى عداوة الله. والذي يعترض على الله – جل علاه – لا بد أن يعترض على الملائكة كلهم وعلى الأنبياء أيضًا،لأن تعظيم هؤلاء كلهم يدخل في طاعة الله تعالى. فاتهام فرد من أفراد السلسلة الروحانية وعداوته يبعد المعادي عن الهدى، ويصيِّره عدوًا لله تعالى، فيحرم من نيل تلك البركات والأفضال التي تتنـزل على أحباء الله جل علاه، كما يجعل نفسه هدفا لعذاب الله الذي لا يصيب إلا الذين يخالفون عن أمره. وخص ميكال بالذكر بعد جبريل لظن اليهود أن ميكال ملك عطوف عليهم، فكانوا يسمونه الملك المحافظ أو المؤيد (دائرة المعارف البريطانية تحت كلمة ميكال). ومعنى ميكال: مثل الإله، ويبدو أنه سمي بذلك لأنه يدبر الأمور التي تختص بصفة ربوبية الله تعالى؛ أي أنه يدبر أرزاق الخلق. فجبريل يدبر الأمور الروحانية، فيأتي بالوحي من الله سبحانه، فعمله مختص بالهدى. وأما ميكال فعمله مختص بالبشرى.. أي تدبير الأمور لرقي الخلق. والبشرى تكون دائما تالية للهدى، ذلك أن الإنسان إذا عمل بهدي جبريل وصار مهديا نال أيضًا البشرى بالنعم الدنيوية. أما إذا أعرض عن هدي جبريل وصار عدوا لله.. أعرض عنه ميكال تلقائيا وصار له عدوا. لذلك حذر الله اليهود أنهم إذا عادوا جبريل صار ميكال أيضًا عدوا لهم، وهكذا يخسرون الدنيا والآخرة. وقد خص الله جبريل وميكال بالذكر للتوكيد أيضًا، كي يتذكر عدوهما أن عداوته لهما عداوة الله تعالى وملائكته والنبيين أجمعين. وخصهما بالذكر أيضًا لبيان أن الملائكة في حد ذاتهم ليسوا بشيء، وإنما هم وسائط. وقد شبههم سيدنا المهدي والمسيح الموعود بالهواء(توضيح المرام، ص46)؛ فكما أن الهواء واسطة توصل صوت المتكلم إلى أذن السامع..كذلك الملائكة واسطة توصل كلام الله إلى العباد. فمن عادى هذه الواسطة فكأنه يعادي من صنعها، ومن اعترض عليهم فكأنه يخطئ الله في اختيارهم. فالعداوة لجبريل هي في الحقيقة عداوة الله تعالى، ومن عادى السيد عاداه أتباعه أيضًا. ومن أجل ذلك قال الله إن ميكال أيضًا يكون عدوه.لأن الله هو سيده والملائكة اتباعه، وهم كحلقات السلسلة، إذا انكسرت حلقة منها انكسرت السلسلة كلها، وهكذا فعداوة جبريل تؤدي إلى عداوة الملائكة كلهم. ونظرا لأن اليهود سموا ميكال صديقا وأميرا ومحافظا لهم..خصه الله هنا بالذكر ليبين أنه أيضًا عدو لهم نتيجة عداوتهم لجبريل. ومن أسباب ذكره أيضًا أن من عادة بعض الناس أنه إذا سبَّ أحد شخصية ذات قداسة وتقدير لديهم سبوا الشخصيات المقدسة عنده تعصبا. ولما كان من المحتمل أن يأتي على جهلاء المسلمين زمان يسبون فيه ميكال تعصبا ضد اليهود، وينحازون إلى جبريل كما انحاز اليهود إلى ميكال، زاعمين أن جبريل محافظ لنا كما كان ميكال محافظا خاصا لكم.. أقول: لما كان هذا محتملا..خص الله ميكال أيضًا بالذكر منعا للمسلمين من التورط في هذا الخطأ، وبين أن الملائكة كلهم مقربون عند الله، فلا داعي لعداوتهم، ولا تسبوا ميكال إنْ سب اليهود جبريل عدوا بغير علم. يتبين من التوراة أن ميكال ملك يدبر الأرزاق ويحفظ من الأخطار..حيث قيل: “وهو ذا ميخائيل واحد من الرؤساء الأولين جاء لإعانتي وأنا أقيم هناك عند ملوك فارس “(سفر دانيال:13:10). وورد أيضًا:”..أخبرك بالمرسوم في كتاب الحق. ولا أحد يتمسك معي على هؤلاء إلا ميخائل رئيسكم “(سفر دانيال 21:10) وقيل أيضًا:” وفي ذلك الوقت يقوم ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك، ويكون زمان ضيق لم يكن منذ كانت أمة إلى ذلك الوقت، وفي ذلك الوقت ينجي شعبك كل من يوجد مكتوبا في السفر “(سفر دانيال 1:12). وفي قوله تعالى:(فإن الله عدو للكافرين).. جاء بلفظ الجلالة بدلا من الضمير كي لا يظن أن الضمير راجع إلى ميكال نفسه، ويبين لهم: أنكم إذا لم ترتدعوا عن عداوة جبريل فلا بد أن تجلبوا على أنفسكم عداوة الله أيضًا.

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (100).

التفسير:

يستدل المسيحيون من قول الله في سورة البقرة (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية)الآية(119) على أن محمدا r لم يؤت أية معجزة. إنهم من ناحية لا يرون حكمة البينات في شأن المسيح – كما ذُكر قبل بضع آيات، ويستدلون بها على أن المسيح لم يكن نبيا كغيره من الأنبياء فحسب، بل كان ابن إله وإلها، ولكن من ناحية أخرى حينما يرون كلمة البينات في حق النبي r يمرون عليها متجاهلين، بل يقولون: انظروا، إن معارضيه كانوا يقولون له: لولا يكلمنا الله أو تأتينا آيه.. مما يعني أنه لم يرهم أية معجزة!

ولو جاز هذا الاعتراض على النبي r لأن الكفار طالبوه بالمعجزات.. لجاز أيضًا على المسيح [عليه السلام] حيث قيل: ” حينئذ أجاب قوم من الكتبة والفريسيين قائلين: يا معلم، نريد أن نرى منك آية. فأجاب وقال له: جيل شرير وفاسق يطلب آية، ولا تعطي له آية إلا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال ” (متى 12 : 38 ، 39).. والمعنى إذن أنه [عليه السلام] لم ير اليهود أية معجزة إلى وقت جوابه هذا. ويتضح من جوابه كذلك أنه لم ير اليهود أية آية أخرى طول عمره، ذلك أن معجزة المسيح المشابهة لمعجزة النبي يونس هي تلك التي ظهرت حين وفاته، وكان طلب اليهود أن يريهم آية وقت المحاورة، ولكنه رد عليهم –فيما يرويه إنجيل متى: لا يعطى أشرار وفساق هذا الزمن أية آية إلا آية يونس النبي. وكأنه أظهر عجزه عن الإتيان بالمعجزة المطلوبة. وهذا يوضح جليا أنه لم يرهم أية آية قبل ذلك الحين. نعم، إنه وعد بمعجزة واحدة فيما بعد، ومع ذلك فقد أخلف هذا الوعد أيضًا.. حيث يزعم المسيحيون أن المسيح مات على الصليب، ودخل القبر جثة ميتة.. في حين أن النبي يونس [يونان] ألقي في البحر وهو حي والتقمه الحوت وهو بعد حي، ومكث في بطنه حيا، وخرج من بطنه حيا.. في حين أن المسيح في زعم المسيحيين مات على الصليب. وكأنهم بقولهم هذا قد اعترفوا أن المسيح لم يأت بالمعجزة التي وعد بها اليهود وهكذا أقّروا أنه لم يأت بأية معجزة. ولكن موقف القرآن على عكس ذلك، فهو يبين أن النبي الكريم قد أعطي المعجزات بكثرة. يمكن للمسيحيين أن يقولوا: إننا لا نعتبر ما ينسب إلى محمد r من الآيات معجزات؛ أما قولهم إن القرآن ينكر وجود معجزات للنبي فهو ظلم مجحف، لأنه يعلن هنا بكل صراحة وجلاء أنه r قد أعطي معجزات كبر ى حيث قال:” ولقد أنزلنا إليك آيات بينات”. وتعني ’آيات بينات‘ كل ما أظهره الله تعالى لبيان صدق محمد من آيات ومعجزات لا يمكن أن يوجد مثلها.. لا في معجزات موسى ولا عيسى –عليهم السلام. ثم اتبع ذلك بقوله(وما يكفر بها إلا الفاسقون). فبالرغم من غزارة مطر المعجزات السماوية فإن الفاسقين الذين خلعوا عن أنفسهم ثوب الطاعة مصممون على الكفر. بيد أن كفرهم لن يغنيهم شيئا، وسيهلكون كمن كفَّروا أنبياءهم من قبل وهلكوا؛ ولا بد أن يتم الله خطته التي لم يزل ينبئ بها بلسان الأنبياء في كل زمن.

أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (101).

التفسير:

يقول الله تعالى إن الناس في كل زمن يعطون العهود والمواثيق، ولكن لا يمر وقت طويل حتى يغدر بعض منهم بوعودهم، فيكون حالهم أسوأ من ذي قبل. وهذا المرض لم يصب اليهود وحدهم، وإنما أصاب الأمم كافة. والله أعلم إذا كان الناس سينجون من هذه الآفة أم لا. والحق أن بعث نبي ليس بالحدث الهيِّن، وإنما هو حدث جليل وخطير جدا. ففي ذلك الوقت تحدث ثورة في كل ذرة من السماء والأرض، وتمر كل ذرة بكيفية من الألم والاضطراب كالتي تمر بها الحامل وقت المخاض. ففي مكان تقع الزلازل، وفي آخر تنشب الحروب، وفي الثالث تتساقط الشهب، وفي رابع تتفشى الأمراض، وفي خامس ينتشر المحل والجدب. فيكون العالم كله في ثورة واضطراب.. بحيث يخيل أنه قد ساده الموت والفناء. وأخيرا، بعد هذه الحالة المشابهة للمخاض يولد مولود جميل في القوم، يتربى ويترعرع في كنف الله تعالى. ولكن لا تمضي فترة من الزمن حتى يسعى بعض الناس به شرا وفسادا، ويحاول الشيطان الكيد له بأنواع المكر والحيل. وعلامة هؤلاء الشياطين أن أكثرهم لا يؤمنون.. بمعنى أن معظم هؤلاء يكونون محرومين من الإيمان الحقيقي، ويريدون أن يخرجوا الآخرين أيضًا منه، ويضيعوا الهدف الذي بعث الله رسوله لتحقيقه.

وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(102)

التفسير:

يقول سبحانه وتعالى أنه عندما يطلق مناديه نداءه يجعل فريق من القوم أصابعهم في آذانهم، ولا يعيرون نداءه آذانا صاغية..رغم أن نداء الله ليس نداء عاديا. عندما ينادي الإنسان من قبل موظف عادي يطير فرحا في كثير من الأحيان، ولكن عندما يناديه ربه يتولى عنه كأن لم يسمعه..مع أنه لو كان في قلب الإنسان نور الإيمان لأوشك على الموت فرحا بهذا النداء. أين العزة الدنيوية والشرف المادي من هذا الشرف والتكريم؟! إن الله بنفسه يذكر عباده، ويرسل إليهم رسوله.. ولكنهم لجهلهم لا يولونه أدنى اهتمام، مع أن في تلبية نداء الله فخرا وأي فخر! فكان على اليهود أن يفرحوا بأن أظهر الله صدق كتبهم ببعث نبي يصدق كتبهم وأنبياءهم، ولكن أنّى ذلك من قوم انحرفوا عن الصراط المستقيم؟!

وقوله تعالى(مصدقا لما معهم) إنما يعني أن بعث هذا النبي قد حقق صدق ما أنبأ الله به في كتب اليهود. وكأن مجيء هذا النبي دليل على صدق أنبيائهم. فالإيمان به ليس إلا تصديقا لكتبهم السماوية وعملا بها، وإذا لم يؤمنوا اعتبروا مكذبين لما أنبأ به رسلهم وكتبهم. فإن محمدا r مصدق لموسى وللتوراة ولأنبياء بني إسرائيل كلهم. ولكن لا يعني (مصدق لما معهم) أن التوراة بوضعها الحالي كلام الله تعالى أو كلام موسى أو كلام عيسى، وأن الإيمان بموسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء الإسرائيليين يغني عن الإيمان بمحمد r.. وإنما يعني أنه حقق ببعثته تلك النبوءات، وأثبت صدق موسى وعيسى وغيرهما من أنبياء بني إسرائيل –عليهم السلام. وهم مخيرون الآن في أن يؤمنوا بمحمد r مصدقين كتبهم..أو يكفروا به مكذبين إياها. ولكن اليهود- كما ذكر فيما بعد- لم يكترثوا لهذه النبوءات ولم يستفيدوا منها، وإنما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم لأنهم لا يؤمنون.

والمراد من (كتاب الله) هنا التوراة، ويعني نبذه وراء ظهورهم أنهم أهانوه بدلا من أن يعظموه. إن إهانة كلام الأنبياء يدمر الإنسان.. فما بالك بتحقير كلام الله تعالى. لقد مزق كسرى بجهله وغبائه الكتاب الذي أرسله إليه النبي r يدعوه فيه إلى الإسلام؛ فلما بلغ ذلك النبي قال:”مزق الله ملكه “(البخاري كتاب العلم).وبعد زمن قصير جدا دمر الله ملكه تدميرا. فإذا كان تمزيق كتاب للرسول يستوجب هذا العقاب..فما بالك بمن ينبذ كتاب الله وراء ظهره ويحقره تحقيرا؟

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لمنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْْسَ ما شَرَوْا به أنْفُسَهُم لَوْ كانوا يَعْلَمون( 103)

شرح الكلمات:

 تتلو– تلا يتلو تلوا: تبعه. وذلك يكون بالجسم تارة، وتارة بالاقتداء في الحكم. أما بالجسم فقوله تعالى (والقمر إذا تلاها) (الشمس: 3). وأما في الحكم فقوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته) (البقرة : 122) أي يتبعونه حق اتباعه (تاج العروس).

على– تأتى بمعنى ’في‘ كقوله (إن كنتم على سفر) أي في سفر (مغني اللبيب).

الملك – العظمة والسلطان، واحتواء الشيء والقدرة على الاستعلاء به (اللسان).

السحر – السحر كل ما لطف مأخذه ودق؛ الفساد؛ إخراج الباطل في صورة الحق؛ الخداع؛ التمويه بالذهب أو الفضة. سحره عن كذا: صرفه عنه (الأقرب).

الملكين– الملك معروف، وقد يطلق مجازا على الرجل الصالح. وفي قراءة “الملكين”.. (تفسير البحر المحيط تحت هذه الآية). وحيث إن القراءة الثانية توضح المعنى الصحيح تبين أنه ليس المراد هنا الملكين وإنما رجلان صالحان.

وقد أطلق القرآن ” الملك ” على الصالح التقي حيث ورد في شأن يوسف عليه السلام: (إن هذا إلا ملك كريم) (يوسف: 32) … أي رجل صالح ذو محاسن.

فالمراد من الملكين هنا رجلان صالحان كأنهما ملكان. ويؤيد رأينا ما ذكر من المهمات التي قام بها هذان الملكان؛ فقد ذكر أنهما كانا يلتقيان بالناس ويعلمانهم. ويصرح القرآن أن الملائكة لا يأتون كالناس بحيث يعيشون بينهم ويعلمونهم، وإنما يرسل لهداية الناس أناس أمثالهم. يقول الله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا. قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنـزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) (الإسراء: 95-96).

وصرح الله عز وجل: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم. فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (الأنبياء: 8).

كل هذه الآيات تدل صراحة على أن الله تعالى لم يرسل لهداية الناس وإرشادهم أو لاختبارهم رسلا ملائكة. وإنما يبعث رسلا أناسا، وأن الملائكة إنما تنـزل على أنبياء الله تعالى وأوليائه فقط ..أما غيرهم فقد يرونهم كشفا. وحيث إن الآية تصرح أن هذين الملكين كانا يتعايشان مع الناس ويعلمانهم.. فلا بد أن نعتبرهما رجلين صالحين، وقد أطلق عليهما اسم ملكين لصلاحهما وتقواهما، وكانا يفعلان كل ما يأمرهما به الله تعالى.

فالذين يظنون أن هاروت وماروت كانا ملكين يعلمان الناس السحر في بابل ويختبرانهم في إيمانهم.. غير مطّلعين على معارف القرآن. فما دام الملائكة لا يعيشون على الأرض فكيف تبعث إلى الناس؟

إنه من المستحيل تماما أن تأتي الملائكة بدلا من الناس لهداية الخلق. تصفحوا التاريخ تجدوا أن الرجال هم الذين بعثوا أنبياء.

وليس ثمة امرأة أو أي مخلوق آخر غير الإنسان بعث إلى الناس. فليس هناك إلا طريقان اثنان: إما أن نقول بأن هاروت وماروت صفتان أطلقتا على رجلين صالحين كأنهما ملكين.. كما سمي يوسف مَلكًا، أو إذا كان ملكين حقيقين فإنهما نزل على نبِيَّيْن ولم يبعثا للناس عامة.. لأن الملائكة لا تتنـزل هكذا. وإنما تتنـزل على رجال مطمئنين كما جاء في القرآن (الإسراء: 96). والمطمئنون هم الصلحاء والأطهار المقربون، المبرءون من كل نوع من المعاصي والرذائل، والحائزون على البركات الإلهية والأفضال السماوية. وقد ورد هذا المعنى في قوله تعالى (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية. فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) (الفجر). فالمطمئنون هم أصحاب النفوس المطمئنة، وليس الذين يعيشون على الأرض في رفاهية، إنهم يمشون في هدوء لا يتشاجرون ولا يتخاصمون. والحقيقة أن هؤلاء المطمئنين هم الذين تتنـزل عليهم الملائكة، ولم يحدث أنهم نزلوا على الكفار وبلغوهم رسالة الله تعالى.

هاروت – من هرت الثوب: مزقه (المنجد). هرت الشيء: شقه (المعجم الوسيط).

فهاروت كثير التمزيق والشق. ماروت – من مرت أي كسر. فماروت كثير الكسر.[1]

فتنة -الفتنة اختبار المرء ليتبين خيره من شره، وطيبه من خيره (المنجد).

[1] لم نعثر على هذا المعنى في القواميس المتوفرة لدينا، إلا أنه ورد هناك: مرت الشيء: ملسه. وملس الشيء: انتزعه واستأصله؛ ملس الرجال بلسانه: داهنه؛ ملس الإبل: ساقها بشدة؛ ملس الأرض: سوّاها (المنجد). فكان هاروت من يمهد بكسر شوكة العدو واستئصاله.
Share via
تابعونا على الفايس بوك