زكرياء وسر الدعاء في الخفاء
  • لماذا افتتحت سورة مريم بالحديث عن زكريا؟
  • ولأي سبب دعا زكريا عليه السلام؟
  • وما سبب دعائه خفية؟

___

الدعاء نوعان: أولهما الدعاء الذي يُشرك فيه المرءُ الآخرين أيضًا، فيردد لذلك كلماتِ الدعاء بصوت عال؛ والثاني الدعاء الذي يقوم به الإنسان على انفراد، ولا يريد أن يُشرك فيه غيره، فيدعو بصوت خافت حتى لا يسمعه غيره. فيكون مثلاً في حالة اضطرار شديد، فيخاف أن يسمع الناس صوته لو تضرع في الدعاء أمامهم، فيدعو على الانفراد حتى لا يطّلع أحد على اضطرابه وابتهاله. فالله تعالى يخبرنا هنا أن زكريا نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا .. أي دعاه بصوت خافت، فلم يحب أن يُشرك غيره في دعائه.

لِمَ لم يرد زكريا أن يُشرك غيرَه في دعائه؟ نعرف سبب ذلك مما ورد في سورة آل عمران، كما نجد هنا أيضًا الإشارة إلى ذلك السبب، وهو أن المرء عندما يعلم، من خلال بعض الإشارات الإلهية، أن الفيض الرباني سينتقل من شعبه إلى غيره فلا بد أن يتألم لهذا الخبر وإن كان هو لا يزال مهبطًا لأنوار الله تعالى. ذلك لأنه لا يريد أن ينتهي هذا الفيض وهذا النور على يده، بل يتمنى أن تتأخر عنه هذه النهاية قليلاً، فلا يكون هو السراج الأخير الذي لا ينـزل بعده على قومه نور من السماء.

يتضح لنا من سورة آل عمران أنه برؤية الحالة الروحانية العظيمة لمريم عليها السلام تنبه زكريا للخطر القادم، وأدرك أن ذلك الشخص الموعود لبني إسرائيل ربما سيولد من بطنها. فمن ناحية تلقى من الله تعالى إشارات بكفالة مريم ورعايتها. كما أخذت مريم نفسها تأتي، رغم سنّها الصغيرة، بأمور تدل على صلاحها وتقواها وحب الله لها. كما أن الله تعالى بدأ يُظهر لها آيات، وجعَل الناس يعظمّونها لصلاحها وتقواها؛ فكانوا يأتون لها بالهدايا من طعام وثمار وما إلى ذلك. فمن ناحية رأى زكريا أن مريم الصبية زاهدةٌ في الدنيا، وأنها رغم صغر سنها تدرك أن هذه النعم والهدايا إنما هي من عند الله تعالى، ولم تأت إلا نتيجة لفضل الله ومنّته. فبرؤية هذه الأمور والإمارات كلها أدرك زكريا أن ذلك الموعود الذي تنتهي عليه النبوة من بيت بني إسرائيل سيولد من بطن مريم.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان ينظر إلى نبوءات ملاخي والأنبياء الآخرين التي كانت تنذر باقتراب موعد انقطاع النبوة عن بني إسرائيل؛ ففهم زكريا أن فيضان النبوة من بني إسرائيل على وشك الانتهاء. فدعا ربه بالدعاء المذكور في هذه الآيات من القرآن الكريم، وقال: يا رب، كانت لي بُغية لم أزل أربّيها في قلبي منذ زمن طويل، وها إني أبوح لك بسريرة قلبي بعد ما غمرني الحزن العميق بسماع قول مريم هذا.

هذا هو معنى قوله تعالى إذ نادى ربَّه نداءً خفيًّا . إنه بثّ إلى الله تعالى همّه المكنون وعرض عليه أمنيته الغالية التي لم يذكرها لـه من قبل، وذلك بعد أن تألم قلبه وتهيّجَ للدعاء بسماع قول مريم. مما لا شك فيه أن الله تعالى لا تخفى عليه خافية، ولكن الدعاء الذي يخفيه المرء في نفسه ولا يدعو به يُعتبر سرًّا مكنونًا في المصطلح. وبهذا المعنى نفسه يقول سيدنا المسيح الموعود لربه في بيت شعر لـه ما تعريبه: ربِّ أعطِني ما في قلبي، فلساني لا ينطلق خجلاً وحياءً.

والحق أن من الأماني والمآرب ما يكنّه المرء في نفسه لمدة، ويقول ما الداعي لأن أسأله ربي، ولكن بعد حين يقع حدثٌ يضطر بسببه للبوح برغبته المكنونة أمام ربه . فقوله تعالى نداء خفيًّا يشير إلى هذا الأمر نفسه حيث قال زكريا يا رب كانت لي أمنيّة لم أزل أكتمها في نفسي من زمان، ولكني لم أعد الآن قادرًا على كتمانها بعد سماع قول مريم هذا، وهي أن ترزقني ابنًا.

قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (مريم 5)

 شرح الكلمات:

وَهَنَ: الوهنُ: ضَعفٌ مِن حيث الخَلق والخُلق (المفردات).

التفسير:

إن العظام في الكبر تصبح رِخوةً هشّةً قابلة للانكسار بسرعة، ومن أجل ذلك نجد أن عظم الشباب يُجبَر بسرعة، ولكن عظم الشيوخ لا يقبل الجبر بسهولة. فقول زكريا ربِّ إني وهن العظم مني يعني أن عظامه قد ضعفت، فلا يقدر الآن على الصبر والاحتمال لشدة الضعف.

ثم قال واشتعلَ الرأسُ شيبًا .. ذلك لأن شَعر المرء لا يصاب بالبياض دفعة واحدة، بل عندما يفقد الشعر سواده يميل إلى الاصفرار، ثم إلى البياض، بيد أن ذلك البياض يكون خفيفًا غير بارز. أما إذا أصبح الإنسان شيخًا هرمًا اشتد بياض شعره جدًّا. وعن هذه الحالة نفسها عبّر زكريا بقوله واشتعل الرأس شيبًا .

أما قوله ولم أكُنْ بدعائك رَبِّ شقيًّا فلفظ بدعائك يمكن أن يفسر كالآتي: «بدعائي إياك»، والمراد أني لم أر الشقاوة والفشل قط بسبب دعائي إياك، أو بسبب الأدعية التي دعوتك بها.

وبالنظر إلى أن زكريا نبيّ فيمكن تفسير لفظ بدعائك بطريق آخر، وهو «بدعائك إياي».. أي لأنك، يا ربِّ، دعوتَني أي خصصتَني بنعمتك وجعلتَني من أنبيائك المقربين الذين تكلّمهم، فلم أر الشقاوة في حياتي، ولم أفشل في مقصدي قط، بل كان النجاح حليفي في جميع مقاصدي دائمًا أبدًا. ذلك أن الشقاوة ضدُّ السعادة، والمراد من السعادة أن تكون نصرة الله حليفةً للإنسان يحرز بها الخير المنشود.

فلا شك أنه كان يعرف، بناء على النبوءات السابقة، أن نور النبوة على وشك أن يُنـزع من بني إسرائيل، وأن بعثة النبي الذي ستنتهي به النبوة فيهم موشكة، ولكنه فكر أنه قد يكون هناك سبيل لنجاة قومه من الهلاك والدمار، فدعا الله أن يهب لـه ابنًا خاصًّا – وهو يحيى – ليجهز قومه للإيمان بذلك النبي الموعود لينصروه ويعزّروه كي ينجوا من العذاب الذي ينتظرهم، فيـبقى فيهم نـور الله، أي النبوة، لمدة أطــول.

وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّ* (مريم 5-6)

شرح الكلمات:

مَواليَ: جمعُ مولى، وهو الصاحب؛ وابن العم (الأقرب). والمراد من الموالي هنا أبناء العم أي الأقارب الشركاء في الميراث، والمعنى أني أخاف من معاملة الشركاء من بعدي.

عاقرًا: العاقر مَن لا يولد لـه، ويُستعمل للذكر والأنثى. وأصل العقر الجرح، يقال عقَر النخلةَ: قطَع رأسَها كلَّه مع الجُمّار فيبِستْ (الأقرب). ولأن المرأة أو الرجل الذي لا يولد لـه يجرح أُسرته ويقطع نسلها، فيسمى عاقرًا.

وليًّا: الوليّ: المحبُّ والصديق؛ النصيرُ. قال ابن فارس: وكلُّ مَن وَلِيَ أمرَ أحدٍ فهو وليُّه. وقد يُطلَق الوليّ على حافِظِ النسبِ (الأقرب).

وقال صاحب المفردات: قوله تعالى هَبْ لي مِن لدنك وليًّا أي ابنًا يكون من أوليائك.

التفسير:

لقد عبّر زكريا في دعائه هذا عن ضرورته الحقّة. إنه لم يكن من أهل المال والثراء، إنما كان نبيًّا، فما كان يخاف بعده على مال ولا ثروة، بل كان يخاف على تعليمه. لقد كان من عائلة يعمل أفرادها كأحبار، حيث كان أقاربه أيضًا أحبارًا في معبد سليمان في بيت المقدس وغيره من المعابد (لوقا 1: 5). فقال لربه إن هؤلاء الأقارب قد صاروا متكالبين على الدنيا بحيث لا يحركون ساكنًا لإنقاذ دينهم اليهودية. يبدو أن المناصب الدينية عند اليهود حينذاك أصبحت كالإرث الذي ينتقل من الأب إلى الابن، كما حصل بالمسلمين، فإذا مات واحد من أولياء الله تعالى جعلوا ابنه مكانه مهما كان فاسدًا وغافلاً عن الدين، وإذا لم يكن لـه ابن فأخاه. فكانت حالتهم كحالة المتصوفة المسلمين اليوم، الذين يُلقَّبون بالأولياء، ولكنهم، من الناحية العملية، بعيدون عن الدين بعد الأرض من السماء.

كان سيدنا المسيح الموعود يحكي قصة أحد من هؤلاء المتصوفة وكان اسمه «سيد پير». ذات مرة خرج «سيد پير» على صهوة حصان لصيد الغزلان. مع العلم أن الصيد ليس حرامًا كما يظن البعض، لأن النبي كان يأمر بالصيد لـه وإن لم يقم هو بنفسه بالصيد. فقد ورد في الحديث أن النبي دعا سعد بن أبي وقاص، وقال لـه انظُرْ هناك ظبي فارمِه بالسهم. فلما أراد سعد تصويب سهمه إلى الغزال وضع النبي خده المبارك على كتفه، وقال: رب اجعل سهمه لا يطيش عن الهدف. فالصيد ليس محظورًا. المهم أن «سيد پير» ركض بحصانه وراء أحد الغزلان، وكان الغزال قويًّا، فلم يزل يجري ويجري حتى قطع أميالاً عديدة. ولم تكن البنادق إذّاك عند الناس، وإنما كانوا يصيدون بالسهام والرماح. فلم يزل «سيد پير» يركض وراء الغزال حتى ألقاه جريحًا. فنـزل عن حصانه وهو غضبان، فلما وضَع السكين على الغزال ليذبحه فعوضًا عن أن يكبر أخذ يقول من فرط الغيظ: أيها الخنـزير، لقد قتلتَ حصاني، لقد أرهقتَ حصاني. فكان غاضبًا على الغزال بسبب هروبه، مع أن كل خائف على حياته لا بد أن يهرب، إنسانًا كان أو حيوانًا.

على أية حال، فكان اليهود مصابين بمرض البُعد عن الدين مثل ما حصل اليوم بالمسلمين، فإذا كان فيهم رجل صالح تبوأ أولاده مكانه مهما كانوا فاسدين وغافلين عن الدين. وإن زكريا يشير في دعائه إلى هذا الأمر نفسه ويقول لربه وإني خفتُ المواليَ من ورائي .. أي أنني يا رب، أخاف أقاربي بعدي لأني أراهم غير مبالين بالدين.

ثم قال وكانت امرأتي عاقرًا .. أي أن زوجتي أصبحت غير قادرة على أن تلد. لو كانت شابة، أو لو كنتُ أنا شابًّا، لكانت هناك إمكانية لأن يكون عندنا أولاد. ذلك لأن المرأة الشابة يمكن أن تلد من رجل كبير السن، كما قد تلد المرأة التي قاربت سن الكبر إذا تزوجت من شاب. فيقول زكريا لربه إن الأسباب المادية لولادة الابن غير متوفرة فيّ وفي زوجتي. فهَبْ لي من لدنك وليًّا .. أي أعطِني يا رب، بمحض فضلك ولدًا يحفظ أفراد أسرتنا من الضياع ويثبّتهم على الدين. يرِثني ويرِث مِن آل يعقوب .. أي يرِث ابني هذا مني الحماسَ لخدمة القوم ونصرة الدين، كما يأخذ أيضًا إرثَ المحاسن والصالحات كلها التي وُجدت في بني إسرائيل منذ موسى وهارون وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء. واجعلْه رَبِّ رضيًّا .. أي اجعَلْه من المقبولين في حضرتك في الآخرة يا ربِّ.

فيا لـه من دعاء رائع وجامع! ولو أننا بيّنّاه بكلماتنا فهو كالآتي: ربِّ، قد اضمحلّت قُواي من الداخل، كما قد تشوّهَ منظري أيضًا. بيد أني معتاد على مِننك وألطافك التي لا نهاية لها، فلم أر فشلاً ولا شقاء طيلة حياتي، فصرت بسبب عنايتك أتدلل وأتفاخر بك. إن أقاربي فاسدون ومع ذلك يريدون أن يتبوءوا منصبي الروحاني. أما زوجتي فغير قادرة على أن تلد. ومع كل هذا جئتك للسؤال. وما أريده منك هو أن تهَب لي ولدًا، يكون وليًّا لي وشبيهًا بي تمامًا. ولدًا يحيا بعدي، ويحمي أسرتي. ولدًا يتخلق بأخلاقي وأخلاق آل يعقوب.. فلا يخلّد اسمي فقط بل اسم أجداده. ثم لا يكون مقبولاً في الناس فحسب، بل يكون أيضًا مرضيًّا عندك يا رب.

سبحان الله! ما ألطَفَه مِن دعاء! يقول: لقد فسد جسدي من الداخل، كما تشوه منظري من الخارج. أما زوجتي فأصبحت بلا جدوى. وأما أقاربي فقد عمّهم الفساد. ومع ذلك أسألك أن تعطيني ابنًا. ولا أسألك، رغم شيخوختي، ابنًا عاديًا، بل ابنًا يتحلى بما فيّ وفي أجداده من مزايا ومحاسن، ولا يكون مرضيًّا عندي فحسب، بل يكون مقبولاً ومحبوبًا لديك أيضًا. هذا هو الدعاء الذي دعا به زكريا .

فلا شك أنه كان يعرف، بناء على النبوءات السابقة، أن نور النبوة على وشك أن يُنـزع من بني إسرائيل، وأن بعثة النبي الذي ستنتهي به النبوة فيهم موشكة، ولكنه فكر أنه قد يكون هناك سبيل لنجاة قومه من الهلاك والدمار، فدعا الله أن يهب لـه ابنًا خاصًّا – وهو يحيى – ليجهز قومه للإيمان بذلك النبي الموعود لينصروه ويعزّروه كي ينجوا من العذاب الذي ينتظرهم، فيـبقى فيهم نـور الله، أي النبوة، لمدة أطول.

Share via
تابعونا على الفايس بوك