قراءة في كتاب "العرفان الإلهي"

قراءة في كتاب “العرفان الإلهي”

ضحى أحمد

ضحى أحمد

  • ما الخط الذي رسمه سيدنا المصلح الموعود للسالكين في طريق العرفان الإلهي

___

الجزء الثاني والأخير

كثيرًا ما يشغل موضوع العرفان الإلهي قلوبَ السَّالكين، رغبة في فهمه والوصول إليه، بوصفه هدف الحياة الأسمى، وغاية كل قلب عاشق لله تعالى، وكيف لا وهو الهدف والغاية من خلقنا، يقول تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (1). وإن معرفة الخالق شرط ضروري للتصبغ بصبغته والانتقاش بنقشه عز وجل، وهذا هو جوهر العبادة.

وفي نهاية الحلقة الأولى من هذا الموضوع عرضنا للعوائق التي تحول دون فوز الإنسان بالعرفان الإلهي. وكما هو الحال مع كل غاية سامية، ثمة العديد من العقبات التي يلقيها الشيطان للحيلولة دون بلوغها، كذلك العرفان الإلهي دونه عوائق يلقيها الشيطان، وعلينا معرفتها ليمكننا اجتيازها، وذلك من باب أن معرفة الدواء لا تتأتى إلا بتشخيص الداء.

والمصلح الموعود يبين في سياق كتابه «العرفان الإلهي» الطريقة المثلى للتحرر من ربقة الآثام، بوصفها ثقلا يحول دون تحليق المرء في سماء العرفان. ويبدأ المؤلف بالتوصية بأن يحرص السالك على تصفية حساب أعماله السابق. حتى لا يختلط الطيب بالفاسد. والطريق الصحيح لذلك هو التوبة وهي الشرط الأول للفوز بالعرفان الإلهي. التوبة من هذا المنطلق إذن تبدو مثل إعادة التهيئة، أو ما نسميه في عالم التقنية بإعادة ضبط المصنع factory reset. ولكن حتى التوبة تقتضي شروطا لا تتحقق بدونها، فعلينا استعراضها.

مقتضيات التوبة

للتوبة أمور تقتضيها، ولا يُدعى المرء تائبا عن الذنب ما لم يحقق في نفسه تلك الشروط، والتي تبلغ في عدتها سبعة شروط، وهي:

أولا: لابد للإنسان من ذِكر ذنوبه السَّابقة والندم عليها.

ثانيا: أن يسعى قدر المستطاع لتعويض ما فرَّط فيه سلفا من الفرائض.

ثالثا: أن يسعى قدر المستطاع لإصلاح ما أفسده سلفا، وأن يرد المظالم إلى أهلها، كرد المسروقات إن كان قد اقترف جريمة السرقة مثلا.

رابعا: إذا كان قد آذى أحدًا فعليه أن يكف أذاه ,يستعفي ممن كانوا يتأذون منه، أي يسألهم العفو، وفي الوقت نفسه ينبغي على التائب أيضا أن يستر نفسَه، ولا يكشف للناس ذنوبه التي قد سترها الله تعالى.

خامسا: أن يحسن المرء قدر المستطاع إلى الذين ألحق بهم ضررًا، فإذا لم يستطع ذلك فليَدْعُ لهم بخير على الأقل.

سادسا: أن يتعهد التائب بعدم ارتكاب الإثم في المستقبل، ويعقد العزم على عدم ارتكاب مثل ذلك الإثم بعد الآن.

سابعا: أن يرغّب الإنسانُ نفسَه في فعل الخيرات، ويُعِدَّها للعمل بالحسنات. فلو حاول الإنسان بعد تصفية الحساب والتوبة أن يكون عارفًا بالله لتكللت جهوده بالنجاح. ولا بد من تدارك النقائص والفساد السابق حتى لا يتعدى تأثيرها إلى أعماله في المستقبل.

فإن الأمر الأول والهام هو إحراز التقوى التي تؤدي بالإنسان إلى العرفان الإلهي وأن يطهر المرء أفكاره. وليس المراد من تطهير الإنسان لأفكاره ألا تنتابه أفكار سيئة مطلقًا، بل هو أمرٌ مستحيل إنما المراد به عدم الاستسلام والانقياد لها، بل ومجابهتها وطردها.

ويبدأ المؤلف بالتوصية بأن يحرص السالك على تصفية حساب أعماله السابق. حتى لا يختلط الطيب بالفاسد. والطريق الصحيح لذلك هو التوبة وهي الشرط الأول للفوز بالعرفان الإلهي. التوبة من هذا المنطلق إذن تبدو مثل إعادة التهيئة، أو ما نسميه في عالم التقنية بإعادة ضبط المصنع factory reset.

إحدى عشرة خطوة لإصلاح الأعمال وتزكية النفس

التخلية تتبعها التحلية، فبعد أن يُخلي المرء إناء نفسه من الأوساخ والأدران، ويطهره بمادة اليقين والإيمان، يأتي دور التحلية، فيملأ الإنسان إناءه بماء العرفان، ولتحقيق ذلك الملء المبارك ثمة خطوات على المرء أن يخطوها في ذلك السبيل:

الخطوة الأولى: أن يستمر الإنسان في مجابهة الأفكار السيئة والفاسدة وطردها من قلبه.

الخطوة الثانية: التزام التقوى، فعليكم اتباع الطرق المشروعة التي وضعت لكل عمل من الأعمال، واتقوا الله لتكونوا فائزين وناجحين.

والوسيلة الصحيحة لنيل العرفان الإلهي هي تزكية النفس من خلال اجتناب السيئات وفعل الحسنات،  والالتزام بأوامر الله تعالى ونواهيه، فإن فيها يكمن سر النجاح.

الخطوة الثالثة: أن يتذكر الإنسان الأوامر والنواهي ويرددها مرة بعد أخرى. لأن ما كثر ذكره وترداده رسخ في القلب ويسعى تجنبه.

والتقدم شيئا فشيئا بعمل يسير والمثابرة عليه يؤدي إلى إحراز النجاح.

الخطوة الرابعة في سبيل تزكية النفس هي المداومة على الأعمال الصالحة. يقول الله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتيَكَ الْيَقِينُ (2)، أي اعبد ربك إلى أن يحين موعد فراقك لهذا العالم، أي حتى الموت.

وألا يقطع التائب مداومته عليها فترة وجيزة، ويفهم ذلك النهي من قوله تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا (3)

الخطوة الخامسة: ملازمة النموذج المثالي، فلا بد أن يجد المرء معلّمًا يُفهمّه تلك الأمور. لذلك ورد في القرآن الكريم: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (4)، ولذلك جرت في كل عصر سلسلة المجددين والأولياء والمؤمنين الكاملين، فإنْ انعدم هؤلاء أرسل الله تعالى نبيًا يكون نموذجا وأسوة، وبواسطة تلك الأسوة يمكن للمتأسي معرفة أمور كثيرة خلال دقائق معدودة في حين أنه لو حاول معرفتها بنفسه قد يتطلب الأمر مدة مديدة.

الخطوة السادسة: محاسبة النفس، فهي أمر ضروري.

ومن ضمن إجراءات محاسبة النفس أن يسأل المرء نفسه عن الغاية المبتغاة من هذا العمل أو ذاك. وبهذا سيغير نيتَه وإرادتَه ويجعلها لله فحسب أو لنفع بني نوع الإنسان، ويستبدل بالسيئة الحسنة، وأنه يستخدم لإتمام عمله وسائل سليمة،وأن يسأل المرء نفسه عن التأثير الذي تركه هذا العمل في قلبه، تجنبًا لتولد العُجب والتكبر فيهلك، وأن يزداد تذلّلا وتواضعًا لله تعالى وهذا أثر العمل الصالح وكسب الحسنات المتعلقة بالله تعالى و بنفسه و بسائر الخلق. والحرص على الاطلاع والعمل بجميع الأوامر وترك النواهي الواردة في القرآن الكريم والتدبر في كل أمر ونهي أثناء تلاوته ، وبذلك يبني  الصرح الروحاني الذي يسعى إليه. ويؤكد الكاتب أنه لا بد لتجنب السيئات من معرفتها بعدة طرق مثل قياس الآثام على غيره فيكرهها ويشمئز منها، وبهذه الطريقة سوف يعثر على بعض الأخطاء الصغيرة أيضًا.

الخطوة السابعة: تعويد الإنسان نفسَه على التفكير في الأوامر والنواهي التي عَلِمها. وطرد الأفكار السيئة والتدبر في بركات الأعمال الصالحة وعواقب الآثام.

الخطوة الثامنة: التحلي بصفة التلقي والقبول. وأن ينتبه إلى ما نُبّه إليه ثم يسعى للعمل به.

الخطوة التاسعة: لو نُبّه على خطأ ارتكبَه فليسمعه بتروٍّ وأناة، دون تذمر أو ضجر، وأن يسعى جاهدا لإصلاحه.

الخطوة العاشرة: ألا يقنط أبدًا بل يجب أن يتوكل على الله. وجدير بالذكر أن المؤمنين يحرزون النجاح بالتوكل على الله والتحلي بالثبات والقوة بالعزيمة نفسها.

الخطوة الحادية عشرة: ينبغي على المرء ألا يستصغر أي ذنب مهما كان تافها في نظر الآخرين، والكاتب في ذلك يلمح إلى أبيات الشاعر العباسي ابن المعتز:

خَلِّ الذُنوبَ صَغيرَها

وَكَبيرَها فَهوَ التُقى

.

كُن فَوقَ ماشٍ فَوقَ

أَرضِ الشَوكِ يَحذُرُ ما يَرى

.

 لا تَحقِرَنَّ صَغيرَةً  

إِنَّ الجِبالَ مِنَ الحَصى

 

هذا الكتاب

«العرفان الإلهي» ليس مجرد كتاب تنظير لحقيقة العرفان وبيان مفهومه وشروط تحقيقه، إنما هو بلورة خاصة لتجربة روحانية شخصية، ودليل واضح لمن أراد أن يخوض تلك التجربة بنفسه.

الهوامش

  1. (الذاريات: 57)
  2. (الحجر: 100)
  3. (النحل: 93).
  4. (التوبة: 119)
Share via
تابعونا على الفايس بوك