كنز سيدنا بِلال  بن رباح  المخبوء

كنز سيدنا بِلال  بن رباح  المخبوء

عائشة عودة

  • أي مكانة تبوَّأها بلال عند حبيبه خاتم النبيين ؟
  • كيف كان بلال معجزة حقيقية متجسدة؟

___

من يقرأ التاريخ بتعمق، وبالأخص سير عظمائه، لا بد أن تستوقفه أولا سير من يُضرب بهم المثل في القيم والأخلاق الإنسانية، تليها سير أصحاب الإنجازات الخالدة، ولا نجد من بين الشخصيات التاريخية صاحب إنجاز فريد إلا وينبني إنجازه على أساس قيمي وأخلاقي.

وبتصفح كتب السيرة النبوية، ومن ثم التعرف إلى النفر الأول الذين التحقوا بحضرة خاتم النبيين  ، مؤلفين معه نواة جماعة المؤمنين الأولى، نلاحظ شيئا غريبا يتكرر على مر الأزمان، ومع جماعات المؤمنين كلها عبر العصور، ذلك أن أغلب السابقين إلى نور المبعوث الإلهي لا يكونون من زعماء القوم وكبرائهم، إلا ما شذ وندر، حتى إن هؤلاء السابقين إلى نور المبعوث الإلهي لتزدريهم أعين الناس في أول أمرهم. وقد حكى القرآن عن قوم نوح قولهم:

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (1)..

فما قاله قوم نوح هو لسان حال كل من سار على نهجه المعوج من بعدهم.

ومن بين الصحب الكرام الذين انجذبوا إلى الرسول انجذاب الفراش إلى القنديل، صحابي جليل أحبه الله، وأحبه رسول الله ، إنه سيدنا بلال بن رباح. وهو اسم يحبه أهل الإيمان، وصوت يبلغ منهم القلوب عبر الآذان، ولد مولى وأُخذ إلى مكة وقاسى فيها الرق شطرا من عمره، لكنه طوال مقاساته كان يحمل بين جوانحه كنزا لا يقدر بمال، إننا لأجل ذلك الكنز لا تكاد سيرة حضرته تفارق مخيلتنا يوما!

لقد كان سيدنا حضرة بلال بن رباح واحدا ممن اعتبره قوم نوح وأمثالهم من الأراذل، فلم يكن  من أكابر القوم، بل لم يكن حتى شخصا عاديا حرا، وإنما ابتلي بذل الرق منذ ولادته، ولكنه في أيام الإسلام الأولى أظهر شيئا يسيرا من كنزه المخبوء، حين صدح بكلمة التوحيد (أحدٌ أحد) فصدع بها أصنام الشرك المنتصبة في عقول وقلوب من يزعمون السيادة عليه.

ولله در شاعر الشباب أبي القاسم الشابي حين قال معبرا عن هذه الحال وهذه المشاعر:

النور في قلبي وبين جوانحي

فعلام أخشى السير في الظلماء؟!(2)

 

شيء من مناقبه

لحضرة بلال سجل طويل من حميد الخصال، ومن أبرز ملامح شخصيته الصّبر والثّبات في سبيل الله. وقد روَت زوجتهُ هند عنه بأنّهُ كانَ إذا أخذ مضجعه قال: «اللهم تجاوز عن سيئاتي، واعذرني بعلاتي»(3).

لم يلبث حضرة بلال أن آمن بمجرد تلقي رسالة التوحيد، حتى علم المشركون بإسلامه، فأذاقوه أشد العذاب، وما أن ذاع خبر إسلامه في فجاج مكة حتى صارت الأرض تدور برؤوس زعماء المشركين، فاجتمع عليه حفنة من أهل الكفر فيهم أبو جهل وأمية بن خلف وأذاقوه العذاب الأليم ليقلع عن شهادة ألا إله إلا الله، فأبى، فضربوه، وقيدوه بالحبال، وجروه من قدميه والحصى يأكل من لحمه وعظمه، وألقوه في العراء تحت لهيب شمس الظهيرة في أيام القيظ، ليعود إلى الكفر، فأبى، قائلا كلمته الخالدة والتي لا يزال صداها الرنان يتردد حتى الآن، أحدٌ أحد.

ذكر ابن الأثير في كتاب «أسد الغابة» أن بلال بن رباح كان من السابقين إلى الإسلام، وكان ممن يعذب في الله عز وجل فيصبر على العذاب، وكان أبو جهل يَبْطَحُه على وجهه في الشمس، ويضع الرحا عليه حتى تصْهَره الشمس، ويقول: أكفُر برب محمد، فيقول: أَحَد، أَحَد؛ فاجتاز به ورقة بن نوفل، وهو يعذب ويقول: أَحَد، أَحَد؛ فقال: يا بلال، أَحَد، أَحَد، والله لئن مت على هذا لأتخذن قبرك حنانًا.(4)

لقد ظل هذا العـذاب الوحشي ينصبُّ على رأس بلال كل يوم حتى رقت له من هول عذابه بعض قلوب جلاديه، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة لا غير، تحفظ لهم كبرياءهم ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم وإصراره، ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة التي يستطيع أن يلقيها بلال من وراء قلبه ويشتري بها حياته ونفسه دون أن يفقد إيمانه، حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة رفض بلال رضي الله عنه أن يقولها! لقد أعطى بلال درساً بليغاً لأهل زمانه وكل زمان، درساً فحواه أن حرية الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهباً ولا بملئها عذاباً.

لقد كان سيدنا حضرة بلال بن رباح واحدا ممن اعتبره قوم نوح وأمثالهم من الأراذل، فلم يكن  من أكابر القوم، بل لم يكن حتى شخصا عاديا حرا، وإنما ابتلي بذل الرق منذ ولادته، ولكنه في أيام الإسلام الأولى أظهر شيئا يسيرا من كنزه المخبوء، حين صدح بكلمة التوحيد (أحدٌ أحد) فصدع بها أصنام الشرك المنتصبة في عقول وقلوب من يزعمون السيادة عليه.

كنز ينكشف مرات ومرات!

وها هو كنز بلال يظهر للعيان مرة بعد مرة، فإن كان ذلك الكنز ظهر في بواكير الإسلام في مكة راجحا بكفة أثرياء مكة وزعمائها الأقوياء حين صدح حضرته بكلمة التوحيد صاكا بها أذن المشرك البليد، فقد ظهر ثانية في المدينة المنورة يوم بدر وبصورة أوضح، وكان أُمَيّةُ بن خلف الجمحيّ أيضا ممن يعذِّبون بلالًا، ويُوالون عليه العذاب والمكروه؛ فكان مِنْ قدَر الله تعالى أنْ قَتله بلالٌ يوم بدر على حسب ما أتى من ذلك في السّير، فأنشد فيه أبو بكر الصّديق رضي الله عنه أبياتًا،‏ منها قوله:

هَنيئاً زادَكَ الرَحمنُ خَيراً

فَقَد أَدرَكتَ ثَأرَكَ يا بِلالُ

.

فَلا نِكساً وُجِدتَ وَلا جَباناً

غَداةَ تَنوشُكَ الأَسَلُ الطِوالُ

.

إِذا هابَ الرِجالُ ثَبَتَّ حَتّى

تُخالِطَ أَنتَ ما هابَ الرِجالُ

.

عَلى مَضَضِ الكُلومِ بِمَشرَفِيٍّ

جَلا أَطرافَ مَتنَيهِ الصِقالُ

ثم ينكشف لنا كنز بلال مرة ثالثة، كيف نعرف كيف أكرم النبي  يوم فتح مكة، ذلك العبد الحبشي الذي كان كبار زعماء مكة يتراقصون على صدره! وكيف انتقم له من الكفار! فقد سلَّم إلى بلال لواءً وأعلن لأهل مكة أن إذا كانوا يؤثرون السلامة من الهلاك فليأتوا تحت لواء بلال، فكأن بلالا الآن أصبح الطريق الوحيد الذي يجب على زعماء مكة أن يسلكوه طلبا للعفو والنجاة، فعليهم أن يخضعوا لسيادة بلال الذي بالأمس كان عبدا، وهم كانوا أسيادًا.(6)

 

مكانته عند حبيبه

حظيَ بلال بمنزلة رفيعة عند الرسول ،

فعَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ: «يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ قَالَ مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ»(7)

وكان بلال أوّل من أذَّن للصلاة، وهو مؤذِّن الرسول ؛ واتخذه النبي مؤذنا لمّا شُرّع الأذان، فكان بلال أول من أذّن، وهو أحد ثلاثة مؤذّنين للنبي مع أبي محذورة الجمحي وعمرو بن أمّ مكتوم، فكان إذا غاب بلال أذّن أبو محذورة، وإذا غاب أبو محذورة أذّن عمرو بن أم مكتوم. ويوم فتح مكة، أمر النبي بلالاً بأن يعتلي الكعبة، ويؤذّن فوقها، ففعل. وعن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله :

«نِعم المرء بلال، هو سيد المؤذّنين، ولا يتبعه إلا مؤذّن، والمؤذّنون أطول النَّاس أعناقًا يوم القيامة.»(8)

ولما توفي النبي ، أبى بلال أن يؤذّن لأحد بعد النّبي ، إلا مرةً واحدة ناشدوه فيها أن يؤذّن، فأذّن حتى بلغ قوله «أشهد أنَّ محمدًا رسول الله»، فأجهش بالبكاء، وما استطاع أن يُتم الأذان، وقد جاء بلال إلى أبي بكر الصديق يسأله أن يأْذَنَ له بالمشاركة في الفتوحات، فأبى أبو بكر، وقال له: «أُنشدك بالله يا بلال، وحرمتي وحقي، فقد كبرت وضعفت، واقترب أجلي»، فأقام معه حتى وفاة أبي بكر، ثمَّ أتى عمر بن الخطاب يستأذنه، فأبى عليه، فأصرَّ بلال، فأَذِن له فخرج إلى الشام.»(9)

معجزة بلال!

روى بلال عن الرسول العديد من الأحاديث فقد أحصى بقي بن مخلد لبلال بن رباح في مسنده 44 حديثًا، وتوفي سنة 20 هـ بدمشق، ودفن عند الباب الصغير، وعمره بضع وستون سنة، ويُروى أنه لما احتضرَ قال: «غدًا نلقى الأحبّة محمدًا وحزبه»، فقالت امرأته: «واويلاه!»، فقال: «وافرحاه!»، وتوفيَ دونَ أنْ يعقِب ولدا يرث كنزه، ولكنه ترك كنزه لخاصة المؤمنين وعامتهم من بعده، لنقتني منه ما نشاء، ثم لا نزداد إلا ترحما عليه وصلاة على سيده وسيدنا النبي الخاتم الذي تبدَّت في بلال إحدى معجزاته، فعجبا بعد كل ذلك لمن يطلب معجزة أتى بها سيدنا خاتم النبيين ولم تكفه معجزة حضرة بلال وإيمانه!

لقد حولت قوته القدسية تراب سيدنا بلال وغيره من الصحابة الكرام تبرا، الحقيقة التي أشار إليها سيدنا المسيح الموعود (عليه الصلاة والسلام) في معرض مديحته النبوية وذكر آثاره القدسية، فقال:

جاءُوكَ مَنهُوبينَ كَالعُريان

فستَرتَهم بِمَلاحفِ الإيمانِ

.

صادفتَهم قومًا كَرَوثٍ ذِلّةً

فجعلتَهم كَسبيكةِ الْعِقْيـانِ

.

وحتى انثَنى بَرٌّ كَمِثلِ حديقةٍ

عَذْبِ الْمَوارِدِ مُثمِرِ الأَغصانِ

.

يَا رَبِّ صَلِّ على نَبِيِّك دائِمًا

في هذه الدنيا وبَعْثٍ ثانِ(10)

الهوامش:

  1. (هود: 28)
  2. أبو القاسم الشابي، قصيدة «نشيد الجبار، أو هكذا غنى برومثيوس»، ديوان أغاني الحياة.
  3. المعجم الكبير، باب الباء، باب من اسمه بلال، بلال بن رباح مؤذن رسول الله ، بعض الروايات المتفرقة عن بلال
  4. ابن الأثير، أسد الغابة
  5. الاستيعاب في معرفة الأصحاب
  6. حضرة مرزا مسرور أحمد،  سيدنا بلال الحبشي رضي الله عنه وأجمل انتقام عرفه التاريخ!، خطبة الجمعة بتاريخ 2020-09-18
  7. (صحيح البخاري، كتاب الجمعة)
  8. المستدرك على الصحيحين – ج 3 – الحديث رقم 5310، ص 348
  9. ابن عساكر، تاريخ دمشق
  10. حضرة مرزا غلام أحمد القادياني، قصيدة «يا عين فيض الله والعرفان»، من كتاب «مرآة كمالات الإسلام».
Share via
تابعونا على الفايس بوك