الطب الإسلامي في الأندلس

الطب الإسلامي في الأندلس

أحمد وائل

كاتب
  • من هو محمد بن أسلم الغافقي؟
  • في أي تخصصات الطب برع وتفوق؟

___

الطب الإسلامي في الأندلس بَيْنَ المَوْسُوعِيَّةِ وَالتَّخَصُّصِيَّة الغَافِقِيُّ، وَ”المُرْشِدُ فِي الكَحْلِ» أنْمُوذَجًا

 

تقديم لا بد منه

لكل أمة إسهامها الحضاري، وذلك في شتى مجالات المعرفة عمومًا، ومنها الطب على وجه أخص، وتزداد قناعتنا بهذا القول إذا ما عرفنا أن شعوب الأرض كما خصها الله تعالى ألسنة ولغات، فقد خصها كذلك بأمراض وعلاجات، فمثلا، لم يكن العرب يعرفون مرض الجدري قبل أن يحمله إليهم الأحباش، ولم يكن سكان الأمريكتين الأصليون يعرفون الإنفلونزا قبل أن يحمل فيروسها إليهم المحتلون الأسبان، لتفتك الإنفلونزا الإسبانية بأصحاب الأرض أكثر مما فتكت بهم البنادق الأسبانية. ونظرا إلى خبرة كل شعب بطائفة من الأمراض، كان من الطبيعي بحسب السنة الكونية أن يهتدوا إلى علاجات وأدوية تصلح لتلك الأمراض.

وبناء على ما ذكرناه لن يكون من أهداف هذا المقال إثبات تفوق دور شعب من الشعوب في مجال الطب مقابل تهميش دور غيره من سائر شعوب الأرض، إنما الهدف هو إلقاء الضوء على الإسهام الحضاري لشعب أو أمة ما، وتزداد أهمية ذلك الضوء في وقت تُلقى فيه على ذلك الشعب ظلال كثيفة بغية تهميش حضارته أو حتى محوها من سجل التاريخ.

العلوم الإنسانية منذ البدء

في تاريخ العلم بدأت سلسلة العلوم الإنسانية دونما تمييز بين مجمل المعارف والعلوم، فكان من المعتاد بل والطبيعي تماما أن نجد طبيبا يتحدث في الفلك والكيمياء والأحياء، بل وينظم الشعر أيضا، فكان المُشْتَغِلُ بهذا المحتوى ككل يوصف بالحكمة، ويقال له تارة كاهن، وتارة حكيم، وثالثة فيلسوف.(1) فلم يكن التخصص في فرع واحد من فروع المعرفة قد اتخذ مظهره المعهود في هذا العصر، بحيث صرنا نرى تخصصا في مجال الطب أو الأدب أو الفلك أو غير ذلك من فروع المعرفة، لا بل وأكثر من ذلك اتخذ العلم مظهرا أكثر تخصصا، فصار من المتخصصين في الطب بعامة، المتخصصون في طب الأعصاب، أو طب العيون، أو طب الأوعية الدموية بخاصة، فيما بات يُعرف الآن في الأوساط الأكاديمية بالتخصص الدقيق. فحتى القرن الحادي عشر الميلادي كان الأطباء في المغرب الإسلامي على مستوًى عالٍ من الثقافة الموسوعية، حتى يجدوا لهم مكانا في البلاطات الملكية(2) ، فلم يكن الطبيب المسلم إذن يتخصص فقط في الطب، ناهيك عن أن يتخصص فقط في مداواة مرض بعينه، بل كان يهتم بعلاقة هذا المرض بغيره من الأمراض الأخرى، وللطبيب محمد بن قسُّوم بن أسلم الغافقي الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي رأي مُعتبر يقول بوجود تأثير سلبي لأحوال النفس على صحة الإبصار، وذكر أن أولئك المتصفين بسرعة الغضب، أو القلق المفرط أو التشاؤم، هم الأكثر عرضة لأن تغور أعينهم وتضعف لديهم قوة الإبصار.(3)

والأمر الذي ذكره الطبيب الغافقي جد خطير، فهو يجمع بين تخصصين طبيين ظل أحدهما إلى وقت قريب في أوروبا يدور ضمن اهتمامات الفلاسفة، أعني الطب النفسي. فأن يربط الطبيب المسلم الأندلسي بين الأحوال النفسية وما ينشأ عنها من أعراض عضوية، يعني أن ذلك الطبيب قد سبق عصره بزمان طويل.

الغافقي، محمد بن أسلم

إلى وقت ليس بالبعيد، اشتهر المسلمون بممارسة «الكِحالة» أو ما يسمى الآن بطب العيون، وذاعت شهرتهم في هذا المجال، وعرف منهم أطباء كثر سجل أسماءَهم التاريخ، ومنهم على سبيل المثال هو أبو جعفر محمد بن قَسُّوم بن أسلم الغافقي الأزدي القرطبي الأندلسي، الذي تطرقنا إلى أحد ألمع آرائه في العلاقة الكائنة بين أحوال النفس والمرض العضوي، والغافقي طبيب أندلسي، لم يذكر المؤرِّخون تاريخ ولادته على وجه الدقة، غير أن عددا من المحققين استنتجوا أنه عاش بعد القرن السادس الهجري، «فنحن إذا رجعنا إلى كتاب ابن أبي أصيبعة، لا نجد في كتابه العائد إلى القرن السادس الهجري «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» أي ذكر للغافقي، علما بأن هذا المؤرخ العربي «ابن أبي أصيبعة» كان كذلك طبيب عيون، وبالتالي فمن المستبعد أن يؤلف طبقاته دون أن يأتي على ذكر الغافقي، إن كان عاش في عصره.»(4) بعد هذا يمكن القول أن صاحبنا الغافقي قد عاش حتما بعد القرن السادس الهجري، أي بعد نهاية القرن الثاني عشر الميلادي. أما عن مكان ميلاده، فمختلف فيه، فالبعض يرى أنه من غافق التي تسمى اليوم غويخو Guijo في مقاطعة بيدروتشي Pedroche بالأندلس، وهناك من يرى أن غافق التي ولد فيها الغافقي تسمى اليوم بلكازار Belacazar أي القصر الجميل، وعلى كل حال فكلتا البلدتين توجدان في مدينة قرطبة التي يمكن نسبة ابن أسلم إليها بكل ارتياح.

والأمر الذي ذكره الطبيب الغافقي جد خطير، فهو يجمع بين تخصصين طبيين ظل أحدهما إلى وقت قريب في أوروبا يدور ضمن اهتمامات الفلاسفة، أعني الطب النفسي. فأن يربط الطبيب المسلم الأندلسي بين الأحوال النفسية وما ينشأ عنها من أعراض عضوية، يعني أن ذلك الطبيب قد سبق عصره بزمان طويل.

كتابه «المرشد في الكحل»

التخصص في فرع معين من فروع الطب، بل والعلم بشكل عام، لم يكن سمة اشتهرت بها العصور الوسطى، بل كان إلمام العالم بعلم ما من كل جوانبه، إن لم نقل إلمامه بعدة علوم مختلفة معًا. وكان الطبيب الغافقي بارعا في التطبيب في كافة الفروع الطبية، وحيثما وجد المرض، غير أن ما وصلنا من آثاره كتاب واحد أو اثنان على أكثر تقدير، لأن أحدهما ينسب في أحد الآراء إلى أبيه، وقد ظل هذان الكتابان مرجعين طبيين انتفعت منهما سائر الجامعات الأوربية طيلة فترة العصور الوسطى وإلى ما بعد عصر النهضة، فأولهما كتاب «المرشد في الكحل»، ويطلق عليه اسم آخر هو «المرشد في طب العين»، وقد جمع فيه الغافقي زبدة وخلاصة ما وصل إليه الأطباء العرب المسلمون في المشرق والمغرب الإسلاميين عن علم الرمد وطب العيون في القرن السادس الهجري، بحيث يعتبر هذا الكتاب أول موسوعة من نوعها في طب العيون وما يتعلق به. والحق أن صاحب الكتاب نفسه يصفه ضمنا بالعمل الموسوعي، فيقول في مقدمة كتابه «المرشد في الكحل» بادئا بذكر الأسباب التي دفعته إلى تصنيف موسوعته: «يا بُنيّ، لمّا نظرت في هذه الصناعة أعني صناعة الطب، فلم أجد في ذلك كتابًا جامعًا لجميع ما يحتاج إليه من علم وعمل.»(4) إذ لم يكن الكتاب مقتصراً فقط على العين ولكنه يعطي تفاصيل عن الرأس وأمراض المخ، ورجع الغافقي فيه إلى كتابات عمار الموصلي كمرجع لعمله. وقد قسَّم هذا الكتاب إلى ستة أقسام، تناول في القسم الخامس ما يتعلق بتطبيب العيون وطرق سلامتها بشكل جزئي، وتضمن القسم السادس ذلك بشكل كلي.

وقد برع الغافقي في عمليات إزالة المياه البيضاء من العين، خاصة أن كتابه «المرشد في الكحل» كشف تشريح العين وخصائصها وأمراضها وأمزجة أصحابها، وصولًا إلى ربط لون العين بالجغرافيا والمناخ، ما يعني أنه التفت في وقت مبكر إلى دور العامل البيئي، إضافة إلى العامل الوراثي، في اكتساب الصفات البيولوجية.

كيف وصلتنا معلومات عنه؟!

بالنظر إلى قلة ما وصلنا من كتب ومخطوطات الغافقي، فبم نفسر ذيوع صيته بهذه الدرجة، حتى قال عنه المستشرق الألماني مايروهوف مترجم أفضل كتب «الغافقي»المرشد فى الكحل» معرفا بتفوق الغافقي في مجال الصيدلة كذلك: «الطبيب العربي الأندلسي محمد بن أسلم الغافقي أعلم أطباء المسلمين في العصور الوسطى بالأدوية والأعشاب»؟!

نظر إلى الدرجة المرموقة التي بلغها الغافقي في مجالي طب العيون وكذلك الصيدلة وصناعة واستعمال الأدوية من الأعشاب الطبية، كان من الطبيعي أن يرجع إلى كتاباته مشاهير العلماء في هذين التخصصين، وكان من هؤلاء العلماء ضِيَاء الدِّين أبو مُحَمَّد عَبد الله بن أحمد المَالِقِي المَعروف بـ «ابن البيطار» والذي يبدو أنه كان من معاصري الغافقي، وربما من تلامذته، من يدري؟! إذ عاش أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، وتوفي قبيل منتصف القرن الثالث عشر. إذ إن ابن البيطار ذكر الغافقي في كتبه أكثر من مائتي مرة، في تنويهات واستشهادات وإحالات علمية وطبية عديدة، وهو ما يعرفه الأكاديميون في هذا العصر بالاقتباس العلمي citation.

وقد برع الغافقي في عمليات إزالة المياه البيضاء من العين، خاصة أن كتابه «المرشد في الكحل» كشف تشريح العين وخصائصها وأمراضها وأمزجة أصحابها، وصولًا إلى ربط لون العين بالجغرافيا والمناخ، ما يعني أنه التفت في وقت مبكر إلى دور العامل البيئي، إضافة إلى العامل الوراثي

الغافقي لدى المستشرقين والمؤرخين المعاصرين

كان أول من عرف بالغافقي العالم الفرنسي الشهير ليكليرك في كتابه «تاريخ الطب العربي»، الذي تحدث عن مخطوطة «المرشد في الكحل»، وجاء بعده العالم الألماني يوليوس هيرشبرغ Julius Hirschberg وهو طبيب عيون ومؤرخ طبي في كتابه «أطباء العيون العرب»، وقد أشار هيرشبرغ إلى وجود مخطوطة لكتاب «الغافقي» في مكتبة دير الإسكوريال في أسبانيا أخذت رقم (835) وقام بمساعدة بعض المستشرقين بترجمة أول المخطوطة وآخرها من اللغة العربية إلى اللغة الإسبانية.

بعد ذلك انبرى الطبيب والمستشرق الألماني ماكس مايرهوف Max Meyerhof لدراسة المخطوطة بقدر كبير من الدقة، وترجم القسم الأكبر منها، والمتعلق بطب العيون، ثم نشر ترجمته للقسم الأخير (المقالة السادسة) في أسبانيا عام 1933م، بمناسبة المؤتمر الدولي الرابع عشر لطب العيون وبناء على طلب الجهات الطبية المعنية في شمال أسبانيا.

لقد عُدَّ محمد بن أسلم الغافقي الأندلسي عبقريَّ طب العيون، وكتابه المرشد في الكحل دليل ما زال قائما على مدى نبوغه وسبقه العلمي، فهلا بذل محققونا العرب والمسلمون نصف ما يبذله المستشرقون في سبيل إلقاء الضوء على مجهودات أسلافنا العلمية والحضارية؟!

الهوامش:

  1. انظر: سامح مصطفى، «من نماذجِ إِحسان محمد إِلى الإنسانية عقد المصالحة بين المعرِفة الدينِية والعلوم الدنيوِية»، مجلة التقوى، عدد نوفمبر 2018.
  2. مروة محمد عبد الرحيم عاشور، «تأثير الصحة والبيئة على المجتمع الأندلسي: اقتصاديا واجتماعيا وعمرانيا»، ص 156، دار التعليم الجامعي، الإسكندرية، 2022م.
  3. انظر: محمد بن قسوم بن أسلم الغافقي الأندلسي، «المرشد في العيون»، ص 129، تحقيق: محمد رواس قلعجي ومحمد ظافر الوفائي، الإدارة العامة للتوعية العلمية والنشر، السعودية 1990م.
  4. طب العيون عند العرب: ابن أسلم الغافقي، مجلة الباحث، السنة 1، عدد 5 – 6، 1979م.
  5. محمد بن قسوم بن أسلم الغافقي الأندلسي، «المرشد في العيون»
Share via
تابعونا على الفايس بوك