سياحة روحانية بامتياز.. الحج كما يراه المسلمون الأحمديون

سياحة روحانية بامتياز.. الحج كما يراه المسلمون الأحمديون

أحمد وائل

كاتب
  • بين مزارات سائر الأديان، والبلد الحرام!
  • المجال المغناطيسي الروحاني

__

مزارات الأديان، والبلد الحرام

ثَمَّةَ قاسمٌ مشتركٌ بين الكثرة الكثيرة من المزارات الدينية التي يحج إليها الناس من شتى الأديان في كافة أصقاع هذه الدنيا، وهذا القاسم يبدو جليًّا فيما تبلغه البقعة الجغرافية التي يقع فيها هذا المزار أو ذاك من جمال طبيعي أخاذ. فمِن أقصى الشرق في جزر اليابان حيث معابد «الشنتو»، ومن مجاهل غابات الصين الملأى بالمعابد والتماثيل البوذية، إلى الهند، حيث ضفاف نهر الغانج وما حولها من معابد هندوسية شهيرة، إلى الشرق الأوسط حيث البحر الميت الشهير بخواص مياهه الشفائية الطبيعية، ثم الحدائق البهائية في بغداد وحيفا، ولا ننسى أيضًا المزارات الأثرية التي كانت تخص أديانًا اندثرت الآن، كأطلال المعابد المصرية القديمة، وأطلال معبد الأحجار المعلقة بإنكلترا، وما سوى ذلك من مزارات في آسيا وأفريقيا والأميركتين، مما لا نحيط باسمه أو تاريخه.. فالملاحظ بوضوح هو ما تشترك فيه تلك المزارات من جمال طبيعي يكون سببًا في إدخال البهجة على نفوس قاصديها بمجرد النظر.

الوضع سيبدو لنا مختلفًا تمامًا إذا ما ولينا وجوهنا شطر البلد الحرام، حيث الكعبة المشرفة، مشعر طواف المسلمين وحجهم من كل أكناف الأرض، إذ إن تلك البقعة التي يقدسها المسلمون، مهما اختلفت مذاهبهم، لا تبدو على نفس القدر من الجمال الشكلي الذي تبدو عليه سائر المزارات الأخرى، فلا منظر طبيعي خلاب يستحق السفر الذي كان إلى وقت قريب قطعة من العذاب، وعلى الرغم مما يقر به المسلمون لذلك البلد الحرام من قداسة وبركة، إلا أن هذا الإقرار لا يغير من الصورة المادية التي اتصف بها هذا البلد منذ أحقاب مديدة إلى الآن، فقد كان وما زال واديًا غير ذي زرع..

مكمن الجمال ومظهره

هنا يقفز فضول الإنسان ليتساءل عن دلالة هذا الاختلاف البيـّن، دون التطرق إلى فضل دين على ما سواه من الأديان.. ولأن التجربة باب من أبواب العلوم الحديثة المعروفة، فالتجربة الروحية تفتح باب الأعاجيب، ويمكن الولوج من خلالها إلى كنوز المعارف الإلهية كذلك. ولحسن الحظ فقد حفظ لنا التاريخ النموذجَ الأوَّلَ لتلك التجربة الروحية، ممثلا في تجربة حضرة إبراهيم الخليل وآله الكرام في ذلك البلد الحرام، وهي التجربة التي لا نزال نحيي ذكراها منذ ما يقرب من أربعة آلاف عام إلى يومنا هذا، وكان من أبرز نتائجها أن تخلي الإنسان عن كل متعلقات الدنيا هو ما يُكسبه الحياة الحقيقية..

وهذا ما أثبتته تجربة البيت الإبراهيمي المبارك مرتين، أولاهما حين ترك الوالد ولده الرضيع وزوجته في واد غير ذي زرع امتثالًا لأمر الله تعالى، والثانية حين أقدم على ذبح نفس الولد والذي أصبح مدركًا هذه المرة، فبعد هاتين التجربتين تلقى خليل الرحمن من ربه الجواب المنتظر والذي مفاده أن اترك كل ما سواي أكن لك..

لقد فصل أمير المؤمنين القول في تضحية البيت الإبراهيمي، التي هي الأساس لشعائر حج المسلمين اليوم، فقال:

«لقد تخلت السيدة هاجر وإسماعيل عليهما السلام عن الدنيا لوجه الله تعالى، فجعل الله تعالى العالم كله عند أقدام نسل إسماعيل …. فقد منح الله تعالى تضحية السيدة هاجر مكانة عظمى وشرفًا عظيمًا، فإنها وابنها قطعَا علاقتهما بالدنيا متوكلين على الله تعالى وابتغاء مرضاته، والآن يلتزم العالم بالصلاة عليهما»(1) .

لقد كتب مولانا الحكيم نور الدين شيئًا بذلك المعنى بعد أن وفِّق للحج للمرة الثانية فقال:

«تعلمت نقطة مهمة جدًّا، فقد أدركت أن الحج يأتي كل عامٍ ويذهب في أيامٍ معدودات، لذا لا يكتسب أحدٌ حبًّا وتعلقًا حقيقيًّا بهذا المكان. يمكن للمرء أن يستنتج ما مفاده أنه هنا في مكة، يهيم المرء ويغرق في حبّ الله تعالى، وهذا هو الهدف الحقيقي للحج: أن تفنى في محبة الله، أما ما سواه من حب فهو عابرٌ لا طائل منه»(2).

وهذا ما أثبتته تجربة البيت الإبراهيمي المبارك مرتين، أولاهما حين ترك الوالد ولده الرضيع وزوجته في واد غير ذي زرع امتثالًا لأمر الله تعالى، والثانية حين أقدم على ذبح نفس الولد والذي أصبح مدركًا هذه المرة، فبعد هاتين التجربتين تلقى خليل الرحمن من ربه الجواب المنتظر والذي مفاده أن اترك كل ما سواي أكن لك..

المجال المغناطيسي الروحاني

ثمة العديد من الظواهر الطبيعية التي ندرك وجودها دون أن نملك لها تفسيرًا واضحًا، وكثير من الظواهر الروحية يسري عليها الأمر ذاته، من تلك الظواهر الشعور العارم بالعاطفة القلبية والرغبة المفاجئة في التضحية الحقيقية بمجرد أن يخرج الحاج مُحرِمًا، سواء من بيته أو من أي مكان من العالم، أو من موضع ميقاته الذي تبدأ منه حال إحرامه بارتداء زي الإحرام، والامتناع عن قص الشعر وتقليم الأظافر وكذلك الطيب والنساء، شريطة أن يكون قد خرج بنية مخلصة في أداء الشعائر، نية لا تشوبها شائبة الأغراض الدنيوية.

إننا لا نملك إلى الآن تفسيرا كاملًا لتلك البركة التي يحوزها بناء الكعبة المشرفة، فهو من حيث الشكل بناء هندسي بسيط على شكل مكعب لا تعقيد فيه، ولكنه بشهادة العديد ممن زاروه يملك قوة روحية غير مرئية كقوة المغناطيس، حتى إننا أخبرنا العديد من الناس ممن كُتب لهم الطواف بالكعبة المشرفة وعادوا إلى ديارهم على غير الحال التي خرجوا عليها، ولعل حديث رسول الله يرصد أيضًا هذه الظاهرة الروحانية، حيث روي عنه قوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»(3) ..

وفي سياق هذه البركة التي لم نحط علمًا بها من كافة الجوانب يتحدث سيدنا المسيح الموعود عن الكعبة بوصفها مكانًا ذا طبيعة خاصة، وذُكرت حول موضعها العديد من النبوءات في القرآن وما قبله من كتب سماوية، فقال حضرته:

«الكعبة المشرفة.. هي بلا شك مهبط التجليات والأنوار والبركات الربانية، وهي بلا مراء ذات شأن عظيم، لقد تحدثت الأسفار القديمة عن عظمتها وقداستها. ولكن هذه التجليات والأنوار والبركات لا تدركها الأبصار الظاهرية، وإنما تُرى بعين روحانية، ولو كانت تلك العين في الإنسان مبصرة لعرف ما هي تلك البركات التي تتنـزل عند الكعبة»(4).

والتماسًا لتلك البركة الغامضة الكنه والسبب، ثمة حادث لطيف يروى، ويحكي جانبا من تجربة المبايع الأول للمسيح الموعود وخليفته الأول أيضًا، مولانا الحكيم نور الدين القرشي حين وقعت عيناه على الكعبة المشرفة أول مرة، قال حضرته: «عندما ينظر المرء إلى بيت الله العتيق وتقع عيناه عليه، يفيض قلبه بشعورٍ خاص وهناك لحظة غريبة لقبول الدعاء. غالبًا ما يذكر حضرة الخليفة الأول أنه عندما أدى فريضة الحج، تذكر حديثًا مفاده أنه عند رؤية الكعبة للمرة الأولى فإن أي دعاء يدعوه الإنسان يكون مقبولًا، وكان قلبه آنذاك يتوق نحو الكثير من الأدعية، ولكنه فكر فجأة أنه إذا دعا هذه الأدعية وقُبلت ماذا سيفعل إن واجهته حاجة أخرى في المستقبل؟ فلن يكون قادرًا على أداء الحج أو رؤية الكعبة. وقال أنه فكر ثم قرر في النهاية أن يدعو: باستمرار حالة استجابة الدعاء في المستقبل أيضًا.. لذلك، بمجرد أن رأينا الكعبة، رفع جدي يديه وقال هيّا بنا ندعو… بينما كان هو يدعو بمختلف الأدعية، دعوت أنا دعاءً وحيدًا فقط:

«يا رب! لن أحظى كل يوم بفرصة رؤية الكعبة. اليوم، وقد حظيت برؤيتها وبناء على وعد المصطفى بأن تقبل أدعية الذي يرى الكعبة للمرة الأولى في الحج، لذلك أدعوك أن تستمر في قبول أدعيتي ما حييت.»(5)

المعنى ذاته قال به الخليفة الثاني حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد خلال حجه، على الرغم من المدة الزمنية التي تفصل حج مولانا نور الدين عن حج مرزا بشير الدين محمود أحمد (رضي الله عنهما) والتي تقدر بأكثر من أربعين عامًا، حيث حظي حضرة مرزا بشير الدين بالحج سنة 1912م، قال حضرته:

«لقد خضت تجارب خاصة في الدعاء في مواضع معينة. أولاً، الدعاء أثناء النظر إلى الكعبة.. في تلك اللحظة، شاهدت مشهدًا غريبًا حيث نزل النور من السماء، لم يكن هذا شعورًا نابعًا من القلب، بل كان في الواقع أمرًا حقيقيًّا شهدته بأم عيني. ثانيًا، عندما كنت في عرفات – وهو جزء مهم من الحج – نزلت البركات في ذلك المكان أيضًا. والمكان الثالث كان غار حراء حيث يتولد في قلب الإنسان شعور خاص أثناء الدعاء هناك، وأحد أسباب هذا الشعور هو أن الناس لا يقدرونه حق قدره»(6) .

أَكُلُّ حج مبرور؟!

يسري على الحج ما يسري على سائر العبادات، والعبادة عادة وتصرف مسبوق بالنية المخلصة، وحال غياب هذه النية تمسي العبادة شكلًا أو جسدًا ميتًّا لا روح فيه، وهنا علينا الحذر من تنميق مظهر عبادتنا غافلين عن جوهرها المتمثل في نيتنا الصادقة. قال المسيح الموعود بهذا الصدد:

«هناك نوع آخر من العبادة وهو الحج. ولكن يجب ألا يكون الحج حجًّا ظاهريًا فقط؛ بأن يأخذ الإنسان ما جمع من حلال وحرام من المال، ويتجه إلى بيت الله الحرام بالباخرة أو غيرها، ويردد بلسانه فقط ما يردد الناس هناك، ثم يرجع ويفتخر بأنه الحاج. كلا، فليس الغرض الذي من أجله كتب الله الحج أن يحصل بهذه الصورة، والحق أنه من آخر مراحل العبادة والسلوك أن ينقطع الإنسان عن نفسه، ويعشق ربه، ويغرق في بحر حبه. فالمحب الصادق يضحى بقلبه ومهجته. والطواف ببيت الله الحرام رمز لهذه التضحية وهذا الفداء. وكما أن هناك بيتًا لله تعالى على الأرض فكذلك هنالك بيت لله في السماء، وما لم يطف به الإنسان لا يصح طوافه»(7).

وهنا ندرك المغزى الذي أراده المصطفى من قوله:

«وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ»(8).

إذن فليس كل حجٍّ مبرور، وثمة حاج لم يتكلف عناء الرحلة إلا ليحوز لقب حاج، أو يجني منفعة أخرى، فأي بركة ترجى من حجه؟!

الهوامش:

  1. حضرة مرزا مسرور أحمد (نصره الله)، خطبة عيد الأضحى بتاريخ 31/7/2020م
  2. سيد حسنات أحمد، الحكيم نور الدين (خليفة المسيح الأول)، منهاج الصالحين ص 31 (النص الأصلي باللغة الأردية)
  3. أحمد، كتاب باقي مسند المكثرين
  4. مرزا غلام أحمد القادياني (المسيح الموعود )، الملفوظات ج 8، ص 74
  5. سيد حسنات أحمد، الحكيم نور الدين (خليفة المسيح الأول)، ص 31 (النص الأصلي باللغة الأردية)
  6. رسالة محمود من أرض الحبيب، مجلة مقارنة الأديان عدد 30 سبتمبر 2015.
  7. غلام أحمد القادياني، (المسيح الموعود ) خطاب الجلسة السنوية في قاديان عام 1906
  8. صحيح البخاري، كتاب الحج
Share via
تابعونا على الفايس بوك