ضيف ثقيل الظل   

..

  • ما وجه الرحمة الإلهية في انتشار كوفيد-19؟
  • فما جوهر منسك النحر الذي نمارسه في موسم الحج هديا، أو أضحية لمن لم يحج؟
  • وما الدلالة الروحية للكعبة المشرفة؟

__

وما زال كوفيد – 19، ذلك الضيف الثقيل مصرًّا على ألا يبرحنا، وقد قارب عامه الثاني تمامه بيننا، دون أن نتمكن إلى هذه اللحظة من إخراجه وطرده، مستريحين من هذه الضيافة المفروضة علينا جبرًا وإكراهًا، حتّى بلغت بنا الحال أن صرنا نفكر في التعايش مع هذا الواقع، على الأقل ليبدو الأمر كما لو أنه بيدنا لا بيد كوفيد – 19!

والعالم الآن، بمؤمنيه وملاحدته، يقف متوجسًا خيفةً إزاء الجائحة الوبائية، لا سيما في طورها المتحور، غير أن المؤمنين ينظرون إلى الأزمة من منظور مختلف بعض الشيء، ويهمنا أن نعرض هذا المنظور، لعل الآخرين يستفيدون منه.. إن وجهة النظر الإيمانية إلى موضوع جائحة كورونا تقول بأن للكون كله خالقًا واحدًا، حيًّا قيومًا متدخلًا في كافة شؤون خليقته على الإطلاق، دَقِّها وجلِّها، فربنا هو رب كورونا، وهو ذاته عز وجل من فرض علينا توخي كافة سبل النجاة، الجسمانية منها، والروحانية كذلك، على اعتبار أن أجسادنا ما هي إلا مراكب تستقلها أرواحنا في رحلة سفرها إلى بر النجاة، في عالم آخر أرحب وأجمل.. فالله جل وعلا شأنه من جهة يفرض علينا من العبادات ما له صورة حركية مخصوصة، من أجل أن ندرك ما وراء هذه الصورة الحركية من دلالات روحانية، بحيث لا يكون للأداء الحركي أية جدوى إن لم تُدرك، أو على الأقل تُستشعر تلك الدلالة. وهنا، في موقفنا الحالي، نجد أننا مأمورون من جهة بأداء مناسك الحج المباركة، ما توفر شرط الاستطاعة، بقوله تعالى:

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (1)،

ومن جهة أخرى نتلقى من السنة النبوية التي نعتبرها النموذج التطبيقي الأمثل للتعليم الإلهي الخاتم، نتلقى توجيها نبويًّا حكيمًا، مفاده أن الأولى بالحرمة هو دم الإنسان وكرامته، فإذا ارتكب الناس بحق بعضهم البعض ما من شأنه أن يريق دماءهم أو يهدر كرامتهم، فلا معنى حينئذ لأداء الحركات الجسدية المعبرة عن العبادة..

ويقول تعالى:

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا (2).

والبيت في العربية هو الْمَأْوَى وَالْمَآبُ وَمَجْمَعُ الشَّمْلِ. (3)ولا يكون أيُّ كيان جديرًا باسم «البيت» إلا إذا تحققت فيه هذه الشروط الثلاثة: أن يوفر المأوى، ويكون مرجعًا، وجامعًا للشمل المتفرق..

فإذا ما تعذر علينا أن نقصد في موسم الحج هذا بنيان الكعبة المشرفة، نظرًا إلى الاحترازات الصحية المعروفة، فما علينا إلا أن نقصد الدلالة الروحانية لذلك البيت الحرام، وهي اللبّ والأصل، فنولي وجوهنا شطر ما يؤوينا روحيًّا ويكون مرجعنا إليه في كافة أمور ديننا ودنيانا، ومع كل هذا يجمع شملنا المتفرق. إن كل هذه الأوصاف لا تكاد تجتمع إلا في كعبة الله تعالى الروحية، سيدنا خاتم النبيين والذي علمنا المسيح الموعود حقيقة مقامه الأقدس، وأشار إلى تلك الحقيقة في غير موضع من كتاباته وملفوظاته، ومنها قوله :

عَلَيْكَ سَلامُ اللّهِ يَا مَرْجِعَ الوَرَى
لِكُلِّ ظَلامٍ نُورُ وَجْهِكَ نَيِّرُ (4)

وإذا كان النبي قد خلا جسده من هذه الدنيا، فإن مقامه الروحي لا زال باقيًا بين ظهرانينا ممثلًا في الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي بشر بها ووعد، فلتلتف حولها قلوبنا التفاف أجسادنا حول ذلك البنيان المقدس في البلد الحرام.

فإذا ما تعذر علينا أن نقصد في موسم الحج هذا بنيان الكعبة المشرفة، نظرًا إلى الاحترازات الصحية المعروفة، فما علينا إلا أن نقصد الدلالة الروحانية لذلك البيت الحرام، وهي اللبّ والأصل، فنولي وجوهنا شطر ما يؤوينا روحيًّا ويكون مرجعنا إليه في كافة أمور ديننا ودنيانا

إن حُبَّ الله تعالى للخلق نابع من فيض ربوبيته لهم، فهو ينعم على العالمين بالتربية ويتعهدهم بالتنمية، وقد لا تخلو التربية أحيانًا من شيء مما قد يبدو لنا قسوة، فيبتلي العالم بجائحة تحول بينهم وبين أداء الشعيرة، ليلفت ذلك المربي الأعظم أذهاننا إلى الحقيقة الروحية وراء مظاهر الأشياء، وأن البناء الحجري ليس مقصودًا لذاته، وإنما لدلالته الروحية المشار إليها آنفًا.

الأعزاء قراء التقوى الغرَّاء، تهانينا بحلول هذا الموسم المبارك، والذي جعله الله تعالى تذكارًا بالأمن المفقود ولم الشمل بعد فرقة وصدود، فهلا التفتنا إلى تلك الحقيقة؟!

وككل شهر نهدي إليكم عدد يوليو/ حزيران 2021، مزدانا بكلمة حضرة أمير المؤمنين (أيده الله تعالى بنصره العزيز)، وفي هذا العدد يميط حضرته اللثام عن شعيرة عظيمة من شعائر الموسم المبارك، وهي شعيرة الأضحية أو الهدي أو القربان، معلمًا إيانا مغزاها الحقيقي بنزع قشرة المظهر عن لبّ جوهرها، فالحمد لله على هذه النعمة المستمرة إلى ما شاء الله تعالى، نعمة الخلافة الراشدة التي تجمع شمل الأمة المتفرق.

الهوامش:

  1. (آل عمران: 97-98)
  2. (البقرة: 126)
  3. أحمد بن زكريا بن فارس، « مقاييس اللغة»، مادة «ب ي ت»
  4. حضرة مرزا غلام أحمد القادياني ، «حمامة البشرى»، قصيدة «دموعي تفيض …»
Share via
تابعونا على الفايس بوك