قالت العرب قديماً: الوقت كالسيف، إن لم تقطعه قطعك. أي كأنهم بذلك يقولون إن الوقت سيف مسلط عليك يلاحقك، فإما أن تكسره وإما أن يجتز عنقك.
وبما أن الوقت متجدد ودائم فهذا يعني أنك يجب أن تسبق الوقت وإلا فإنه إن سبقك فقد قضى عليك.
ومن العجيب أن الساعة التي أصبحت على معصم كل رجل وامرأة وفتى وفتاة، ومعلقةً على جدران البيوت والأماكن العامة والخاصة، من العجيب أنها توحي بخطر مرور الوقت على من لا يحذر الوقت. فعقاربها هي كالسيوف التي تدور في دائرة، ناهيك عن اسمها المستعار من ذلك المخلوق الصغيرالمرعب. وهذه العقارب التي تدور لن تسمح لشيء ثابت أن يقف في طريقها. كذلك فإن حجم تلك العقارب متعلق بالوقت التي تشير إليه. فعقرب الثواني هو عقرب دقيق الحجم سريع الدوران خفيف الوقع. بينما نجد أن عقرب الدقائق أسمك منه وأكبر حجماً. أما عقرب الساعات فهو الأكثر سمكاً والأشد وقعاً على العين. فإن أدرك كل منا أنه يقف في تلك الدائرة فعليه أن يحذر ضربات تلك السيوف المتدرجة في الحجم وعليه أن يسبقها قبل أن تدركه لكي ينجو.
والوقت هو نعمة عظمى من الله ذي الآلاء التي لا تعد ولا تحصى. فهو وسيلة معرفة الإنسان لنفسه ووجوده وماضيه ومستقبله. ولو لم يكن الوقت لما كانت الحياة. وللوقت سلطان على كل ما خلق الله تعالى، وكل شيء في الوجود محكوم بهذا القانون الذي يقهر المخلوقات ويدفعها إلى مصيرها حتف أنفها. وكل ما يخضع لهذا القانون هو مؤقت، أي أنه لا دوام له. لذلك يخطئ من أراد أن يطبق قانون الوقت على الله تعالى الذي خلق هذا القانون. فلا سلطان للوقت على صاحب السلطان جل وعلا، بل الوقت يقع تحت سلطانه ولا يملك ناصيته إلا هو. فلقد كان الله تعالى قبل الزمان وقبل المكان وبعد أن كان الزمان، المكان بقي
هو جل وعلا على ذاته وكما كان. أما نحن فتحت هذا القانون الذي لا يرحم من يتهاون معه. فالوقت يسير بخطوات لا يعيقها عائق ومن تخلف عن المسيرة مضى الوقت وتركه خلفه.
وقد جعل الله للناس أجلا محتوما ووقتا معلوما لا يستقدمون عنه ساعة ولا يستأخرون. فالناس يولدون في ميعاد ويموتون في ميعاد ولا يملكون أن يغيروا شيئا في هذا البداية وفي ذلك المصير. وبما أنه لكل الناس أجل محتوم وعمر معلوم على مستوى الأفراد والمجتمعات فالذي يستطيع الناس تغيره خلال هذه المادة المحددة هو حسن الاستفادة من هذه المادة المقدرة المقررة. فلا ينبغي على أحد أن يتراخى أو أن يترك نفسه لتيار العوامل المحيطة كي ترسم له خارطة حياته. فالوقت الذي يستثمره الإنسان في سبيل رفعته وتحقيقه أمانيه والذي يفيده في حياته الأخرى التي يشيرالوقت دائما إلى قرب دخولها فيها، ذلك الوقت الذي يكون
لصالح هذا الإنسان. أما ما ضاع من الوقت سدی فهو على الإنسان لا له. فكيف إذا انقضى الوقت فيما يضر ولا ينفع؟. كيف إذا كان الوقت ينفق في الأفعال التي ستجلب للإنسان الخيبة والخسران و تحول بينه وبين أمانيه؟. عندئذ فإن الإنسان يكون قد ارتكب جريمتين؛ جريمة في الفعل الضار الذي ارتكبه، وجريمة بحق وقته الذي فقده ولم يستثمره في سبيل منفعته. كذلك فإن الوقت، شأنه النعم الأخرى التي قد أنعم الله بها على الإنسان، نعمة سيسأل الإنسان عنها أمام الله يوم القيامة. فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الإنسان يُسأل عن عمره فيما أفناه. فماذا عسى الإنسان المسرف أن يجيب الله وقد قضى عمره في معصية الله ؟. كذلك ما عسى الإنسان المقصر المتراخي الذي لم يبادر بالخيرات ولم يسارع إليها أن يجيب ؟. فهذا المقصر وإن لم يرتكب المحرمات فقد أجرم بحق الوقت الذي منحه الله إياه. فما الفرق بينه و بين الأنعام التي تعيش تأكل وتشرب وتقضي حياتها ؟!. هل له من فضل عليها آنئذ. أما من استثمر وقته جميعه أو معظمه فيما خلق لأجله فإنه سيفوز فوزاً عظيماً. ولقد كان لنا في رسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة حسنه في استثمار الوقت. فلقد كان منذ نعومة أظفاره مُعرضا عن لغو الأفعال والأقوال، ويقضي وقته فيما جعله وأهله ليكون خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين. فكان يقضي ما يقارب الأربعين يوما يتعبد في غار حراء ولا يعود إلى بيته إلا للتزود بالزاد. وكانت حياته بعد نبوته كلها جهادا قضاها في تزكية أصحابه الطاهرين رضوان الله عليهم وفي تعليمهم الكتاب والحكمة. فكان أن زكاهم حتی توافقت فطرتهم مع ما نزل من الحق.
وعلّمهم الإيمان قبل أن يعلّمهم القرآن. وكان مثالا لهم في كل حركاته وسكناته. وما كان بروز هؤلاء الطاهرين وتميزهم عن غيرهم من المؤمنين وغير المؤمنين وتغييرهم لوجه الأرض فيما بعد إلا ثمرة جهد عظيم استثمر فيه المصطفى
صلى الله عليه و سلم كل وقته. كان نهاره تعليما لهم، وليله كان دعاءً لهم وللبشرية جمعاء. وهذا هو سر انتصار هذا الدين العظيم، وذلك هو أيضا الطاقة التي تركها المصطفى لتضيء الأرض من جديد. كل ذلك من بركة المصطفی صلى الله عليه وسلم ووقته الذي
كان قد استثمره من أجلنا خير استثمار. اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه عدد القطرات والذرات والأحياء والأموات وعدد خلق الله وكلماته التامات. ومن ضوء المصطفی بزغ نور الإمام المهدي عليه السلام الذي عکس قلبهُ ضوء ذلك السراج المنير. فقد سار على درب سيده المصطفى صلى الله عليه وسلم وكان يقضي وقته في العلم والتعلم والعبادة حتى إن الناس كانوا بالكاد يعرفونه وهو صغير أو يشعرون بوجوده. ثم ما أن اكتمل هذا البدر و بزغ في تلك الليالي الحالكات حتى أخذ يعمل في سبيل الإسلام عملا قل نظيرة وعز مثيله. ولقد روى صحابته أنه أثناء تأليف كتبه عليه السلام فكان يحمل أوراقه وقلمه بيده ويضع محيرة في زاوية من الغرفة و محبرة أخرى في الزاوية المقابلة ويكتب وهو يمشي مسرعا وكأنه يخاف أن يفوته الوقت. ولو حاول الباحثون أن يحسبوا ما قد ألفه الإمام المهدي في
كتبه ومؤلفاته التي تتجاوز الثمانين، إلى جانب الإعلانات التبليغية الطويلة لوجدوا أنه عليه السلام كان يكتب بشكل شبه يومي. وقد كان أن أوحى الله تعالى إليه وحيا عظيما باللغة العربية ألا وهو: “أنت الشيخ المسيح الذي لا يُضاع وقته”. وهذا ما كان، فلم يضع وقته أبدا. ولكن قد يكون في ذلك تنبيها إلى المسلمين الأحمديين جميعا وبالأخص العرب منهم أن لا يضيعوا أوقاتهم. فعليهم أن يستثمروها لنصرة الإسلام وفيما سيفيدهم في دنياهم وآخرتهم، وأن يكونوا مصداقا لهذا الوحي العظيم الذي سيكفل له ألا يضيع وقتهم. جعلنا الله من الذين يستثمرون أوقاتهم خير استثمار ومن الذين لا تضيع أوقاتهم آمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.