عدم سماح الإسلام بالجبر في المعاملات الدينية

لا داعي لممارسة الجبر لنشر الإسلام لأن الهدى قد تميز من الضلال

 (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 257)

شرح الكلمات:

الرشد– الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه؛ ضد الغي (الأقرب).

الغي– الضلالة؛ الهلاك؛ الخيبة (الأقرب).

الطاغوت– من طغا يطغى. الطاغوت كل شيء يخرج عن حده ويتمرد. وبهذا المعنى يُطلق الطاغوت على الشيطان (الأقرب) لأنه يحرض الإنسان على التمرد. وكذلك يطلق على الناس الذين يُبعدون غيرهم عن الله تعالى.

العروة– من الدلو والكوز المقِبَضُ أو الأذنُ؛ وما يوثَق به؛ ما لا يضيع أبداً، فيقال للكلأ الذي يبقى مخضرا عروة؛ النفيس من المال (الأقرب).

التفسير:

من العجيب أن الناس يعترضون على الإسلام أنه يأمر بممارسة الجبر لنشر الدين. مع أن الإسلام إذا كان يأمر بالجهاد والقتال كما قال في هذه السورة (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) (191).. فإنه أيضاً يأمرهم (لا إكراه في الدين). أي إذا سمحنا لكم بالحرب فلا يعني ذلك أن تجبروا الناس على الإسلام، وإنما سمحنا بالقتال لدفع شر العدو وكف أذاه ومفاسده. لو أن الإسلام أجاز الجبر في الدين ما قال من جهة (قاتلوا .. الذين يقاتلونكم) ومن جهة أخرى (لا إكراه في الدين). فهذه الكلمات الصريحة تدل على أن الإسلام لا يسمح بالجبر في المعاملات الدينية، بل إن السياق يوضح أن الإسلام يخالف مبدأ الجبر في الدين. فمن الخطأ تماماً اعتراض المستشرقين المسيحيين أن الإسلام يأمر أتباعه بإدخال الناس فيه بحد السيف. إنما الحقيقة أن الإسلام هو الدين الأول والأوحد الذي علّم الدنيا أن كل إنسان يتمتع بحرية كاملة فيما يتعلق بالدين، ولا يحق لأحد ممارسة الإكراه في الدين.

قوله تعالى (قد تَبيّن الرشد من الغي) جملة مستأنفة، جاءت جوابا لسؤال مقدّر، ذلك أنه بعد قول (لا إكراه في الدين) نشأ سؤال طبعي: إذا كان الدين شيئاً طيباً فلماذا لا يجبر الناس عليه كي يتمتعوا بهذه النعمة، فأجاب الله تعالى: (قد تبين الرشد من الغي)، فلا داعي لممارسة الجبر بعد ذلك، وإنما يكفي تقديم هذا الهدي للناس، لأن الحق قد تبين وتميز عن الباطل تماماً. وهكذا تبين هذه الآية السبب وراء نهي الإسلام عن ممارسة الجبر في أمور الدين. إنما يمارس الجبر من لا يستطيع إثبات وجهة نظره بالدليل والبرهان، أو أن الطرف الآخر لا يقدر على الفهم، فمثلا لأنه الطفل صغير ضعيف العقل يُكره على عمل لا يرضاه، ولكن عندما يبلغ بنفسه ويميز بين ما يضره وما ينفعه، لا يُكره. يقول الله عن الإسلام: لقد بيّنا كل الأدلة والبراهين فلا حاجة لأن يُقبل بطريق الجبر والإكراه. بل إن الإسلام يرفض أن يقبل أحد دينا دون تعقل وروية.. خوفاً أو طمعاً في شيء. يقول القرآن الكريم: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) (المنافقون: 2). إذا كان الإسلام يريد الانتشار بحد السيف فهل يُعقل أن يذكر القرآن بهذه الكلمات من دخلوا في الإسلام والنفاق في قلوبهم؟ وإلا فإن إيمانهم اعتُبر نتيجة للتعليم القرآني. ثم من ذا الذي يدّعي أنه يمكن بحد السيف تكوين جماعة من المخلصين؟

كما يقول الله تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (البقرة: 191).. أي إنما يأمر الإسلام بقتال من يحاربون المسلمين باسم الدين ويريدون ردهم عن الإسلام بالإكراه، ومع ذلك يأمر المسلمين (ولا تعتدوا)، وإذا كفوا عن قتالكم فكفوا أنتم أيضاً عن محاربتهم. وما دام الحال هذه، فمن الخطأ الفاحش القول بأن الإسلام يأمر أتباعه بالحرب لكي يدخلوا الآخرين في دين الإسلام؟ الإسلام لا يأمر بالقتال للقضاء على أديان أخرى مختلفة، وإنما يأمر بالقتال للحفاظ على أديان مختلفة.. كما قال الله تعالى (أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير* الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) (الحج: 40-41). فيعلن هنا بكل صراحة وجلاء أن الحروب الدينية إنما تجوز ضد قوم يمنعون الآخرين من قول (ربنا الله).. أي يتدخلون في دينهم، ويريدون هدم معابدهم، وردهم عن دينهم، أو يقتلونهم. في هذا الحال يسمح الإسلام بالحرب ضد المعتدين، لأن الإسلام جاء كشاهد محافظ وليس كجبار ظالم.

فمن الخطأ تماماً اعتراض المستشرقين المسيحيين أن الإسلام يأمر أتباعه بإدخال الناس فيه بحد السيف. إنما الحقيقة أن الإسلام هو الدين الأول والأوحد الذي علّم الدنيا أن كل إنسان يتمتع بحرية كاملة فيما يتعلق بالدين، ولا يحق لأحد ممارسة الإكراه في الدين.

وقال (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها). ولنعلم أن الكفر يعني الرفض أيّاً كان الشيء المرفوض. وقد وردت كلمة “الكفر” في القرآن بالمعنى الحسن والمعنى السيء أيضاً. وفي هذه الآية جاء بالمعنى الحسن. يقول الله تعالى إن الذين يرفضون ما يأمر به الشيطان أو أصحاب العادات الشيطانية، ويؤمنون بالله إيماناً صادقاً، هم ثابتون على صخرة صلبة قوية. وعلى النقيض يقول القرآن أيضاً (إن الذين يكفرون بالله..) (النساء: 151)، أي أن هناك أناساً يكفرون بالله أيضاً. فالمعنى الظاهري للكلمة ليس رديئاً ولا حسناً، وهو الإخفاء والتغطية. وفي اللغة تغطية الشيء السيء كفر، وتغطية الشيء الحسن أيضاً كفر. وإخفاء الحق كفر، وإخفاء الشر أيضاً كفر. ولكن ما دامت الكلمة قد استُخدمت في القرآن كثيراً بمعنى رفض الحق، لذلك إذا وردت بدون أي قرينة فيراد بها المعنى السيء وكذلك الحال بالنسبة للإيمان. فالمؤمن يؤمن بشيء حسن أو بشيء سيء. ولكن يكثر استخدامه في الإيمان بما هو حسن، لذلك عندما يُستخدم الإيمان بدون قرينة أدى معنى حسنا. وإن كانت قد وردت كلمة الإيمان في القرآن الكريم بالمعنى السيء في قوله تعالى (يؤمنون بالجبت والطاغوت) (النساء: 52) أي أنهم يؤمنون بأمور لا نفع فيها ويؤمنون بما هو تعدٍ للحدود.

وقوله (فمن يكفر بالطاغوت) لا يعني من يكفر بوجود الطاغوت، وإنما من يرفض ما يأمر به الطاغوت، لأن الله قال في مقابل ذلك (ويؤمن بالله) أي يطيع ما يأمر به الله. أما إذا قلنا أن المعنى هو أن يكفر بذات الطاغوت فيكون معنى الآية أنه قد ينجو من الهلاك من يرفض وجود الشيطان ويؤمن بوجود الله تعالى، ولكن هذا المعنى خطأ تماماً.. لأن القرآن في كلمات صريحة يقول بوجود الله سبحانه ويقول بوجود الشيطان. فالمراد من الكفر والإيمان هنا هو أن من رفض ما يأمر به الشيطان وقبل ما يأمر به الله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.

العروة هي: 1.المقبض الذي يُقبض به على الشيء؛ 2.العماد الذي يُعتمد عليه؛ 3.الشيء الذي يرجع إليه الإنسان عند الحاجة؛ 4.الشيء الذي يبقى دائماً ولا يضيع؛ 5.النفيس من المال.

فإذا أخذنا العروة بمعنى المقبض فيكون الله قد شبّه الدين هنا بشيء لطيف موضوع في إناء محفوظ فيه، ويتقدم الإنسان ليأخذ هذا الإناء من عروته، ويمسك به جيداً ويحتفظ به.

والمعنى الثاني أن الدين عماد للإنسان يعتمد عليه كي لا يسقط. فكما أن الإنسان عند صعوده السلم يحتاج متكأ يستند إليه، كذلك الدين مثل متكأ إذا أمسك به الإنسان لا يسقط.

والمعنى الثالث أن الإنسان إذا تمسك بالدين بقوة، فإنه يستطيع أن يرجع إليه عند حلول أي مصيبة ويستعين به.

والمعنى الرابع أن الدين هو الشيء القوي الذي يستطيع أن يلوذ به الإنسان في الدنيا والآخرة. أما العلاقات الأخرى فهي مؤقتة وتنقطع واحدة تلو أخرى عند الشدائد. صحيح أن الإنسان يعتبر أقاربه واصدقاءه رفقة له، ولكن قد يحدث منهم ضعف وعدم وفاء؛ وعندئذ يدرك الإنسان أن العلاقات الحقيقية هي تلك التي تتأسس على الدين، وهي التي تكون مباركة.

(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 258)

التفسير:

عندما يقال في العربية أن زيدا أخذ عمرا من الظلمات إلى النور فيعني أنه هداه إلى طريق النجاح، سواء كان هذا النجاح مادياً أو روحانياً. وهنا يقول الله أنه يأخذ جماعة المؤمنين إلى طريق إنجاح روحانياً ومادياً، .. وينجيهم من الفشل والأذى.

قوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ). المراد من الطاغوت هنا أولئك الذين يقومون مقام الشيطان. هؤلاء يرمون بالناس بعيداً عما يكون عندهم من هدي قليل. لا تظنوا أن الكفار محرومون تماماً من النور. فعندما ادَّعى النبي بالنبوة لم يكن أبو جهل سيئا إلى هذه الدرجة التي قُتل عليها. وإنما الواقع أن الإنسان عندما يرفض الحق يصاب قلبه بالصدأ، وتدريجياً يزول عن قلبه ما فيه من نور قليل. كان هناك كثير من الحقائق التي تمسك بها الناس قبل زمن افمام المهدي عليه السلام ولكنهم يرفضونها الآن. فمثلاً، كان علماء المسلمين يقولون على المنابر منشدين بيتاً معناه: أين موسى وأين عيسى؟ هذا ما يحزننا. يريدون أن موسى وعيسى قد ماتا.. أين هما؟ ولكنهم اليوم حذفوا هذا البيت من الكتب*. كذلك كان منهم من يؤمن باستمرار النبوة بعد سيدنا محمد .. ومن هؤلاء المولوي محمد قاسم النانوتَوي، فقد قال بكل صراحة في كتابه (تحذير الناس، ص 43) أنه يمكن أن يأتي نبي بدون شرع بعد سيدنا محمد . ولكن الناس الآن يرفضون ذلك. فقبل مبعث النبي يكون عند بعض الناس عقائد طيبة، ولكنهم عندما يرفضون نبيهم، وتقام عليهم الحجة بحسب عقائدهم، فإنهم يتهربون ويرفضون هذه العقائد أيضاً. ولكن الذي يقبل الحق يزداد إيمانه يوماً بعد يوم.تي نبي بدون شرع بعد سيدنا أتي نبي بدون شرع بعد

لقد قلت من قبل أن معنى قوله (يُخرجهم من الظلمات إلى النور) أن الذين يصبحون لله يحقق لهم الازدهار كقوم. ولكن لما كان الإنسان يواجه المشاكل عند كل خطوة، فينخدع بعض الناس ويقولون: إذا كان الله يريد النجاح والفلاح للمؤمنين فلماذا تواجههم المشاكل والشدائد؟ فلنتذكر أن وعود الازدهار هذه هي للقوم في مجموعهم ولا تكون للأفراد فقط، فلا يتنافى مواجهة بعض الأفراد للمشاكل مع هذا الوعد. إذا مات أحد فإن موته ينفع القوم في مجموعهم، فلا يعتبر ميتاً بل يبقى حياً. إذا نظرنا إلى الشدائد الظاهرة فإن سيدنا الإمام الحسين رضي الله عنه قد استُشهد، ولكنه لم يفشل في مرامه بل فاز، ولا تزال المبادئ التي ضحى لأجلها موجودة إلى اليوم، وستبقى إلى يوم الدين، كذلك استُشهد بعض الأنبياء، كما قال سيدنا المهدي صراحة أن سيدنا يحيى قُتل (حمامة البشرى، ص 49). فما دام النبي نفسه يُقتل، فمنذا الذي ينجو من هذه الشدائد؟ ليس موت فرد أو أفراد دليلاً على فشل القوم في مجموعهم.. فاستشهاد الإمام الحسين حقيقة، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ هل يستحسن أحد ما فعله يزيد؟ أما الإمام الحسين فيحظى بحب واحترام من الجميع، ويذكرون اسمه بالتوقير والإجلال.

(أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). قال من قبل أنه لا داعي لممارسة الجبر لنشر الإسلام، لأن الهدى قد تميز من الضلال، أما القتال فقد أمرناكم به لأن العدو يعتدي عليكم ويهاجمكم. وهنا بيّن أن مصيركم سيكون حسناً، أما أعداؤكم فستكون عاقبتهم غاية في السوء. سوف يكتب الله لكم النجاة، ويلقي بأعدائكم في أغوار الهلاك، فيحترقون دائماً في نيران الغيظ والحسرة، ولا يرون حولهم إلا جهنم. ولا يجدون لهم منها مخرجاً.

*أي أنهم كانوا يقولون بوفاة عيسى بن مريم، ولكن عندما أعلن سيدنا المهدي أن عيسى قد تُفي كالأنبياء الآخرين عارضه المشائخ عناداً، وحذفوا هذا البيت من كتبهم وخطبهم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك