شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه
  • معاملته للميت واحترامه
  • معاملته الجيران والأقارب
  • حبه لدوام الصحبة الصالحة
  • اجتنابه لسوء الظن
  • تجاوزه عن أخطاء الآخرين
  • صبره عند البلاء
  • تعليمه التعاون المتبادل
  • تمسه بالصدق والشفافية والاستقامة
  • __

إن حياة نبي الإسلام كتاب مفتوح كلما بحثت في أي جزء منه تجد فيه تفاصيل تثير الاهتمام وتخلب اللب. ولم يحدث أن تم تسجيل وقائع حياة نبي أو حياة مَعلم آخر تسجيلاً دقيقًا ومتاحًا للدارسين، مثل حياة الرسول العظيم . وصحيح أن هذه الغزارة في الحقائق والمرويات المدوّنة، قد أعطت النقاد الماكرين فرصتهم المنتظرة، ولكن من الصحيح أيضًا أنه حين تتم دراسة الانتقادات بعناية، ويتم الرد الحاسم عليها، فإن ما تثيره فينا حياة الرسول من الإيمان والحب الغامر والتقوَى، لا يماثلها فيه حياة أي شخص آخر.

إن الحياة الغامضة التي لا يعرف الناس شيئًا عن تفاصيلها قد تسلم من النقد، ولكنها لا تفلح في بث الإقناع وزرع الثقة في قلوب من يتبع أصحابها. إذ تظل صعوبات الغموض، وظلمات الحيرة، وخيبة الأمل، قابعة في القلوب. ولكن الحياة الغنية بالتفاصيل المدوّنة، مثل حياة الرسول ، تثير فينا التأمل العميق ومن ثم تثبّت الاقتناع. وعندما يتم تصفية الحسابات الخاطئة للانتقادات والمفاهيم الزائفة، بكشف الحقائق وتسليط الأضواء عليها، فمن المحتم أن تجذب حياة الرسول منَّا كل حب وإعجاب وتقدير، وتثير فينا كل إعزاز وإكبار وتوقير، بشكل كامل ودائم وإلى الأبد.

تلك هي عزيز القارئ أهم ملامح هذا الكتاب القيم الذى ستطالعه عبر حلقات في هذه الزاوية. والجدير بالذكر في هذا المقام أنه من الصعب تقديم ملخص كامل متوازن لحياة كحياة الرسول ، التي كانت واضحة كالكتاب المفتوح، وشديدة الثراء بما تحتويه من وقائع ومواقف وأحداث. وقد أعطى المؤلف لمحة، ولكن حتى هذه اللمحة لها وزن وثقل. حيث أنه كان يمارس ما يعظ به، وكان يعظ بما كان يمارسه؛ وإذا عرفته فقد عرفت القرآن المجيد، وإذا عرفت القرآن المجيد فيمكنك أن تتعرّف عليه.

لقد حصل شرف نقل هذا الكتاب إلى لغة الضاد للأستاذ الفاضل فتحي عبد السلام.

معاملة الميت واحترامه

حضّ الرسول كل شخص أن يترك وصيّة يبين فيها الترتيبات اللازمة التي تنظم الأمور وشئون الحياة من بعده بحيث لا يسبّب المعاناة لأبنائه أو أقاربه بعد موته. وأعلن أنه لا يحق لإنسان أن يتحدث عن ميّت بسوء، بل نذكر حُسن الفعال إذا تحدثنا، فلا فائدة من ذكر السيئات أو مواطن الضعف لدَى من مات، أما ذكر المحاسن فيشجع الناس أن يدعوا له (البخاري).

وكان يحضّ أيضًا على سداد ديون الميت قبل دفنه، وغالبًا ما كان يقوم بسدادها بنفسه، فإذا لم يستطع ذلك فإنه يشجّع الوَرثة والأقارب الأدنى إلى الميت أن يقوموا بذلك، أو يحث المسلمين الآخرين أن يتحمّلوا سداد الديون، ولا يقوم بصلاة الجنازة على ميّت ما لم تُقضَ ديونه عنه.

معاملة الجيران

كان يعامل جيرانه باحترام وودّ بالغيْن إلى أقصى حد، وكان يقول إن جبريل ظل يوصيه بالجار حتى ظن أنه سيوَرّثه. وروَى أبو ذر أن الرسول الكريم قال لـه: “إذا طبخت لأهلك فزد في المرق حتى تعطي منه جارك”. وليس معنى هذا أن الجار لا يشترك في غير ذلك من الطعام، ولكن لما كان طعام العرب المفضل هو من اللحم، لذلك كان للمرق شأن فيه. ولقد اتخذ الرسول من طبق المرق مُنطلقًا ليضرب به مثلاً يعلمنا أن لا يقتصر فكر المرء على الاستمتاع بمذاق الطعام فقط، بل عليه أن يُفكر أيضًا في جاره فيشركه معه في طعامه، وبذلك يتم التوازن بين الرغبة والواجب.

وروَى أبو هريرة أن الرسول أعلن يوما قائلاً: “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن”. فسأله أصحابه: “من هو يا رسول الله”؟ فأجاب قائلاً: “من لا يأمن جاره بوائقه” وخاطب النساء مرة قائلاً ما معناه أنه إذا لم يجد المرء سوى كارع أو رجل ماعز فطبخها فعليه أن يشرك معه جاره.

وأمر الناس ألا يدقّوا الأوتاد في جدران بيوت الجيران، ولا يغرسوا الأخشاب التي تحمل السقف في حوائطهم.

وروَى أبو هريرة أنّ رسول الله قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت” (مسلم).

«ويل لمن أدركَ أبويْه الكِبَرُ عنده ولم يُدْخِلاه الجنةَ».

معاملة الأقارب

هناك عيب شائع في أغلب الناس، وهو أنهم يبدأون في إهمال والديهم عندما يتزوّجون وينتقلون للإقامة في بيوتهم الخاصة بهم، ولذلك أكّد الرسول على استحقاق الوالدين لخدمة الابن ورعايته، وحقهما في نوال التوقير والمعاملة العطوفة.

وروَى أبو هريرة أن رجلا جاء إلى الرسول يسأله عن أحقّ الناس بحسن صحبته؟

فقال الرسول : “أمك”. فقال الرجل: “ثم من”؟ فكرر الرسول   قوله: “أمك”. فسأل الرجل للمرة الثالثة: “ثم من”؟ فأعاد الرسول جوابه: “أمك”. فأعاد الرجل سؤاله للمرة الرابعة فقال: “ثم من”؟ وحينئذ قال الرسول : “أبوك، ثم الأقربون؛ الأقرب ثم الأبعد”.

لقد مات والده قبل مولده، ومات جدّه في بداية نشأته، ولكن بعض زوجاته كان لهن آباء وأمهات أحياء، فكان يعاملهم باحترام وتوقير عظيمين. وفى إحدى المناسبات عند فتح مكة، بعد أن دخلها قائدًا منتصرًا، جاء أبو بكر بأبيه ليلقَى الرسول ، فعاتب أبا بكر لإزعاجه أبيه حتى يأتي إليه، وقال إنه كان من الأوْلى أن يذهب هو إليه بنفسه. (السيرة الحلبية ج3 ص99)

ومن أقواله : “ويل لمن أدركَ أبويْه الكِبـَرُ عنده ولم يُدْخِلاه الجنةَ”. ويعني هذا أن خدمة الوالدين عند الكبر كاف لنُزول البركة الإلهية ورضوان الله وفضله، فمن أتيحت له الفرصة ليخدم والديه المسنّين ويحسن إليهما ولم يفعل ذلك على أكمل وجه، فالويل له. ولقد تظلم رجل مرة إلى الرسول أنه كلما ازداد إحسانًا ورحمة إلى أقاربه زادوه عداء، وكلما عاملهم بلطف وعطف عاملوه بجفاء، وكلما انبسط إليهم تجهّموا في وجهه وعبسوا لـه. فقال الرسول : “لو كان ما تقول حقًّا فكأنما تسفّهم الملّ (أي تقيم عليهم الحجة) ولا يزال معك عليهم من الله ظهير ما دمت على ذلك”. أي: إذا كان حقًّا ما يقول فما أسعده، لأن فضل الله تعالى سوف يتوالى في التنَزّل عليه طالما استمر على ذلك (مسلم، كتاب البر والصلة).

وكان الرسول يحث المسلمين مرة على الصدقة والزكاة، فجاء أحد صحابته وهو أبو طلحة الأنصاري وعرض بستانًا صدقة، وكان من أحب ماله إليه. فتهلل وجه الرسول وعبر للصحابة عن حسن فعله وأثنى عليه قائلاً: “بخ بخ، ذاك مال رابح”. ثم قال لـه: “إني أرى أن تجعلها في الأقربين”. أي توزعها على أقاربك الفقراء (البخاري، كتاب التفسير). وجاءه رجل مرة وصرّح له برغبته في الجهاد في سبيل الله لينال رضا الله تعالى، فسأله الرسول عما إذا كان أحد من والديه لا يزال حيًّا؟ فرد عليه أنّ كليهما لا زال حيًّا، ولقد تركهما يبكيان. فأرشده الرسول أن يجعل جهاده في خدمتهما ومؤانستهما ورضاهما، وأن يُضحكهما كما أبكاهما، فهذا هو رضوان الله عليه في حالته تلك.

ولقد حدّد بوضوح قاطع للمسلمين أن الوالديْن غير المسلمين لهما نفس الحق كالوالديْن المسلمين في الرعاية، وجاءت زوج لأبي بكر تزور ابنتها “أسماء” في المدينة، ولم تكن هذه المرأة قد أسلمت، فجاءت ابنتها إلى الرسول تسأله هل تكرمها وتصلها؟ فأجابها بالإيجاب قائلاً: “إنها أمّك” (البخاري-كتاب الأدب).

ولم يعامل بالحسنى أقاربه المقربين وحدهم، بل عامل بالاحترام الوافر كلّ من يتّصل بهم من صلات قربى وصداقة. فحين يذبح، كان يرسل نصيبًا من اللحم لصديقات زوجه المتوفاة، السيدة خديجة؛ وكان يوصي أزواجه الأخريات ألا يغفلن صديقات السيدة خديجة في مثل هذه المناسبات. وبعد سنوات عديدة من موت السيدة خديجة، جاءت أختها “هالة” تستأذن على الرسول وهو في معيّة بعض أصحابه. لقد رنّ صوتها في أذنيه شبيهًا بصوت السيدة خديجة، وحين سمع الرسول صوتها تستأذن هتف قائلاً: “يا رباه، هذه هالة أخت خديجة”. حقًّا، إن العاطفة الحقيقية الصادقة تتجلى وتعلن عن نفسها، فيشعر المرء بالحب والاحترام تجاه كل من تربطه صلة بمن يحب ويحترم.

وروَى أنس بن مالك أنه كان في رحلة سفر مع جرير بن عبد الله، فوجد جريرًا يخدمه ويعامله كما لو أنه سيده. كان جريرًا أكبر سنًّا من أنس، لذلك اعترض أنس على جرير أن يضع نفسه دون مقامه الواجب. لكن جريرًا أجاب بأنه رأى الأنصار وحبهم وخدمتهم لنبيّ الله، فتأثر بذلك كثيرًا، وآلى على نفسه أن يخدم كل أنصاري يكون في رفقة معه كخادم له، وأنه بخدمته لأنَس فإنما يفي لنفسه بما عزم عليه؛ لذلك لا ينبغي لأنس أن يثنيه عن عزمه (مسلم). وهذه الواقعة تؤكد أن المرء حين يحب إنسانًا حبًّا حقيقيًّا، فإنّ مشاعره تمتد إلى الذين يخدمون محبوبه بإخلاص. وهكذا، فإنّ من يجلّون ويحترمون آباءهم وأمهاتهم، فإنهم ينظرون لكل من يكون صديقًا أو قريبًا لآبائهم بنفس عين الرعاية والاحترام.

وذات مرة شدّد الرسول في خطابه على هذه المسألة، باعتبارها فضيلة عليا وأنها من أعمال البر. وكان ممن سمع هذا التشديد أحد صحابته وهو عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما. وبعد سنين عدة مرّت على ذلك، لقي عبد الله بن عمر رجلاً بدويًا أثناء الحج، فعرض عبد الله عليه راحلته ليركبها البدوي، كما أهدى إليه عمامته. وشاهد صاحب له ما يحدث، فوجد أن عبد الله يبالغ في إكرام الرجل، بينما الرجل في نظره يكفيه أقل من ذلك. فقال عبد الله بن عمر: “إنه كان صديقًا لعُمر ، وإني سمعت الرسول يقول: “إن من أبر البر أن يصل الرجل أصدقاء أبيه”.

دوام الصحبة الصالحة

كان الرسول يحب دوام صحبة الفضلاء والصالحين، وإذا رأى ضعفًا أو عيبًا في أحد أصحابه نصحه في لطف وعلى انفراد. وروَى أبو موسى الأشعري أن نبيّ الله ضرب مثلاً يوضّح به الفوائد التي تعود على الإنسان من الصديق الصالح والجليس الطيب الفاضل، ويشرح المصائب التي يمكن أن تصيب الإنسان من الصديق السيئ والجليس الخبيث، فقال:

“مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِير فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً”. وكان يقول: “الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ” (البخاري ومسلم).

اجتناب سوء الظن

كان نبي الله شديد الحرص على أن يجتنب الناس سوء الظن. وحدث أن جاءت زوجه السيدة صفية يومًا إلى المسجد وهو معتكف لتراه. وعندما حان وقت عودتها كان الجو قد أظلم، فقرر الرسول اصطحابها إلى بيتها. وفى الطريق مر عليه رجلان، فأوقفهما تفاديًا لأن يمر في خيالهما أي خاطر بسوء الظن حينما رأياه يسير ليلاً في صحبة امرأة، وقال: تَعَالَيَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ. فقال الرجلان: يا رسول الله! حاشاك أن نظن بك شيئًا. فأجاب :

“إِنَّ الشَّيْطَانَ (أي الفكر الآثم) يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يُلْقِيَ فِي أَنْفُسِكُمَا شَيْئًا.” (البخاري، كتاب الاعتكاف).

التجاوز عن أخطاء الآخرين

لم يفضح أبدًا عيوب الآخرين أو تقصيرهم، وحضّ الناس ألا يجهروا بمعاصيهم الخاصة، وكان يقول:

“مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ (أي عيبه) سَتَرَ الله عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”.

وقال أيضًا:

“كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ الله عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ” (البخاري ومسلم).

يظن بعض الناس خطأ أنّ الاعتراف بالإثم يساعد على التوبة والتطهر منه، والحقيقة أن الاعتراف بالإثم لا يساعد إلا على التمرّد والجرأة. فالإثم خطيئة، ومن ينْزلق إليها يصبح فريسة للإحساس بالخجل والندم، وله فرصة أن يفرّ عائدًا إلى طريق الطهر والتقوَى من خلال ممر التوبة. ومثله كمثل شخص أغرته الخطيئة، ولكن نداء التقوَى يدعوه، فيستجيب للنداء ويعود، فيتلاشى تأثير الإثم عليه. لكن هؤلاء الذين يجاهرون بآثامهم ويفخرون بها يفقدون كل إحساس بالصلاح، ويفقدون قابليتهم للندم والتوبة.

وحدث مرة أن جاء رجل إلى الرسول وقال له إنه قد زنى، (وهذه جريمة إذا ثبتت بدليل واضح فإن عقوبتها الجلد حسب الشريعة الإسلامية)، وحالما سمع الرسول اعتراف الرجل أعرض عنه إلى ناحية أخرى وانشغل بأمر آخر. وكان قصده من ذلك أن التوبة هي الطريق لمعالجة الموقف وليس الاعتراف. ولكن الرجل لم يفهم ذلك، وتصوّر أن الرسول لم يسمعه، فذهب وواجه الرسول وخاطبه مكررًا اعترافه. فأعرض عنه ثانية، ولكن الرجل ذهب وواجه الرسول ليكرر نفس الاعتراف. وعندما فعل ذلك أربع مرات، عبر الرسول عن غرضه من إعطاء الفرصة له. ثم أمر بسؤال المرأة، فإن أنكرت فالعقوبة على الرجل وحده، وإذا اعترفت عوقبت معه. وكانت عادة الرسول أن ينفذ حكم التوراة فيما لم ينْزل فيه القرآن المجيد، وكان نصّ التوراة في الزاني هو الرجْم حتى الموت، فنطق الرسول بالحكم على الرجل بناء على ذلك. وعند تنفيذ الحكم حاول الرجل الفرار، ولكن الناس لاحقوه ونفّذوا فيه الحكم. وعندما علم الرسول بالأمر، لم يرض عما فعلوه، وأفهمهم أنه حكم على الرجل بناء على اعترافه هو، ومحاولته الفرار تعني سحب اعترافه والعودة عنه، وبناء عليه فلم يعد عُرضة للعقوبة التي وجبت بناء على اعترافه.

وأعلن الرسول أن العقوبة في الدنيا لا تجوز إلا على الأعمال الظاهرة الواضحة، وليس على ما يكنّ الإنسان في قلبه. وقد حدث مرة خلال القتال أنّ أحد رجال العدوّ كان يتتبع بعض المسلمين، ويكمن لهم، فإذا رأى مسلمًا منفردًا عن صحبه قتله. وفي هذه المرة أدركه أسامة بن زيد وأمسك به، ثم استل سيفه ليقتله، فلما رأى الرجل أن لا مهرب أمامه، نطق بشهادة ألا إله إلا الله، وكان ذلك يعني قبوله الإسلام. فلم يُلق أسامة بالاً إلى ذلك وقتله. وعندما رُويت هذه الواقعة على مسامع الرسول ، من بين ما رُوي من قصة الحملة، أرسل إلى أسامة وسأله عنها، فلما أكّد له صحة الواقعة، سأل الرسول أسامة عما سيفعله إذا جاء هذا الرجل يوم القيامة يحمل شهادته معه؟ فأجاب أسامة: “يا رسول الله! لقد قتل هذا الرجل المسلمين، وإنما قال الكلمة خدعة لينجو من العقاب”. ولكن الرسول ظل يكرر: “ماذا تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة”؟ ومعنى ذلك أن الله سيُحمّل أسامة مسئولية موت الرجل، لأنه وإن كان قتل المسلمين إلا أن تلاوته للشهادة كانت دليلاً على أنه تاب عن فعله السيئ. ولما اعترض أسامة بأن الرجل لم ينطق بالشهادة إلاَّ خوفًا من الموت وليس بسبب التوبة، قال له الرسول :

“أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا”.

وظل يكرر:

“ماذا تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة”. ويقول أسامة: “فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ” (مسلم، كتاب الإيمان).

كان هذا الرسول الكريم على استعداد دائمًا للعفو عن أخطاء الناس وتجاوزاتهم. كان أحد الأشخاص قد تورّط في قذف زوج الرسول السيدة عائشة، وكان يعتمد في نفقات معيشته على صدقة من أبي بكر، والد عائشة. وعندما ثبتت براءة السيدة عائشة، وتبين زيف الاتهامات، أوقف أبو بكر معونته لهذا الرجل. وكان ذلك يُعتبر ضبطًا محمودًا للنفس من جهة أبي بكر؛ لأن الرجل العادي في ذلك الموقف كان جديرًا أن يتوَغّل في النقمة إلى أقصى مدى ضد فقير عالة قام بتشويه سمعة ابنته. ولكن لما عرف الرسول ما صنعه أبو بكر كلَّمه، وأشار إلى أن الرجل وإن كان قد أخطأ، إلا أنه لا يُنتظر من رجل مثل أبي بكر أن يقطع عنه وسائل معيشته بسبب خطئه. وعند ذلك رجع أبو بكر إلى كفالة الرجل (البخاري، كتاب التفسير).

 الصبر عند البلاء

كان يقول: “عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا لـه”. وعندما اقتربت وفاته، كان يتأوّه من شدة الألم، ولم تتحمّل السيدة فاطمة مشهده وهو يعاني فقالت: “وا كرب أبتاه”. فقال لها إذ ذاك: لا كرب على أبيك بعد اليوم”. وكان يقصد أنّ متاعبه محصورة في حدود هذا العالم، ولكنه منذ اليوم سينطلق من هذه الحياة ليدخل في حضور مع الله خالقه، ولن يكون مُعرَّضًا بعد اليوم لأيّ كرب.

وعندما كان ينتشر أيّ وباء، لم يكن يقبل أن ينتقل الناس من البلدة الموبوءة إلى أخرى، لأن ذلك يعمل على توسيع رقعة الوباء، وكان يقول ما يشير إلى أن من يمكث في بلده وقت الطاعون ويحجم عن نقل المرض إلى منطقة أخرى غير موبوءة، ثم يموت هذا الإنسان بسبب الوباء، فإنه يُعتبر شهيدًا عند الله تعالى. (البخاري، كتاب الطب).

 التعاون المتبادل

وكان من تعليمه أن من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وأن الناس لا يصح أن ينشغلوا بنقد الآخرين أو يتدخّلوا في شئونهم التي لا تعنيهم. وهذه قاعدة أساسية، لو تم تبنّيها ورعايتها وتنفيذها لأدّت إلى ضمان السلام وانتظام أمر هذا العالم. إنّ معظم مشاكلنا تأتي من ميْل أغلبية الناس إلى الاستمتاع بالتطفل والتدخّل في أمور الآخرين، وفي نفس الوقت يمتنعون عن مدّ يد المساعدة لمن يحتاج منهم للمعونة، ولا يتقدمون لإغاثة الملهوف حين يقتضي الموقف ذلك. وقد حثّ الرسول مشدّدا على ضرورة تبادل التعاون بين الناس. وجعلها قاعدة سارية: أنه إذا طولب أحد المسلمين بدفع قدْر من المال بسبب عقوبة موقّعة عليه، وكان عاجزًا عن الوفاء بكل المبلغ، فإن أفراد عائلته أو جيرانه أو أهل بلده، يجب عليهم مساعدته للوفاء بالباقي عن طريق المساهمة المشتركة. وكان بعض المسلمين يتركون مَواطنهم ليسكنوا قريبًا من الرسول ، ليكرّسوا كل وقتهم وجهدهم لخدمة الإسلام بشتى الطرق، فكان الرسول ينصح أقاربهم أن يمدّوهم بحاجاتهم الضرورية. ورُوي عن أنس أن شخصًا كان قد أسلم هو وأخوه، فمكث أحدهما مع الرسول متفرّغًا، وظل الآخر في مشاغله العادية، فجاء هذا بعد مدة يشتكي للنبيّ أن أخاه يضيّع وقته متبطلاً، فقال له إنه يُرزق بسببه. أي أن عليه أن يعطي أخاه ليتفرّغ لخدمة الدين لأن الله تعالى يعطيه من أجل أخيه هذا قصدًا (الترمذي).

وفي أحد الأسفار، عندما بلغ ركب الرسول مكانًا ليعسكروا فيه، انشغل صحابته على الفور بأداء واجباتهم الخاصة بتجهيز المعسكر استعدادًا لقضاء الليلة. ورأى الرسول أنهم لم يتركوا له عملاً، فأعلن بالتالي أنه سيذهب ليجمع الحطب للطهي، فاعترض الصحابة قائلين إنهم يكفونه هذا العمل، فأخبرهم أنّ واجبه هو مشاركتهم فيما يجب عمله مهما كان، وفعلاً ذهب في البرية يجمع الحطب للطبخ (الزرقاني ج4 ص306).

 الصــدق

وكما سبق ذكره، كان الرسول شديد الاستمسـاك بأعـلى مـستويات الصـدق، حتى عُرف بين الناس بالصادق والأمين. وبنفس الأسلوب، كان حريصًا على أن يتّخذ المسلمون نفس السبيل في التمسك بأعلى مراتب الصدق مثله، وكان يعتبر الصدق قاعدة لكل الفضائل والخيرات والصـالحات، وعلّم الناس أنّ الشخص الصادق هو الذي يصدق، ويظل يصدق، ويؤكّد صدقه، حتى يُكتب عند الله صدّيقًا.

ومرة جيء بسجين مذنب إلى الرسول كان يقتل المسلمين بشكل وحشي، وكان عُمر بن الخطاب موجودًا أيضًا، وكان يرى أنّ الرجل مستحق تمامًا لعقوبة القتل، وأخذ ينظر إلى الرسول مرارًا يتوقع منه في أية لحظة أن يشير بقتله. وبعد أن عفا الرسول عن الرجل، قال عُمر للنبيّ إنه كان يستحق الموت عقوبة على جرائمه. فقال له الرسول : فلم لم تقتله؟ فقال عُمر: “يا رسول الله! لو غمزت لنا بطرف عينيك لفعلنا”. فقال عند ذلك: “ما كان لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين.” (ابن هشام ج2 ص217).

ومنـذ ذلك الحـين والمسلمون يسِمـُون الحيوان على مؤخرته، واتّبعهم الأوروبيون في هذه العادة على نفس المنوال.

وجاء رجل إلى الرسول واعترف له أنه يعاني من ثلاث رذائل: الكذب وشرب الخمر والزنا، وأنه قد حاول تركها ولكنه فشل في ذلك، وسأله علاجًا للمشكلة. فأوضح لـه الرسول أنه لو ضمن له أن يدع واحدة منهن فهو يضمن لـه علاج البقية، فوعد الرجل بذلك وطلب منه ذكر الواحدة، فقال لـه أن يدع الكذب. وبعد فترة من الزمن جاء الرجل للنبيّ وصرّح لـه أنه عوفي من الرذائل الثلاث لما اتبع نصيحته بأمانة. فطلب منه أن يروي تفصيل ذلك. فقال الرجل: أردت أن أشرب الخمر يومًا، وعندما كدت أفعل تذكرت وعدي لك، ورأيت أنه لو أنّ أحدًا من صحبي سألني هل شربت، فإنني سأضطر إلى قول الحق وأعترف له أني فعلت، مما يعني أن أكتسب سمعة خبيثة بين أصحابي فيهجروني، فأقنعت نفسي بتأجيل الشراب إلى وقت آخر، ومع مرور الزمن صرت قادرًا على مقاومة الإغراء. وبنفس الطريقة حدث أن وجدت من نفسي ميلاً إلى الزنا، فحاججت نفسي بأن الاستمتاع بهذه الخطيئة سيعرّضني لفقد احترام أصدقائي؛ إذ أنني إما أن أكذب عليهم فأخلف وعدي معك، أو أن أعترف بذنبي. وهكذا استمر الصراع بين إصراري على الوفاء بالوعد الذي قطعته لك، وبين رغبتي في متعة الشرب والزنا. وبمرور الوقت فقدت ميلي إلى هذه الخطايا، وأنقذني إصراري على الصدق والبعد عن الكذب من الخطيئتين الأخريين أيضًا.

 التحسس والتجسس

كان الرسول الكريم يحث دائمًا على نبذ التجسس، وأن يظن كلّ بالآخر ظنًّا حسنًا. وكان يقول:

“إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا وَلا تَنَافَسُوا وَلا تَحَاسَدُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ وَلا يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ. بحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ. كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ. إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ.” (مسلم، كتاب البِرّ والصلة).

الوضـوح والشـفافية والتعامل المستقيم

كان يهتم كثيرًا بحماية المسلمين من داء الانغماس في أي شكل من أشكال الظلم أو الخداع أو الغش في تبادل السلع والتجارة. حدث أن مّر في السوق يومًا فرأى كوْمة من حبوب تُباع، فأدخل يده فيها فوجد بللاً تحت الطبقة الجافة، فسأل البائع عن السبب، فقال إن السماء أمطرت فجأة فأصابها البلل. فقال له: “أفلا أظهرته للناس”؟ وكان غرضه أن يعرف الشاري حالة البضاعة الحقيقية، فقال: “من غشّنا فليس منا” (مسلم). أي ليس عضوًا نافعًا في الجماعة.

وكان حريصًا على أن تكون سوق التجارة حرة تمامًا من كل آثار الممارسات الماكرة المحتالة وريبها، وكان يحثّ الشاري على فحص ما يريد شراءه من بضاعة وأدوات، ونهى المسلم أن يفاوض على شراء شيء بينما هناك شخص آخر يفاوض عليه، وحرّم على التجّار احتكار السلع بغرض رفع أسعارها، وأوصى بأن يستمر إمداد السوق بالسلع دون انقطاع.

التشـاؤم

وكان الرسول عدوًّا للتشاؤم. وكان يقول إن من كان مسؤولاً عن نشر روح اليأس والتشاؤم بين الناس يكون مسؤولاً أمام الله تعالى عن هلاكهم، لأن الأفكار اليائسة والمتشائمة تحط من عزيمة الناس وتؤدي إلى خذلانهم وتحرمهم من التقدم (مسلم).

كذلك فقد حذّر الرسول قومه أيضًا من الخيلاء والفخر من ناحية، ومن التشاؤم واليأس من ناحية أخرى، وحضّهم على اتخاذ طريق الوسط بين هذين الطرفين. فعلى المسلمين أن يعملوا بكدّ وجدّ كاملين، وأن يكونوا على ثقة تامة أنّ الله تعالى سيبارك سعيهم ويؤتيهم أحسن الثمرات، وعلى كل منهم أن يسعى من أجل التقدم، ملتمسًا فعل الخيرات، ويعمل ما فيه تقدم الجماعة الإنسانية كلها، ولكن عليه أيضًا أن يتحرّر من كل مشاعر الفخر وأيّ نزوع أو ميل نحو الخيلاء.

القسوة على الحيوان

كذلك فإنه حذّر الناس من القسوة على الحيوان، وأمر برفق المعاملة معه. وكان يروي قصة المرأة اليهودية التي عاقبها الله لأنها حبست قطتها حتى ماتت، وكذلك كان يروي قصة المرأة التي وجدت كلبًا يعاني من شدة العطش قريبًا من بئر ماء عميق، فأخذت حذاءها ونزلت البئر وأخذت بعض الماء وسقت الكلب العطشان، فكانت النتيجة أن غفر الله لها كلّ ما سبق من آثامها بسبب هذا العمل الصالح.

وروَى عبد الله بن مسعود: بينما نحن في سفر مع رسول الله إذ رأينا فرْخي حمام في عش فأخذناهما، فجاءت أمهما فلم تجدهما في العش، فأخذت تحوم حولهما وتحوم. فجاء رسول الله ورأى الحمامة فأمر بإعادة الفرخين إلى عشهما (أبو داود).

وروَى عبد الله بن مسعود أيضًا أنهم رأوا مرة جحر نمل فوضعوا عليه بعض الحطب وأشعلوا النار فيه، فتعرّضوا لتأنيب الرسول على عملهم هذا. وفي مرة رأى حمارًا (موسومًا) قد كُوِيَ على وجهه فسأل عن السبب فقيل له إن الروم تلجأ إلى هذا الفعل حتى تتميز السلالات الجيدة من الحيوان. فقال لهم إنّ الوجه جزء حساس من الكائن، وإن وسم الحيوان في وجهه عمل قبيح، وإن كان لا بد، فليكن على مكان في المؤخرة (أبو داود والترمذي).

ومنـذ ذلك الحـين والمسلمون يسِمـُون الحيوان على مؤخرته، واتّبعهم الأوروبيون في هذه العادة على نفس المنوال.

التسـامح في القضـايا الدينية

لم يؤكد على أهمية وضرورة التسامح في الأمور الدينية فحسب، بل وضع مقاييس هامة وقدّم بنفسه مثالاً غاية في الرقي في هذا الشأن.

فقد زاره بالمدينة وفد من نصارى نجران لتبادل الآراء والمناقشة حول المسائل الدينية، وكان يضم عدة رجال من أصحاب المقامات في الكنيسة. وعُقدت المحادثات في المسجد، وطالت عدة ساعات. وفى مرحلة من مراحل النقاش، طلب زعيم الوفد السماح لهم بالخروج من المسجد لكي يؤدوا صلاتهم في مكان مناسب. فأخبرهم الرسول ألا حاجة لهم إلى الخروج من المسجد، لأن المسجد نفسه قد بُني لعبادة الله، ويمكنهم أداء صلاتهم وتعبدهم فيه (الزرقاني).

الشجاعـة

لقد سبق الحديث عن عدّة أمثلة لشجاعة الرسول وإقدامه في الجزء السابق من السيرة، ويكفي هنا أن نروي مثالاً واحدًا لا غير.

ملأت الإشاعات المدينة في وقت من الأوقات أنّ الروم يُعدّون جيشًا جرّارًا لغزوها، وكان المسلمون في هذه الآونة يبيتون مسهّدين ليلاً. وفي إحدى الليالي، سُمعت ضجّة من ناحية الصحراء، فأسرع المسلمون إلى بيوتهم، واجتمع بعضهم في المسجد ينتظرون رسول الله أن يأتي ليخبرهم بالأمر الذي يناسب التعامل مع هذا الطارئ المفاجئ، وللتوّ رأوا رسول الله على صهوَة حصان آتيًا من جهة الصوت، وعندها اكتشفوا أن الرسول امتطى فرسه عاريًا من السرج فور سماعه الصوت المنذر بالخطر، واتخذ طريقه جهة مصدره ليتحرّى الأمر، ولم ينتظر أن يجتمع الناس معًا ليخرج في صحبة معه نحو مصدر الخطر. وقد أخبرهم أنه لا خوف هناك ولا روع عليهم لينصرفوا إلى النوم آمنين (البخاري، باب الشجاعة في الحرب).

مراعاته لغير المتحضرين

وكان يوجّه رعاية خاصـة لأولئـك الأجلاف الذين يجهلون السلوك المناسب لنقص التحضّر. كان هناك أعرابي حديث عهد بالإسلام يجلس في صحبة الرسول في المسجد، فنهض وسار بعيدًا عدة خطوات ثم جلس يبول في ركن من أركان المسجد. فنهض بعض أصحاب الرسول لمنعه، فحجزهم عنه حتى لا يزرموه فيحدث له ضرر صحي، ونصحهم أن يصبوا الماء في هذه البقعة ليطهروها بعد ذلك.

الوفاء بالعهود

كان الرسول شديد الحرص في موضوع الوفاء بالعهود. وحدث أن جاءه رسول مبعوث من الخارج في مهمة رسميّة خاصة، وبعد أن مكث عدة أيام بصحبته، دخل في قلبه الإيمان بالإسلام، فاقترح على الرسول أن يعلن ولاءه للإسلام. فأخبره أن هذا الأمر غير مناسب، إذا أنه هنا له صفة تمثيلية، وينبغي له أن يعود إلى قيادته دون أن يكتسب هذا الولاء الجديد. وبعد عودته إلى أهله، إن آنس من نفسه الاقتناع التام بأن الإسلام حق، فيمكنه حينئذ أن يعود كفرد حر، ليعلن قبوله وولائه للإسلام (أبو داود، كتاب الوفاء بالعهد).

إجلال العاملين على خدمة الإنسانية

وكان يولي إجلالاً خاصًا لأولئك الذين يهبون حياتهم ومالهم لخدمة نوع الإنسان. كانت قبيلة طيّ العربية قد بدأت العدوان على الرسول ، ولما احتدمت المعركة أصيبت قبيلة طيّ بهزيمة منكرة، ووقع البعض منهم في الأسر، وكانت منهم ابنة حاتم الطائي؛ الذي كان العرب يضربون به المثل في الكرم. وعندما أخبرت الابنة رسول الله بنسبها، عاملها باحترام جم، وعفا عن كل ما صنعه قومها من عدوان تقديرًا لأعمال أبيها (الحلبية ج3 ص227).

إن سلوك الرسول وأخلاقه الكريمة متعددة الجوانب، لذلك فإنه يصعب استيفاؤها في صفحات معدودة.

حياة الرسول كتـاب مفتوح

إن حياة مؤسس الإسلام العظيم مثل الكتاب المفتوح، الذي يمكنك أن تجد فيه تفاصيل تثير الاهتمام وتخلب اللب، كلما بحثت في أي جزء منه، وتعمّقت في دراسته. ولم يحدث أن تم تسجيل وقائع حياة نبي أو حياة معلم آخر تسجيلاً جيدًا ومتاحًا للدارسين، مثل حياة الرسول العظيم . وصحيح أن هذه الغزارة في الحقائق والمرويات المدوّنة، قد أعطت النقاد الماكرين فرصتهم المنتظرة، ولكن من الصحيح أيضًا أنه حين تتم دراسة الانتقادات بعناية، ويتم الرد الحاسم عليها، فإن ما تثيره فينا حياة الرسول من الإيمان والحب الغامر والتقوَى، لا يماثلها فيه حياة أي شخص آخر. إن الحياة الغامضة التي لا يعرف الناس شيئًا عن تفاصيلها قد تسلم من النقد، ولكنها لا تفلح في بث الإقناع وزرع الثقة في قلوب من يتبع أصحابها. إذ تظل صعوبات الغموض، وظلمات الحيرة، وخيبة الأمل، قابعة في القلوب. ولكن الحياة الغنية بالتفاصيل المدوّنة، مثل حياة الرسول ، تثير فينا التأمل العميق ومن ثم تثبّت الاقتناع. وعندما يتم تصفية الحسابات الخاطئة للانتقادات والمفاهيم الزائفة، بكشف الحقائق وتسليط الأضواء عليها، فمن المحتم أن تجذب حياة الرسول منَّا كل حب وإعجاب وتقدير، وتثير فينا كل إعزاز وإكبار وتوقير، بشكل كامل ودائم وإلى الأبد.

وعلى ذلك، فمن الجليّ البيّن أنه من الصعب تقديم ملخص كامل متوازن لحياة كحياة الرسول ، التي كانت واضحة كالكتاب المفتوح، وشديدة الثراء بما تحتويه من وقائع ومواقف وأحداث. والممكن هنا فقط هو أن نحاول إعطاء مجرّد لمحة، ولكن حتى هذه اللمحة لها وزن وثقل.

لقد كان يعمل بما يعظ به، وكان يعظ بما كان يعمل به؛ وإذا عرفته فقد عرفت القرآن المجيد، وإذا عرفت القرآن المجيد فيمكنك أن تتعرّف عليه.

إننا نرى أن الجاذبية التي تخلقها دراسة كتاب دين من الأديان هي جاذبية محدودة، ما لم تصحب هذه الدراسة معرفة واضحة عن المعلم الذي حمل هذا الكتاب. وتلك هي النقطة التي غابت عن أديان عديدة. فالديانة الهندوسية مثلاً تقدس كتاب “الفيدا”، ولكن العُبّاد من رجال (الريشى) الذين تلقوا كتاب “الفيدا” من الله، لا يوجد خبر عنهم على الإطلاق. ولا يبدو أن أنصار الهندوسية وشُرّاحها قد أدركوا مدى الحاجة إلى أن تُستكمل الرسالة ببيان عن الرسول الذي حملها.

وكذلك، لا يتورّع علماء اليهود والمسيحية عن انتقاد أنبيائهم واتّهامهم علانية بما يُشينهم. وينسون أن الوحي الذي يفشل في تقويم الشخص الذي تلقّاه، لا يفيد الآخرين كثيرًا. وإذا كان الشخص الذي يتلقى الوحي يخالف ما يطلبه الله منه، فلماذا اختاره الله؟ وهل كان على الله أن يفعل ذلك؟ إن كلا من الفرضين يبدو غير معقول. وفكرة أن الوحي الإلهي قد عجز عن إصلاح الأنبياء الذين نزل عليهم، تعني أن الله تعالى لم يكن لديه بديل سوى أن يختار رسلاً غير مؤهلين ليحملوا وحيه، وهذا كله غير معقول. لقد وَجَدَت مثل هذه الأفكار طريقها إلى مختلف الأديان، ربما بسبب طول المدة التي انقضت منذ تأسيسها، أو بسبب أن الفكر الإنساني، حتى شروق شمس الإسلام، لم يكن قادرًا على إدراك وجه الخطأ في هذه الأفكار. وكم كان من الضرورة بمكان، بل ومن أعظم الفوائد، أن يتم حفظ القرآن المجيد وحفظ وقائع حياة المعلم الأول له معًا، في وقت مبكر من الإسلام. لقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها إحدى أزواج الرسول ، وكان عُمرها قد بلغ الثالثة عشرة أو الرابعة عشر حين تم زفافها إلى الرسول ، وعاشت زوجًا له حوالي ثماني سنوات، وعندما انتقل إلى الرفيق الأعلى كان عمرها حوالي اثنين وعشرين عامًا. كانت فتاة أمّية، ومع ذلك فقد أدركت أن التعليم لا يمكن أن ينفصل عن المعلم. وحين سُئلت مرة عن خُلق الرسول ، أجابت على الفور: “كان خُلقه القرآن” (مسند أحمد). لقد كان كل ما يعمله يتفق تمامًا مع تعليم القرآن المجيد، ولم تكن تعاليم ذلك الكتاب العزيز تختلف في شيء عما كان يعمله . ولا شك أنه مما يضيف إلى رصيد الرسول المجيد أن امرأة شابّة أمّية من أتباعه استطاعت أن تفهم وتستوعب الحقيقة التي غابت عن علماء الديانات الهندوسـية واليهـودية والمسيحية.

لقد عبّرت السيدة عائشة (رضي الله عنها) عن حقيقة هامة وعظيمة، في جملة صغيرة بارعة حازمة؛ إنه لمن المستحيل على المعلم الصادق الأمين أن يعلِّم الناس شيئًا ثم يفعل غيره. وقد كان الرسول معلمًا حقيقيًا، صادقًا وأمينًا، وهذا هو ما أرادت السيدة عائشة أن تقوله بجلاء. لقد كان يعمل بما يعظ به، وكان يعظ بما كان يعمل به؛ وإذا عرفته فقد عرفت القرآن المجيد، وإذا عرفت القرآن المجيد فيمكنك أن تتعرّف عليه.

هكذا عزيزي القارئ بنشر هذا القسط الأخير  من كتاب حياة محمد ،  نكون قد وضعنا بين يديك زادًا معرفيا يغطي أهم أحداث حياة أعظم إنسان عرفته الإنسانية. وإننا لا نبالغ حين نقول أن هذا الكتاب القيّم هو أحسن وأدق ما صُنف في سيرة خير الأنبياء .

ندعوا الله أن يتقبل منا هذه المجهود المتواضع في التعريف بمناقب وخصال وعلو شأن أخلاق حبيبه وأن يوفق جماعتنا في المضي قدما  في خدمة الدين والإنسانية. “التقوى”

Share via
تابعونا على الفايس بوك