العربية أم الألسنة
  • العلاقة الترابطية بين سورتي هود ويوسف
  • المشابهة الموضوعية بين أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأحوال يوسف عليه السلام
  • مزايا اللغة العربية
  • قصة يوسف بين مصدرين التوراة والقرآن

__

ســـورة يوســـف

مكية وهي مع البسملة مائة واثنتا عشرة آية واثنا عشر ركوعًا.

سورة يوسف مكية عند معظم الصحابة رضي الله عنهم، إلا أن ابن عباس وقتادة يريان أن أربعًا من آياتها الأولى مَدنية (القرطبي).

الترابط: أما علاقتها بما قبلها من السور فهي أن الله تعالى قد تحدث في سورة يونس مركِّزًا على جانبين من سنته مع البشر: وهما العقاب والرحمة. ثم فصّـل جانب العـقاب في سورة هود، والآن – في سورة يوسـف – يفصّـل جانب الرحمة.

وقد تحدث عن موضوع العقاب قبل موضوع الرحمة لأن أعداء الرسول كانوا سيعامَلون بهذا الطريق، حيث نجد أنه عندما حان جزاؤهم عاقَبَهم الله أولاً، ثم شملهم برحمته وغفر لهم في آخر حياة النبي .

لما كان الرسول أفضل رسل الله وخاتم الأنبياء جميعًا عليهم السلام عامَلَ الله معارضيه في الدنيا كما سيعامل الناس يوم القيامة، حيث سيلقي بالمجرمين في الجحيم أولاً، ثم يخرجهم منها  ويدخلهم الجنة في آخر المطاف.

تمتاز هذه السورة عَن أخواتها بأنها تركّز على بيان حادث واحد بيانًا مفصلاً، بينما نجد غيرها من السور تقتبس أجزاء من شتى الأحداث لبيان الموضوع. ويرجع هذا الاختلاف إلى تشابه كبير بين حياة النبي وحياة سيدنا يوسف عليهما السلام في كل جزئياتها وتفاصيلها. فسرد الله حياة يوسف سردًا  تفصيليًا لينبئ بذلك أنّ الرسول الكريم سَيَمرّ في حياته القادمة بظروف كالتي مرّ بها يوسف .

كما نلاحظ أنه في سورة يونس ذكر الله حادثته كمثال على رحمته، وأما هنا فقد اختار حادثة يوسف لبيان رحمته الواسعة بيانًا مفصلاً. وهذا يرجع إلى عدة أسباب منها: ما سبق ذكره مِن أن حادث سيدنا يونس يبين المماثلة بينه وبين النبي الكريم من حيث المصير فقط دون التطرق التفصيلي إلى ما سيقع للنبي قبل ذلك من أحداث، ولكن حادث سيدنا يوسف لا يوضح المماثلة بينهما في المصير فحسب، بل يبين أيضًا ما سيحصل للنبي في الفترة الأولى من بعثته.

والسبب الثاني هو أن حادث يونس يكشف لنا عن التشابه بين الشعبين فيما يتعلق بمصيرهما حيث نُجِّيَ قوم النبي الكريم من الهلاك في آخر الأمر مثلما حصل بقوم يونس . ولكن حادث يوسف  يكشف عن تشابه آخر أيضًا بين النبيين هو أن أسرة يوسف قد نجوا على يده هو، كذلك تم الإعلان عن العفو العام للكفار يوم فتح مكة بلسان النبي . وهذا لم يتيسر لسيدنا يونس، لأنه لم يعلن بلسانه عن نجاة قومه من الهلاك، وإنما أعلنها الله بنفسه وبفعله هو سبحانه وتعالى.

لم يتحدث عن كونها أمّ اللغات كلها إلا سيدنا  المسيح الموعود والإمام المهدي ، فقد أثبت كون اللغات كلها متفرعة من العربية بوضوح وجلاء بحيث لا يسع أحداً إنكاره

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ*الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ  (يوسف: 1 و2)

التفسـير:

إن قوله تعالى (الر) يعني فيما يعنيه: أنا الله أرى.

واعلم أن موضوع هذه السورة أيضا يدور حول رؤية الله لأحوال أنبيائه. فقد بين الله بقوله هذا أن أحوال هذا الرسول مشابهة لأحوال يوسف، فإذا كان من غير المستساغ اعتبار يوسف مفتريًا قبل ظهور عاقبة أمره فكيف يُستساغ إذن أن يُرمى محمد بالافتراء قبل انكشاف مصيره.

وقد جاء باسم إشارة للبعيد (تلك) ليشير إلى ما يوجد في هذه السورة من أنباء، والمراد أنكم ترون هذه الأنباء بعيدة أي مستحيلة الوقوع، ولكنها سوف تتحقق حتمًا في يوم من الأيام.

لقد وصف الكتاب بأنه (المبين) ليعلن أنه كتاب كامل في ذاته حيث إنه غنيٌّ بالأدلة والبراهين الدالة على صدق ما يدّعي به دون الحاجة إلى أدلة من الخارج، وأنه ليس بواضح بيّن في نفسه فحسب، بل إنه يبين أيضًا حقيقة ما ورد في الكتب السابقة من أمور غامضة أو خاطئة.

وقد دحض القرآن الكريم – باستخدام هذه الكلمة – ما كان سيثار ضده في المستقبل من اعتراضات بأنه يتعارض مع ما تذكره الكتب السابقة عن أحداث الماضي. فقد وضح الله هنا بأن تصحيح الأخطاء الواردة في الأسفار الماضية هو من صميم واجب القرآن الكريم، فكيف لا يخالفها في بعض الأمور؟

مع الملاحظة أنه قد قال في وصف الكتاب هنا بأنه (المبين)، بينما وَصَفَه في سورة هود بأن آياته قد فُصِّلت ، ذلك أنه اقتبس في سورة هود اقتباسات مختلفة قصيرة من شتى أحداث الماضي، تدليلاً على صدق الرسول ، فكانت الكلمة الملائمة لذلك هي (فُصّلت)، إذ يعني التفصيل جعلَ الشيء فصولاً وأجزاء متمايزة منفصلة. وأما هنا فسَرَدَ حادثًا واحدًا طويلاً، فكان التعبير المناسب لذلك هو (المبين) الذي فيه معنى الشرح والتفصيل والتوضيح.

كما أشار بكلمة (المبين) إلى أن القرآن الكريم قد بيّن كل ما يحتاج إليه الإنسان للوصال بالله تعالى من تشريع سماوي وخُلق فاضل واعتقاد سليم وغيرها من الأمور.

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون (يوسف: 3)

شرح الكلمات:

عَرَبيًّا: العربيُّ نِسبة إلى العرب، وهو مصدر وصِفة مشبهة من عَرَب يعرَب وعرُب يعرُب عَربًا. وتُطلق الكلمة على الجزيرة العربية وعلى شعبها الأصلي القديم. يقال: عَرَبَتِ المعدة عَرَباً: تغيرت وفسدت. وعَرَبَ الجرح: نُكس وغفر وبقي أثره بعد البرء؛ تورَّم وتقيَّح. وعَرَبَ الرجل: فسدت معدته؛ نَشِطَ؛ فَصُحَ بعد لكنة في لسانه، فهو عَربٌ . وعَرَبَ النهرُ: غَمَرَ (الأقرب)

فجميع الاشتقاقات من (عرب) تدل على معاني الامتلاء والكثرة، والصفة المشبّهة منه هي: عَرَب، والاسم المنسوب منه هو: عَرَبيّ، أي الممتلئ جدّاً، مع العلم أن النسبة أيضا تعطي معنى المبالغة كقولهم (أَحمَريّ) من أحمر، و(عبقريّ) من عَبقَر.

فالمراد من قوله تعالى (قرآنًا عَرَبيًا) أنه كتاب غنيّ جدّاً بالمعارف والمعاني، لأن الكتاب إنما يمتلئ بالعلوم والمفاهيم. وعندما توصف اللغة بأنها عربية فالمراد أن مفرداتها غزيرة المعاني واسعة المفاهيم.

وعَرُبَ الرجل عَرَبًا: كان عَرَبيًا خالصًا ولم يلحن؛ وعَرُبَ اللسان: تكلم بالعربية وكان عربيًا فصيحًا. (الأقرب). والصفة المشبهة منه عَرَب، وإذا أضفنا إليها ياء النسبة أصبحت (عَرَبيًّا).. أي الذي يكون فصيح الكلام للغاية بريئًا من اللّحن أو اللّكنة تمامًا.

ويتأكد هذا المعنى من مشتقات أخرى للكلمة حيث يقولون: أعرَبَ الشيءَ: أبانَه وأفصَحَه. وأعرَبَ عن حاجته: أبان عنها، وأعرَبَ كلامه: حَسّنَه وأفصَحَ ولم يلحن في الإعراب. وأعرَبَ بحجته: أفصَحَ بها (الأقرب).  وقال الراغب: العربيُّ: المفصِحُ، والإعرابُ: البيانُ (المفردات)

وبناءً على هذا المعنى، فالمراد من قوله تعالى (قرآنًا عربيًا) أنه كتاب سوف يُقرأ كثيرًا وعلى الدوام، وأن مطالبه واضحة مقرونة بالأدلة والبراهين.

التفسـير:

لقد ذكر الله هنا ميزتين أُخريين للقرآن الكريم ذكرًا لطيفًا، فقد سمّاه في الآية السابقة (الكتاب)، ليُخبر أنه سوف يُكتَب ويدوّن وسيبقى محفوظاً في صورة كتاب على الدوام. ووَصَفَه في هذه الآية (قرآنًا عربيًا)، لينبئ أنه سيُقرأ بكثرة وعلى مر العصور. فهناك أسفار عديدة تُكتب وتُطبع بكثرة، ولكنها لا تُقرأ إلا قليلاً، ومثال ذلك الإنجيل. ثم هناك كتب لا تطبع بكثرة ولكن تُقرأ كثيراً، ومثاله “غرنت” وهو كتاب السيخ. ولكن من الضروري لبقاء أي كتاب محفوظاً مصونًا أن يُكتب بكثرة وأن يُقرأ أيضًا بكثرة. وهذه ميزة ينفرد بها القرآن الكريم عن سائر الأسفار السماوية.

أما كلمة (عربيًا) فتُستخدم بمعناها العام أيضا، ولكنها – كما أسلفتُ – تدل أصلاً على معنى الامتلاء والكثرة. وإنما تسمى هذه اللغة عربية لأنها كثيرة المفردات واسعة المعاني، بحيث يجد فيها الإنسان بكل سهولة ما يعبّر به عن أي معنى يختلج في قلبه. حتى إن المستشرقين أيضًا اعترفوا بهذه الميزة الفريدة للّغة العربية قائلين بأنها لغة كاملة للغاية مادةً واشتقاقًا. فها هو الكاتب الشهير لين بول (Edward W. Lane) الذي قام بنقل القاموس “تاج العروس” إلى الإنجليزية يعترف بشعور الحاسد الذي تعتريه الحسرة في مقدمة قاموسه هذا قائلا: “لا نجد للغة العربية نظيرًا بين لغات العالم كلها، فهي زاخرة بمفردات تبلغ مئات الألوف، وما من لفظةٍ فيها إلا وتنطوي على معنى وحكمة”.

وقد نقل الأديب الأريب العلامة ابن جِنّيّ قولاً لأستاذه أبي علي: إن الحروف العربية أيضا تحتوي على معانٍ معينة، فمثلا إن الحروف (ك، ل، م) إذا وردت في كلمة ما دلّت على القوة والقدرة دائما، مثل: ملَك وملِك وكَلم ولَكم وغيرها. كذلك فإن المشتقات من (ع ر ب) تدل على الامتلاء والكثرة مثل: الرعب والعبور وغيرهما.

لا شك أن أئمة اللغة القدامى قد لفتوا النظر إلى هذه المزايا للغة العربية، إلا أنه لم يتحدث عن كونها أمّ اللغات كلها إلا سيدنا المسيح الموعود والإمام المهدي ، فقد أثبت كون اللغات كلها متفرعة من العربية بوضوح وجلاء بحيث لا يسع أحداً إنكاره (الخزائن الروحانية ج 9، مِنن الرحمان). لكن المؤسف هو أنه لم يسعفه العمر لتكميل هذا الكتاب، غير أنه قد ذكر فيه المبادئ الأساسية.

ولقد حاول أحد الناس تقليد حضرته فصنّف كتابًا في هذا الموضوع، ولكنه قد دَفَن الحقيقة لجهله بها.

ولقد نبّه الله تعالى بقوله (لعلكم تعقلون) إلى أننا أنزلنا الكتاب بهذه اللغة لكي يسهل عليكم الانتفاع به على أحسن وجه، لأنه إذا لم نتـزله عربيًا، أي بلغة قادرة على التعبير عن كل مفهوم ومعنىً، لما استطاع الناس الاستفادة منه.

وسوف أبين بعد قليل بالأدلة والبراهين أن بيان القرآن هو الحق والصواب، وأنه ما من أمرٍ اختلفت فيه التوراة مع القرآن إلا وكانت مخطئة فيه.

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (يوسف: 4)

شرح الكلمـات:

نقصّ: قصَّ أثَرَه يَقُصُّ قَصًّا وقَصَصًا: تَتَبّعه شيئًا بعد شيء، ومنه: (فارتدّا على آثارهما قَصَصًا) أي رَجَعَا في الطريق التي سلكاها يقُصّان الأَثَرَ. وقَصَّ عليه الخبر والرؤيا: حدَّث بهما على وجههما، ومنه: (نحن نقصّ عليك أحسن القصص) أي نبيّن لك أحسَن البيان. (الأقرب)

التفسـير:

يبدو من الآية أن الناس كانوا مختلفين في حادث يوسف  قبل نزول القرآن الكريم، وإلا لما أعلنَ: نحن نقص عليك أحسن القَصص أي نحن الذين سوف نكشف الحقيقة، ونحكي الحادث دون زيادة أو نقصان، فنفصل بين المختلفين فيه.

ولكن المستشرقين لم يفكروا في هذا الاختلاف السائد قبل نزول القرآن الكريم ليدركوا أن الحادث كان قد صار عرضةً للاختلاف والتشويه قبل ذلك، مما حدا بهم للطعن في القرآن الكريم عندما وجدوا بيانه مخالفًا لما ورد في التوراة في هذا الصدد. حتى قال المستشرق الألماني (بروكلمان): يكفي لإقناع أي مسلم بفضل التوراة على القرآن أن يُعرض عليه ما ورد في الكتابين عن حادث يوسف، لأن القرآن قد ذكر هذا الحادث الجميل ذكرًا مشوّهًا مما أفقده روعته وجماله تمامًا. (ملاحظات عن الإسلام ص 120، نقلاً عن تفسير وهيري).

والحق أن المستشرق قد برهَنَ بقوله هذا على صدق القرآن الكريم نفسه، إذ سبق أن أعلن القرآن: نحن نقص عليك أحسن القصص .. أي نحن الذين سوف نسرد عليك الحادث الحقيقي دون زيادة أونقصان، مما يعني أنّ الذي أنزل القرآن كان على علم بأنه سيأتي زمان سوف يبسط فيه بعض الجهال ألسنتَهم في بيان القرآن الكريم.

أما قوله بأن القرآن قد ذكر الحادث ذكرًا مشوّهًا ممسوخًا فسوف نرد عليه بعد قليل لدى تفسير الآيات التالية بحيث يتضح للقارئ تمامًا أي المصدرين ارتكب التشويه والمسخ.

واعلم  أن قوله تعالى بأننا نحن الذين نسرد لك هذا الحادث سردًا صحيحًا لأننا أوحينا إليك هذا القرآن.. يتضمن نبأً عن وقوع حادث مماثل له في حياة الرسول ، إذ لا نجد أية علاقة بين نزول القرآن وبين حادث يوسف اللهّم إلا إذا اعتبرناه نبأً عما سيحدث بالرسول الكريم، مما إذا تحقق حدا بالناس أن يصدقوا وحي القرآن وأن يصدقوا حامله محمدًا رسول الله .

وهناك سبب آخر لقول الله هذا، وهو أن حامل القرآن لما كان مثيلا ليوسف – عليهما السلام – فكان لزاماً أن يعرف ما مر به مثيله من أحوال وأحداث.

وأما قوله تعالى وإن كنتَ من قبله لمن الغافلين فله مفهومان: الأول: أنك كنت تجهل هذه القصة، لأن أحداثها لم ترد من قبل مجتمعةً في أي مصدر لا في التوراة ولا في التلمود، وإنما كانت وردت متفرقةً في أماكن شتى.

يقول النصارى معترضين: كيف يقال بأن محمدا كان يجهل الحادث مع أنه مذكور في التوراة (تفسير وهيري)؟  والجواب أن بيان التوراة عن الحادث متعارض مع بيان القرآن، فلا شك أن الرسول ما كان يعرف بعض الحقائق التي انفرد القرآن بذكرها، وسوف أبين بعد قليل بالأدلة والبراهين أن بيان القرآن هو الحق والصواب، وأنه ما من أمرٍ اختلفت فيه التوراة مع القرآن إلا وكانت مخطئة فيه.

والمفهوم الثاني هو: أنك ما كنت تعلم أن هذا سيحدث معك كما لم يكن يوسف يعلم أنه سيحدث معه ما حدث.

Share via
تابعونا على الفايس بوك