رمضان وصحة الأبدان

رمضان وصحة الأبدان

إيهاب حمود

  • الصيام وسيلة علاجية منذ القدم
  • الصيام في مواجهة آفات العصر المرضية
  • غاية شريعة الصيام
  • الصيام الإسلامي في ميزان العلم الحديث
  • الصيام وجهاز المناعة
  • البدانة واخطارها
  • الصيام والوقاية من امراض القلب
  • رمضان وقدرة الذاكرة
  • رمضان وهرمونات الجسم

__

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة: 184)

مما لا شك فيه أننا لو استعرضنا الديانات السابقة للإسلام لوجدنا أن الصوم مذكور فيها مع اختلاف في الكيفية والمدة، فنقرأ في التوراة أن موسى قد صام أربعين يومًا عندما ذهب إلى الطور، وتذكر الأناجيل أن المسيح قد قام بصوم مماثل، كما يمارس الهندوس نوعًا من الصيام بالامتناع عن الأكل المطبوخ.

وقد مارست الأمم  الصيام بدافـع ديني في معـظم الأحيان وذلك بهدف نيل  الرقي الروحي والتقرب إلى الله، ولكن الوثائق التاريخية تدلنا أن الصوم قد استخدم أيضًا منذ القدم كوسيلة علاجية، فنجد مثلاً أن أبقراط وأفلاطون وسقراط قد أوصوا بالصيام لعلاج بعض الأمراض.

ومع تقدم العلم في عصرنا الحالي وتفاقم مشكلة البدانة والتخمة التي باتت تعرف بأنها آفة العصر وخاصة في البلدان الغنية، ازداد الوعي الطبي لخطورة الإفراط في استهلاك الأطعمة، فهو يؤدي إلى عديد من الأمراض الناجمة عن تراكم المواد الفائضة ونواتج الاستقلاب بشكل سموم ومنها الجذور الحرة التي يعرف أنها تؤذي الخلايا الحية وتتسبب في موتها بالإضافة إلى دورها الـمُسَرْطِن ودورهـا في إحداث تصلب الشرايين وارتفاع الضغط الشرياني ونقص التروية القلبية.  إن الأخطار والأضرار الناتجة من كثرة الأكل بلا موعد أو ضابط، باتت حقيقة لا نزاع فيها، فالأكل المتعاقب (إدخال الطعام على الطعام) يشكل عبئًا ثقيلاً على الجسم. وتبين العلوم الحديثة أن الشيخوخة والضعف تصيب الإنسان بسبب ما يتجمع في الجسم من مواد زائدة. لذا فالصوم يحمي من العديد من الأمراض.

إن الصوم يعطي الجسم فترة من الراحة المكثفة يمكنه خلالها أن يركز جميع آلياته على أعمال الصيانة وإصلاح ما لحق بالخلايا من عطب، وعلى تنقية الجسم من السموم المتراكمة،

و قد شرع الله الصيام؛ تزكية لنفـس الإنسان وتهذيبًا لسلوكه، ووقاية وعلاجًا لما قد يصيبه من علل وآفات في نفسه وجسده من جراء كثرة الأكل ودوامه، قال تعالى:

  ..وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة 185)”.

 وقال رسول الله “صوموا تصحوا”.

إن الصوم يعطي الجسم فترة من الراحة المكثفة يمكنه خلالها أن يركز جميع آلياته على أعمال الصيانة وإصلاح ما لحق بالخلايا من عطب، وعلى تنقية الجسم من السموم المتراكمة، فإراحة السبيل الهضمي مثلاً من الوجبات المتلاحقة تعطيه الفرصة لترميم البطانة المعوية والتي تحول سلامتها دون إمكانية عبور جُزَيئات بروتيـنية غير تامة الهضم الأمر الذي له دور في الوقاية من الأمراض التحسسية وأمراض المناعة الذاتية، وإن الجهاز الهضمي الصحيح يحمي الدم وأعضاء الجسم الداخلية من التعرض للعديد من السموم البيئية والاستقلابية، خاصة أننا نعيش في عصر قد طال التلوث فيه الهواء والماء والغذاء. ويمكن تشبيه الأمر بالإغلاق المؤقت للطرق الذي يحدث بين فينة وأخرى وذلك لإتاحة المجال لأعمال الصيانة والترميم وإصلاح التلف الناجم عن مرور السيارات و عوامل البيئة.

إن نقص الطعام الذي يتناوله الإنسان خلال الصيام يقلل كثيرًا من إنتاج الجذور الحرة السامة التي تؤذي الخلايا وتؤدي للمرض. يقـول أحد العلماء واسمه ليفيتسكي “إن التقليل من تناول الأطعمة هو النصيحة الغذائيـة الأفضـل التي يمكنني قولها لكم، نحن لا نعلم ما إذا كان هذا يؤدي للحياة لفترة أطول ولكن كل المؤشرات تتجه بهذا الاتجاه”.

قال رسول الله :

“ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يُقِمْن صُلبه، فإن كان لا بد فاعلاً، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسه” (رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم.)

ولا شك أن صورة الصوم التي يقدمها الإسلام متميزة عن بقية صور الصوم، فهو موافق لطبيعة احتياجات الجسم وعمليتي الهدم والبناء، ويعطي فرصة للجسم للتخلص من السموم المتراكمة نتيجة العمليات البيولوجية مما يعطي الجسم نشاطاً واتزانًا في وظائفه.

إن الصيام الإسلامي هو صيامٌ يسيرٌ على الجسم، وتشير الدراسات إلى أن فترة الصوم الإسلامي آمنة تمامًا بالمقاييس العلمية ولا تعرض الجسم لشدة قد تلحق به ضرراً، ولا يحدث في الجسم أي خلل في وظائف أعضائه، فلا تتأكسد الدهون مثلاً بسبب نقص الكربوهيدرات (السكريات) بالقدر الذي يولد أجسامًا كيتونية تضر بالجسم، ولا يحدث توازناً نيتروجينيًا سلبيًا لاستقلاب البروتينات، وتعمل الخلايا بصورة طبيعية أثناء الصيام وتحصل على جميع احتياجاتها من المخزون في الجسم، في حين أن بعض أشكال الصيام المتواصل لا تقف عند تنشيط الآليات الفيزيولوجية في الجسم، بل تتعدى ذلك حتى تحدث خللاً في بعض وظائف الأعضاء؛ وقد نهى النبي عن مواصلة الصوم تيسيرًا وتخفيفًا على أمته، وقد حث الرسول على تناول وجبة السحور، كما حث على تأخير السحور وتعجيل الفطر؛ لأن هذا من شأنه تقليص فترة الصيام ما أمكن، وبالتالي فإن الصيام الإسلامي لا يسبب ضغطًا ضارًّا على الجسم، بحال من الأحوال، بل على العكس فإن الصيام يحسن درجة تحمل المجهود البدني، بل وكفاءة الأداء العضلي، ويحقق للجسم فوائد لا يمكن استحصالها بغير الصوم.

قال الله تعالى:

  يُريدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (البقرة 185)

قال الرازي:

“إن الله تعالى أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر، وما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة، ثم ما أوجب هذا القليل على المريض ولا على المسافر”.

وقد تجلت فوائد الصيام في عصرنا بصورة أوضح، ومنها:

  1. علاقة الصيام بجهاز المناعة:

الصيام يزيد كفاءة الجهاز المناعي، فقد تحسن المؤشر الوظيفي للخلايا اللمفاوية عند الصائمين، وهي الخلايا المدافعة عن الجسم ضد الكائنات الدقيقة والأجسام الغريبة التي تهاجمه، كما ازدادت نسبة الخلايا المسؤولة عن المناعة النوعية زيادة كبيرة، وارتفعت بعض أنواع من الأجسام المضادة، وهي التي تقوم بالقضاء على الكائنات الدقيقة الغازية للجسم.

  1. الوقاية من البدانة والأخطار الناجمة عنها

كمرض السكري غير المعتمد على الإنسولين وأمراض التصلب الشرياني وارتفاع الضغط الشرياني: تلعب العوامل الوراثية والبنيوية دورًا في البدانة حيث يكون بعض الناس أكثر استعدادا من غيرهم لحدوث البدانة، ولكن مما لا شك فيه أن العوامل البيئية كالعادات الغذائية والنشاط الفيزيائي تلعب دورًا كبيرًا في إحداث البدانة، فالإفراط في تناول الأغذية وخاصة عالية الطاقة وكذلك الخلود إلى الراحة والكسل من العوامل المهمة المحدثة للبدانة في عصرنا، وهذه الأمور ذات صلة وثيقة بالضغوط النفسية والاجتماعية، ويمثل الصيام الإسلامي حاجزًا واقيًا من هذه العوامل؛ إذ ينخفض الوارد الغذائي كما يتحقق في شهر رمضان الاستقرار النفسي والعقلي بالصوم، نتيجة للجو الإيماني الذي يحيط بالصائم وكثرة العبادة والذكر وقراءة القرآن، والبعد عن الانفعال والتوتر وضبط النوازع والرغبات، وتوجيه الطاقات النفسية والجسمية توجيهًا إيجابيًّا نافعًا.

  1. الوقاية من أمراض القلب:

أشارت دراسة قدمت في نوفمبر 2007 في مؤتمر الجمعية الأمريكية لأمراض القلب، إلى أن الصيام يقلل من فرصة الإصابة بأمراض القلب، وهذه الدراسة تمت بمقارنة نسبة المرض في إحدى الطوائف المسيحية التي تمارس الصوم بشكل منتظم وغيرها ممن لا يمارسون الصيام.كما أكدت البحوث التي أجريت في دول إسلامية انخفاض حدوث الذبحة الصدرية وارتفاع ضغط الدم، وهبوط معدلات الانتحار في رمضان، ولم يشاهد أي ازدياد في نسبة حدوث فشل القلب والسكتة الدماغية. ووجد الباحثون أن معظم المرضى المصابين بأمراض القلب والمستقرين من الناحية الصحية يستطيعون صيام شهر رمضان بدون أية مشاكل تذكر، شريطة تناولهم لأدويتهم بانتظام. ولا بد من الإشارة إلى ضرورة استشارة الطبيب قبل اتخاذ أي قرار بالصيام.

4- علاقة رمضان بالذاكرة والقدرة على التركيز:

يفرز دماغ الإنسان هرمونًا يُدعى ” الهرمون المضاد للإدرار”، وهو يعمل على إعادة امتصاص الماء عن طريق الكلية، ومن العوامل التي تزيد من إفراز هذا الهرمون عدم شرب الماء، ومن المعلوم أن الصائم في رمضان يمتنع عن شرب الماء من الفجر وحتى الغروب، ومن المفترض أن مستوى هذا الهرمون يرتفع في فترة الصيام. وقد وجد الباحثون في بحثين نشرتهما مجلة “لانست” البريطانية، وأجريا على بعض الحيوانات المخبرية أن هذا الهرمون يزيد من سرعة تعلم تلك الحيوانات وينشط ذاكرتها. ولا يعرف بالضبط علاقة هذا الهرمون بالذاكرة عند الإنسان، وربما تشير الأبحاث المستقبلية إلى أن الصيام لا يؤدي إلى ضعف ذهني أو قلة في التركيز كما يظن البعض، بل ربما يحسن من القدرة على التركيز. كما يشكل شهر رمضان فرصة للاقلاع عن العادات السيئة كالتدخين والإكثار من شرب القهوة والنرجيلة مما لا يخفى ضررها على أحد وخاصة في الجهاز العصبي وجهاز الدوران.

  1. علاقة رمضان بهرمونات الجسم:

قدم الدكتور فريدون عزيزي في مؤتمر باستانبول بحثاً استعرض فيه كافة الدراسات التي أجريت على الهرمونات في رمضان، فتبين أنه لم تحدث أية تبدلات تذكر في هرمونات الغدة الدرقية. ولم تحدث أية تبدلات تذكر في معدلات هرمون الذكورة التوستسترون، أو الهرمونات الأنثوية LH و FSH أو البرولاكتين. واستنتج الباحث أن وظائف الغدد ومستوى هرمونات الغدة النخامية أو الغدة الدرقية أو هرمونات الذكورة والأنوثة لم تتغير خلال صيام رمضان. أي أن الصيام حالة صحية غير مجهدة للجسم. وتشير الدراسات الحالية إلى أنه لم تحدث أية مشاكل مهمة عند صيام المرضى السكريين من النوع الثاني (الذين يتناولون الحبوب الخافضة لسكر الدم)، أما المرضى الذين يتناولون الإنسولين فلا ينصحون عادة بالصيام. وينصح المرضى عمومًا باستشارة طبيبهم إذا كانوا ينوون الصيام وذلك لمعرفة ما إن كانت حالتهم المرضية تسمح بالصوم ومن أجل تعديل مواعيد الدواء إن أمكن.

ويمثل الصيام الإسلامي حاجزًا واقيًا من هذه العوامل؛ إذ ينخفض الوارد الغذائي كما يتحقق في شهر رمضان الاستقرار النفسي والعقلي بالصوم…

وإذا ما أردنا أن نستفيد من صيام رمضان فلا بد لنا من التأسي بالرسول في هديه عند الإفطار وفي تناول الطعام، فينصح باتباع السُنة الشريفة في الإفطار على تمر أو ماء‏،‏ فالتمر غذاء سهل الهضم ويحتوي على السكريات والعديد من الفيتامينات والمعادن، ثم القيام لصلاة المغرب لإعطاء الجهاز الهضمي فرصة للتجهيز لاستقبال وجبة الإفطار. وينصح أن تكون وجبة الإفطار خفيفة مشتملة على المواد الغذائية المختلفة، ولكن بكميات معتدلة بحيث نتناول من الإفطار دون حد الشبع المتخم. كما ينبغي علينا تناول كميات جيدة من السوائل لتعويض ما افتقدناه أثناء فترة الصيام؛ لإعطاء الكليتين فرصة لأداء وظيفتهما.

كما ينصح بتجـنب الأطـعمة المقـلـيـة والابـتعـاد عـن المخلّلات والبهـارات والفلفل التي قد تسبب اضطرابات هضمية، وينصح أيضًا بالتقليل من تناول الأطعمة الدسمة وعدم الإكثار من تناول السكريات بشكل زائد عن الحد.

أما وجبة السحور فمن الأفضل أن تكون خفيفة، بالإضافة إلى تجنب شرب الشاي الذي يتسبب في إدرار البول محدثا فقدان السوائل المهمة للجسم وما تحمله من أملاح معدنية تحتاجها أجسامنا أثناء فترة الصيام.

قال الإمام المهدي والمسيح الموعود : “إن رمضان عند بعض الناس بمثابة أيام الأكل والراحة، يكثرون فيه من أكل الحلوى والمشويات والمقليات فيخرجون منه سمانًا كما يخرج الحصان من أيام راحته وأكله” (التفسير الكبير، الترجمة العربية المجلد الثاني).

وصدق رسول الله الذي قال: “صوموا تصحُّوا”.

جعل الله هذا الشـهر الكريم لنا ولكم شهر الإيمـان والبركات والصحة الموفورة، وصيامًا مقبولاً بإذن الله‏.

Share via
تابعونا على الفايس بوك