سرُّ الخلافة (3)
  • القول الفصل في الخلفاء الراشدين
  • تنزيه الصحابة الأولين “السابقين”

__

الباب الأول في الخلافة

اعلم، سقاك الله كأس الفكر العميق، أني عُلّمتُ من ربي في أمر الخلافة على وجه التحقيق، وبلغتُ عمق الحقيقة كأهل التدقيق، وأظهر عليّ ربي أن الصِدّيق والفاروق وعثمان، كانوا من أهل الصلاح والإيمان، وكانوا من الذين آثرهم الله وخُصّوا بمواهب الرحمن، وشهد على مزاياهم كثير من ذوي العرفان. تركوا الأوطان لمرضاة حضرة الكبرياء، ودخلوا وطيس كل حرب وما بالَوا حَرَّ ظهيرة الصيف وبرد ليل الشتاء، بل ماسوا في سبل الدين كفتية مترعرعين، وما مالوا إلى قريب ولا غريب، وتركوا الكل لله ربّ العالمين. وإن لهم نشرًا في أعمالهم، ونفحات في أفعالهم، وكلها ترشد إلى روضات درجاتهم وجنات حسناتهم. ونسيمهم يُخبر عن سرّهم بفوحاتها، وأنوارهم تظهر علينا بإناراتها. فاستدِلُّوا بتأرُّجِ عَرفهم على تبلُّج عُرفهم، ولا تتبِعوا الظنون مستعجلين. ولا تتكئوا على بعض الأخبار، إذ فيها سمّ كثير وغلوّ كبير لا يليق بالاعتبار، وكم منها يشابه ريحًا قُلّبًا، أو برقًا خُلّبًا، فاتّقِ الله ولا تكن من متّبعيها، ولا تكن كمثل الذي يحب العاجلة ويبتغيها، ويذَرُ الآخرة ويُلغيها. ولا تترك سبل التقوى والحلم، ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم، ولا تكن من المعتدين. واعلم أن الساعة قريب والمالك رقيب، وسيوضع لك الميزان، وكما تدين تُدان، فلا تظلم نفسك وكن من المتقين.

ولا أجادلكم اليوم بالأخبار، فإنها لها أذيال كالبحر الزخار، ولا يُخرج منها الدررَ إلا ذو الأبصار، والناس يكذّبون بعضهم بعضا عند ذكر الآثار، فلا ينتفعون منها إلا قليل من الأحرار، وإنما أقول لكم ما عُلّمتُ من ربي لعل الله يهديكم إلى الأسرار. وإني أُخبرتُ أنهم من الصالحين، ومن آذاهم فقد آذى الله وكان من المعتدين، ومن سبّهم بلسان سليط وغيظ مستشيط، وما انتهى عن اللعن والطعن وما ازدجر من الفحش والهذيان، بل عزا إليهم أنواع الظلم والغصب والعدوان، فما ظلم إلا نفسه، وما عادى إلا ربّه، وإن الصحابة من المبرَّئين. فلا تجترئوا على تلك المسالك، فإنها من أعظم المهالك، وليعتذر كل لعّان من فرطاته، وليتّق الله ويوم مؤاخذاته، وليتّق ساعة تهيِّج أسف المخطئين، وتُرِي ناصية العادين.

وأَيمُ الله إنه تعالى قد جعل الشيخَين والثالثَ الذي هو ذو النُّورَين، كأبواب للإسلام وطلائع فوج خير الأنام، فمن أنكر شأنهم وحقّر برهانهم، وما تأدّب معهم بل أهانهم، وتصدى للسب وتطاوُل اللسان، فأخاف عليه من سوء الخاتمة وسلب الإيمان. والذين آذوهم ولعنوهم ورموهم بالبهتان، فكان آخر أمرهم قساوة القلب وغضب الرحمن. وإني جربتُ مرارا وأظهرتها إظهارًا، أن بغض هؤلاء السادات من أكبر القواطع عن الله مظهرِ البركات، ومن عاداهم فتُغلَق عليه سُدَدُ الرحمة والحنان، ولا تُفتح له أبواب العلم والعرفان، ويتركه الله في جذبات الدنيا وشهواتها، ويسقط في وهاد النفس وهوّاتها، ويجعله من المبعدين المحجوبين.

وإنهم أُوذوا كما أُوذي النبيون، ولُعنوا كما لُعن المرسلون، فحقّق بذلك ميراثهم للرسل، وتحقّقَ جزاؤهم كأئمة النِحل والملل في يوم الدين. فإن مؤمنا إذا لُعن وكُفر من غير ذنب، ودُعي بهجو وسبّ من غير سبب، فقد شابهَ الأنبياء وضاهى الأصفياء، فسيُجزى كما يُجزى النبيون، ويرى الجزاء كالمرسلين. ولا شك أن هؤلاء كانوا على قدم عظيم في اتباع خير الأنبياء، وكانوا أُمّةً وسطًا كما مدحهم ذو العزّ والعلاء، وأيدهم بروح منه كما أيد كل أهل الاصطفاء. وقد ظهرت أنوار صدقهم وآثار طهارتهم كأجلى الضياء، وتبين أنهم كانوا من الصادقين. ورضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعطاهم ما لم يُعطَ أحد من العالمين.

أَهُم كانوا منافقين؟ حاشا وكلا، بل جلّ معروفهم وجلّى، وإنهم كانوا طاهرين. لا عيب كتطلُّب مثالبهم وعثراتهم، ولا ذنب كتفتيش معائبهم وسيئاتهم، والله إنهم كانوا من المغفورين. والقرآن يحمدهم ويُثني عليهم ويبشرهم بجنات تجري من تحتها الأنهار، ويقول إنهم أصحاب اليمين والسابقون والأخيار والأبرار، ويسلّم بسلام البركات عليهم، ويشهد أنهم كانوا من المقبولين. ولا شك أنهم قوم أدحضوا المودّات للإسلام، وعادَوا القوم لمحبة خير الأنام، واقتحموا الأخطار لمرضاة الرب العلام، والقرآن يشهد أنهم آثروا مولاهم وأكرموا كتابه إكرامًا، وكانوا يبيتون لربّهم سُجّدًا وقياما، فأي ثبوت قطعي على ما خالفه القرآن؟ والظن لا يُساوي اليقين أيها الظانّ. أتقوم على جهة يبطله الفرقان؟ فأَخْرِجْ لنا إن جاءك البرهان ولا تتبع ظنون الظانين.

ووالله إنهم رجال قاموا في مواطن الممات لنصرة خير الكائنات، وتركوا لله آباءهم وأبناءهم ومزّقوهم بالمرهفات، وحاربوا الأحبّاء فقطعوا الرؤوس، وأعطوا لله النفائس والنفوس، وكانوا مع ذلك باكين لقلة الأعمال ومتندمين. وما تمضمضت مُقلتهم بنوم الراحة، إلا قليل من حقوق النفس للاستراحة، وما كانوا متنعمين. فكيف تظنون أنهم كانوا يظلمون ويغصبون، ولا يعدلون ويجورون؟ وقد ثبت أنهم خرجوا من الأهواء، وسقطوا في حضرة الكبرياء، وكانوا قومًا فانين.

فكيف تسبّون أيها الأعداء؟ وما هذا الارتياء الذي يأباه الحياء؟ فاتقوا الله وارجعوا إلى رفق وحلم، ستُسألون عما تظنون بغير علم وبرهان مبين. لا تنظروا إلى ذلاقتي ومرارة مذاقتي، وانظروا إلى دليل عرضتُ عليكم وأمعِنوا فيه بعينيكم، فإنكم تبعتم ظنون الظانين، وتركتم كتابا يهب الحق واليقين، وما بعد الحق إلا ضلال مبين.

وكيف يُنسَب إلى الصحابة ما يُخالف التقوى وسُبله، ويُباين الورع وحُلله، مع أن القرآن شهد بأن الله حبَّب إليهم الإيمان، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وما كَفَّرَ أحدا منهم مع وقوع المقاتلة، فضلا عن المشاجرة، بل سمّى كلَّ أحد من الفريقين مسلمين، وقال:

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْم عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَحِيمٌ *

فانظر إلى ما قال الله وهو أصدق الصادقين. إنك تُكفِّر المؤمنين لبعض مشاجرات، وهو يسمّي الفريقين مؤمنين مع مقاتلات ومحاربات، ويُسميهم إخوة مع بغي البعض على البعض ولا يُسمي فريقا منهم كافرين، بل يغضب على الذين يتنابزون بالألقاب، ويلمزون أنفسهم ولا يسترون كالأحباب، ويسخرون ويغتابون ويظنون ظن السوء ويمشون متجسسين. بل يُسمي مرتكب هذه الأمور فسوقا بعد الإيمان، ويغضب عليه كغضبه على أهل العدوان، ولا يرضى بعباده أن يسبّوا المؤمنين المسلمين، هذا مع أنه يُسمي في هذه الآيات فريقًا من المؤمنين باغين ظالمين، وفريقا من الآخرين مظلومين، ولكن لا يسمي أحدًا منهما مرتدين. وكفاك هذه الهداية إن كنتَ من المتقين، فلا تُدخِل نفسك تحت هذه الآيات، ولا تبادر إلى المهلكات، ولا تقعد مع المعتدين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك