عالم البرزخ

كلام الإمام

والعالم الثاني هو البرزخ. وكلمة “البرزخ” في اللغة العربية تعني أصلا الحاجز بين الشيئين، وقد سمي العالم الثاني بالبرزخ لوقوعه بين النشأة الأولى وبين عالم البعث. وهذه الكلمة تطلق على العالم الوسط منذ القِدم، بل منذ أن خُلقت الدنيا. لذلك فهذه الكلمة بذاتها تتضمن شهادة عظيمة على وجود العالم المتوسط. وقد أثبتنا في كتابنا “مِنَن الرحمن” أن الكلمات العربية هي كلمات الله التي فاضت من فم الله سبحانه وتعالى، وأن العربية هي لغة الله القدّوس الوحيدة في الدنيا، وأنها أقدم اللغات، ومنبع جميع العلوم، وأُم الألسنة كلها، وأنها العرش الأول والعرش الآخِر للوحي الرباني. أما كونها العرشَ الأول للوحي الرباني فلأنها كانت كلامَ الله الذي لم يزل منذ القديم معه تعالى، ثم نـزل هذا الكلام في الدنيا، واتخذ أهلها منه لغاتهم. وأما كونُها العرشَ الأخير لوحي الله فلأن كتاب الله الأخير.. القرآن المجيد.. نـزل بالعربية.

فالبرزخ كلمة عربية، وهي مركبة من “بر” و “زخ”، ومعناها أنه قد انسد طريق كسب الأعمال وبات في حالة الخفاء.

والحالة البرزخية هي حالة ينحل فيها هذا التركيب الإنساني الفاني، ويتم انفصال بين الروح وهذا الجسد. وكما نرى أن الجسم يُلقى في حفرة، كذلك الروح تقع في حالة تشبه الحفرة.. كما تدل على ذلك كلمة “زخ”.. لأن الروح وحدها لا تقدر على فعل الخير والشر الذي كانت قادرة عليه من قبل وقتما كانت متصلة بالجسد. والواضح أن صحة الروح تتوقف على صحة البدن، فبإصابة واحدة في جزء معين من أجزاء الدماغ تزول الذاكرة، وبإصابة أخرى في جزء آخر منه تزول القوة الفكرية ويتلاشى الوعي والحواس. ولئن أصيب الدماغ بنوع من التشنج أو الورم، أو حصل به انسداد للدم أو أية مادة أخرى انسدادًا تاما أو جزئيا.. أصيبَ المرء فورا بالإغماء أو الصرع. وإنَّ تجاربنا المتكررة منذ القِدم لتدل على أن روحَنا عاطلة تماما بغير اتصالها بالجسم.

 

لا بد للروح من جسم

إذن فإنه لزعم باطل تماما أن نقول بأن الروح – مجرّدةً عن الجسم – ستحظى بالسعادة يوما ما. يمكن أن نقبل هذا الزعم كخرافة.. إلا أنه لا يؤيده برهان معقول. إننا لا نستطيع أن نتصور مطلقا كيف تبقى الروح على حالتها الكاملة إذا حُرمت تماما من علاقتها بجسد ما.. مع أنها -على ما نعلم عنها- تضطرب عند كل خلل ولو بسيط يطرأ على الجسد. أفلا توضّح لنا التجارب اليومية أن أن صحة الجسم ضرورية لصحة الروح؟ عندما يصبح الإنسان شيخا فانيا.. تشيخ روحه أيضا وتهرم.. ويختلس سارقُ الشيخوخة منه بضاعةَ علمه.. كما يقول الله تعالى:

لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا (الحج: 6)..

أي عندما يصير الإنسان شيخا هرِمًا يبدو – رغم دراسته وقراءته – كأنه صار جاهلا.

لذلك فمشاهدتنا تشكل دليلا قاطعا على أن الروح لا شيء بدون الجسم. ثم إنَّه لمن الأمور التي تهدي الإنسان إلى الحقيقة أنه إذا كانت الروح تستطيع القيام بذاتها بشكل مستقل عن الجسد فلماذا ربطها الله تعالى بالجسد الفاني عبثا دونما سبب؟

وجدير بالاعتبار أن الله خلق البشر لرقي غير محدود، فما دام الإنسان لا يستطيع أن يحرز رقيًّا في هذه الحياة القصيرة بغير معونة الجسم.. فكيف يُتصور أنه سيتمكن من إحراز تلك الترقيات التي لا نهاية لها بغير مرافقة الجسم؟

إذن فإن هذه الأدلة كلها تبين – وفقًا للتعليم الإسلامي – أنه لا بد للروح من مصاحبة جسم على الدوام لأداء واجباتها حق الأداء. صحيح أن هذا الجسم الفاني يفارق الروح عند الموت.. ولكنها في عالم البرزخ تُعَوضُ عنه بجسم آخر.. لتذوق به جزاءَ أعمالها إلى حد ما. ولا يكون ذلك الجسم من نوع هذه الأجسام.. وإنما يتكون من ظلمةٍ أو من نورٍ، بحسب نوعية أعمال الإنسان في هذه الدنيا، وكأن أعمال الإنسان هي التي تقوم مقام الأجسام في ذلك العالم. هكذا جاء في كلام الله مرارا وتكرارا حيث اعتبر بعض هذه الأجسام نورانية وبعضها ظلامية، تكتسب نورها أو ظلمتها من الأعمال.

إن هذا السر، وإنْ كان في غاية العمق، إلا أنه ليس مما يرفضه العقل. فيمكن للإنسان الكامل أن ينال في نفس هذه الحياة كيانا نورانيًا غيرَ هذا الكيان الجسماني. وفي عالم الكشوف أمثلة كثيرة من هذا القبيل. إنه من الصعب إيضاح هذا الأمر لذي عقل محدود؛ ولكن الذي نال نصيبا من عالم الكشف لن ينظر إلى حقيقةِ تكوُّنِ جسمٍ من الأعمال نظرةَ استبعادٍ وعجبٍ، بل سوف يجد فيه متعة ولذة.

 

تجربة شخصية

وملخص القول: إن ذلك الجسم الذي يتكون بحسب نوعية أعمال الإنسان.. هو الذي يصير في عالم البرزخ واسطة لمجازاة الصالح والفاجر، وإني لصاحب تجربة في هذا الأمر. لقد حصل لي مرارا -في حالة اليقظة أن لقيتُ بعض الموتى كشفًا، ومنهم بعض الفاسقين والضالين.. فرأيت أن أبدانهم كانت مُسوَّدة وكأنها خلقت من الدخان. والخلاصة أن لي معرفة شخصية بهذا الطريق. وأقول بكل قوة إنَّ كل واحد يُعطى حتمًا بعد الموت جسمًا، نورانيًا أو ظلاميًا، كما أخبر الله تعالى.

ومن الخطأ أن يحاول الإنسان إثباتَ هذه المعارف الدقيقة جدًّا بالعقل المجرد. فيجب أن نعرف أنه كما لا يمكن للعين أن تخبر عن مذاق الأشياء الحلوة، ولا يمكن للسان أن يرى الأشياءَ.. كذلك تماما لا يمكن للعقل وحده أن يحل عقدةَ تلك العلوم الأخروية.. التي لا تحصل إلا بالمكاشفات القدسية. إن الله تعالى قد جعل في هذه الدنيا وسائل مختلفة لمعرفة المجهول، فالتمِسوا كل شيء بوسيلته الخاصة تجدوه.

ومما هو جدير بالذكر أيضا أن الله تعالى قد سمى في كلامه الفُجارَ الغواةَ أمواتًا، ووصَف الأبرار بأنهم أحياء. والسر في ذلك هو أن الذين يموتون غافلين عن الله تعالى.. تكون أسبابُ الحياة بالنسبة إليهم من أكلٍ وشرب قد انقطعت عند الموت، ولا يكون لهم نصيب من الغذاء الروحاني، فهم قد ماتوا في الحقيقة، ولا يعودون للحياة إلا ليذوقوا العذاب. وإلى هذا السر أشار الله في قوله:

إنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا (طه: 75)،

وأما الذين يحبون الله تعالى فهُم لا يموتون بهذا الموت، لأن معهم خبزهم وماءهم.

عالم البعث

ثم بعد البرزخ يأتي زمن يسمى عالم البعث، تتلقى فيه كلُّ روح جسمًا محسوسًا بيّنًا، صالحة كانت تلك الروح أم طالحة. وقد قُدر يوم ذلك المحشر للتجليات الربانية الكاملة، التي بفضلها يعرف كل إنسان ربه حق العرفان، ويبلغ كل واحد عندئذ الذروةَ من جزائه.

ويجب ألا يستغرب أحد أنْ كيف يستطيع الله فِعل ذلك! إنه سبحانه صاحب القدرة كلها، ويفعل ما يريد، كما يقول سبحانه:

أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أنّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * …. * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ * إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ (يس:78-84)

.. أي ألم ير الإنسان أننا خلقناه من قطرةِ ماءٍ تُلقى في الرحم، ثم صار شخصًا كثير الخصومة، وبدأ يتحدث عنا بأنواع الحديث، ونسي كيف خُلِق هو، وبدأ يقول: كيف يمكن أن يحيا الإنسان مرة أخرى بعد أن تصير هذه العظام بالية؟ من ذا الذي يملك القدرة على إحيائه؟ قل لهم: سوف يحييه الذي خلقه في المرة الأولى، فهو يعلم كيف يحيي وبأي طريقة يحيي…. إنما أمره أنه إذا أراد شيئا فإنما يقول له “كُنْ” فيتكون هذا الشيء. إنه منـزه عن كل عيب.. ذلك الذي له المُلك على كل شيء، وإليه يُرجَع الجميع.

فالله جل شأنه قد صرح في هذه الآيات أن لا شيء مستحيل عنده، فالذي خلق الإنسان من قطرة حقيرة.. هل يعجز عن بعثه مرة ثانية؟

 

إزالة سوء فهم

ربما يقول الذين لا يعلمون بأنه ما دام ثالثُ العوالمِ.. أي عالَم البعثِ.. سوف يأتي بعد زمن طويل.. إذنْ فعالَم البرزخ أصبح بمنـزلة سجنٍ يُعتقل فيه الصالح والفاسق طول تلك المدة.. الأمر الذي يبدو محض عبث.

والجواب أن مثل هذه الفكرة خطأٌ تماما، ومنشؤها الجهل المطلق! ذلك أن كتاب الله يذكر مقامين لجزاء البارّ والفاجر، أحدهما عالَم البرزخ الذي يلاقي فيه كل إنسان جزاءه لقاءً مخفيا.. فالأشرار يدخلون الجحيم بعد الموت فورًا، والأخيار كذلك سينالون الراحة في الجنة بعد الموت مباشرة. وفي القرآن المجيد آيات كثيرة تبين أن كل إنسان يرى بعد الموت مباشرةً جزاءَ أعماله. فمثلا يخبرنا الله عن رجل من أهل الجنة بقوله: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ (يس: 27)، ويحكي سبحانه عن رجل آخر من أصحاب النار بقوله: فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (الصافات: 56).. أي أنه كان لرجل من أصحاب الجنة زميل، فلما ماتا افتقد صاحب الجنة زميله، فكشف الله له عنه فوجده في قعر جهنم.

إذن فعملية الجزاء والعقاب تبدأ بعد الموت فورًا، ويدخل أصحاب النارِ النارَ.. وأصحاب الجنةِ الجنةَ. ولكن هنالك بعده يومٌ آخر اقتضت حكمةُ الله البالغةُ أن يظهر فيه بتجلٍّ أعظم. إن الله تعالى خلق الناس ليعرِفوه بخالقيته، ثم إنه سوف يهلكهم أجمعين ليعرفوه بقهّاريته، ثم يحييهم حياة كاملة ويحشرهم في ميدان واحد ليعرفوه بقدرته الكاملة. هذه هي المعرفة الأولى من المعارف الثلاث المشار إليها سابقا. (فلسفة تعاليم الإسلام)

Share via
تابعونا على الفايس بوك