الجن بين الحقيقة والخرافة (3)

الجن بين الحقيقة والخرافة (3)

محمد حلمي الشافعي

كاتب

قبل عشر سنوات.. سألني بعض الأصدقاء عن ذِكر الجن في القرآن والحديث. وصادف ذلك صدور كتاب عن الجن محشوٍّ بالخرافات. فكتبت هذه الصفحات مسترشدا بتفسير القرآن الكريم لسيدنا الخليفة الثاني محمد الشافعي

وتمضي آيات سورة (الأنعام ) تلومُ أولئك الذين ينصرفون عن آيات الله، وينساقون إلى الشرك .. فيعبدون آلهةً ليس لها حضورٌ في عالم الواقع، وما هي إلا خيالات في أذهانهم المشوشة، يصرون عليها ويضللُ بعضهم بعضا بقول مزخرفٍ ولكنه زورٌ وباطل، يقاومون به دعوات الإصلاح والهداية التي يأتي بها أنبياء الرحمن. تقول الآية:

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (الأَنعام: 113)

وكلمة (شياطين) جمعُ شيطان من مادة (ش ط ن)، وتعني البعد، يقال شطنت الدار: بعدت، وشطن عنه: خالفه عن قصده ووجهته. فالمؤثر الذي يُبعد الإنسان عن الحق والخير، وينأى به عن الهدى والصواب يُسمى شيطانا. والذي يسعى ليُغَيِّر وجهة المرء من طريق صالح إلى طريق فاسد أو أقلِّ صلاحا هو شيطان. ومثل هذا المؤثر المضلل قد يأتي الإنسان من الخارج أو ينبع من داخله. فشيطان الخارج قد يتمثل دعوة من شخص فاسد، أو إغواء من فاسق، أو تزيين من ماكر. وقد يكون شيطانُ الباطن كامنا في شهوة أو عاطفة أو غريزة أو رغبة أو عقيدة أو ظنٍّ أو حاسة أو فكرة أو خاطر أو نحو ذلك.

وإذا كان المؤثر المحرضُ بشرًا سُمي (شيطان الإنس)، وإذا كان المؤثر خفِيًّا في داخل الإنسان سُمي (شيطان الجن)… والشيطان الذي يقف في طريق دعوة الأنبياء إما أن يكون شخصية كبيرة.. أو بتعبير العصر: شخصية قيادية.. فإنه يُدعى في التعبير القرآني (شيطان الجن) .. ذلك لأن  هؤلاء الكبراء يتصفون عادة بالكِبْر الذي يجعلهم بمنأي عن عامة الناس. أو يكون مناهضو الأنبياء من عامة الناس.. أو الجمهور بتعبير اليوم.. فيسمَّى (شيطان الإنس).

فلفظ (شيطان) اسمٌ وصفي .. وليس عَلمًا على أحد بعينه. قد يكون الشيء شيطانا في موقف، ولا يكون شيطانا في موقف غيره. فشعور الجوع مثلا يدفعُ المرء إلى طلب الطعام.. وهذا عملٌ مشروع، فإذا دفع الإنسانَ إلى تناول طعام محرّم أو ضارٍّ بصحته كان الجوعُ أو طلبُ الطعام في هذه الحالة شيطانا. وكذلك التفكير في شئون الحياة وأمور العمل واجب على كل انسان، و لكن إذا شغله ذلك عن الانتباه في صلاته مثلا كان شيطانا.

وكأن الآية الكريمة تبين أن المشركين إذ يتبعون سدنة الأصنام وكهنة المعابد.. ويعبدون تلك الآلهة الباطلة، يكونون قد انشغلوا عن دعوة الحق التي أتاهم بها نبيهم من عند الله تعالى، وهم بتصرفهم هذا المتسم بالحمق يبتعدون عن الصراط السوي. وجدير بهم أن يسمّوا (شياطين الإنس) .. فكلهم مشارك في الفساد، يُغري بعضهم بعضا بباطل من الأماني التي لن تجديهم نفعا، والله تعالى قادر على أن يزيحهم من طريق الدعوة، ولكن اقتضت مشيئته أن يكون للبشر حريةٌ وإرادة.. يختار بها العبادة عن رضىً واقتناع، وأن يعصي أو يكفر برغبته. والجزاء يأتي بعد فرصة الاختيار والتفكير والتجربة. ويكون الارتقاء والنعيم لمن أحسن الاختيار، والحسرةُ والعذاب الأليم لمن عطّل ملكاته وعقله فأساء الاختيار.

أما موقف النبي من هؤلاء الشياطين جميعا فيتخلص في أمر الله تعالى “ذرْهم” أي دعهم ولا شأن لك بهم بعد التبليغ. وإذا كانت مشيئة الله أن يتركهم أحرارا يختارون الإيمان أو الكفر فليس للنبي أو غيره أن يتجاوز حد التبليغ.

لقد حكى القرآن عن كثير مما جرى بين الأنبياء، ومنهم المصطفى صلوات الله عليهم جميعا.. وبين أقوامهم، وبيَّن أن المعارضة لمنهج الله والمقاومة لدعوة الأنبياء كانت في كل مرة تأتي أول ما تأتي من جانب (الملأ الذين استكبروا). هؤلاء غالبا ما يجدون في أنفسهم من جموح الغرور ما يدعوهم للاستكبار والإباء والنفور من قبول النصح. إنهم أصحاب السلطة والجاه والمال.. وهم المنتفعون قبل غيرهم غلبة الجهل وانتشار الفساد.. حيث ينعمون معًا بعائدات المنصب ومكاسب الجاه. وهم القادرون -بسبب مراكزهم القيادية وسلطانهم الديني- على أن يزخرفوا القول لضعاف النفوس وقليلي العلم من أتباعهم.. ليسيروا خلفهم في معارضة الدعوات الإصلاحية، ويبذلون في سبيل ذلك كل ما في وسعهم من قوى مادية، وما تفرزه نفوسهم الجشعة من أباطيل وافتراءات.

التاريخ لاينسى كهنة اليهود الذين كذّبوا عيسى ، ورموه وأمه الصديقه بكل فرية وإفك، ولا ينسى زعماءَ قريش من أمثال أبي لهب وأُبَيّ بن خلف.. الذين اتهموا الصادق الأمين بالكذب والجنون والسحر. وفي المدينة .. وقف صاحب الملك الضائع والزعامة المفقودة.. شيخ المنافقين عبد الله بن أبي سلول وراء المؤامرات والفتنة، يحرض العامة على محاربة النبي وافتراء الكذب عليه، والتطاول على شرفه الرفيع بالزور والبهتان.

الآية القرآنية تتناول هذا النوع من البشر.. ووصفتهم بأنهم شياطين، وصنَّفتهم صنفين: دعاة الفساد وزعماء الفتنة وهم شياطين الجن، وجهلة العامة ممن يمشون مغمضين خلف كلِّ زاعق وناعق.. وهم “شياطين الإنسْ”. هذه عادة البشر في القديم والحديث.. كل دعوة صالحة يقف لها شياطين الجن والإنس بالمرصاد.. والله من ورائهم محيط.. يحصي عليهم فعالهم.. ويفسد عليهم مكرهم.

ويلاحظ في الآيتين السابقتين أن القرآن الكريم استعمل كلمة (جن) في معنيين مختلفين.. ولكنهما يحملان ظلالا لما تدل عليه مادة (ج ن ن) من الخفاء أو الإخفاء.. كما هو وراد في قواميس اللغة. والقرآن الكريم نزل على العرب بلغتهم، بيد أنه يتميز بأسلوب خاص، يجعل له مبنىً وجرسًا فريدا.. أكسبه تلك الخصائص البلاغية التي عرَفها له العرب، وسلموا له بأنه القمة في البلاغة وجمال الصياغة. ومن سمات الأسلوب القرآني أنه يستعمل ألفاظا عربية ذات دلالات معينة، فيسبغ عليها استعمالات حديثة اصطلاحية.. ويكسبها معانٍ قرآنية إسلامية خاصة.. ومع ذلك يبقى لها بعض دلالتها الأصلية وتعكس ظلالها.

ولنتأمل مثلا كلمة (الصلاة)، فهي كلمةٌ عربية تعني التوجه بالدعاء ومناجاة إلى الإله المعبود. ولقد استعملها القرآن المجيد بهذا المعنى أحيانا كما في قوله تعالى:

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (الأَعلى: 15-16)

وسورة الأعلى من أول ما نزل من القرآن، وكلمة (صلَّى) تعني هنا: دعا ربَّه وتوجه إليه كلما تذكَّر صفات الله تعالى.

واستخدمها القرآن بمعنى الدعاء كما في قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ (التوبة: 103) ولماَّ شرع الله فريضةً تعبدية تشتمل ركوع وسجود ودعاء وتسبيح وتكبير.. سُمِّيت في القرآن باسم (الصلاة). يقول القرآن:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ (الجمعة: 10-11)،

فالصلاة هنا هي الصلاة الاصطلاحية بشروحها ومواقيتها المحددة.

ولما كانت نظرةُ الرضا من الله العلي الكبير ترفع منزلةَ العبد وتقرّبُه من رحمة الله وإحساناته، فكانت بذلك بمثابة الصلاة المقبولة من العبد الصالح.. أطلق القرآن عليها اسم (الصلاة) في قولة تعالى:

هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (الأحزاب: 44)

والملائكة تحمل البشرى للمؤمنين فتُطمئن قلوبَهم، وتشرح صدورهم وتبشرهم بقربهم من الله تعالى … لذا ذكرت الآية السابقة فعل الملائكة هذا باسم (الصلاة)، عطفًا على ما قبلها. ولايليق بعاقل أن يتصور صلاة الله تعالى على أنها دعاة للمؤمنين، أو أن صلاة الملائكة ركوع وسجود كما يفعل البشر. ولو دار بذهن أحد شيء من ذلك لوقع في أمور لا تجوز في حق الله، ولا تصح بالنسبة للملائكة، ولأفسد على نفسة فهْمَ معنى الآية القرآنية، وضيَّع فرصة الانتفاع بها. وهناك الكثير من الكلمات العربية التي استعملها القرآن لدلالات خاصة، ولم يُرد بها تماما المعنى الأصلي الذي استعمله العرب الجاهليون، ولكن ظلال المعاني لاتزال تشع في الاستعمال القرآني الجديد. من هذه الكلمات: الساعة، القيامة، البعث، الأولى، الآخرة، الحياة، الموت، الزكاة، الهجرة، المعصية، الشهادة، الصدقة.. وغيرها كثير.

ولفظ (الجن) من الكلمات التي وردت في القرآن الكريم مرات عديدة، لتؤدي من المعاني ما يحمل ظلالا من مادة الكلمة، ولكنها تتفق مع المفهوم الخرافي الذي شاع بين المتخلفين من أهل البادية ومن أخذ عنهم.

ولقد رأينا من الآيات السابقة في سورة الأنعام كيف أن كلمة (الجن) تعني الآلهة الخيالية المزعومة والمتوهمة، وتعني أيضا فريقا من البشر المتميز بموقعه الخاص بين قومه.

ونوالي النظر في الآيات القرآنية لنتعرف على استعمالات الكلمة في المواقف والمناسبات المختلفة..

تستمر سورة “الأنعام” في سرد أحداث يوم الحساب، وتوجِّه الخطاب إلى المكلفين من الإنس والجن.. أي من عامة الناس ومن خاصتهم .. من الرعية ومن الرعاة .. من الأتباع ومن القادة، فتقول:

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (الأَنعام: 129)

أما وقد وقف شياطين الجن والإنس يعارضون دعوة الحق ويصدون عن سبيل الله، وجاء يوم الحساب، يوم يجمعهم ملك يوم الدين ويكشف لهم عن أعمالهم.. فيقول لأصحاب القيادة في الفساد وأهل الرياسة في الباطل: يا جماعة الرؤساء، إنكم اتخذتم كثيرا من العامة أتباعا لكم.. توجهونهم وجهة الشر الذي تريدون، ومحاربة الخير الذي ترفضون. كما أنكم سخَّرتم كثيرا من رعاياكم، تصعَدون على أكتافهم، وتعِّللونهم بالأماني والأكاذيب، وتنبهون أرازقهم بسلطانكم الجائر، فضللتموهم بطغيانكم، وزادوكم فسادا باستسلامهم لكم.

كما أنكم جعلتم لهوى الجماهير الساذجة قيمة كبرى، فتغرونهم بفعل ما يرضيهم، وتستجدون أصواتهم الانتخابية وتأييدهم السياسي بتملق مشاعرهم. وأغفلتم في سبيل ذلك أمانة الله التي في أعناقكم، ولم ترشدوهم ولم تنصحوا لهم ولم تؤدوا إليهم حقوقهم التي لهم عليكم.

وحين ينكشف النقاب عما كان يدور بين الكبراء والأتباع.. يبادر هؤلاء إلى الاعتراف بأنهم اشتغلوا فعلا بتحصيل الفتات الذي كان يُلقي به سادتهم إليهم، وأنهم استمتعوا بزائل من المال والجاه، وأنهم سرعان ما انقضى أجلُهم، ولم ينتبهوا إلا بعد فوات الأوان. كما أن السادة قد استمتعوا بدورهم، فكان لهم السلطان والجاه والعز والثراء ومثل هذا العذر لقبيح غيرُ مقبول عند الحكيم العليم، لأنه تبارك وتعالى زوّد كل امرئ بنعمة العقل التي يميز بها بين الخير والشر. ومنحه حرية الاختيار والإرادة ليتجه حيث شاء. إن الجزاء العادل المناسب لكل من السادة الضالين، والتابعين لهم على طريق الضلال من منافقيهم وأذنابهم.. هو ألم الحسرة وعذاب السعير.

إن الله الحكيم قد جعل لبني الإنسان الحواس والملكات الإدراك، ورسم لهم منهاجا سماويا لو أنهم اتبعوه.. حكاما ومحكومين .. لحققوا الغرض من خلْقِهم.. ولجعلوا الأرض جنة تتجاوب في أرجائها أصداء تسبيحهم لربهم. والله العليم محيط بكل ما ارتكبوه من فساد، عليم بنصيب كل منهم ودوره ومسئوليته، ولذلك فالجزاء عادل.. لأنه نابع من علمه وحكمته .

ولقد جرت سنة الله تعالى أن يكون الجزاء من جنس العمل. ومن يضعُ الأمر في غير موضعه الصحيح هو ظالم لنفسه وغيره. كل امرئ عليه واجبه ومسئوليته قِبَل نفسه وقِبل غيره، وإذا تهرب منها واشتغل بغيرها اختل نظامه، وهدد نظام غيره بالخلل. وهكذا إذا ظلمت الرعية بانحرافها عن المنهج الإلهي تسلط عليهم حكام على شاكلتهم. وإذا فسد الحكام وسكتت الرعية عن النصح لهم ونافقهم .. حقَّ القول عليهم جميعا ودُمروا تدميرا.. مصداقا لسنة الله تعالى:

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (الإسراء: 17)،

وبعد نعمة العقل والحواس والملكات.. أعذر الله الخلق المكلف بالخلافة والعبادة .. إذ أرسل إليهم جميعا.. في كل الأزمنة والأمكنة .. رسلا منهم.. معروفين لهم بالاستقامة والأمانة والصدق.. فحملوا لهم المنهج الذي ارتضاه الله لخلافته وعبادته في الأرض.. وحذَّروهم مغبة المخالفة عن أمره. ذلك المنهجَ الذي لدن الحكيم العليم.. يعطي كل ذي حق حقه، ويطالب كل فرد بأداء واجبه والوفاء بمسئوليته.

وتمضي السورة لتبين لنا من عالَم الغيب هذا هذا الموقف من مواقف يوم الحساب.. ليكون تذكرة وتبصره:

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (الأَنعام: 131).

نداء واستفهام للتقرير والتقريع. ينادي: يا جماعة الكبراء ويا جماعة العامة! يا جماعة القادة ويا جماعة الأتباع. يا معشر أولي الأمر ويا أيها الرعية! هل تعترفون بأن الله أرسل إليكم رسلا من بينكم تعرفونهم ويعرفونكم.. تشهدون لهم بالصلاح، وحسن الخلق، وشرف الكلمة، وطهارة السيرة. وأقاموا الأدلة البيِّنة على أنهم من عند الله تعالى.. وبلّغُوكم منهج الحياة الذي ارتضاه الله لسعادتكم، وحذَّروكم سوء العاقبة إذا خالفتم منهج الله؟ فلا يملكون إنكارًا، ويبادرون إلى الإعتراف والتسليم. ولكن الفريقين كانوا منغمسين في ملذات الدنيا ومطالب العيش، وغفلوا عمّا وراء ذلك. فلا جزاء لهم إلا سوء حالهم، وضياع دولتهم، وكسر شوكتهم، وخراب عامرهم .. جزاء وفاقا لسوء سلوكهم وتعاميهم عن سواء السبيل.. مصداقا لقول الله تعالى:

ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (الأَنعام: 132)

وتمضي الآيات التي تخاطب الجن والإنس.. لتقرر أن الله تعالى لا يغيب عنه ما يفعله كل فرد منهم، وأن كلاًّ منهم سينال جزاءه الذي يستحقه بحسب عمله. وسردت الآيات بعضًا من أباطيلهم.. إذ حلّلوا وحرّموا من الأنعام كما زين لهم هواهم، مع أن الله تعالى خلقها لمنفعة الناس جميعا.

فسياق السرد القرآني لا يُفهم منه ما يُخرج المخاطبين عن مألوف البشر، غاية مافي الأمر أنه يبين أن مسئولية البشر عامة .. يشترك فيها الحكام والرعية، وأن الهداية الربانية عامة ليهتدي بها الخاصة والعامة، وأن الرُّسل للبشر وهم منهم.

والنبي الأعظم محمد المصطفى .. هو نبي للإنس والجن بلا خلاف. والكتابُ الذي أُنزل عليه -أي القرآن المجيد- يخاطب الجن والإنس. فلا مناص من أن يكون الفريقان اللذان أُرسل إليهما رسول منهما من جنس واحد.. أي من البشر. وخلاصة القول إن الفريقين جنس واحد، ولا فرق بينهما إلا في بعض الخصائص التي تتعلق بالوظيفة الاجتماعية أو المركز الأدبي بين الناس.

ولا بأس من زيادة الإيضاح هنا: فنذكّر أنفسنا بأن الفئة الحاكمة سُمِّيت في القرآن (جنًّا) لأن صفة الخفاء أو الإخفاء تلازمهم من زوايتين: الأولى – لأنهم في العادة ناءون عن العامة والرعية بحكم مراكزهم القيادية.. خلفَ أسوار قصورهم وأبواب عروشهم .. يحجبُهم الحراسُ والحجاب عن الناس. والثانية – لأنهم يحجبون الناس ويغطُّون عليم إذا كانوا معهم.. ذلك لأن الملك وبهارج السلطان من حولهم تبهر العيونَ وتجذب الأنظار نحوهم، فلا يُرى في وجودهم غيرُهم. ولعلنا نستحضر صورة أحدهم عندما تتركز عليه عدسات التصوير وبريق الأضواء.. فلا يظهر على شاشة التلفاز إلا مُحَيَّاه، ولا تقع العيون إلا على طلعته البهية.. وكل شخص سواه مجرد خلفية للصورة.. أو “ديكور” لإبراز الأصل دون أن يلفت هو الأنظار!

وعندما ننتقل إلى السورة التالية.. يزداد المعنى السابق وضوحا. فقد جاء في الآيات الأولى منها.. سلسلة من النداءات تقول يَا بَنِي آدَمَ . وتتضمن هذه النداءات توجيهات كريمة، تحث المخاطبين على التحصن من الشرور والوقاية من السيئات بارتداء اللباس المناسب.. وخصوصا لباس التقوى، ليكون رداءً يقي ابن آدم من تأثيراث الشيطان.. ذلك المضلل الذي يتسلل من منافذ الغرائز والشهوات والأهواء.. والذي يفعل فعله المتلصص في غفلة من المرء، ذلك لأن مثل هذه المؤثرات تسري في النفس دون أن ينتبه لها المرء تماما وهو في خضَمِّ انشغاله بها. أما المتحصنُ بلباس التقوى فلا سبيل لها إليه.. فهو كالمتدثر بثوب من الصوف يحميه من لسعات البرد. ولعل التحذير الإلهي في قوله تعالى:

إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ (الأَعراف: 28)،

من الأسباب التي جعلت البعض يقول بوجود خلق آخر، يختلف عن الإنسان.. وأن من صفاته أنه غير مرئيٍّ لنا. والآية بريئة من هذا المفهوم لأنها تتحدث عن الشياطين.. ومنهم شياطين الإنس، كما أن منهم شياطين الجن. والإنس مرئيّ ظاهر، والفتنة والخطر ليسا وقفًا على شياطين الجن وحدهم.

فكلمة يَرَاكُمْ يعني أنه يرى مواطن ضعفكم فيصل إليها، أما قَبِيلُهُ فهو ما يلحق به من عوامل تساعده على التأثير. وقوله مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ أي من حيث لا ينتبه المرء إلى تأثيرهم.. وذلك حين الغفلة.. حين الانشغال بالهوى عن التعقل والتفكير. وإبصار الشيطان وعدم رؤيته لا يحدث فرقا في مدى تأثيره، فمثلا إذا أغرى صاحبٌ صاحبَه وزيّن له ارتكاب منكر حتى استجاب له، فماذا يجديه الإبصار هنا؟ لقد وصل إليه التأثير مع أنه يراه ويصاحبه، ولا معنى للتحذير مما لا تأثير له. إن الصاحب أطاع صاحبه المضلل لأنه غفل ولم يدرك بقلبه تأثيَره السيء. فغفلة القلب هي الخطر الحقيقي الذي لابد من علاجه. و لِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ، لأنه العين لم تره. فالخفاء ليس صفة ذاتية للشيطان، وإنما هي تأثيراته المتسللة إلى القلب لغافل.. لأنها تخاطب الغزائز الباطنة التي تجرى من الإنسان مجرى الدم-حسب قول المصطفى الحكيم الأمين – فلا ينتبه لها الإنسان. ومن غفل فقد عمي وفقد الرؤية.

فإذا وصلنا إلى قوله تعالى:

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (الأَعراف: 36)

.. أدركنا أن الرسل الذين يهدون إلى منهج الله تعالى هم من بني آدم.. من البشر، وأن من اتقى واهتدى بما جاء به رسل من بينات… وأصلح في قصده ومسلكه، لا يلقى خوفا ولا حُزنا.. لا في دنياه ولا في آخرته، بل له الأمن والطمأنينة والسعادة والنعيم. أما من أشرك وكفر فحق عليه قول الله:

قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (الأَعراف: 39)

وهكذا يزداد الأمر وضوحا. فالأمم التي يخاطبها القرآن الكريم تتكون من (جن) و (إنس). الجن هم أصحاب القيادة في الحياة الدنيا، ومن ثَم يُقدَّمون على غيرهم عند دخول النار. وهذا الوعيد يُبرز دور القيادة ومسئوليتها.. فمن يقود قومه إلى الشر يقودهم أيضا إلى جهنم. ولقد أشار القرآن إلى هذا عندما حكى عن فرعون وقومه فقال:

يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (هود: 99).

فهو يدخل على رأس قومه ليكون أول من يصلى لظى جهنم.. كما كان على رأس قومه الذين غرّر بهم في الدنيا. فإذا تم عدد الزعماء (الجن) في النار دخل بعدهم الأتباع (الإنس).. وهناك يلتقى الفريقان ليتلاعنا. الأتباع يلعنون سادتهم غضبا وتحسُّرا.. لأنهم كانوا سبب ضلالهم وسوء مآلهم، ويدعون الله أن يضاعف العذاب لمن كانوا السبب في هلاكهم.

وعذاب الخروج على منهج الله شديد أليم، بالغ الشدة والألم.. بحيث أن رماه سوء أفعاله فيه أحس كأن عذابه مضاعف.. فما للإنسان طاقة على احتماله والصبر عليه.

ثم تمضي الآيات بعد ذلك لتبشر المؤمنين الصالحين بأن الخلود في نعيم الجنة هو جزاؤهم، فيحمدون الله تعالى على ما آتاهم من هداية على يد رسله وحمَلة وحيِه ومنهجه. وهكذا نرى أن القرآن المجيد لم يفرق بين جن وإنس.. سواء في التكليف أو في الجزاء. ولا معنى لذلك إلا أن الجن والإنس سواء في تكوينهم النفسي والجسدي.. وأنهم نوع واحد.. لا فرق بينهم إلا في الدور الوظيفي داخل المجتمع البشري. ولذلك أراد الله تعالى أن يؤكد للجميع بأن البشر أمامه سواء.. كلهم مكلف حسب طاقته، وكلهم محاسب حسب سعيه ونيته. ولا فرق بين سيد ومسود.. أو تابع ومتبوع. فهم جميعا خلقً ضعيف، بحاجة إلى اتباع المنهج الإلهي للفوز برضوان الله تعالى.

يتضح من الحوار الذي يجري بين الجن والإنس من أهل النار.. أن التابعين ليسوا بأفضل من المتبوعين في شيء. وأنه إذا كانت القيادة في الشر جريمةً قبيحة.. فإن الانقياد أيضا جريمةً شنعاء. والعقاب الشديد نازلٌ حتما بالفريقين، جزاء وفاقا لمن أفرط ولمن فرّط.

ونوجه الانتباه هنا إلى أن النداءات القرآنية في هذه السورة.. والتي تكررت عدة مرات قائلة: يَا بَنِي آدَمَ ، تناولت من التوجيهات الإلهية ما يتعلق بالجنس البشري وحده: من لباسٍ خارجي يستر السوءات فلا تنكشف، ولباسٍ معنوي يستر النفوس من الشرور والآثام، والتزينِ للصلاة، وعمارةِ المساجد، وبعثِ الأنبياء ليعلموا البشر آيات الله، وثوابِ المطيع الذي اهتدى وأصلح، وعقابِ المخالف الذي استكبر وأفسد.

ثم تناولت الآيات يوم الحساب.. يوم يتلاقى المكذبون الظالمون في النار، فيكون أول الداخلين فريقًا سمَّاه القرآن باسم (الجن)، ويدخل من بعدهم الفريق الذي دعاه القرآن باسم (الإنس).

والفريقان كلاهما يدخلان تحت النداء القرآني: يَا بَنِي آدَمَ . وليس ثمة مجال للجمع بينهما في هذا النداء، وتبادُل الشماتة والتلاعن بينهما إلا إ   ذا كانا سويَّا من بَنِي آدَمَ فعلا، وما فرَّق بينهما تحت اسم (الجن) و(الإنس) إلا الدور المتميز لكل فريق منهما في الظلم والتكذيب والإفساد. فأولئك القادة وهؤلاء الأتباع.

(يتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك