الإسلام... الاستسلام لله تعالى ونشر السلام
  • مكيدة أبي عامر الراهب ضد الإسلام
  • حملة تبوك والأحوال وقتها
  • حجة الوداع (نصها تعاليمها)
  • الرسول يلمح إلى قرب وفاته

__

الاستسلام لله تعالى ونشر السلام

إن حياة نبي الإسلام كتاب مفتوح كلما بحثت في أي جزء منه تجد فيه تفاصيل تثير الاهتمام وتخلب اللب. ولم يحدث أن تم تسجيل وقائع حياة نبي أو حياة مَعلم آخر تسجيلاً دقيقًا ومتاحًا للدارسين، مثل حياة الرسول العظيم . وصحيح أن هذه الغزارة في الحقائق والمرويات المدوّنة، قد أعطت النقاد الماكرين فرصتهم المنتظرة، ولكن من الصحيح أيضًا أنه حين تتم دراسة الانتقادات بعناية، ويتم الرد الحاسم عليها، فإن ما تثيره فينا حياة الرسول من الإيمان والحب الغامر والتقوَى، لا يماثلها فيه حياة أي شخص آخر.

إن الحياة الغامضة التي لا يعرف الناس شيئًا عن تفاصيلها قد تسلم من النقد، ولكنها لا تفلح في بث الإقناع وزرع الثقة في قلوب من يتبع أصحابها. إذ تظل صعوبات الغموض، وظلمات الحيرة، وخيبة الأمل، قابعة في القلوب. ولكن الحياة الغنية بالتفاصيل المدوّنة، مثل حياة الرسول ، تثير فينا التأمل العميق ومن ثم تثبّت الاقتناع. وعندما يتم تصفية الحسابات الخاطئة للانتقادات والمفاهيم الزائفة، بكشف الحقائق وتسليط الأضواء عليها، فمن المحتم أن تجذب حياة الرسول منَّا كل حب وإعجاب وتقدير، وتثير فينا كل إعزاز وإكبار وتوقير، بشكل كامل ودائم وإلى الأبد.

لم نكن نطلب إبلاً ولا خيْلاً، بل طلبنا أحذية ونعالاً، فلم نكن نستطيع قطع الرحلة الطويلة حفاة الأقدام، ولو كنا نملك النعال وحدها لخرجنا مشاة وساهمنا في الحرب مع إخواننا المسلمين.

تلك هي عزيز القارئ أهم ملامح هذا الكتاب القيم الذى ستطالعه عبر حلقات في هذه الزاوية. والجدير بالذكر في هذا المقام أنه من الصعب تقديم ملخص كامل متوازن لحياة كحياة الرسول ، التي كانت واضحة كالكتاب المفتوح، وشديدة الثراء بما تحتويه من وقائع ومواقف وأحداث. وقد أعطى المؤلف لمحة، ولكن حتى هذه اللمحة لها وزن وثقل. حيث أنه كان يمارس ما يعظ به، وكان يعظ بما كان يمارسه؛ وإذا عرفته فقد عرفت القرآن المجيد، وإذا عرفت القرآن المجيد فيمكنك أن تتعرّف عليه.

للقد حصل شرف نقل هذا الكتاب إلى لغة الضاد للأستاذ الفاضل فتحي عبد السلام.

مكيدة أبي عامر الراهب

لقد حان الآن أن نلتفت إلى ما فعل رجل يسمى أبا عامر، وهو ينتمي إلى قبيلة الخزرج. وقد اكتسب عادة التفكر الصامت وكثرة ترديد أسماء الله من طول معايشته لليهود والنصارى. وبسبب هذه العادة اشتهر باسم أبي عامر الراهب، رغم أنه لم يكن مؤمنًا بالمسيحية. وعندما هاجر الرسول  إلى المدينة، فرَّ أبو عامر من المدينة وذهب إلى مكة. وعندما خضعت مكة للتأثير المتنامي للإسلام، بدأ أبو عامر يخطط لمؤامرة جديدة ضد الإسلام. فغير اسمه وعاداته التقليدية في الملبس واستقر في قباء، وهي قرية قرب المدينة. وبسبب غيابه الطويل عن المدينة، وتغيير اسمه ومظهره وملابسه، لم يتعرف عليه أهل المدينة، ولكن المنافقين عرفوه وأقاموا معه علاقة سرية، فاتخذهم موضع ثقته. ووضع بالتعاون معهم خطة للذهاب إلى الشام لتحميس وإثارة الحكام المسيحيين والمسيحيين العرب ليقوموا بمهاجمة المدينة المنوّرة. وبينما انخرط هو في مهمته الشريرة في الشمال فقد خطط لإشاعة الاستياء والرعب في المدينة. وقام فريق من المنافقين بنشر الإشاعات الكاذبة أن المدينة في طريقها للوقوع فريسة للهجوم القادم من الشام. وقد قصد أبو عامر من خطته هذه أن يوقع بين المسلمين وأهل الشام المسيحيين لتقع الحرب بينهما، أو أن يقوم المسلمون من جانبهم بالهجوم على الشام متأثرين بما سمعوه. وأيّا كان الحال فسوف تنشب حرب بين الطرفين، الأمر الذي يسعد أبا عامر كثيرًا. وهكذا ذهب أبو عامر إلى الشام ليتم مهمته بعد أن أثار القبائل العربية المسيحية، ولم يدّخر أولياؤه المنافقون وسعًا في بثّ الإشاعات عن أرتال القوافل المسلحة التي قالوا إنها شوهدت متّجهة إلى المدينة لمهاجمتها، وحين ترقّب الناس ولم تظهر هذه القوات، لم يعدموا أن يجدوا تبريرًا يقدمونه.

حملـة تبـوك

ظلت هذه الإشاعات تتردد حتى ظن الرسول  أن الأمر يستحق أن يقود بنفسه جيشًا إلى الشام. كان ذلك الوقت من أصعب الأوقات، فقد كانت المجاعة تضرب أنحاء الجزيرة بسبب الجفاف، وكان محصول العام السابق من الحبوب والفاكهة قليلاً، ولم يكن محصول العام الحالي قد آن حصاده بعد. كانت نهاية سبتمبر/أيلول أو بداية أكتوبر/تشرين الأول عندما توجّه الرسول  لتنفيذ مهمته. وكان المنافقون يرون أن الإشاعة التي راجت هي من بنات أفكارهم، وأن خطتهم قد أثمرت في دفع المسلمين إلى الهجوم على الشام، إذا لم يهاجم أهلُ الشام المسلمين. وفي الحالتين فإن صراعًا ينشأ مع الإمبراطورية الرومانية العظيمة لن يؤدى إلا إلى القضاء على المسلمين. كان درس مُؤتة ماثلاً أمام عيونهم، ففي مؤتة اضطر المسلمون لمواجهة جيش ضخم لم ينجحوا حتى في الانسحاب من أمامه إلا بصعوبة بالغة. ووضع المنافقون آمالهم في خوض المسلمين غمار مؤتة ثانية، وربما فقد فيها الرسول  حياته. وبينما شغل المنافقون أنفسهم بنشر الإشاعات عن هجوم أهل الشام، لم يدّخروا وسعًا في بثّ الرعب في قلوب المسلمين وتسميم أفكارهم، قائلين إن بإمكان أهل الشام إعداد جيوش بالغة الضخامة لا قِبَل للمسلمين بها، وحثّوا المسلمين أن يمتنعوا عن الاشتراك في الحرب ضد الشام. كانت خطتهم هي أن يثيروا المسلمين ليخرجوا لحرب الشام من ناحية، ومن ناحية أخرى أن يخيفوا المسلمين حتى لا يخرجوا بأعداد كبيرة. لقد أرادوا أن يخرج المسلمون للقاء جيش الشام، ولكن وهم ضعفاء، وذلك ليمنوا بهزيمة محققة. غير أنه ما إن أعلن الرسول  عزمه على قيادة جيشه في حملته الجديدة حتى سرَى الحماس قويًا عاليًا في المسلمين، ومضوا قدمًا يعرضون التضحية بحياتهم في سبيل دينهم. ولم يكن تسليح المسلمين مناسبًا لحرب كتلك، وكانوا خلوا من المال الكافي، وقليل من الأغنياء من كانت لديه القدرة للتبرّع من أجل الحرب، وتنافس أفراد المسلمين في إظهار روح التضحية فداء لإيمانهم. ورُوي أن الرسول  ناشد المسلمين تمويل الغزوة، فتنازل عثمان عن الجزء الأعظم من ثروته. وكانت مساهمته تقدر بألف دينار من الذهب، وساهم المسلمون الآخرون حسب استطاعتهم، وتم تزويد الجنود الفقراء بمطايا وسيوف ورماح لتسليحهم. وسرَى الحماس عاليًا. وجاء إلى الرسول  رجال من الأشعريين الذين هاجروا إلى المدينة من اليمن، وكانوا فقراء، فعرضوا الخدمة في صفوف الحملة وقالوا: “يا رسول الله خذنا معك، ولا نبتغي شيئًا إلا الوسيلة التي تحملنا”. وقصّ القرآن قصّتهم وما عرضوه على الرسول  في قوله تعالى:

وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (التوبة: 92)

والمعنى أنه لا لوم على الذين لم يخرجوا للقتال بسبب فقرهم إلى وسيلة الانتقال، وذهبوا إلى الرسول  ليزوّدهم بها فلم يستطع لأنه لم يكن يملكها، فعادوا آسفين لذلك باكين تفيض أعينهم بالدمع لعدم قدرتهم على المساهمة مع المسلمين في المعركة.

كان أبو موسى زعيمًا لهذه المجموعة، وعندما سُئل عما طلبوه من الرسول  قال: “لم نكن نطلب إبلاً ولا خيْلاً، بل طلبنا أحذية ونعالاً، فلم نكن نستطيع قطع الرحلة الطويلة حفاة الأقدام، ولو كنا نملك النعال وحدها لخرجنا مشاة وساهمنا في الحرب مع إخواننا المسلمين”.

وعندما سلك الجيش طريقه نحو الشام، لم يكن المسلمون قد نسوا ما حدث وما عانوه في مؤتة، وكان القلق على سلامة الرسول  يملأ قلب كل مسلم. وقامت نساء المدينة بدورهن المنوط بهن، فحثّوا رجالهن والأبناء لينخرطوا في المعركة وشغلن بهذا التحريض. وحدث أن عاد أحد الصحابة إلى المدينة من سفره بعد أن كان الرسول  قد غادرها مع جيشه، ودخل الرجل إلى بيته يتوقع أن تلقاه زوجه بالتحية والود والعواطف التي تلقَى بها الزوجة زوجها عادة بعد غياب طويل. وشاهد زوجته في الفناء فتحرك ليعانقها ويقبلها، ولكنها رفعت يديها ودفعته عنها، ونظر الزوج المشدوه إلى زوجه وقال: “أهذه هي المعاملة التي يجب أن تلقى بها امرأة زوجها بعد غياب طويل”؟ فقالت الزوجة: “ألا تخجل أن يكون رسول الله في حملة خطيرة وأنت مع زوجك في عناق وقُبَل؟ إن عليك أن تذهب إلى المعركة أولاً، ثم ننظر بعد ذلك إلى ما يجب”. ويُروَى أن الصحابي خرج من بيته في الحال والتوّ ليشد رحله ويلحق بالرسول مسرعًا، فأدركه على مسيرة ثلاثة أيام.

ولعل المنافقين قد ظنوا أن الرسول  سينقض على جيوش الشام لفوره، ودون أي تفكير، متأثرًا بإشاعاتهم التي لفّقوها ونشروها، ونسوا أنه كان حريصًا على تقديم المثُل والسُنن التي سوف تقتدي بها الأجيال التالية من التابعين في كل عصر يأتي بعده. وحين اقترب الرسول  من الشام توقف، وأرسل رجاله إلى اتجاهات مختلفة لاستطلاع الأحوال والشئون. وعاد الرجال ليبلغوه بعدم وجود حشود في أي مكان. وقرر  العودة، ولكنه بقي أيامًا قليلة لإبرام اتفاقيات صلح مع بعض القبائل الحدودية.

استغرقت الرحلة ما يقرب من شهرين ونصف الشهر، ولم تقع حرب ولا حدث قتال. ولما رأى المنافقون أن خطتهم في إشعال نار الحرب بين المسلمين وأهل الشام قد فشلت، وعاد الرسول  آمنًا وسالمًا، خافوا أن تكون مكيدتهم قد انكشفت، وخافوا من العقوبة التي كانوا قد استحقوها بفعلتهم. لكن ذلك لم يجعلهم يكفّون عن آثامهم وخططهم الدنيئة، فأعدّوا مجموعة من الرجال وسلّحوهم، وكمنوا للرسول على جانبي ممر ضيق لا يتسع إلا لراكب واحد في مكان لا يبعد كثيرًا عن المدينة. وجاء الوحي إلى الرسول  بالأمر حين اقترب الجيش من البقعة المذكورة، فأرسل أصحابه لاستطلاع الأمر. وشاهد الصحابة رجال الكمين مختفين على أهبة الاستعداد، وما إن رآهم رجال الكمين حتى هربوا مسرعين. وبلغ الخبر الرسول  غير أنه لم يقرر ملاحقتهم.

وبلغ الرسول  المدينة. وجاء المنافقون الذين تخلّفوا عن المعركة يقدّمون الأعذار الواهية. وقَبِل الرسول  منهم، وأحس في نفس الوقت أن الوقت قد حان لفضح نفاقهم، وأمره الله أن يهدم مسجدهم الذي بنوه في قباء، والذي كانوا يستعملونه للقاء معًا سرًا لتدبير المكائد، ولم تتقرر لهم عقوبة أخرى سوى أن عليهم القيام بأداء صلواتهم مع سائر المسلمين.

ولدى عودته إلى المدينة، وجد الرسول  أن أهل الطائف قد خضعوا للإسلام. وتبعتهم بقية قبائل العرب وافدين يعلنون الدخول في الإسلام. وفي وقت جدّ قصير كان علم الإسلام يرفرف على كل الجزيرة العربية.

حجـة الـوداع

وفي السنة التاسعة للهجرة خرج الرسول  إلى مكة للحج، وفي يوم الحج الأكبر تلقى وحيًا يتضمن الآية القرآنية المشهورة التي تقول:

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا (المائدة: 4)

لقد قالت هذه الآية في واقع الأمر إن الرسالة التي جاء بها الرسول من ربه، وظل يؤكدها بقوله وفعله كل هذه الأيام الطويلة، هذه الرسالة قد كملت. إن كل جزء في هذه الرسالة كان بركة، والآن لقد كملت الرسالة وضمّت في ثناياها أعلى وأسمى بركة يمكن للإنسان أن ينالها من الله عز وجل. وتتلخص الرسالة في اسم “الإسلام” الذي يعني الاستسلام لله تعالى ونشر السلام، هذا الاستسلام ونشر السلام كان هو دين المسلم حيثما كان، دين الإنسانية جميعًا أو دين النوع الإنساني. وتلا الرسول الكريم هذه الآية الكريمة في وادي المزدلفة حيث اجتمع الحجيج، وتوقف  في مِنى وهو في طريق عودته من المزدلفة في اليوم الحادي عشر من ذي الحجة. وواجه الرسول  الجمهور الحاشد من المسلمين، ووجه إليهم خطابه الشهير المعروف في التاريخ باسم خطبة الوداع وفيه قال:

“أيها الناس! اسمعوا قولي: لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا. إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم، إنّ الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ولا تجوز لوارث وصيّته، ولا تجوز وصيّته في أكثر من الثلث.

وتتلخص الرسالة في اسم «الإسلام» الذي يعني الاستسلام لله تعالى ونشر السلام، هذا الاستسلام ونشر السلام كان هو دين المسلم حيثما كان.

إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. الولد للفراش وللعاهر الحجر، من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

أيها الناس! إن لنسائكم عليكم حقًّا، ولكم عليهن حق. أن لا يوطئن فرشكم غيركم ولا يُدخلن أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعظوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوان. لا يملكن لأنفسهن شيئًا، أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله. فاتقوا الله في النساء واستوْصوا بهن خيرًا.

أيها الناس! استوْصوا بالأسارَى خيرًا، فهم إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تطعمون، واكسوهم مما تلبسون. ومن فعل منهم خطأ ولم تغفر له فادفعه إلى أخيك ليكون عنده.

أيها الناس! اسمعوا قولي هذا وعوه، المسلم أخو المسلم، والناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوَى. (وبينما كان يقول ذلك شبك أصابع يديه معًا ورفعهما) وقال: الناس سواسية كأصابع اليدين فلا يفخر أحد على أحد.

ثم سأل الرسول : أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟ أي يوم هذا؟

فأجاب المسلمون: إنه الشهر الحرام والبلد الحرام ويوم الحج المحرم.

فقال : إن الله قد حرّم دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم كحُرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا إلى أن تلقوا ربكم، فليبلغ الشاهد منكم الغائب.

وفي النهاية قال مختصرًا: بلغوا عني إلى أقصى الأرض، فرُبّ مبلغ أوعَى من سامع، ورُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه”. (الصحاح الستة والطبري وابن هشام والخميس)

لقد لخصت خطبة الرسول  هذه زُبدة تعاليم الإسلام وروحه. لقد أظهرت إلى أيّ مدى عميق كان الرسول  معنيًا بصالح الإنسان وسلام العالم، وكذلك إلى أيّ مدى كان عمق احترامه لحقوق النساء والمخلوقات الضعيفة الأخرى. لقد عرف الرسول أن موته صار قريبًا، ولقد تلقّى من الله تعالى ما يشير إلى قرب وفاته. وكان مما عبر عن حرصه وقلقه عليه واهتمامه به هو قلقه واهتمامه بالمعاملة التي تلقاها النساء من الرجال. واهتم بألا يغادر هذا العالم إلى الآخرة دون أن يحقق للنساء المكانة التي هي حق لهن. ومنذ ميلاد الإنسانية، والمرأة يُنظر إليها على أنها عبد وخادم للرجل. كان هذا هو همّ الرسول الأول، وهمه الثاني كان الأسير أو السجين الحربي. لقد كان يُنظر إليهم باطلاً على أنهم عبيد، وكانوا يتعرّضون لكل ألوان القسوة والعدوان، وأحسّ الرسول  أنه لا يصحّ له أن يغادر هذا العالم دون أن يؤكّد لأسرى الحرب حقوقهم التي هي لهم في نظر الله سبحانه وتعالى. وكذلك سببت التفرقة بين الإنسان والإنسان حزنًا وغمًّا للرسول. وأحيانًا كانت التفرقة تصل إلى درجات لا يمكن أن تحتمل، إذ تم رفع بعض الناس إلى السماوات، وتم حطّ آخرين إلى أسفل سافلين.

إن الظروف التي أدّت لهذه التفرقة وعدم المساواة، هي نفسها التي أدّت إلى الخصومة والحرب بين أمّة وأمّة، وبين شعب وآخر. لقد تدبّر الرسول  بعمق كل هذه الصعوبات التي تعترض خير بني الإنسان، ورأى أنه ما لم يتم القضاء التام على روح التفرقة، فلا يمكن أن يتحقق التقدم، ولا يمكن أن يحلّ السلام في العالم حقًّا، ما لم تتم إزالة الظروف والقيود التي تشجّع شعبًا أن يغتصب حق شعب آخر، وأن يستلب أمواله ويزهق أرواحه؛ تلك الظروف التي تسود وتنتشر عندما تتحلل أخلاق الإنسان. كانت تعاليم الرسول  هنا أن الحياة الإنسانية والممتلكات الإنسانية لها نفس قداسة الأيام المعظمة والأشهر المقدسة والأماكن المقدسة. ولم يحدث أن أظهر إنسان ما اهتمامًا كهذا ولا عناية كهذه بسعادة النساء، أو بحقوق الضعفاء، أو بالسلام بين أمة وأخرى؛ كما فعل نبيّ الإسلام، ولم يقم إنسانٌ أبدًا بنفس ما قام به الرسول  لترويج المساواة وإشاعتها بين الناس. ولم يملأ التوق الشديد قلب إنسان نحو خير الناس كما ملأ قلب الرسول محمد . فلا عجب إذن أن الإسلام قد دعّم وساند دون تحفظ حقّ النساء لتحتفظ بما تمتلك من مال أو بما ترثه. ولم تستطع الأمم الأوروبية أن تتصوّر للنساء هذا الحق إلا بعد 1300 سنة من مقدم الإسلام إلى الأرض. وكل مسلم يدخل الإسلام يصير لفوره أخًا لكل مسلم آخر، بغضّ النظر الأمة التي كان منها ولا الشريعة التي كان عليها. والحرية والمساواة هما من المساهمات المميّزة التي قدّمتها الثقافة الإسلامية إلى العالم. وما أبعد التصورات التي تقدّمها الأديان الأخرى عن الحرية والمساواة! ما أبعدها عن ذلك الأفق الشامخ الذي بشّر به الإسلام وعلّمه للعالم وصار تجربة عملية مستقرّة! وفي مسجد المسلمين يقف الملك، وعالم الدين، والرجل العادي جنبًا إلى جنب، لهم نفس المكانة دون فرق بينهم، بينما تظهر تلك الفروق حتى يومنا هذا في أماكن العبادة لكل دين آخر، مهما ادّعت تلك الأمم والأديان أنها فعلت من أجل إعلاء حرية الإنسان والمساواة بين الناس، أكثر مما فعل الإسلام.

الرسول يُلمّح عن قرب وفاته

في طريق العودة، كرر الرسول  على مسامع أصحابه أن وفاته باتت قريبة، وقال لهم إنه ليس إلا بشرًا مثلهم يوشك أن يأتيه داع إلى ربه، وقد أعلمه ربه أن نبيًّا يعيش نصف عمر نبيّ قبله، وإنه يظن أنه مفارق لهم ليجيب الداعي وسيلحقون به. ثم سألهم: “فماذا أنتم قائلون”؟

ما إن سمع الصحابة ذلك حتى قالوا: “نقول إنك قد بلّغت وأحسنت، ونسأل الله أن يجزيك خير ما جازى نبيًّا عن أمّته، فسألهم قائلاً:

“أتشهدون ألا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة والنار حق، وأن كل نفس ذائقة الموت، والآخرة حق، وأن الحساب حق، وأن كل نفس ميّتة سوف تبعث يومًا، ويحشرهم الله جميعًا”؟ فأجاب الصحابة بالإيجاب، وأنهم يشهدون أن هذا كله حق.

عند ذلك اتجه الرسول  إلى ربه قائلاً: “اللهم قد بلّغت اللهم فاشهد”.

وعقب هذه الحجة، كان الشغل الشاغل للرسول  أن يعمل على تعليم أتباعه وأن يزكيهم بشكل عملي بأن يرفع من مستواهم الخلقي، ويصلح من سلوكهم، ويهذب من طباعهم. وصدر عنه عدة إشارات متكررة عن قرب لحوقه بربه، فأخذ في تهيئة المسلمين لهذا الأمر.

وفي أحد الأيام أبلغ المؤمنين أن الله قد أوحى إليه ما يلي:

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ *إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (سورة النصر)

ويعني هذا أن الوقت قد جاء لكي يُقبل الناس بعون الله على اعتناق دين الإسلام، وفدًا بعد وفد، وفوجًا بعد فوج. ولذلك ينبغي للرسول وصحبه أن يتوجّهوا إلى الله بالحمد والتسبيح وطلب العفو عنهم، ليرفع سبحانه كل عقبة تعترض الطريق أمام جهود تأسيس الإيمان.

وذكر الرسول  لهم مثلاً في هذه الآونة: “إن عبدًا قد خيره الله بين ما عنده أو أن يؤخره إلى حين، فاختار ما عند الله”. كان أبو بكر  بين السامعين، واستمع لهذا الخطاب في قلق بالغ وانفعال متوهج بالحماس. أما الحماس فكان حماس وإيمان المؤمن العظيم، وأما القلق فكان قلق الصديق المخلص والتابع الوفي. لقد رأى في الخطاب نذيرًا واضحًا بقرب موت رسول الله، فلم يتمالك نفسه وانهار باكيًا. ودُهش الصحابة الذين كانوا في المجلس لبكاء أبي بكر، إذ لم يكونوا قد بلغوا أعماق الكلمات بل وقفوا عند ظاهرها. وسألوا ما خطب أبي بكر؟ إن الله يُبشر رسوله بالنصر القادم بينما هو يبكي. ونظر عُمر باستغراب إلى أبي بكر، وتعجّب كيف يسوق الرسول  أخبارًا سارة ثم يبكي هذا الشيخ.

ولكن رسول الله وحده كان يفهم ما يحدث. فأبو بكر كان هو الوحيد بين الناس الذي وعَى كلامه جيدًا، وهو الذي فهم معنى الرسالة بشكل صحيح. فالبشرَى بالنصر القادم كانت تحمل معها أيضًا نذيرًا بقرب وفاة الرسول.

ولم يحدث أن أظهر إنسان ما اهتمامًا كهذا ولا عناية كهذه بسعادة النساء، أو بحقوق الضعفاء، أو بالسلام بين أمة وأخرى؛ كما فعل نبيّ الإسلام، ولم يقم إنسانٌ أبدًا بنفس ما قام به الرسول لترويج المساواة وإشاعتها بين الناس.

ومضَى رسول الله يقول لهم إن أبا بكر هو أحب الناس إليه، ولو كان متخذًا أحدًا خليلاً لاتخذ أبا بكر خليلاً، ولكنه اتخذ الله عز وجل خليلاً. ثم أمرهم أن يُغلقوا كل باب إلى المسجد إلا باب أبي بكر. ولم يعد هناك شك أن هذا الأمر الصادر للصحابة كان يتضمّن نبوءة عن المنصب الذي سيشغله أبو بكر  بعد رسول الله كخليفة له، فقد كان له أن يُترك بابه مفتوحًا بين المسجد وبيته كي يؤمّ المسلمين في الصلاة.

بعد هذا الموقف بسنوات، وعندما أصبح عمر  خليفة، سأل الصحابة عن معنى قوله تعالى: إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ، ومن الواضح أنه تذكر الظروف التي علمهم الرسول  فيها معنى هذه الآية والآيات التالية لها، ولابد أنه قد تذكر كيف أن أبا بكر وحده هو الذي وعَى مضمون هذه الآيات. وها هو عمر الآن يمتحن المسلمين عن معرفتهم بهذه الآيات، فهم لم يفهموها بكل عمقها حين نزلت، فهل يمكنهم الآن إدراك معناها؟!!

كان ابن عباس في الحادية عشرة من عمره حين نزلت هذه الآيات، وهو الآن في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة، وبادر ابن عباس متطوّعًا بالإجابة فقال إن الآيات كانت تشير إلى نهاية أجل رسول الله حين أتم عمله وأدّى رسالته، فلم يرغب أن يطول به الأجل في هذا العالم. وكما أن الآيات تبشّر بقرب تحقّق النصر للإسلام، فلها وجه حزين آخر، وهو قرب مغادرة رسول الله لهذه الدنيا. وأكّد عُمر على كلام ابن عباس وأثنى عليه قائلاً إن أبا بكر وحده هو الذي فهم ذلك حينما نزلت هذه الآيات أول مرة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك