قبسات من سيرة الصحابي الجليل طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه

قبسات من سيرة الصحابي الجليل طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه

جمال عز العرب

 

 

الصحابة الكرام رضوان الله عليهم نجوم روحانية ساطعة في سماء الإسلام استقت نورانيتها من شمس الهداية ومنبع الفيوض الربانية سيدنا محمد المصطفى ، الذي وصفهم بقوله:

“أصحابي كالنجوم بأَيِّهِمِ القتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ”.

وكيف لا يكونون منبع هداية واقتداء وهم تلامذة سيدهم وأستاذهم الذي ركّاهم وطهّرهم وأفاض عليهم من حلل التقوى والبركة والنور بما لم يسبق له مثير أو نظير في عهود الرسالات السابقة.

لقد كان للصحابة الكرام لمسات مباركة في تاريخ الإسلام، ولنا في سيرتهم العطرة دروس وعبر غذاء للروح والفكر باعتبارهم نموذجا حيًّا خالدًا وفعالا لكل زمان وكان تستقي منه الدنيا قيم الفضيلة الشهامة والإيثار وخدمة الجماعة والتكافل والفدائية والثبات على المبادئ والقيم في شتى صورها ومفرداتها، بما يجعل من روحانية الفرد المؤمن سامية تهفو بمحبتها للإنصباغ بصفات هؤلاء الأطهار الذين قال الله فيهم:

“مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا”. (الفتح: 28)

وإذا كان للصحابة هذا الشرف الروحاني العظيم في الزمن الأول للإسلام بزعامة المصطفى فإنهم في الزمن الثاني والأخير للإسلام ببعثة خادم المصطفى الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام شرف روحاني عظيم آخر في نصرة الإسلام في هذا الزمن الأخير الذي عمّت فيه الضلالة بدل الهدى، والبدعة بدل السنة، والشرك بدل التوحيد. إن للصحابة الكرام في البعثتين المباركتين للإسلام سمات عطرة تستمد أريجها من الصحبة المقدسة، ولنا في مناقبهم راد روحاني، وينبوع من ينابيع فضل الله ورحمته على العالمين. قال تعالى:

“هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ* وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ”. (الجمعة: 3 إلى 5)

محور حديثنا في هذا المقام هو نجم ساطع من نجوم الزمن الأول للإسلام، ونذكر عن فضائله وتضحياته ومعالم شخصيته المباركة الفياضلة، لعلها تشعل جذوة الإيمان في قلوب أبناء الإسلام وتحرك عاطفتهم للبحث والإهتمام بشمائل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وغرسِ قيمِهم وصفاتِهم الروحانية في النفوس، لأنهم بحقٍ أبطالُ التاريخ الذين ضحوا من أجل قضايا الإيمان والقيم والمعاني العالية لتبقى راية الإسلام خفّاقةً سرمدية أبدية.

طلحة بن عبيد الله هو ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة. اتصف بالهمة الإقدام والجود والفداء. شارك في مختلف الغزوات ما عدا بدرًا وذلك لأن رسول الله كان قد وجَّهَهُ وسعيد بن زيد يتَحسَّسَانِ خبر العير. لَمَسَ منه المصطفى مختلف الخِصال الطيبة والمواقف عليه ألقابًا مباركة يتناسب وشِيمَهِ في كل حادثة، فلُقِّبَ بـ: طلحة الخير وطلحة الفيَّاض وطلحة الجَوَاد. ويروي ابن طلحة بن عبيد الله: حدثني أبي عن جدي عن موسى بن طلحة عن أبيه طلحة بن عبيد الله قال: سمّاني رسول الله يوم أُحدٍ طلحة الخَيرِ، وفي غزوة العشيرة طلحة الفيّاض، ويوم حُنين طلحة الجواد.(1)

كان رضي الله عنه شديد التعلق بالرسول عاشقا له وفدائيا مخلصا. شهد أُحُدًا وغير ذلك من المشاهد مع رسول الله ، وكان ممن ثبت معه يوم أُحُدٍ حين ولَّى الناس، وبايعه على الموت. ولما رمى مالكُ بن زهير رسولَ الله يومئذ وقى طلحةُ بيده وجهَ رسول الله، فأصاب خنْصَرهُ فشُلَّتْ. فقال: حَسِّ حَسِّ، حين أصابته الرَّميةُ. فذُكر أن رسول الله قال: لو قال “بسم الله” لدخل الجنة والناس ينظرون إليه! (2)

لقد طلحة بن عبيد الله فدائيا يذود عن حياض المصطفى ويقيه عن الضربات، فجعل من يديه المباركتين تِرسًا ودرعًا تتصيَّدُ تلك السِّهام التي تستعدف الرسول حتى شُلّت إحداهما. لقد عرف الصحابة قدر التضحية التي قدّمها طلحة فغَبِطَه كثير منهم لما عاينوا يده التي قدى بها رسول الله .

حدثنا مسدد حدثنا خالد، حدثنا بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي قد شُلَّتْ.(3)

عَلَتْ مكانةُ طلحة بين الصحابة لعظيم مسلكه حتى صار ما أصاب يده على لسان كل مسلم آنذاك يتحرى أخبار المشهد المؤثر الذي حدث أثناء معركة أُحد: حدثنا طلحة بين يحي عن موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما طلحة أن أصحاب رسول الله قالوا لأعرابي: سَلْهُ (أي النبي ) عمن قضى نحبه، مَنْ هو؟! وكانوا لا يتجرؤون هم على مُساءلَته يُوقرونه ويَهَابونه. فسأله الأعرابي فأعرض عنه! ثم سأل فأعرض عنه! ثم إني (أي طلحة بن عبيد الله) طلعتُ من باب المسجد وعليَّ ثياب خُضْرٌ، فلما رآني رسول الله قال: أين السائل عمن قضى نحبه؟ قال الأعرابي: أنا يا رسول الله. قال: هذا ممن قضى نحبَهُ(4).

وعنأبي هريرة قال: لما وضعت الحربُ أوزارَها افتخر رسول الله وطلحةُ ساكتٌ، وسمّاك أبو دجانة شاكتٌ لا ينطق. فقال رسول الله : “لقد رأيتُني يومَ أحد وما في الأرض قُربي مخلوقٌ غير جبريل عن يميني وطلحةُ عن يساري”. فقيل في ذلك شعرًا:

.

وطلحة يوم الشعبِ آسَى محمدًا

لدى ساعةٍ ضاقت عليه وشدَّةِ

.

وقاهُ بكفَّيهِ الرِّماحَ فَقُطِّعَتْ

أصابِعُهُ تحتَ الرِّماح فشُلَّتِ

.

عن جابر أن طلحة مرَّ على النبي فقال: شهيد يمشي على وجه الأرض.(6)

وعن معاوية بن أبي سفيان قال: نظر النبي إلى طلحة فقال: هذا ممَّن قَضى نحبَهُ.(7)

أي نذره فيما هاهد الله عليه من الصدق في مواطن القتال والنُّصرةِ لرسول الله على الموت، وذلك أنهم عاهدوا الله أن يبذلوا نفوسهم في سبيله، فأخبر أن طلحة مِمَّن وفَّى بنفسه أو ممن ذاق الموت في سبيله وإن كان حيا.

وعن موسى بن طلحة قال: كنا عند معاوية فقال: أشهد لسمِعتُ رسولَ الله يقول: طلحةُ مِمَّن قضى نحبَهُ.(8)

لقد عاين بعض الصحابة الكرام مشاهد الفداء العشق التي تحلى بها طلحة في أصعب المواقف التي تبرز معادن الرجال الصادقين، فكان سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه أحد الشهود الذين أخلصوا القول والشهادة فيما رَوَوهُ مِن صور، فعن عائشة قالت: قال أبو بكر رضي الله عنه: لما صرف الناس يوم أُحُدٌ عن رسول الله كُنتُ أوَّل من جاء النبي ، قال: فجعلتُ أنظر إلى رجل بين يديه يقاتل عنه ويحميه، فجعلتُ أقول كُنْ طلحة، فداك أبي وأمي مرتين! قال: ثم نظرت إلى رجل خلفي كأنه طائر فلم أَنشَبْ أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح. فدفعنا إلى النبي وإذا طلحة بين يديه صريع، فقال النبي : دونكم أخوكم فقد أوجَبَ! قال: وقد رُمِيَ في جَبْهته ووَجْنَته، فأهويتُ إلى السهم الذي في جبهته لأنزعه، فقال لي أبو عبيدة: نَشَدْتُك بالله يا أبا بكر إلا تركتني، قال: فتركته. فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه. فجعل يُنَضْنِضُهُ يكره أن يؤذي النبيَّ ثم اسْتَلَّهُ بفيه. ثم أهْوَيْتُ إلى السَّهمِ الذي في وجنته لأنزعه، فقال أبو عبيدة: نَشَدتُك بالله يا أبا بكر إلا تركتني، فأخذ السهم بفيه وجعل ينضنضه ويكره أن يؤذي النبي ثم استله. وكان من نصيب طلحة من الجروح بضعة وثلاثون بين طعنة وضربة ورمية.(9)

وعن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله مُصْعِدين في أحدٍ. فذهب رسول الله على ظهره لينهَض على صخرة فلم يستطع، فَبَركَ طلحة بن عبيد الله تحته، فصعد رسول الله على ظهره حتى جلس على الصخرة. قال الزبير: فسمعت رسول الله يقول: أوجَبَ طلحةُ. ثم أمر رسول الله علي بن أبي طالب رضي الله عنه فغسل الدم الذي في وجهه وهو يقول: اشتَدَّ غضب الله على من أدْمَى وجهَ رسول الله .(10)

نعم أيها القارئ الكريم هذا هو طلحة الخير رغم جراحه الغزيرة والشديدة وتمزق يده وهو مُنهَكٌ لم يتحمَّل أن يرى سيده المصطفى الذي أُدْمِيَ وجهه، عاجزًا عن النهوض على الصخرة إلا وتقدم رضي الله عنه تحته حتى استوى عليها.

ورواية أخرى تقول: “كان على النبي يوم أحد دِرْعانِ، فنهض إلى الصخرة فلم يستطع، فقعد طلحة تحته حتى استوى على الصخرة. قال الزبير: فسمعت النبي يقول: أوجَبَ طلحةُ.”(11)

وعن أبي عثمان قال: لَمْ يَبْقَ مع النبي في بعض تلك الأيام التي قاتل فيها غير طلحة وسعد.(12)

هكذا وصف بعض الصحابة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه. فكان حبهم له من حب رسول الله الذي إثنى عليه بما هو جدير به من ثناء صادق. فكان مثالا لمعاني الشهادة والفداء لذلك قال عنه الصطفى : من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض، فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله.(13)

وهذه كناية لما أصابه من جراح شديدة وهو يفتدى رسول الله بجسده وجوارحه خشية أن يصيبه أذى الكفار. فكان ممن استرخص نفسه وروحه فداء ليسلم رسول الله من طعنات الحراب والسهام التي أحاطت بجسده الشريف من كل جانب.

عن أم إسحاق بنت طلحة قالت: سمعت أبي وهو يقول: عُقِرْتُ يوم أُحُد في كل جسدي…(14)

لقد وهب طلحة رضي الله عنه نفسه في سبيل الله ورسوله فكان الموت حَقيقًا به لما أصابه في كل شبر من جسده، لكن الله تعالى شاء أن يهب له الحياة، فوهب الحياة لهذا البطل الذي خشيَ على حياة رسوله ، فكان رضي الله عنه جديرا أن يطلق عليه المصطفى لقب الشهيد الحي! فكان عند الله شهيدا وفي أعين المؤمنين شهيدًا وعند رسول الله شهيدًا!!!

كان النبي قبل ذلك بكثير تنبأ لطلحة وبَشَّرهُ بدرجة روحية عالية، حيث ورد: أخبرنا قتيبة بن سعيد قال عن عبد العزيز عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله : اهْدَئي فما عليك إلا نَبِيٌّ أو صِديِّقٌ أو شهيدٌ!(15)

لقد تحققت بشارة النبي في طلحة، فكان في معركة أُحد ذلك الشهيد الحي حيث منحه الله مكانة الشهيد وهو على قيد الحياة لفدائه وإيمانه واعتراضه بيده وكفِّه تلك السهام التي كانت تستهدف سيده ، كما تحققت بشارة النبي في طلحة بعد وفاته حيث كانت خاتمة حياته أن مات شهيدا في يوم الجَمَل (عام 36 هــ)(16) (وهو ابن أربع) وستين سنة.(17)

فكان شهيدًا أثناء حياة الرسول وشهيدًا بعد وفاة الرسول .

ومما جاء في مناقب حضرة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ما ذكره عمر ابن الخطاب رضي الله عنه حيث ورد في البخاري: “قال عمر: تُفي النبي وهو عنه رَاضٍ”.(18)

وعن عقبة بن علقة قال: سَمعْت علي بن أبي طالب قال: سَمِعتْ أُذني من فَمِ رسول الله وهو يقول: طلحة الزبير جارايَ في الجنة.(19)

نعم أيها القارئ الكريم لقد كان بحق كما وصفه سيده المصطفى طلحة الخير، وطلحة الفياض، وطلحة الجواد، وأبلى أحسنَ البلاء، فكُرِّمَ بشهادتين، وفدى برسول الله، فتمزقتْ يده الطاهرة، فما صرخ وما تأوَّهَ، وما بقي من جسده المبارك موضع إلا وفيه وموضع طعنة رمح أو سيف أو حربة، فكان والله الشهيد الحيّ في حياته وبعد مماته، ورضي عنه الرسول وَمَنحه جِوارَهُ في الجنة. ويبقى طلحة بن عبيد الله وردة عطرة مباركة من بين ورود كثيرة في بستان حديقة المصطفى التي ما كان لها أن تكون عطرة نضرة تسرُّ الناظرين لو لا ما قدَّمه من سقاية روحانية وتضحيات جمَّة، وعناية قدسية مباركة. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين إلى يوم الدين، اللهم آمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

المراجع:

  1. المستدرك للحاكم على الصحيحين، ذكر مناقب طلحة بن عبيد الله.
  2. المرجع السابق.
  3. صحيح البخاري (باب ذكر مناقب طلحة بن عبيد الله)
  4. سنن الترمذي (باب مناقب طلحة بن عبيد الله – ج 1)
  5. سنن ابن ماجه كتاب فضل طلحة بن عبيد الله
  6. المرجع السابق
  7. المرجع السابق
  8. ابن حيان ج 15 ص 438
  9. الرجع السابق
  10. المستدرك للحاكم على الصحيحين، ذكر مناقب طلحة بن عبيد الله
  11. صحيح البخاري
  12. المستدرك للحاكم على الصحيحين، ذكر مناقب طلحة بن عبيد الله
  13. المرجع السابق
  14. السنن الكبرى (طلحة بن عبيد الله)
  15. تحفة الأحوذي لمحمد عبد الرحمن المباركفوري- باب مناقب طلحة بن عبيد الله
  16. المستدرك للحاكم
  17. صحيح البخاري، باب ذكر مناقب طلحة بن عبيد الله.
  18. سنن الترمذي، باب مناقب طلحة بن عبيد الله
Share via
تابعونا على الفايس بوك