تضحية سيدنا إبراهيم وأهله، درس خالد للأسرة المسلمة
  • كيف يحيي المؤمن الحقيقي ذكرى القربان؟!
  • تضحية إبراهيم، سر كامن في الصلاة الإبراهيمية
  • تضحية إسماعيل، ودرس للشباب أيضا
  • تأثر السيدات بمستوى تضحية الرجال

__

خطبة عيد الأضحى التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد

أيده الله تعالى بنصره العزيز الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام

 بتاريخ 31/7/2020م  في مسجد مبارك في إسلام آباد ببريطانيا

تنويه: * العنوان الرئيسي والعناوين الفرعية من إضافة أسرة «التقوى»

كيف يحيي المؤمن الحقيقي ذكرى القربان؟!

اليوم عيدُ الأضحى الذي يُسمى عيد القربان، ويحتفل به المسلمون اليوم ببالغ الفرح والسرور في العالم كله، وسيحتفلون به  غدًا  في بعض المناطق بسبب فارق التوقيت.

ما زال المسلمون يحتفلون بعيد القربان هذا منذ فجر الإسلام تخليدًا لذكرى ذلك القربان أو تلك الواقعة التي وقعت قبل أكثر من أربعة آلاف عام، ورغم مرور هذه المدة المديدة لم ولن تقلّ أهمية ذلك القربان وذكراه في قلب المؤمن. لا شك أن هناك كثيرًا جدًّا من الناس الذين يتذكرون هذا العيد وينتظرونه ويحتفلون به بوصفه مناسبة سارة فحسب، ويقدمون قرابين الأنعام رياءً وتعبيًرا عن فرحتهم فقط، لكن المؤمن يتذكر ذلك القربان وأهميته وروحه، ويتذكره كما ينبغي وكما هو حقه.

إن واقعة القربان هذا الذي قام به أب وابن قبل آلاف السنين تجعل قلب المؤمن يفيض بالعواطف والمشاعر. ينسى المرء بعد مدة ما عاناه من كربٍ وغمٍّ بعد خروجه منه، ولا يتذكر ما قاساه من الأذى والهمّ مشغولًا بأمور الدنيا ثانية، ولكن الله تعالى قد سجل هذه الواقعة، وهكذا أقام معيارًا أبديًّا للتضحية والقربان، ثم أمر المؤمنَ بجعل هذا المعيار نصب عينيه دائمًا، وهكذا أرسى الله تعالى ذكرى هذا القربان من أجل المؤمن والمسلم إلى يوم القيامة. وبجعل هذه الواقعة معيارًا للقربان فإننا عندما نسمع بها اليوم ونتدبرها تفيض قلوبنا بالعواطف والمشاعر. إنه ليس بالأمرِ الهيّنِ أن يُرزَق شخص في شيخوخته ابنًا، وعندما يبلغ التسعين أو قريبًا من ذلك، يأمره الله في المنام أن يذبح ابنه هذا، فيستعدّ لذبح ابنه الوحيد عملاً برؤياه حرفيًّا.

فيا له من معيار للانقياد لمراد الله وأمره! ويا له مِن مقام سام تبوأه إبراهيم ! إذ تلَّ ابنه للجبين مستعدًا لذبحه بالسكين كما فهم من أمر الله تعالى. ولم يكن الأب وحده المستعد لهذا القربان، متبوئًا مكانةً روحانية عالية من قرب الله تعالى، بل إن الابن أيضًا استسلم لأمر الله تعالى رغم كونه طفلاً صغيرًا حيث قال: ما دام الله تعالى قد أمر بذبحي فليس بوسعي إلا الإذعان لأمره. لقد سجل الله تعالى جواب الابن هذا أيضًا في القرآن الكريم حيث قال:

يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين (الصافات: 103)

وصار جواب الابن هذا نموذجًا يحتذى به للذين يقدمون القرابين والتضحيات ببشاشة ويؤمنون بالله تعالى إيمانًا كامًلا، كما صار تعليمًا للشباب بأنه هكذا يجب أن يكون جواب ومعيار الذين يؤمنون بالله إيمانًا كاملًا ويظلون مستعدين للتضحية دائمًا. فمن منا لا يتأثر من هذا الجواب إن كان من المتدبرين؟! فأما العجائز فقدم لهم عجوزٌ يبلغ التسعين نموذجًا للتضحية والقربان، وأما الصغار والشباب فقدم طفلٌ صغير نموذجًا كذلك.

سرّ كامن في الصلاة الإبراهيمية

لا شك أن قلوبنا تفيض بالمشاعر والعواطف، وأن أعين معظمِنا تغرورق بالدموع عند سماع هذه الوقائع وقراءتها، ولكن هذا لا يكفي، بل علينا أن نتعهد على أننا سنظل مستعدين لكل تضحية. علينا فحص أنفسنا من هذه الناحية أيضًا. إن حال إبراهيم حين هَمَّ بذبح ابنه بأمر الله تعالى، لم يكن مجرد استعداد فقط، بل إنه شرع فعلًا في ذلك بإلقاء ابنِه على الأرض ووضْعِه السكينَ على رقبته بالفعل، ويكتسب فعله هذا أهميةً أكبرَ حين نرى أن إبراهيم كان بطبعه لين العريكة جدًّا حتى إن قلبه كان يرفق ويشفق على الأعداء أيضًا، وكان لا يطيق أذى العدو. وقد بلغ من رقة قلبه وحلمه أن عدّ الله تعالى هذا من خصال إبراهيم وسجاياه الكريمة التي سجلها في القرآن الكريم حيث قال تعالى:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (التوبة: 114).

وما دام إبراهيم رقيق القلب إلى هذه الدرجة، أفلم يتألم قلبه لابنه؟

لا بد أن يكون قد تألم لابنه، ولكنه لم يبالِ بألمه وحبه لابنه، مؤْثرًا رضا الله وحبه على كل شيء سواه. وهذا هو الأمر الذي قد جعله مميزًا عن الآخرين، وهذه الميزة وهذا المعيار من الوفاء والحب والتضحية لله تعالى هو سرٌّ كامن في الصلاة الإبراهيمية، حيث إن المسلمين عندما يصلّون على النبي فسوف يُذكر إبراهيم أيضًا إلى يوم القيامة حتمًا.

كان في باله أن تضحيته بابنه لن تكون مِنّة منه، ولا هي منّة من ابنه، إذ وفِّق لتقديم التضحية في سبيل الله فإنما هي منة من الله تعالى أن اختاره وابنه لهذه التضحية. فاستحضر إبراهيم عند تقديمه التضحية فكرة جعلها تغزو ذهنه وتسيطر على مداركه، ومفادها أنه لا قيمة لتلك التضحية التي يقدمها، بل إنها منة خالصةٌ من الله تعالى إذ جعله أهلًا لتقديمها.

تضحية إسماعيل، ودرس للشباب أيضًا

ثم إن هذه التضحية ليست من إبراهيم فحسب، بل كما يخبرنا القرآن الكريم كان إسماعيل أيضًا قد استعد لها ببشاشة القلب، وقد مرّ ذكر ذلك آنفًا، ومعيار التضحية هذا قد ميّز إسماعيلَ عن الآخرين. لماذا استعد لهذه التضحية؟

لقد استعد لها لأنه كان لديه إدراك خاص لحب الله تعالى، وبسبب هذا الإدراك فكّر الأب والابن أن هذه التضحية سبب لرقينا. فحین تتغلب علينا العواطف نتيجة سماعنا وقائع سيدنا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وتغرورق أعيننا فذلك لأن تصور هذه الوقائع يحرك عواطفنا. ولعل قلوب الأغلبية منا لا تصل إلى الكُنهِ والمستوى الذي تحلى به وبَلغه إبراهيم حينذاك، إذ كان في باله أن الله تعالى قد اصطفاه لنفسه وطلب منه تضحية، وعوضًا عن كل ذلك سينال قرب ربه الحبيب، فلم تكن في باله فكرة سوى أن الله تعالى يقترب منه. ثم لم يقتصر الأمر على الفكرة فقط بل يعلم كل مسلم وكل من يقرأ القرآن الكريم وكل من يردد الصلاة الإبراهيمية أن الله تعالى خلّد ذكر هذه التضحية وجعلها أبدية إلى يوم القيامة، وجعلها فريدة من نوعها لأن إبراهيم جعل الشعور بمنّة الله تعالى غالبًا على مشاعر الألم والحزن لأن الله عز وجل اصطفاه للتضحية، وكان في باله أن تضحيته بابنه لن تكون مِنّة منه، ولا هي منّة من ابنه، إذ وفِّق لتقديم التضحية في سبيل الله فإنما هي منة من الله تعالى أن اختاره وابنه لهذه التضحية. فاستحضر إبراهيم عند تقديمه التضحية فكرة جعلها تغزو ذهنه وتسيطر على مداركه، ومفادها أنه لا قيمة لتلك التضحية التي يقدمها، بل إنها منة خالصةٌ من الله تعالى إذ جعله أهلًا لتقديمها.

إذًا، حين نتعهد بالاستعداد لتقديم كل تضحية حين يتطلب الأمر يجب أن نسعى لجعل هذه الفكرة نفسها غالبة على أذهاننا، وهي أنه لا قيمة لتضحيتنا، بل هي منة الله أن طلب منا التضحية، وسننال قربه نتيجة لها. والحقيقة أنه لا أهمية لتضحياتنا مقابل التضحية التي شرع في تقديمها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بالفعل.

كلما عملنا – ولو قليلًا- للوفاء بعهدنا بتقديم الدين على الدنيا يُكرمنا الله تعالى بما لا يُعَدّ ولا يُحصى، وهذا ما جرّبه الكثيرون من الأحمديين. تأتيني رسائل كثيرة جدًّا بهذا الشأن يقول أصحابها كيف شرَّف الله تعالى تضحيتهم البسيطة بالقبول بحيث قدموا تضحية مالية مثلًا وفي غضون بضع ساعات نالوا الأجر عليها. وهناك أمثلة كثيرة من هذا النوع. فيجب ألا تكون هذه العاطفة مؤقتة بل يجب أن تكون دائمة.

لا تكتفوا بنوال أفضال الله تعالى ومننه مرة واحدة فقط بل يجب أن تكون أمنية الحصول على قرب الله والسعي إليه جزءًا دائمًا من حياتكم، عندها يمكننا القول بأننا نسعى للوفاء بعهد قطعناه على أنفسنا. ثم يظل هذا السعي ينتقل إلى الأجيال المستقبلية فتتراءى فيهم آثاره، ثم تبقى الأمنية لنيل قرب الله تعالى قائمة إلا فيما شذ وندر. فتدرك الزوجة والأولاد أيضًا أن نوال مرضاة الله وقربه هو الهدف من حياتهم. فلخلْق هذه الأجواء في البيوت هناك حاجة ماسة إلى الدعاء والعمل.

إن استعداد إبراهيم لإمرار السكين على عنق ابنه كانت مَثَارَ عاطفةٍ عظيمة جدًّا وقد قدّرها الله تعالى وقبِلها، ثم قال لمنعه من إطلاق السكين على عنق ابنه عمليا:

قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ   (الصافات 106)،

أي أننا نجزي المحسنين من عندنا، وذلك الجزاء هو أننا وهبنا لك ولابنك مكانة عُليَا من قربنا. ولكن لم تنته سلسلة التضحيات بعد مقام القرب هذا، بل بدأت سلسلة جديدة لمزيد من التضحيات ليرى كلاهما بسبب تلك التضحية مزيدًا من مشاهد قرب الله تعالى، وليس ليرياها هما الاثنان فقط بل ضُمّت إلى هذه القائمة زوجة إبراهيم أي أُمّ إسماعيل عليهم السلام أيضًا، ليكون في ذلك درس مستفاد للرجال أنه يجب ألا تقتصر الحسنات على أنفسهم فقط، بل يجب أن يُرى أثرها على زوجاتهم أيضًا. وبضمّ المرأة إلى هذه التضحية ضرب الله مثلًا للنساء مفاده أن المرأة الصالحة تتوكل على الله تعالى وتخضع أمامه وتنال قربه ولا يخذلها الله تعالى. فنرى أنه طلب من العائلة كلها (الأب والأم والابن) تضحيةً أكبر حتى من إطلاق السكين. إن إطلاق السكين تضحية مؤقتة أي كانت تضحية بالعواطف مرة واحدة ولكن التضحية التي طُلبت من هؤلاء الثلاثة كانت ممثلة في الهجر والانفصال والخوف بصورة دائمة.

باختصار، لقد طُلبت التضحية من الثلاثة وقبلوها. فانطلق إبراهيم مع السيدة هاجر وإسماعيل عليهم السلام ووصل إلى مكان ناء، يبعد أميالًا عديدة عن أقرب مكان مأهول، بل كانت المنطقة قفرًا لا كلأ فيها ولا ماء، ولا طعام من أي نوع، فترك إبراهيم زوجته وابنه في ذلك المكان مع قِربة ماء وكيس من تمر فقط. لم یكن إبراهیم یعلم كیف سیعیش ابنه وزوجته عندما ینتهی الماء الموجود في القِربة، والتمرُ الموجود في الوعاء، ذلك لأنه بعد ذلك لن يتوفر لهما الماء ولا شيء للأكل. ولكن بما أن الله تعالى كان قد أمره بهذه التضحية لذلك كان يقوم بها ابتغاء مرضاة الله تعالى. على أية حال، لما أراد إبراهيم الانصراف تاركًا وراءه زوجته وابنه في ذلك المكان مع قليل من الماء والطعام دون أن يخبر زوجته بأنها ستبقى هنا مع ابنها. شعرت هاجر أنه ليس فراقًا مؤقتًا بل هو دائم، وأنهما سيضطران إلى البقاء في هذا المكان إلى الأبد، فمشت وراء إبراهيم وسألته: إلى أين تنصرف بعد أن تتركنا ههنا؟

ويتضح من الأحداث اللاحقة أن الله تعالى فعل وفق المأمول منه، فلم يعصمهما الله تعالى من الضياع فقط بل أنشأ بواسطتهما قومًا بعث فيهم نبيًّا عظيم المرتبة مثل خاتم النبيين محمد المصطفى الذي بعث للعالم كله، والذي هو الملك الروحاني للعالم كله، ولا يمكن الوصول إلى الله تعالى الآن إلا بوسيلته.

لقد صور المصلح الموعود هذه الحالة بأسلوب رائع جميل فقال:

كانت حال من الرقة تغلب على إبراهيم في ذلك الوقت جراء العاطفة الطبيعية التي كان قلبه يفيض بها. أي أن قلب إبراهيم كان يمتلئ بعاطفة جياشة لكونه أواهًا منيبًا، ولم يستطع أن ينبس ببنت شفة لغلبة الرقة عليه. فسألته هاجر مرة أخرى: أين تذهب وتتركنا ههنا؟ لم يستطع إبراهيم الرد بسبب حالته العاطفية رغم تكرار السؤال من السيدة هاجر، بل وأنى لشخص أواه مثل إبراهيم أن يردّ لأنه كان يتراءى له ظاهرًا أنهما سيواجهان بعده ظروفًا صعبة في ذلك المكان الخراب. فمن ناحية كان حب ابنه وزوجته يغلبه بحسب مقتضى بشريته، إضافة إلى ذلك كان بطبعه أواهًا، وهو أمر كان يمنعه من الرد لأنه كان يخشى أنه لو ردّ لربما يفيض بالمشاعر المكبوتة وبالتالي يؤدي ذلك إلى اضطراب السيدة هاجر أكثر؛ ومن ناحية أخرى كان يفكر أيضًا أنه إذا فاضت مشاعره فلربما يؤدي إلى التقليل من مستوى التضحية التي استعد هو وزوجته وابنهما لتقديمها ابتغاء مرضاة الله تعالى والتي سينالون قرب الله تعالى نتيجة لها، ولأجل ذلك ظل إبراهيم صامتًا.

فلما قالت له السيدة هاجر: آلله أمرك بهذا؟ سكت ولم يتكلم مطلقًا ورفع يده إلى السماء مغلوبًا بمشاعره. فلما رأت السيدة هاجر هذه الإشارة قالت بكامل التوكل: «إذًا لن يضيّعنا»، فاذهب إلى حيث تشاء.

لاحظوا الآن أنه لا يمكن التسليم بهذا الأمر ظاهرًا أن يتلقيا ماء بعد انتهاء الماء من القربة، أو تمرًا بعد انتهاء التمر الذي في الجراب، أو أي طعام آخر في ذلك المكان القفر الذي وصفه القرآن بقوله على لسان إبراهيم:

… وَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ (إِبراهيم: 38)،

كما كان مستحيلًا أن يجدا في ذلك المكان الخرِب شخصًا يزيل عنهما الأذى أو أحدًا يأتي على الأقل لمواساتهما، أو أن يريَا أحدًا في ذلك المكان الصحراوي، إذ ما كان لأحد أن يمر حتى من هناك. ولكن بما أن رفقة إبراهيم قد أحدثت انقلابًا في السيدة هاجر أيضًا فقد بلغت عندها أيضًا الأمنية بنوال قرب الله تعالى منتهاها. فقالت بدون خوف بأنه إذا كان هذا أمر الله تعالى إذن فلن يضيعنا أبدًا. لا شك أن رب العرش سمع هذه الكلمات من السيدة هاجر، فلعله سبحانه وتعالى أيضًا قال ردًّا عليها: لن أضيعك ولا ابنك أبدًا. ويتضح من الأحداث اللاحقة أن الله تعالى فعل وفق المأمول منه، فلم يعصمهما الله تعالى من الضياع فقط بل أنشأ بواسطتهما قومًا بعث فيهم نبيًّا عظيم المرتبة مثل خاتم النبيين محمد المصطفى الذي بعث للعالم كله، والذي هو الملك الروحاني للعالم كله، ولا يمكن الوصول إلى الله تعالى الآن إلا بوسيلته.

لقد تخلت السيدة هاجر وإسماعيل عليهما السلام عن الدنيا لوجه الله تعالى، فجعل الله تعالى العالم كله عند أقدام نسل إسماعيل . وبسبب النبي يحج مئات الألوف اليوم ويعتمرون فإنهم يـُحيون ذكرى السيدة هاجر أيضًا. فقد منح الله تعالى تضحية السيدة هاجر مكانة عظمى وشرفًا عظيمًا، فإنها وابنها قطعَا علاقتهما بالدنيا متوكلين على الله تعالى وابتغاء مرضاته، والآن يلتزم العالم بصلتهما، طلبًا للفوز بالله تعالى.

فلم تكن تضحيتهم هذه يسيرة. ولم يكن يسيرًا إيمانهم القائل إن الذي يعمل لله تعالى فلن يضيعه. ثم إن الله تعالى هيأ أسبابًا ليحقق آمالهم وتوكلهم إلى يوم القيامة وينعم عليهم. فإن هذا اليوم يذكرنا بتوكلِ هذه الأسرة على الله تعالى والمستوى العظيم الذي بلغوه في التضحية لوجه الله. ولكن إضافة إلى ذلك ينبغي أن نرى أيكفي مجرد سرد أحداث هذه التضحية وذكر توكل هذه العائلة وتذكّر هذه التضحية فقط؟ كلا، بل ينبغي عند إحياء هذه الذكرى أن نتخذ وفاء إبراهيم وتضحيته مثالًا نحتذي به، وينبغي أن نجعل تضحية السيدة هاجر نصب أعيننا. وينبغي أن تفكر كل سيدة فيما يجب عليها من أجل تحقيق هذا المستوى من التضحية.

فالانقلابات لا تحدث بمجرد قراءة واقعات التضحيات القديمة، لذا لا بد أن تصبح كل امرأة أحمديةٍ هاجرَ ويُصبحَ كلُّ شاب أحمدي إسماعيلَ، ولا بد أن يُظهر مثلَ هذه النماذج كلُّ أحمدي من كل بلد وملة ونسلٍ، حينها يمكن أن نُنشئ الوحدة في العالم. وحينما نقوم بتضحية جماعية لنيل هذا الهدف نتمكن من تحقيق الهدف من بناء بيت الله وهو إقامة وحدانية الله عز وجل الله التي من أجلها قدّم إبراهيم وهاجر وإسماعيل تضحيات وظهر بيتُ الله الأول كعلامة لوحدانية الله، وحينها سنتمكن من تحقيق الهدف من بعثة إبراهيم هذا الزمان والخادمِ الصادق للنبي ، وهو جمع العالم على دين واحد.

تأثر السيدات بمستوى تضحية الرجال

لقد بلغني أن بعض السيدات قلن إنهن يلتزمن الصمت عند ترديد جملة: «أكون مستعدة للتضحية بأولادي»، خلال القراءة الجماعية للواء مجلس إماء الله لأنهن غير مستعدات لذلك.  لكن المرء  إذ كان يتوكل على الله وكان هدفه نيل رضا الله، وكانت أمنية إحراز قرب الله هي لديه فوق كل أمنية! لا يمكن  أن يخطر بباله  مثل هذا التفكير. إذا كنتم تعهدتم بإيثار الدين على الدنيا، فهذا العهد يلفت انتباهنا إلى التوكل على الله وحده، حين عقدتم هذا العهد فمن الواجب على كل رجل أحمدي وامرأة أحمدية وشابٍّ أحمدي وطفل أحمدي أن ينجزه. فحين يسعى الإنسان للتقرب إلى الله فإن الله لا يضيعه بل يكرمه، عندما يرفع الرجال الأحمديون معايير طاعتهم وتضحيتهم إلى مستوى سيدنا إبراهيم فسوف تنتقل تلك المعايير الروحانية إلى النساء والأولاد أيضًا. فقبل كل واحد ثمة حاجة لأن يرفع الرجال مستوى تفكيرهم وتضحياتهم، إذَا كان الرجال يريدون أن يرتفع مستوى التوكل على الله والتضحية لدى النساء والأولاد فعليهم أن يقدموا لهم أسوتهم. ولا يخطرنَّ ببالكم أن الله قد ذكر هذه الأمثلة لنخلق بها تغييرات بسيطة فينا فقط أو لكي يحفظها كقصة. كلا بل في هذه الأمثلة أسوة لنا. فعندما يسعى كل رجل إلى التأسي بأسوة إبراهيم ويسعى بذلك لرفع معيار وفائه، وعندما تستعد كل سيدة للتأسي بأسوة السيدة هاجر، ويستعد كلُّ شاب لاتخاذ فعل سيدنا إسماعيل أسوة له، فسوف ينزل عليكم غيث أفضال الله وتحرزون إدراك القربان الحقيقي وقربِ الله نتيجة له وتتمتعون بقربه أيضًا.

الخادم البار للنبي في هذا العصر الذي آمنا به لكي نساهم في النشأة الثانية للإسلام، قد سمَّاه الله أيضًا إبراهيم، فقد خاطبه الله في الوحي في مواضع عدة بإبراهيم.

فإذا كنا قد آمنا بإبراهيم هذا لإحراز الرقي الروحاني وغلبة الإسلام، ورفْع لواء النبي في العالم، فيجب على كلّ واحد منا أن يسعى ليكون إسماعيل وأن تكون كلُّ امرأةٍ هاجرَ. وإذا شرعنا في تقديم التضحيات من أجل الدين فسوف يفتح الله لنا سبلًا جديدة كثيرة، وسوف نساهم في تحقق الوعود التي قطعها الله مع المحب المخلص للنبي لرقي الإسلام. إذَا أوفى كل واحد منا بعهده بإيثار الدين على الدنيا في الحقيقة، وعشنا عاملين بتعاليم الإسلام فسوف نتمكن من إحداث الانقلاب في العالم. إذًا لاستطعنا إحضار العالم تحت لواء النبي من خلال نشر التعليم الجميل للإسلام في العالم، فسوف نقدر على أخذ أروع ثأر لتضحيات الشهداء الذين قُتلوا  لإيمانهم بإمام الزمان. حين أقام الله هذه الجماعة بواسطة سيدنا المسيح الموعود كان ذلك ليُعيدَ إلى العالم جميعَ البركات التي قُدّرتْ لأتباعٍ حقيقيين ومؤمنين بالنبي ، وقد قدم الأولون التضحيات من أجل ذلك، وضحَّوا بنفوسهم. ونحن أيضًا نتعهد بأننا سنضحي بأموالنا وأرواحنا ووقتنا، لذا يجب أن نبقى مستعدين لتقديم التضحيات واضعين هذا العهد في الحسبان.

ولا بد لنا من تقديم التضحيات كما قدّمها الكثيرون سلفًا، لأنه بدون التضحيات لن يحدث هذا الانقلاب كما أن الانقلابات لا تحدث أصلًا دون التضحيات. ومن هذا المنطلق أود أن ألفت إلى التضحية انتباهَ الأمهات اللاتي يقلن إنهن يصمتن عند ترديد هذه الفقرة من العهد. فهناك أمهات قدمن أولادهن في مشروع وقف نو، وعندما يكبرون يقدم بعض الوالدين اعتذارًا أن أوضاعنا الاقتصادية ليست جيدة، وإذا خدم أولادنا للجماعة فلن يكفيهم الراتب القليل، لذا نرجو أن تسمحوا له بالانخراط في العمل المادي. فمن ناحية تعهدن بالتضحية وقدمن الأولاد من تلقاء أنفسهن ومن ناحية أخرى يدفعنهم بأيديهن إلى المادية. ومثل ذلك يصبح بعض الأولاد الواقفين أطباء ومهندسين ويقولون الآن نجد صعوبة في عمل الجماعة، ولا نستطيع العيش براتب قليل، فاسمحوا لنا بالعمل المادي. فأقول لهم حين قطعتم العهد بإيثار الدين على الدنيا، وتعهدتم بأنكم ستضحُّون، ووُفِّق الوالدان لينذروا أولادهم قبل الولادة، فلا معنى لهذه الأعذار. بل ثمة حاجة للوفاء بهذا العهد، إذا كان الراتب قليلًا فإن الله يبارك فيه. فعلى الواقفين الشباب أن يتقدموا ليكونوا دعاة ومبلغين، كما ينبغي أن يخدموا الجماعة في مجال الطب والهندسة أو في التدريس، ويقدموا التضحية، ويرفعوا معايير التضحيات، ولا يكتفوا بإبداء الحماس إثر الاستماع إلى الوقائع والقصص القديمة، فهي تُقرأ لكي نقتدي بها. لا يُهمنا المملكات المادية ولا الحكومات المادية ولا علاقة لنا بأنظمة الحكومات وثرواتها، ولا بقواتها، وينبغي أن يكون الأمر كذلك. فإذا كان هناك هدف، فهو كيف يمكن أن نُثبت صدْق الإسلام ونظهره للعالم؟ وكيف يمكن أن نجمع العالم تحت راية النبي ؟ وكيف يمكن أن نُقيم حُكم الله الأحد في الدنيا؟ وكيف يمكن أن نجعل الإنسانية الغافلة والضالة خاضعةً لله تعالى؟ وكيف يمكن أن نجعل الناس يؤدون حق بعضهم البعض؟ هذا هو الهدف من إقامة جماعتنا، وهذا هو هدف كل أحمدي ولا سيما الواقفين الجدد، لذا يجب عليهم أن يقفوا أنفسهم للدراسة في الجامعة الأحمدية وأن يُصبح معظمهم دُعاةً ومربّين لكي تنتشر رسالةُ الإسلام في العالم كله بأسرع ما يمكن.

فهذه الأمور التي ذكرتُها هي الهدف من تأسيس هذه الجماعة ولتحقيقه يجب أن نقدم تضحيات، وهذا ما ذكره المسيح الموعود مرارًا، لأن تحقيق هذه الأمور يتطلب تضحيات، فالانقلابات لا تحدث بمجرد قراءة واقعات التضحيات القديمة، لذا لا بد أن تصبح كل امرأة أحمديةٍ هاجرَ ويُصبحَ كلُّ شاب أحمدي إسماعيلَ، ولا بد أن يُظهر مثلَ هذه النماذج كلُّ أحمدي من كل بلد وملة ونسلٍ، حينها يمكن أن نُنشئ الوحدة في العالم. وحينما نقوم بتضحية جماعية لنيل هذا الهدف نتمكن من تحقيق الهدف من بناء بيت الله وهو إقامة وحدانية الله عز وجل الله التي من أجلها قدّم إبراهيم وهاجر وإسماعيل تضحيات وظهر بيتُ الله الأول كعلامة لوحدانية الله، وحينها سنتمكن من تحقيق الهدف من بعثة إبراهيم هذا الزمان والخادمِ الصادق للنبي ، وهو جمع العالم على دين واحد. ندعو الله تعالى أن يخلق فينا روح التضحية الحقيقية، وأن نكون ممن يقدّمون الدين على الدنيا دومًا وأن يُرينا في عيد الأضحى القادم منازلَ جديدة من رقي الإسلام وأن نقدم تضحيات مقبولة تصلنا فيوضُها وبركاتها في الدنيا والآخرة. (آمين)

Share via
تابعونا على الفايس بوك