جوهر الفداء بين الحقيقة والخرافة

جوهر الفداء بين الحقيقة والخرافة

داود أحمد عابد

  • ما فلسفة الإنجاب الحقيقية؟!
  • ما الجوهر الحقيقي للفداء؟!
  • إذ نضحي.. نموت لنحيا.. كيف؟!

__

مما لا شك فيه أننا بأمس الحاجة إلى إعادة قراءة النصوص المقدسة لدى أتباع شتى الأديان عمومًا، والقرآن كتاب المسلمين المقدس خصوصًا، على أن تكون تلك القراءة المرجوة بتفهيم رباني خاص.

فمما أسيئت قراءته على مر القرون ما يشكل لدينا نحن المسلمين مثلًا، ركنًا ركينًا من أركان الدين، ويبلغ هذا السوء مبلغه من الخطورة حين تنبني عليه منظومة عبادات لا تلبث أن تستحيل تقليدًا، ومن ثم ضربًا من ضروب الوثنية، وهذا بالضبط ما بات يُتَّهم به المسلمون اليوم من قِبل الأغيار الزاعمين بأن المسلمين يتعبدون بممارسات وثنية، كالطواف حول بناء مكعب الشكل، وتقبيل حجر أسود اللون، وممارسة النحر هديًا أو أضحية، وإلقاء الحجارة على نصب حجري!! فكل هذه الممارسات التي نؤديها كمسلمين تعبدًا وتقربًا إلى الله تعالى، هي في نظر غيرنا ضربًا من ضروب الوثنية، فعلينا بيان جوهر هذه الممارسات، وإلا فالمتَّهِم محق، والعياذ بالله.

ومن بين ما أُسيئت قراءته وتمثله جوهر الفداء المشار إليه في قوله تعالى:

وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (1)،

والواردة في سياق القصة القرآنية عن حضرة إبراهيم وآله الطيبين الطاهرين، وعلى رأسهم زوجته الصابرة المهاجرة حضرة هاجر، وابنه البكر البار حضرة إسماعيل (عليهم السلام)..

عرض للمعنى الشائع

قبل أن نبين المعنى الحقيقي لهذه الآية الكريمة لنرَ ما تعرضه التفاسير التقليدية في عجالة، وملخص ذلك أن الذبح العظيم الذي ذبحه إبراهيم بموضع مُنى عند المنحر -على حد قولهم- هو كبش أعين أقرن له ثغاء، عظيم القدر قد رعى في الجنة 40 خريفًا وهو ذاته الكبش الذي قربه ابن آدم هابيل وتُقُبل منه، جاء به جبريل من عند الله تعالى ليكون فداء لإسماعيل ، ووصفه بالعظيم لأنه جاء من عند الله تعالى. وقيل

«ما فُدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى أُهبِط عليه من ثبير»(2)

وكان يرتع في الجنة حتى تشقق عنه ثبير، وكان عليه عهن أحمر. وكان اسمه جرير، وقيل: كان مربوطًا بسمرة في ثبير. وكان قرناه معلقين في البيت إلى زمن النبي فاحترقا. وقيل إنه وعل وهو التيس الجبلي وليس بكبش.

وهذا بالضبط ما بات يُتَّهم به المسلمون اليوم من قِبل الأغيار الزاعمين بأن المسلمين يتعبدون بممارسات وثنية، كالطواف حول بناء مكعب الشكل، وتقبيل حجر أسود اللون، وممارسة النحر هديًا أو أضحية، وإلقاء الحجارة على نصب حجري!! فكل هذه الممارسات التي نؤديها كمسلمين تعبدًا وتقربًا إلى الله تعالى، هي في نظر غيرنا ضربًا من ضروب الوثنية،

 الفادي الحقيقي

إذا ألقينا نظرة فاحصة على هذه الآية التي نحن بصددها لوجدنا أن الله تعالى نسب فعل الفداء بالذبح إلى نفسه الكريمة، والكبش المعروف الذي تم ذبحه آنذاك ذبحه إبراهيم بنفسه، ففي هذه الكلمة إشارة قوية أن «الذبح العظيم» هو غير الكبش أو الوعل أو التيس. كذلك فإن الآيات اللاحقة للآية التي نحن بصددها، أي

وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (3)

ترفض هذه الفكرة رفضًا قاطعًا، أضف إلى ذلك ما جاء في الأثر من قَول يَحْيَى بْن سَعِيدٍ:

«وَزَعَمَ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَنَّ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، حَدَّثَهُ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ لأذْبَحَنَّ نَفْسِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، ثُمَّ تَلَا  وفديناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ »(4)

أي أن حياة النبي وأسوته الكريمة هي الدالة على هذه الفدية.

كما أن كلمة «عظيم» تدل على أن الذبيح له شأن غير عادي. لقد حاول بعض المفسرين جاهدين للدفاع عن الفكرة التقليدية أن يسدوا هذا الفراغ إلا أن محاولتهم باءت بالفشل الذريع، لا سيما حين شرعوا في تعليلات عدة لوصف الذبح بالعظمة، فمثلًا قال أحدهم: «عظيم» أي: عظيم القدر، ولم يرد عظيم الجثة. وإنما عظم قدره لأنه فدي به الذبيح، أو لأنه متقبل. قال النحاس: عظيم في اللغة يكون للكبير وللشريف. ويرى أهل التفسير على أنه هاهنا للشريف، أو المتقبل»(5)

في رحاب جوهر الآية

بعيدًا عن الأقاويل الشائعة في معرض تفسير آية الفداء والذبح، نفضل أن يكون عرضنا كسباحة وتسبيح في معنى الآية الصحيح، وأولى خطواتنا نحو الإمساك بالخيط الموصل للمعنى أن نتساءل عما كان مطلوبًا من سيدنا إبراهيم وقتئذ؟! ولماذا؟! ومن هنا تلوح لنا بادرة طيبة فيما كتبه سيدنا المصلح الموعود بهذا الصدد، إذ ذكر حضرته ما تعريبه أن الرؤيا التي رأى فيها إبراهيم أنه يذبح ابنه إسماعيل، كان تأويلها أن يترك ابنه في وادٍ غير ذي زرع، إذ إن تركه إياه في مثل هذا المكان كان بمثابة ذبح له ولا ريب. (6)

لم يستطع سيدنا إبراهيم فهم الرؤيا بمفهومها الصحيح تأثّرا بالتقليد الشائع في ذلك الزمن، إذ كان الناس يقدمون حِينَئِذٍ قرابين إنسانية، فظنّ إبراهيم أن الله يريد منه ذبح ابنه ذبحًا ماديًّا. ولم يخبره الله تعالى بتأويل الرؤيا الصحيح لكي يلغي على يد إبراهيم تقليد الذبائح الإنسانية هذا. فلما استعد فعلاً لذبح ابنه كي يحقق الرؤيا تحقيقًا حرفيًّا، أوحى الله إليه أنْ يا إبراهيم قد صَدّقتَ الرؤيا وخرجت ناجحًا من الاختبار، فيجب من الآن ألا يُقتل أي إنسان قربانًا لله على هذا النحو، اللهم إلا الذي يُقتل في الحرب أو في القصاص. وأعلن أنه يجب أن يأخذ القربان الإنساني من الآن طابعًا معنويًا.

فلا تقدّموا لله لحومكم ودماءكم، بل ضحوا في سبيله بوقتكم وعلمكم ومالكم لتنالوا به قربه سبحانه وتعالى. فاذبح الآن يا إبراهيم كبشًا من الأكباش دفعًا للبلاء، وجهز نفسك للتضحية بابنك بطريق آخر وهو أشق وأشد من هذا الطريق.

فلسفة الإنجاب الحقيقية

توضح لنا هذه الآية قوة إيمان سيدنا إبراهيم . فإنه يترك ابنه البكر في البرية التي يصعب وصول الماء والطعام إليها، وهكذا يدمر مستقبل ابنه في نظر أهل الدنيا، ولكن يقينه بوعد الله قوي وراسخ لدرجة أنه يتجه إلى شكره تعالى ِإذْ وهب له على الِكبر إسماعيل وإسحاق استجابة لتضرعاته فيهما. وكأنَّ إبراهيم ما كان يريد من الله الأولاد حتى في سن الشيخوخة إلا إذا كانوا سيضحون بأرواحهم في سبيل الله تعالى، وتوطيد دينه في العالم. والحق أنه لا يحظى بمثل هذا الإيمان والفداء والإخلاص إلا ذو حظ عظيم كإبراهيم وأمثاله. اللهم صّلِ عليهم وارفع درجاتهم (7).

لقد بين المسيح الموعود تفصيل كل هذه الأمور وقال:على الإنسان أن يفكر لماذا يرغب في الأولاد لأنه لا ينبغي حصر ذلك في رغبة طبيعية كالشعوربالعطش والجوع، بل حين تتعدى هذه الرغبة حدًّا معينًا فلا بد من إصلاحها. خلق الله تعالىالإنسان لعبادته كما قال:

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات 57)

فإذا لم يصبح الإنسان بنفسه مؤمنًا وعبدًا ولم يحقق هدفًا حقيقيًّا من خلقه ولم يؤد حق العبادةکاملًا، بل عاش في الفسق والفجور وارتكب ذنبًا تلو ذنبٍ فأية نتيجة سوف تسفر عنها أمنيته بالحصول على الأولاد إلا أن يترك خليفته ليرتكب الذنوب؟! فما لم تكن أمنية الحصول على الأولاد هادفةً إلى أن يكونوا أتقياء وورعين ومطيعين لله تعالى وخدامًا لدينه كانت لغوًا محضًا، بل تدخل في المعصية والذنب، ويجوز أن يطلق على ثمرة هذا الإنجاب «الباقيات السيئات» بدلًا من «الباقيات الصالحات».  وإن قال أحد بأنني أتمنى أولادًا صالحين وخاشعين لله وخدامًا للدين لكان قوله هذا ادعاء محضًا إن لم يُصلح نفسه. فإذا كان يعيش بنفسه حياة الفسق والفجور ويقول بلسانه بأنه يتمنى أولادًا صالحين ومتقين فهو كاذب في ادعائه»(8). ويعلق حضرة الخليفة الخامس على مثل هذا السلوك قائلا: «يأتيني كثير من الناس ويقولون: أُدع لنا أن يرزقنا الله تعالى أولادًا صالحين، وعندما أسألهم عن التزامهم بالصلوات يقولون: نحاول أن نصلي الصلوات كلها. فالذين لا يصلون حتى الصلوات المكتوبة فماذا عسی أن يكون مستوی کسبهم الحسنات الأخرى»(9).

ومن هنا تلوح لنا بادرة طيبة فيما كتبه سيدنا المصلح الموعود بهذا الصدد، إذ ذكر حضرته ما تعريبه أن الرؤيا التي رأى فيها إبراهيم أنه يذبح ابنه إسماعيل، كان تأويلها أن يترك ابنه في وادٍ غير ذي زرع، إذ إن تركه إياه في مثل هذا المكان كان بمثابة ذبح له ولا ريب.

إذ نضحي.. نموت لنحيا

إذن فإن الحياة تطلب منا الفداء والتضحية. فلا شك أن كل تضحية تتضمن رسالة عظيمة، وبالتالي فإن الباحث المنصف في التاريخ ينعم بنفحاتها المتعددة الأبعاد ويغوص في معانيها وأهدافها، ولكن الحق يفرض علينا أن نحكم بأنها لا تصل في جوهرها إلى المعاني الإيمانية والروحانية العظمى كالتضحيات التي أثنى عليها الدين الحنيف.

الأضحى.. موتٌ يَهَبُ الحياة، أي تضحية النفس بالاستسلام لله تعالى استسلامًا كاملًا لا ريب فيه، لدرجة أن يصبح هذا الاستسلام بمثابة الموت.. ذلك الموت الذي وهب الحياة لسيدنا إبراهيم حيث سلّم عنقه قبل أن يسلم عنق ابنه إسماعيل عليهما السلام. فما كان له أن يقدم على تسليم عنق ابنه والتضحية بنسله في واد غير ذي زرع لو لا يقينه التام في الله عز وجل. فهو العاشق الولهان الذي انمحت جذور نفسه بنار المحبة الإلهية.

إن العلاقة التي كانت بين سيدنا إبراهيم الخليل وربه قادته إلى التضحية بأعز ما لديه.. وبنفس العزيمة والاستسلام التام، يحثنا التعليم الكامل الذي جاء به المصطفى لتقديم التضحية روحيًّا وماديًّا. وبما أن الله تعالى لا يتغير في ذاته ولا في صفاته، وبالرغم من البعد الزمني بيننا وبين العهد الإبراهيمي ومن بعده حفيده خير خلق الله ، فإن الحكمة البالغة من تدوين هذه التضحيات وذكرها إجمالًا وتفصيلًا يدل بالدرجة الأولى على أن الله تعالى يؤكد علينا أن تكون بيننا وبينه نفس العلاقة التي كانت مع إبراهيم وحفيده في الخصال الإيمانية، والاستسلام الكلي، والخضوع والمحبة..

إن شوق المؤمن المحب أن تكون له مع الله خلة، ولا يهدأ له بال إلا إذا ذاب قلبه في حب الله تعالى أكثر من ذي قبل بحيث يكون مستعدًّا لتلبية النداء «لبيك اللهم لبيك». فكما أن إبراهيم لم يتردد في ذبح ابنه تنفيذًا لأمر الله كذلك ينبغي على الإنسان أن يكون كله لله تعالى وألا يكترث بالتضحية بنفسه وأولاده وكل ما يمتلك أمام أمر الله تعالى.. لقد قدمت تضحيات عظيمة في زمن الرسول الذي كان أسوة حسنة كاملة في كل سبل الهداية، والمظهر الجلالي للذبح العظيم إذ كان المؤمنون به يقدمون شتى التضحيات المادية والمعنوية لدرجة أنهم رضوا بأن يقطعوا إربًا إربًا في سبيل الله تعالى بصورة لم يشهد لها تاريخ الديانات مثيلا.. ويا حسرتاه على تبخر روح الأضحى عبر العصور فقد نسي كثير من الناس رسالته واكتفوا بذبح كبش كشعار للكبش الذي أُنزل من السماء، حسب اعتقادهم.

لم يستطع سيدنا إبراهيم فهم الرؤيا بمفهومها الصحيح تأثّرا بالتقليد الشائع في ذلك الزمن، إذ كان الناس يقدمون حِينَئِذٍ قرابين إنسانية، فظنّ إبراهيم أن الله يريد منه ذبح ابنه ذبحًا ماديًّا. ولم يخبره الله تعالى بتأويل الرؤيا الصحيح لكي يلغي على يد إبراهيم تقليد الذبائح الإنسانية هذا. فلما استعد فعلاً لذبح ابنه كي يحقق الرؤيا تحقيقًا حرفيًّا، أوحى الله إليه أنْ يا إبراهيم قد صَدّقتَ الرؤيا وخرجت ناجحًا من الاختبار، فيجب من الآن ألا يُقتل أي إنسان قربانًا لله على هذا النحو، اللهم إلا الذي يُقتل في الحرب أو في القصاص. وأعلن أنه يجب أن يأخذ القربان الإنساني من الآن طابعًا معنويًا.

فتعبير الأضحى العملي هو الإيمان بالتطهر والمجاهدة والانقياد الكامل، وتاجه التقوى الذي هو غاية ومقصد الشريعة. ويظن البعض أن الأضحى ليس سوى تذكرة بقصص زمن مضى وهذا هو الشائع والمنطبق عند الكثيرين، في حين أن الأضحى بالنسبة إلى السالكين بالروح الإبراهيمية والإسماعيلية ليس حدثًا عابرًا، بل غاية بعثة المصطفى الذي يجسد التعبير العملي للتضحية والذي نحر ناقة نفسه وتلها للجبين ليهب الحياة للعالمين فطوبى لكل من أدرك حقيقة هذا الذبح العظيم وسلك سبيله وتأسى به إلى يوم الدين، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وقد شرح المسيح الموعود في مواضع عدة كيف أن ذبح الأضاحي هو في الحقيقة ذبح نفوسنا الأمّارة بالتوبة والتخلي عن الأهواء، وكيف أن هذا الذبح هو المراد من هذه الشعيرة الخالدة.

الهوامـش:

  1. (الصافات: 108)
  2. انظر: تفسير الطبري، تفسير قوله تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (الصافات: 108)
  3. (الصافات: 109-111)
  4. الطبراني، المعجم الكبير، رقم ١١٤٤٣
  5. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، والمبين لما تضمن من السنة وأحكام الفرقان، تحت آية: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (الصافات: 108)
  6. انظر: مرزا بشير الدين محمود أحمد، التفسير الكبير، تفسير قوله تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (الصافات: 108)
  7. انظر: غسان النقيب، «أحسن القصص من التفسير الكبير» ص ١٠٨
  8. تفسير المسيح الموعود، تفسير قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (الفرقان: 75)
  9. حضرة مرزا مسرور أحمد، (خطبة الجمعة:14/07/2017)».
Share via
تابعونا على الفايس بوك