مجمع البحرين

عندما تطّور شعور الإنسان إلى منتهاه وُهب النبوّة، هنالك برزت قوى الخير والشر المتناقضة، وبمرور الزمن نشأت فئتان وسارتا معا، أولاهما تتضمن أناسا سعيدي الفطرة ومحبي التوحيد الذين هتفوا هائمين بأعلى أصواتهم “ربنا الله” و “لا إله إلا هو”، فأضاءت مصابيح التوحيد عند الحضرة الأحدية، واندفعت قوى الشر كفئة ثانية ووضعت خاتم الكفر على حاملي الصفات الإبليسية، فخطا الإنسان خطوات جادة في طريق حياته نحو المعراج الروحي، نُقشت على صدر التاريخ حوادث أصبحت وثائق لعواطف العشق والوجدان فيما سمي جريمة حب الله، ومن ناحية أخرى هي تعزية لدناءة الإنسان أعني الإنسان الضال. يشهد التاريخ أن عبدة الآلهة الباطلة ضيقوا الحياة على عباد الله، فضربت الأعناق تارة وتارة أخرى أوذوا أشد الإيذاء بقطع أيديهم وأرجلهم وسلخت جلودهم وشقت صدورهم وكشطت أجسادهم بمشط الفولاذ، وأضاءت مصابيح قلوبهم السجون المظلمة على مدى سنين عديدة. وكان من أبرز هؤلاء سيدنا يوسف .

الأسير في سبيل الله سيّدنا يوسف عليه السلام

كان سيدنا يوسف إنسانًا تقيًّا بارًّا ومطهرًا، كانت حياته ابتلاء مستمرًا، تحمّل مصائب العبودية في طفولته بسبب إخوته إلى أن وصل -هذا الدرّ الكنعاني- إلى مصر عبدًا، تغيّرت الأوضاع مع مرور الزمن وفي عز الصبا حظي بنصيب وافر من الجمال الظاهري والباطني حتى أصبح حُسنه الساحر مضرب الأمثال، كان عبدًا لعزيز مصر الذي كانت زوجته تخبئ في طوايا نفسها بحرا من الشهوات، فدعا يوسف ربه قائلا:

رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْه .

عندما رغبت بشهواتها الرديئة في تدنيس ثوب عفته، شهد التاريخ أن هذا العفيف وبالأحرى أقول سلطان الأعفّاء قضى بضع سنين في السجن، ماذا كان جرمه؟ فقط أن وجهته كانت رضا الله وكره أن يتعدى حدود الله فباع نفسه لمرضاة .

دخل موكب الزمان في مسيرته إلى أن بلغ ذروة معراج التطور البشري، تلك المرحلة سميت -مجمع البحرين- إذ طلع النور من غار حراء وخر كل كائن في الكون ساجدا، كما أن أبعاد الزمان والمكان خرت ساجدة أمام مجد الإنسان، فجسدت كمالات الإنسان جميع أدوار الابتلاءات، فتلك هي مرحلة البعثة المباركة لمحمد المصطفى .

“شعب أبي طالب”

حياة سيدنا ومولانا محمد المصطفى هي جملة من التضحيات المستمرة، كان منها اضطهاد الكفار له ولأصحابه في حادث “شعب أبي طالب” حين برزت استقامته واستقامة أصحابه على المحن كنقش لا يمحى، فبدا هدير طبول الكفر ضعيفا أما نداء “لا إله إلا الله”، فجدد الكفار خططهم وتحاملوا على المسلمين بأشد المظالم وأبشعها، ولكنهم عرفوا أن المسلمين أعلام في إيمانهم فلا يمكن لهم أن يقفوا في طريقهم، وعلى صعيد آخر فمعظم أكابرهم اندمجوا في الإسلام فأشعل تراكم الخيبة نار غضبهم، ففي يوم من أيام العام السابع بعد النبوة تقريبا عام 617م تعاهد الكفار على ما يلي:

  1. لا يتزوج أو يزوج أحد من بني هاشم أو من بني عبد المطلب.
  2. لا أحد يبيعهم شيئا ولا يبتاع منهم.
  3. لا يسمح بوصول شيء من الطعام أو الشراب إليهم.
  4. تقطع العلاقات معهم حتى يسلّموا محمدا (صلى الله عليه أفضل الصلوات والسلام).

كتبت هذه المعاهدة وعُلقت على الكعبة المكرمة. (ابن سعد وابن هشام) كانت هذه بداية التضحيات التي فتحت بابًا مشرقا في سجلات تاريخ الإنسانية.

يروي موسى ابن عقبة في مغازيه عن الإمام الزهري بأن أبا طالب تعهد بحماية النبي من بني هاشم ومن بني عبد المطلب حين عرف بالمعاهدة.

فأرغم هؤلاء المتغطرسون السّكارى هذا الجمع القليل من المسلمين بما فيهم ضعاف ومساكين على اللجوء إلى “شعب أبي طالب” الواقع في جبل أبي قيس.. رجالاً ونساءً، أطفالاً وعبيدًا تحت نظرات ازدراء الناس لهم.

امتدت هذه الفترة إلى ثلاث سنوات كانت ذروة في إظهار الإيمان الحقيقي والصبر ضد الجور والاضطهاد، إن روح العدل تضطرب عندما تمعن النظر في الحوادث التي جدت في ذلك الوقت حين ضيقت الحياة على هؤلاء الفارّين إلى الله. وقد مُنع عنهم الأكل والشرب في حين كان الكفّار يقهقهون كلما سمعوا بكاء الأطفال المتضرّعين بسبب الجوع والعطش. أما المسلمون المقهورون فكانوا لا ينظرون إلّا إلى مولاهم الحقيقي وكانوا غير راضين عن التعاهد مع الكفّار. يقول سيّدنا عمرو بن العاص: “في إحدى الليالي كنت في وضع صعب نتيجة الجوع الشديد حتى أصبح المشي صعبًا علي، صرت في ظلام الليل مقشعرا وسرعان ما شعرت بشيء ليّن تحت قدمي فأخذته وتناولته ووالله لا أعرف حتى اليوم ماذا كان ذلك الذي أكلته.

هذا… وقد كانت له سابقة أخرى إذ أكل من جراء الجوع الشديد قطعات مبللة من الجلد. (الطبري)

لقد أمضى أصحاب النبي رضوان الله عليهم أجمعين – جُلّ أوقاتهم يأكلون أوراق الأشجار، فكانت القلوب تقشعر لهيبة تلك الحوادث عندما كان الكفار ينعمون في أمسياتهم بالفرح والمرح والطرب، في حين كان المسلمون يمضون أمسياتهم بالبؤس والحزن بسبب تضور أطفالهم من الجوع.

مرة كان حكيم بن حزام يذهب بقمح قليل لعمته “خديجة رضي الله تعالى عنها” فعلم أبو جهل بتلك فتعلق به وقال له لن أبرح حتى أفضحك في مكة، واشتبك مع أبي جهل أبو البختري على الرغم من أنه كان واحدا من الكفار فضربه بفك الجكل ودمغه.

تصوروا تلك الليالي السوداء التي كان نحيب الأطفال الباكين يعدو فيها في الفضاء الصامت الهادئ ممزقا سكوته ولكن المسلمون أضاؤوا شموع الصبر وسط سواد الظلم والعدوان، لأن البعد عن رسول الله كان شاقا عليهم. وتخيلوا مقابل هذه العواطف الطيبة فعل أبي لهب العاثر الذي كان يتجول في مكة كي يمنع كل مسلم مظلوم خائف يريد شراء شيء ما لأطفاله الجياع من بائع جديد (فلم يكن أحد في مكة يرضى البيع للمسلمين).

ويذهب أبو لهب إلى البائع الجديد ويعده بأن سوف يشتري بضاعته منه بأضعاف مضاعفة كي يحرم المسلمين من الشراء. وبعد ذلك كان يشتري البضاعة بسعر عادي إلى أن حان نصر الله بعد مرور ثلاثة أعوام فطلع الفجر من عتمة الابتلاء ومزق رب محمد هذه المعاهدة وانتهى دور من أدوار تضحيات الأسرى في سبيل الله وصار قدوة ومثلا لأساطير الصبر المثيرة التي لا تكاد تنتهي.

Share via
تابعونا على الفايس بوك