التدبر في نظام الكون أفضل وسيلة للتعرف على وجود الله
إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (165)

شرح الكلمات:

اختلاف-اختلف زيدٌ عمرًا: كان خليفته؛ جعله خلفه؛ أخذه من خلفه(الأقرب). قال الراغب الأصفهاني عن اختلاف الليل والنهار: أي مجيء كل واحد منهما خلف الآخر وتعاقبهما (المفردات).

الفُلك-السفينة (الأقرب)، وهو يُذَكّر ويُؤنث ويفرد ويجمع، كقوله تعالى (إذ أبق إلى الفلك المشحون) (الصافات: 141)، وقوله تعالى (حتى إذا كنتم في الفلك وجَرَيْنَ بهم بريح طيبة) (يونس: 23).

التفسير:

في الآية السابقة قال الله تعالى (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم).. وفي بداية هذه الآية جاء بنظائر الرحمانية والرحيمية كدليل على وجوده. فإنه قبل كل شيء وجّه أنظار الإنسان إلى خلق السماوات والأرض، وبيّن أن في خلقها آيات عظيمة لأصحاب العقول. بمعنى أنهم لو تدبروا وأمعنوا النظر لأدركوا بسهولة أن لا شيء في السماوات والأرض إلا وله علاقة وثيقة بحياة الإنسان، وأن وراء كل هذه الأشياء يدَ رحمانيةِ الله، ولا دخل فيها لعمل الإنسان وسعيِه. انظروا إلى الهواء والماء والشمس والقمر والنجوم.. فكلها لا تجري ولا تعمل بسبب جهد من جانب الإنسان، وإنما سخرها الله لخدمة الإنسانية كأثر لصفته الرحمانية. ولولا هذه الأشياء لم يستطع الإنسان البقاء حيًّا لحظة واحدة في هذا العالم. ثم لو لم يكن في السماوات والأرض قانون معين ونظام لا يتبدل.. لصارت الإنسانية بدون جدوى. ولكن الله تعالى كما جعل كل شيء في العالم لخدمة ونفع الإنسان، كذلك جعل كل شيء تابعا لقانون.. حتى يتقدم الإنسان ويزدهر بدون خطر. ولقد ذكر الله هذه الحقيقة في موضع آخر من القرآن الكريم: (الذي خلق سبع سماوات طِباقا، ما ترى في خلق الرحمان من تفاوُتٍ، فارجع البصر هل ترى من فطور. ثم ارجع البصرَ كَرّتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) (الملك: 4، 5) فقوله تعالى (ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) يعني أنك لن تجد خللا في نظام العالم. فكون العالَم يسير بقانون معين، وحركة الشمس والنجوم تسير حسب هذا القانون والنظام بدون خلل أو انحراف أيضًا.. يمثل دليلا على أن لهذا الكون خالقا باليقين. ولو كان لهذا الكون أكثر من خالق –كما يعتقد المسيحيون-فلا يمكن أن يكون كل هذا الكون تابعًا لقانون؛ بل لا بد أن يقع فيه خلل. فبتوجيه أنظارنا إلى خلق السماوات والأرض يقدم الله سبحانه دليلا على وجوده ووحدانيته أيضا، وكونه رحمانا.. أي يرحم ويتفضل على عباده بلا نهاية، وينعم عليهم بإنعامات لا دخل لأعمالهم في الحصول عليها.

وكذلك خلْق السماوات والأرض لدليل على رحيميته، لأن من يعمل بحسب قوانين الله يجزيه أحسن الجزاء، فلا يمكن أن يحرُث الإنسان الأرض ويبذر البذر ويروي الحقل ويتعهد الزرع ثم لا يفوز بمئات الحبات مكان كل حبة واحدة، أو يسعى سعيا صحيحا ثم يُحْرم من ثمار مساعيه. فهاتان الصفتان تسيران وتتجليان جنبا إلى جنب معا. وكل شيء يشير ببنان وجوده إلى وجود الله تعالى.

والحقيقة أن العلم بوجود الله يتم بعد العلم والمعرفة بأشياء أخرى.. لأن هذا العلم علم كلّي. فبعض الأشياء تُرى في حد ذاتها، وبرؤيتها يطّلع الإنسان على وجودها. فمثلا لو وضعنا أمام طفل أصبعًا يدرك وجودها بأبعادها من طول وعرض وسمك.. بدون أي حاجة لإدراك التفاصيل من أن وراء هذا الإصبع يدا، وأن هذه اليد متصلة بساعد، وأن الساعد متصل بالكتف، والكتف بعنق ورأس، وأن في الرأس دماغا يأمر هذه الأعضاء بالحركة والسكون.. ونتيجةً لذلك وجدت أمامي هذه الإصبع. فالعلم بالإصبع لا يحتاج العِلمَ بباقي الأشياء. ولكن العلم بذات الله تعالى علمٌ كليّ، ولا يتم ما لم يتم العلم بالجزيئات. إننا نعرف الله بمعرفة مخلوقاته. هذا العلم يكتمل ويتسع شيئا فشيئا.. نحن نعرف شيئا بعد الشيء، ثم شيئا ثالثا.. فرابعا. فإذا تم العلم بالجزيئات المخلوقة.. نتعرف منها ذات الله تعالى. إن أبسط الناس لو تدبر لوجد دليلا على وجود الله.. كما قال أحد الأعراب عندما سئل عن إيمانه بالله، فضحك وقال: لست بمجنون حتى لا أعرف ربي.. فالبعرة تدل على البعير، وأثر القدم على السفير، فالسماء ذات الأبراج والأرض ذات الفجاج.. أما تدل على قدير؟

غير أن هذا علم بسيط يعترض عليه الفلاسفة ويقولون إن خَلْق السماوات والأرض وحده لا يمكن أن يشكل دليلا على وجود خالق لها، لأن بعض الأشياء تحدث مصادفة، وكل الناس يعرفون أنها حدثت صدفة.

وقد رد القرآن على اعتراض الفلاسفة والمنكرين هذا وقال: صحيح أن وجود الكون وحدَه لا يمكن أن يكون دليلا كاملا على وجود الله تعالى، ويمكن أن تُسمّوه من المصادفات، ولكن وجود ترتيب ونظام في كل كون، ووجود ارتباط بين عناصر الكون، ووجود حكمة في كل ذرة.. لا يمكن أن يتم كل هذا بالمصادفة.. بل هو دليل على أن هناك خالقا لهذا الكون، خلقه بنظام ولحكمة. فمن ناحية جعل للإنسان عينا لها القدرة على الرؤية، ومن ناحية أخرى جعل للشمس نورا ترى بها العين. وخلق الأنف للشم، وإزاء ذلك خلق الرائحة التي يميزها الأنف. وخلق الأُذن للسمع، ومن جهة أخرى جعل للهواء خاصية الاهتزاز والذبذبة لنقل الأصوات إلى الأذن. فإذا كانت العين قد خُلقت بالمصادفة للرؤية.. فهل خُلق النور في الشمس مصادفة إزاء ذلك؟ وإذا كان الأنف قد خُلق صدفة للشم، فهل خلقت الروائح إزاءه صدفة؟ وإذا كانت الأذن قد وجدت للسمع صدفة.. فهل خُلق الهواء واهتزازه صدفة لذلك؟

لو لم يكن هناك نظام وارتباط وترتيب وحكمة بين هذه الأشياء لقلنا إنها خُلقت صدفة، ولكننا لا نجد في الكون ذرة خالية من نظام وحكمة. وما دام لكل شيء ارتباط بشيء آخر ونظام، فكيف يمكن لنا التسليم بأن كل هذه الأشياء، وكل هذا النظام خُلق تلقائيا ومصادفة؟

ولكن إنما ينفع هذا الدليل إذا كان الإنسان قد بلغ الرشد، وتعوّد على التفكر والتدبر في هذه الأمور. يرى بالعين، ثم يفكر بالعقل، يلقي نظره على هذه الأشياء ثم يفكر فيما يختلج في قلبه من عواطف. يرى ضوء الشمس أو القمر، ويتفكر في تأثيره في الأشياء الأخرى، ويرى تأثير الحر والبرد، ويفحص صفات النباتات وخواصها. وما لم يكن عنده موهبة للتدبر في هذه الأشياء والتوصل إلى النتيجة بعدها.. كيف يصل إلى الله تعالى؟ غير معقول أن يتدبر الطفل الصغير في هذا الأشياء ثم يتوصل بها إلى أن هناك إلها.

وقد رد القرآن على اعتراض الفلاسفة والمنكرين هذا وقال: صحيح أن وجود الكون وحدَه لا يمكن أن يكون دليلا كاملا على وجود الله تعالى، ويمكن أن تُسمّوه من المصادفات، ولكن وجود ترتيب ونظام في كل كون، ووجود ارتباط بين عناصر الكون، ووجود حكمة في كل ذرة.. لا يمكن أن يتم كل هذا بالمصادفة..

الطفل يعرف أول الأمر أمَّه، ويعتبرها العالَم كلَّه. ثم عندما يعرف أن أباه هو الذي يمد أمّه بكل ما تحتاجه يبدأ في حبّ أبيه، ثم عندما يكبر ويخرج إلى الشارع للعب مع الصبية الآخرين يبدأ في حبّهم، وإذا غاب أحد زملائه يبكي ويصرّ على مقابلته. وعندما يشتاق للمأكل والمشرب أو الملبس يبدأ في حبها، وإذا لم يتفق شيء منها مع ذوقه أبدى سخطه ورفضه. وعندما يكبر يولع بالنـزهة والصيد.. ويرى الحياة بدون ذلك غير ممتعة. إذن فإنه يطلع على هذه الأشياء ويتعرف عليها شيئا فشيئا، ويتعلق بها، ويرى أنه لا يستطيع العيش بدونها.. وكأنها هي الإله بالنسبة إليه. ثم في آخر المطاف.. يتخلى بالتدريج عن هذه الأشياء. ففي البداية يحب أمه فيراها إلها له، ثم يحب أباه فيراه إلها له، ثم يحب أصحابه فيراهم إلها له، ثم يحب الطعام والشراب واللباس فيراها إلها له.. حتى إذا بلغ سن الرشد وأحاطه الله بفضله ومكّنه من صحبة أستاذ صالح يعلمه، ووفّق أبويه إلى ترتبيته تربية حسنة.. عندئذ يتخلى عن كل هذه الأشياء، ويتجه إلى إلهه الحقيقي، ويعرف أن كل هذه الأشياء كانت آلهة باطلة. يقول: بسبب أهوائي النفسية كنت أرى أنها كل شيء، ولكن الإله الحقيقي هو مَن خلَقها.

إذن، ففي البداية يتولد حب غير الله في قلب الإنسان، ويظن أنه مدار حياته، ولكنه يترك كل هذه الأشياء واحدة إثر الأخرى. في أول الأمر يرى حضن أمه كل شيء، ويرى في الابتعاد عنه هلاكه. ثم يكبُر فيحب إخوانه وأصدقاءه، ويرى راحة ومتعة حياته في اللعب معهم. وإذا كان معهم لا يستجيب لنداء أمه إذا دعته.. وإنما يجد المسرة والسعادة في اللعب مع أصحابه. وعندما يكبر يحب التنـزه والصيد، وينسى اللعب في الفناء مع الصغار، وتتركز مسرّاته في التنـزه والصيد، وإذا حيل بينه وبينها ظن أنه هالك لا محالة. وبعد ذلك، يترك بنفسه كل هذه الأشياء شيئا فشيئا، حتى إذا بلغ سن الرشد عرف وجه الله الحقيقي بعد التدبر والتفكر، ويرى أن كل هذه الأشياء لغو فيتركها.

وبناء على هذا الترتيب الطبيعي قال المفسرون عن إبراهيم عليه السلام إنه أولا رأى كوكبا لامعا فقال: هذا ربي. ثم رأى القمر أكبرَ حجما وأكثرَ نورا من النجم فقال: هذا ربي، ثم رأى الشمس وهي أعظم وأشد ضياء من النجم والقمر فقال: هذا ربي. وعندما أفَلَتْ وغابت واحدة بعد أخرى قال: (إني وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) (تفسير الدر المنثور للسيوطي).. أي في آخر الأمر آمن بالله قائلا: أبتعد عن كل صراط معوج، وأتجه إلى ربي الذي خلق السماوات والأرض.

هذا الحدث الذي يذكره المفسرون ليس صحيحا فيما يتعلق بشأن سيدنا إبراهيم، ولكن تفكير المفسرين كان صائبا في اتجاهه.. إذ رأوا أن العقل الإنساني يتجه من الأدنى إلى الأعلى عندما لا يصحبه نور الإلهام السماوي.

في أول الأمر تكون الأم هي كل شيء بالنسبة للرضيع.. أو بعبارة أخرى هي الإله بالنسبة إليه، بل إنه لا يعرف الأم في البداية.. وإنما يرى الثدي إلها له لأنه يرضعه، وإذا افتقده يبكي. ثم يتعرف على الأم ويبدأ في حبها، ثم يتعرف على الأب ويحبه، ثم يحب إخوانه وزملاءه الذي يلعبون معه، ويحب ما يتعلق بأكله وملبسه، ثم يحب أهل الشارع والحي، ثم يبدأ في ترك هذه الأشياء تدريجيا عندما توصله إلى الله تعالى. ولو أن الطفل البالغ بضعة أشهر أُعطي القدرة على النطق والفهم، وقيل له إنك سوف تترك حضن أمك عندما تكبر، وسوف تقل رغبتك فيها لتحيّر كما يتحير العالِم الذي يقال له إن النار لا تحرِق وأن الشمس لا تضيء، ولو قيل لصبي في السابعة من عمره إنك عندما تكبر سوف تتزوج فتاة وتزداد رغبتك فيها حتى تترك أمك لقال: لست بمجنون حتى أترك أمي، ربما يفعل هذا غيري، ولكني لن أفعل ذلك أبدا.

فمن الأمور الفطرية أن الإنسان يرغب في أشياء مختلفة في أوقات مختلفة، وعندما يرغب في شيء فإنه لا يتوهم أنه سوف يتركه في يوم من الأيام. وعندما يكبر فلا يخطر في بباله أنه كان يحب هذا الشيء في وقت من الأوقات. وكان يرى العيش بدونه مرّا. وهذا هو المعنى لقول (أشهد ألا إله إلا الله). فالإنسان في البداية يفكر في غير الله؛ وهذا الطريق في الظاهر يؤدي إلى غير الله، ولكنه في الحقيقة الطريق المؤدي إلى الله تعالى. فلو لم يحب الطفل الثدي لم يحب أمه، ولو لم يحب أمه لم يحب أباه، ولو لم يحب أباه لم يحب إخوانه وأخواته، ولو لم يحب هؤلاء لم يحب زملاءه في اللعب، ولو لم يرغب في هذه الأشياء كلاً في وقته لم يستطع في الحقيقة أن يعرف ربه في وقته.

الواقع أن الإنسان يشعر بفراغ في فطرته، ولملء هذا الفراغ يحب أشياء مختلفة في أوقات مختلفة لعل هذا الشيء أو ذاك يسد هذا الفراغ. وعندما لا يطمئن بهذا الشيء يرغب في غيره لعله يحقق رغبته. ولكن يبقى الفراغ كما هو، فيرغب في شيء ثالث ليتحقق به مراده.. وهكذا ينتقل من شيء إلى آخر.. إلى أن يترك هذه الأشياء كلها واحدا بعد الآخر، ويصل إلى الله في نهاية المطاف، وعندما ينالُ اللهَ جل علاه فإنه يمسك به ولا يتحرك من مكانه. وإلى ذلك أشار القرآن في قول الله (وأنّ إلى ربك المنتهى) (النجم: 43).. أي الإنسان في يوم من الأيام، وفي آخر المطاف يصل إلى الله.. غايتِه الحقيقية.. بعد المرور بما سوى الله من الأشياء. إنه لا يصل إلى غايته هذه على الفور.. وإنما يمر في رحلته بأشياء أخرى عديدة، ظنها آلهة له بسبب صغره، ولكنه بالتدرج يترك كل هذه الأشياء، وكل شيء منها يأخذ بيده ويقربه إلى الله تعالى.

فلقد نبَّه الله هنا أنه لو تدبرتم في نظام الكون لرأيتم وجود الله تعالى في كل ذرة منه، ولاضطررتم إلى الاعتراف بأن كل شيء خلقه الله في السماوات والأرض وما بينهما إنما خلقه بحكمة وحق، ولم يخلقه عبثا، بل وراء خلقه هدف عظيم. ولما كان هذا الهدف لا يتحقق في الظاهر في هذه الدنيا.. لذا كان من الضروري ألا تتحدد الحياة الإنسانية بهذا العالم.. حتى يحقق الإنسان الغاية الأسمى من خلقه كما تقتضي عظمة هذا النظام. ولو أن الحياة الإنسانية كانت لتنتهي في هذه الدنيا.. لكان العبث والمخالف للعقل أن ينشئ الله هذا النظام العظيم الذي لمّا يستطع العلماء الاطلاع على أسراره رغم ما حققوه من رقي علمي عظيم في شتى المجالات.

أتذكر أننا عندما دعونا عام 1946(دكتور سير شانتي بتناجر) مدير معهد الفحص العلمي والصناعي بالحكومة الهندية.. لافتتاح معهد الفحص بقاديان.. قال في خطابه نفس القول.. بأن كبرياء العلماء قد كُسرت اليوم بحيث لا يستطيع أحد منهم الادعاء أن العلوم قادرة على تقديم شرح مناسب للأشياء التي نراها في الظاهر. فما دامت السماوات والأرض مليئة بأسرار يعجز العلم عن تفسيرها رغم بلوغه هذا الرقي العظيم، اللهمّ إلا جزءا بسيطا منها.. فكيف يصح قولهم إن الإنسان الذي خلق وسُخر هذا الكون الواسع لخدمته إنما خُلق عبثا؟

وفي قوله تعالى (واختلاف الليل والنهار) ساق دليلا آخر على رحمانية الله، وبيّن أنه عز وجل –كما خلق السماوات والأرض وجعل الشمس والقمر والنجوم.. كذلك فإنه برحمانيته دبّر تتابع الليل والنهار، ليظهر بعد كل ليلة نهار. فلو لم يأت الليل لاستنـزف الإنسان قواه، ولو لم يطلع النهار لصارت حياه الإنسان عبثا. فجعل الله بحكمته العظيمة تتابع الليل والنهار ليأخذ الإنسان نصيبه من الراحة وإنعاش قواه واستردادها تماما.. ليكون قادرا على العمل النافع طول النهار.

كما أنه تعالى بذكر الليل والنهار أشار إشارة روحانية إلى أنه كما دبّر بخلق النهار تبديدَ الظلمة المادية. كذلك جعل نظاما روحانيا لتبديد الظلمات الروحانية. ومن وسائل ذلك أن ملائكة الله تحضّ القلوب على فعل الخير، وتحاول إنقاذها من الظلمات. ولكن عندما تُرخي الظلمات سدولها على معظم الناس، ولا تؤثر فيهم التحريكات الملائكية، وإنما يستولي الشيطان عليهم.. فإن الله يبدد هذه الظلمات بإرسال أنبيائه ومأموريه، إن هؤلاء يكونون كالشموس والأقمار للعالم الروحاني، ويكون المؤمنون بهم كالنجوم لهداية العالم. إذن فبقوله تعالى (اختلاف الليل والنهار) ينبه إلى فيضانه الرحماني ويقول إن ملائكته وأنبياءه ومأموريه والمجددين والأولياء يُخرجون الناس من الظلمات إلى النور وينجّون العالم من الدمار والهلاك.

وبقوله تعالى (والفُلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس) أشار إلى أنكم كما لا تستطيعون نقل أمتعتكم من ناحية إلى أخرى عبر البحار إلا بالسفن.. كذلك فإن الله تعالى قد جعل في العالم الروحاني بعض الشخصيات بمثابة السفن لأهل زمنهم. إنهم ينزلون بالبركات والأفضال من الله للناس، ويرفعونهم من الأرض إلى الله تعالى، وكما لا يكون الناس بمأمن من أخطار البحر إلا إذا كانوا في سفينة، كذلك لا يحتمي من البلايا والآفات الروحانية إلا الذي يركب سفينة النجاة التي أعدّها مَن بعثه الله في ذلك الزمن منقذا روحانيا.

وقوله تعالى (وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها) إشارة إلى أن الله كما أنزل من السماء ماء لإحياء الأرض من جديد.. كذلك أنزل من السماء الوحي لشفاء غليلهم الروحاني، ولكن الناس للأسف ينظرون إلى المطر المادي نظرة تقدير، ولكن عندما ينـزل عليهم مطر الوحي السماوي لا يهتمون للانتفاع به.

ذكر الرسول للصحابة ذات مرة حال المنتفعين وغير المنتفعين من مطر الوحي السماوي، وبيّن أن الناس على ثلاثة أقسام فقال

(مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ(أي طيبة) قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ(أي صلبة) أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) (البخاري، العلم).

ووضّح النبي أن المثال الأول ينطبق على العالم العامل الذي يتعلم العلم ويعمل به؛ ينتفع به كما ينفع به الآخرين ويجعلهم عاملين به مثله، والمثال الثالث لشخص ليس عالما ولا معلما.. فلا ينتفع بنفسه ولا ينفع الآخرين. ولم يذكر النبي صاحب المثال الثاني لأنه لو تدبر الإنسان في المثالين لعرف أن المثال الثاني ينطبق على شخص يعلّم الدين ولا يعمل به. درس علوم الدين ووقف على تعاليمه، ولكنه لا يتدين به. يبلغ الناس بما قال الله ورسوله، وهكذا يفيدهم وينفعهم، ولكن لا ينتفع من هذا العلم لنفسه.

والحقيقة أنه كلما يبعث في الدنيا نبي من أنبياء الله ينقسم الناس إلى هذه الأقسام الثلاثة: قسم يعملون بتعاليم الدين وينتفعون بمطر الوحي الإلهي انتفاعا جيدا، وقسم يُعرضون عن وحي الله ويرفضون أنبياءه، وقسم يعرفون تعاليم الدين ولكن يتغافلون ويتكاسلون ولا يعملون بها.

وبذكر المطر هنا يوجه الله النظر إلى أنكم كما تنتفعون بالمطر المادي يجب أن تنتفعوا أيضا من المطر الروحاني الذي نزل على محمد ، ولا تكونوا كالصخور التي لا تجتذب قطرة من مطر.

كما أشار إلى أنه عندما ينـزل مطر السماء فإن الماء الباطني في طبقات الأرض يفور ويرتفع منسوبه في الآبار.. كذلك عندما ينزل مطر الوحي الإلهي على أنبياء الله فإن عامة الناس أيضا يَرون الرؤى والأحلام بكثرة وتتجه أنظارهم إلى الله تعالى. وقد حدث هذا في زمننا أيضا، فقد رأى الناس آلاف الرؤى والأحلام الدالة على صدق المهدي والمسيح الموعود عليه السلام، وأرى أنها لو جُمعت لملأت كتابا ضخما.

ثم إن الله تعالى يوسع دائرة بركات الوحي الإلهي بطريقة أخرى، فإنه سبحانه يلقي نوعا من النور حتى في عقول الذين لم يؤمنوا بأنبيائه، ويصقلها فتسمو أفكارهم وتزداد فراستهم وترقى مواهبهم العقلية بسرعة أكبر من ذي قبل.

وقوله(وبثّ فيها من كل دابة) يشير إلى أن من آيات الله أنه خلق في الأرض أنواعا من الحيوانات والدواب. وبالإضافة إلى الحيوانات الظاهرة أشار أيضا إلى أولئك الذين يكونون بمثابة الموتى قبل بعث الأنبياء، ولا يكون بهم رمق من الحياة الروحانية، ولكن عندما يُنفخ في الصور السماوي يحيا مثل هؤلاء الأموات، ويمشي العرج ويتحرك المفلجون، وهؤلاء المنتمون إلى مختلف الأقطار والشعوب والطوائف، والمؤهلون بمختلف العلوم والفنون والمواهب.. بعدما يلبون نداء النبي يخرجون إلى أنحاء العالم لنشر الدين، ويجذبون إليه آلافًا وملايين بجهودهم التبليغية.. فيكونوا رونقا وبهاء ونصرة للدين. وبناء على ذلك فـ”الدابة” إشارة إلى أولئك المؤمنين الذين يتحركون لجلب البهاء والعمران الروحاني في الأرض، والذين تنتفع منهم الأجيال الحاضرة والقادمة بأنواع المنافع المادية والروحانية.

بأن كبرياء العلماء قد كُسرت اليوم بحيث لا يستطيع أحد منهم الادعاء أن العلوم قادرة على تقديم شرح مناسب للأشياء التي نراها في الظاهر. فما دامت السماوات والأرض مليئة بأسرار يعجز العلم عن تفسيرها رغم بلوغه هذا الرقي العظيم، اللهمّ إلا جزءا بسيطا منها.. فكيف يصح قولهم إن الإنسان الذي خلق وسُخر هذا الكون الواسع لخدمته إنما خُلق عبثا؟

وفي قوله تعالى (وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض) أتى بدليل على صفة الرحيمية، وبيّن أن ما يُنـزل الله من نعم رحمانيته، ينتفع بها الكافر والمؤمن على السواء.. أما في دائرة الرحيمية فعندما يتبارى المؤمن والكافر فإن الله يُعِين المؤمنين على الفلاح، ويخيب الكافرين في نواياهم السيئة.

والرياح هنا رياح مجازية، تهب في أوقات خاصة.. ولا سيما تلك الرياح التي جرت لأجل الرسول والتي نشرت أنواره في كل العالم. فمثلا في غزوة بدر، عندما ألقى النبي حفنة من الرمل والحصى جرت ريح عاصفة بفضل من الله تعالى، وناصرت المؤمنين، وأفسدت الأمور على الكفار حتى انقلب الموقف في ساحة الحرب في وقت قصير، وبدأ كبار قادة الكفار يقعون صرعى ملطخين بدمائهم على الرمال، وولّى جنودهم المتسلحون المجربون مُدبِرين من ساحة القتال (السيرة النبوية لابن هشام، وقعة بدر).

وفي غزوة الأحزاب حدث مثل ذلك، وأجرى الله رياحا عاصفة أجبرت الكفار على الفرار في فزع وفوضى، ورد في التاريخ أن ريحا شديدة هبّت في الليل فنزعت خيامهم، وألقت قدورهم، وأخمدت نيرانهم. وكان من عادة العرب إشعال النار طول الليل تفاؤلا، فإذا خمدت نار أحدهم تطيّر وظن أنه يوم نحس. فقامت بعض القبائل بالرحيل والفرار بناء على هذه العادة والظنون. ولما رآهم الآخرون وظنوا أن اليهود قد اتفقوا مع المسلمين وغدروا بهم، فجمعوا متاعهم على عجلة وفروا من الموقع. وكان أبو سفيان مستلقيا في خيمته لما بلغه الخبر، فقام فزعا وركب بعيره وأخذ يحثه على الإسراع وهو مقيّد، فنبّهه بعضهم إلى خطئه، ففك عقال البعير وفَرّ مع أصحابه من الميدان !(المرجع السابق، غزوة الأحزاب).

وإلى جانب تصريف الرياح هذه، نزلت الأمطار تأييدا للنبي . ففي وقعة بدر عندما كان الصحابة بحاجة ماسة للماء أنزل الله المطر، فتيسر الماء للمسلمين، وتماسكت الأرض الرملية تحت أقدامهم، فيسرت لهم السير والقتال عليها. أما الأرض التي كان عليها الكفار فكانت صلبة، فأصبحت بالمطر زلجة فلم تثبت عليها أقدامهم (المرجع السابق، غزوة بدر).

كذلك نزلت الأمطار في المدينة لأيام بفضل دعاء الرسول ربَّه عز وجل. ولما غزر المطر وأحدث المشاكل وهدد بالضرر.. دعا النبي ، فتوقف المطر على المدينة وأخذ يسقط حولها (البخاري، كتاب الدعوات). ولما اشتد المكيون في معارضة النبي وطالبوه بالعذاب، دعا النبي عليهم: اللهم خذهم بسنين كسِنِيِّ يوسف. فحدثت لهم مجاعة شديدة بالحجاز سبع سنين حتى اضطر الناس إلى أكل الميتة والعظام والجلود، وتدهورت صحتهم حتى كانت عيونهم ترى دخانا. فجاءوا النبي والتمسوا منه الدعاء لمضر [قبائل الحجاز ]كي يزيل الله عنهم شدتهم. فدعا النبي لهم فأنزل الله الأمطار وزالت المجاعة. وفي إحدى الروايات أن أبا سفيان بنفسه جاء النبي قائلا: “أي محمد، إن قومك هلكوا، فادع الله أن يكشف عنهم العذاب، فدعا”. (البخاري، كتاب التفسير، سورة الدخان).

تثبت كل هذه الأمور أن الله سخر لرسوله الرياح والسحب، ويفعل الله ذلك أيضا للمؤمنين الكُمّل. صحيح أن الرياح تجري دائما، ولكن رياح بدر والأحزاب دلّت أنها جاءت بشارة للمؤمنين وعذابا للكافرين. وكذلك تنـزل الأمطار دائما، ولكن أمطار بدر والمدينة بيّنت أنها كانت مسخّرة، والأمطار والرياح المسخرة دائما تأتي لتأييد المؤمنين وإذلال الكفار. وكل هذه الأمور تحدث تحت قدر خاص من الله تعالى.

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك