الخوف من الموت هو الموت بعينه
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ(244)

التفسير:

مَنْ هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم ثم بعثهم الله بعد الموت وأعطاهم حياة جديدة؟ فلنتذكر أن هؤلاء هم بنو إسرائيل الذين خرجوا من مصر مخافة الموت. والدليل على ذلك أن كل الأمور المذكورة في هذه الآية تنطبق على أحداث بني إسرائيل.

فخروجهم خوفا من الموت مذكور في قوله تعالى (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم (البقرة: 50).

أما خروجهم من ديارهم فقد جاء في قوله تعالى (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون) (الشعراء: 53).. أي أمرنا موسى أن يخرج بقومه بني إسرائيل ليلا وأنهم سوف يطارَدون.

وعلامة أنهم ألوف أيضا تنطبق على بني إسرائيل، لأنهم وقت خروجهم من مصر كانوا يبلغون عدة آلاف. وتخبرنا التوراة أن بني إسرائيل عندما دخلوا مصر كانوا كلهم “70” (تكوين 27:46). وعند خروجهم منها بعد 215 سنة في زمن موسى وصل عددهم إلى 600,000 غير الأطفال والنسوة، فقد جاء أنهم سافروا من رعميس إلى سُكّوت نحو 600,000 ماشٍ من الرجال عدا الأولاد (خروج 37:12). وكذلك جاء أنهم كانوا 603,550 شخصا (عدد46:1). ولو جمعنا إليهم الإناث والأولاد الصغار لوصل هذا العدد إلى مليونين ونصف تقريبا. ولكن مما يخالف العقل والواقع أن يتكاثر 70 ليصلوا إلى 2,500,000 خلال 215 عاما. ثم عندما خرج موسى مع قومه من مصر إلى كنعان تاهوا في الطريق أربعين سنة في البرية. فهل يمكن توفير الطعام لأربعين سنة في البرية لشعب يبلغ مليونين ونصف؟! صحيح أن التوراة تذكر أن الرب أنزل لهم السماني وأخرج لهم من الأرض الفِطْر (خروج13:16)، ولكن التوراة نفسها تقول إن الطعام لم يتيسر لهم طوال هذه الفترة (المرجع السابق). فكيف تهيأ لهم الرزق طول هذه المدة؟ ثم إن التوراة تقول إنهم كانوا يشربون من عين واحدة (خروج 7:17). لا يقبل العقل السليم أن كل هذا العدد البالغ مليونين ونصف كانوا يروون عطشهم من عين واحدة.

الحقيقة أن بيان التوراة مبالغ فيه جدا، والواقع ما ذكره القرآن الكريم من أن بني إسرائيل الهاربين من ظلم فرعون كان عددهم بضعة ألوف، وإلا فكيف يمكن أن يخاف اليهود –الذين بلغ عددهم مليونين ونصف-من القبائل الفلسطينية الصغيرة، وكان عدد سكان فلسطين-حتى في زمن ازدهارها –لم يتجاوز مليونين ونصف أو ثلاثة ملايين على الأكثر، بل في الزمن الحاضر كان عدد سكان فلسطين قبل التقسيم مليونا وثمانمائة ألف تقريبا. أما في الزمن القديم حينما لم تتيسر وسائل نقل الطعام فمن المستحيل أن يكون هناك تجمع سكاني كبير كهذا في مناطق غير زراعية. إذًا، ففي زمن موسى لم يتجاوز عدد الفلسطينيين بضعة آلاف يقينا. ففي أحداث القتال بين بني إسرائيل وأعدائهم لا نجد إلا عدد المئات دائما. ولو كان عدد القادمين مع موسى إلى فلسطين مليونين ونصف فلا يمكن تدبير طعامهم حتى وإن كانوا حكاما في ذلك الوقت.. دعك من تدبير طعامهم في وقت السفر. وعندئذ ما كان بهم حاجة لقتال قبائل فلسطين، وإنما كان يكفيهم أن يدفعوا بالأكتاف أعداءهم الذين كانوا أيضا عدة آلاف. فالمراد من (وهم ألوف) هم بنو إسرائيل (لمزيد من التفاصيل راجع تفسير سورة مريم).

والعلامة الرابعة أن الله قال لهم موتوا. وقد ذُكرت هذه العلامة للإسرائيليين في مكان آخر من القرآن الكريم (فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض. فلا تأس على القوم الفاسقين) (المائدة: 37).

والعلامة الخامسة أنهم بُعثوا بعد الموت، وقد ذُكرت في القرآن الكريم في قوله تعالى (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون.ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) (البقرة: 56و57).

وعندي أن المرادَ من (حتى نرى الله جهرة) هو قولُهم (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) (المائدة: 25). فعوقبوا بالتيه لأربعين سنة، وقد أشير إلى ذلك بقوله (فأخذتكم الصاعقة).

فالمراد إذن من قوله (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم..) هم بنو إسرائيل الذين صاروا عرضة لاضطهاد مستمر من فرعون، وكانوا واقعين في هوة الهلاك.كان أبناؤهم يُقتلون ودُمّرت حياتهم القومية تماما، ولكن الله نجاهم من بلاد مصر، ووعدهم أرضَ فلسطين، وأمرهم أن يحاربوا عدوهم وينتصروا عليه، ولكنهم لجهلهم قالوا: (يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) (المائدة: 25). وكانت النتيجة أن الله أنزل عليهم الموت.. أي تعرضوا لسخط الله أربعين سنة في التيه. ثم عندما كبرت ذريتهم وشبَّت، وقدمت التضحيات كما أراد الله بعثهم سبحانه من جديد، وفتح لهم أبواب كنعان، واستولوا على الحكم فيها، وإلى ذلك أشير في قوله (ثم أحياهم) وكذلك في قوله (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون).

وقوله تعالى (فقال لهم الله موتوا) يشير أيضا إلى أنهم عندما خرجوا من بيوتهم حذر الموت وأرادوا أن تُكتب لهم الحياة.. أشار الله عليهم -لكي يتحقق لهم ما أرادوا – بأن يوردوا الموت على أنفسهم. وبالطبع كان هذا العلاج عجيبا جدا في نظر قوم غادروا بيوتهم خوفا من الموت. هؤلاء الذين تركوا وراءهم كل ما يملكون من وطن، وإن لم يكن أصليا؛ ومن ممتلكات، وإن كانت قليلة؛ ومكانة وعزة، وأن كانت ضئيلة؛ وأصدقاء وجلساء وبلدا كانوا يفهمون لغته؛ وارتحلوا بأمر من الله إلى بلد لم يكونوا يعرفونه ولا يتكلمون لغته، وليس لهم فيه ممتلكات، ولم يكونوا مطلعين على أمانة أهله، ولم يكن أهله مطلعين على أمانتهم، ولم يكن أهله يفرّقون بين صغيرهم وكبيرهم.

لم تكن هذه تضحية عادية، ومع ذلك بذلوها لأنهم كانوا يحبون الحياة أشد الحب، وإلا ما تركوا بلادهم. ولكنهم عندما وصلوا إلى الأرض الموعودة وسألوا الله: أين تلك الحياة التي وعدتنا بها؟ قال لهم الله: موتوا لتحيوا! فتحيروا.. ما هذا الذي يقال لهم؟ لقد قدّم لنا فرعون كأس الموت، وها هو الرب يقدم لنا نفس الكأس! لقد أراد فرعون موتهم، فقالوا: بل نريد الحياة.. وسوف نتوسل ونتضرع إلى الله؛ ولكن بعد الضراعة نالوا نفس الجواب: موتوا! إنهم في حيرة. هل يعتبرون فرعون صديقا لهم أم يعتبرون الله – تعالى –عدوا لهم؟ هل يريد فرعون إحياءهم أم أن الله يريد هلاكهم.. لأن المكتوب على الكأسين كلتيهما هو الموت؟

ففزعوا، وقال ضعفاء الإيمان منهم: لقد جئنا هنا فارّين من الموت. لو كان علينا شرب كأس الموت فلِمَ لَمْ نشربها هناك؟ ما الداعي لتحمل كل هذا العناء؟ لسنا مستعدين لشربه. لقد خُدعنا. لو كان الموت نصيبنا هنا أيضا فلماذا وُعدنا بالحياة؟ بعد كل هذه الوعود والآمال تعرضنا لشماتة الأعداء، ولسوف يضحكون منا ويقولون: انظروا إلى هؤلاء الحمقى الذين فروا من الموت وكان الموت ينتظرهم هناك أيضا!

هؤلاء هم قوم موسى. كان فرعون يريد إبادتهم، ولكن موسى قال لهم: سوف يتزوجون بناتكم، ويقتلون رجالكم، ويباد نسلكم، ويبدأ نسل الأعداء منهم.. فاتقوا هذا الموت وهذه الإبادة ولا تحتملوا حياة الذل. وقال لهم الله إن كأس الحياة والعز تنتظركم في أرض كنعان. فتركوا ديارهم وأموالهم، وجاههم وراحتهم التي كانوا يتمتعون بها في ظل الحكومة المصرية.

يقول الله تعالى إن هؤلاء الخارجين من بيوتهم كانوا أُلوفا، وكان معهم كثير من الصغار والنساء والشيوخ. والمألوف أن يكون 20% من القوم رجالا بالغين. وعادة يكون عدد الرجال الصالحين للحرب في الأمم المتحضرة 6%، أما في الأمم غير المتحضرة فتزيد هذه النسبة إلى 16%. فلو كان عددهم 50,000 لكان منهم 8,000 صالحين للحرب. ولكن لم تكن عندهم خبرة قتالية، فأنّى لصانعي اللَّبِن أن يعرفوا أساليب القتال وفنون الحرب؟ فأشار موسى إلى أمة من ذوي الوجوه الحمراء.. كانوا يتصدون لقتال العرب يمينا، ويقفون في وجه هجمات اليونان يسارا، وكانوا يحتكون بثلاث من الأمم التي تربت في مهد الحضارة: هم اليونان والفرس والمصريون.. لذلك كانوا يعرفون أساليبهم جميعا، ثم كانوا بأنفسهم متحضرين يعيشون في مدن كبيرة، وكانوا يزيدون على بني إسرائيل عشر مرات.. إلى هذه الأمة شديدة البأس المتمرسة في القتال.. أشار موسى وقال لقومه: قاتلوهم واستولوا على السلطة!

من السهل أن يبدي الإنسان الدهشة من سلوك الإسرائيليين، ولكن فكر: إذا دعاك صديق للطعام، ثم صحبك في الموعد إلى السوق، ودخل بك إلى مطعم كبير حيث يباع الطعام بسعر أعلى خمسة أو ستة أضعاف.. وقال لك: اشتر طعاما من هنا كما تشاء! ..أو قال ها هو البيت في الجانب الآخر، تفوح منه رائحة الطعام الجيد، وما عليك إلا أن تقتحمه وتشج رأس صاحبه وتأخذ منه الطعام! ..ماذا يكون حالك بسماع هذا القول؟ سوف تعتبر كلام صديقك سخرية مهينة، وسوف تغضب عليه، وربما تهاجمه من شدة الغضب. هكذا كان الحال هنا. جاء موسى بقومه من مئات الأميال على وعد أنهم إذا وصلوا هناك نالوا الحكم. ولكن بعد وصولهم قال لهم: قاتِلوا الحكام في أرض كنعان تنالوا الحكم. ونظرا للجهالة في بني إسرائيل حينئذ.. يمكن القول إنهم لا بد أن يكونوا قد لطموا الوجوه، ونظروا إلى موسى في حيرة وقالوا: لقد وعدتنا شيئا آخر.. ماذا تقول؟ لماذا لم تقل لنا في مصر: قاتلوا فرعون وخذوا الحكم منه، وكان من الممكن أن نفعل ذلك هناك، لأن رجالنا كانوا يعملون في بيوتهم، وكان وزراؤهم من معارفنا، وكنا نتمتع بكثير من التسهيلات هناك، أما هنا فلغتنا تختلف عن لغة القوم، ولا نستطيع التجسس عليهم، وليس عندنا الوسائل التي كنا نتمتع بها في مصر. متى كان القضاء على هذا القوم مهمة سهلة حتى أخرجتنا من مصر وقلت: اقضوا عليهم وانتزعوا منهم الملك؟ هذا كان وعدا من الله.. ولكنهم لم يكونوا يستطيعون رؤية الله وإلا لتشاجروا أيضا معه! سبحانه. ولما كانوا يرون موسى أمامهم خاطبوه.. وفي الظاهر تصرفوا معه بمروءة وأدب.. وإلا كان من الممكن أن يهاجموه قائلين: لقد خدعتنا. تقول التوراة إنهم بكوا وضربوا الصدور وغضبوا كما يغضب الأطفال الصغار (تثنية: 1). أما القرآن الكريم فيقول إنهم قالوا لموسى: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون) (المائدة:25). إن أعداءنا قوم أشداء متمرسون بفنون القتال مزودون بأسلحة أكثر مما عندنا، وهم على أرض وطنهم، يعرفون طرقهم جيدا؛ أما نحن فلا نعرف حتى كيف نطاردهم. إنهم في قلاع حصينة، ونحن في البراري. لقد وعدتنا أننا سنُعطى الملك؛ فلن نحرك ساكنا وسوف نجلس هنا، فاذهب أنت وربك وافتحا لنا البلد.

يبدو من الظاهر أن موسى لم يَفِ حرفيا بما وعد به بني إسرائيل؛ ولكن إذا نظرنا إلى الموقف من زاوية أخرى تتغير الصورة تماما. بعد فتح مكة، وبعد الرجوع من إحدى الغزوات قال النبي للأنصار: لقد بلغني أنكم تقولون إن محمدا يقسم الغنائم على المهاجرين مع أنّ سيوفنا هي التي تقطر دما. فقالوا: نعم، يا رسول الله، قال بذلك أحدُ شبابنا جهلا منه. فقال النبي : إنه يحق لكم أن تقولوا: وجدنا محمدا مشردا فآويناه في بيوتنا، وكان قومه متعطشين لدمه فدافعنا عنه ضدهم. لم يكن أحد يستجيب لقوله فصدقناه، وبلّغنا الناس رسالته. وعندما تم الفتح قسّم الغنائم على قومه ولم يعطنا شيئا، ولكن يمكن أن تقولوا أيضا: إن محمدا مكّن لنا أن نتقرب من الله، وهيأ لنا نعمة التقوى الجليلة، ويسّر لنا حب الله. ثم إن الله بفضله كتب له الفتح، وقام جنوده القُدوسيون بفتح مكة. كانت مكة مولدا لمحمد وموطنا للمهاجرين، وكان هؤلاء المهاجرون المكيون يتوقعون أنهم يستعيدون بيوتهم بفتح مكة، ولكنهم رجعوا ببعض الجِمال والشياه، أما نحن فقد رجعنا بمحمد رسول الله (البخاري: المغازي).

من هاتين الزاويتين يمكن رؤية هذا المشهد. إذا كان الله يريد لهم حكما ماديا ظاهريا كحكم فرعون فلماذا لم ينزعه الله من فرعون ويعطِه بني إسرائيل؟ كلا،كان الله يريد لهم حكما متأسسا على أخلاق حميدة. لم يكن يريد أن يعطيهم حياة تافهة، فمثل هذه الحياة يعطيها حتى أدنى السوقة لولده حين يُنْجِبه. ولكن الله أراد أن يهب لهم حياة دائمة تقوم على مكارم الأخلاق التي لم يكن فرعون يستطيع إعطاءهم إياها. مثل هذه الحياة لا تتيسر إلا بالتربية والتعود على بذل التضحيات. لقد أراد الله إحياءهم بآياته المتجددة حتى يتصدى أحدهم لعشرة، ثم إذا كتب لهم الفتح بعد ذلك لرأوا فيه آية حية، ولَتَمَّ به إصلاحهم ونالوا حياة حقيقية.

فكأن الكأسين وإن كانتا للموت.. فإن في كأس فرعون شراب الموت، وفي كأس الله ماء الحياة. هذا هو الفرق الذي لم يستطيعوا فهمه. لو شربوا كأس فرعون لماتوا للأبد، ولو شربوا كأس الله لماتوا موتا مؤقتا نالوا بعده حياة أبدية. ولكنهم لم يتبيّنوا هذا الفرق، ورفضوا شرب كأس قّدمها الله لهم كما رفضوا كأسا قدمها لهم فرعون. عندئذ قال لهم الله: موتوا. لقد رفضتم أن تقبلوا الموت بأيديكم، والآن سوف نهلككم بأيدينا. ولكن الله فرّق بين الموت الذي أورده فرعون عليهم وبين الموت الذي أورده الله عليهم. لمّا كان هؤلاء قد خرجوا من ديارهم بوعد من الله لذلك أحياهم بعد فترة من الموت المؤقت، وهكذا حقّق سبحانه وعده.

ففي هذه الآية الوجيزة صوّر الله صراع البقاء بين الأمم تصويرا رائعا. في الدعاء الإبراهيمي ذُكرت أربع مهام للنبي (يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) (البقرة:130).. أي 1-تلاوة آيات الله 2-تعليم الكتاب 3-تعليم حِكَم الشرع 4-تزكية النفوس. والآية التي نحن بصدد تفسيرها تندرج تحت تعليم الحكمة. فقد بيّن الله بضرب هذا المثال هنا سبل رقي الأمم وقال: إذا كانت أمة في خطر الموت فعلاجها إما أن تقبل الموت بنفسها أو بيد الله. هناك كثير من السهولة والمنفعة في قبول الموت بيدها. ولقد بيّن الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام أن الإنسان لو قبِل الابتلاء بيده لاستطاع تخفيفه،كما أن الإنسان إذا توضأ في البرد يستطيع تخفيف برودة الماء. كذلك عندما يقبل الإنسان الموت ويدخل في الحرب فإنه يستطيع أن يخفف تأثير الموت بأخذ سيف وارتداء درع، وإذا أصيب عالج جرحه، أو إذا أصيب بشوكة فيستطيع إخراجها بيده، لأنه لا يتوقع من الآخرين الرّفق والتخفيف من المعاناة كما يستطيع بيده، ولكنه لا يستطيع النجاة من الموت المفروض من الله، وإنما يسري القانون الإلهي بصرف النظر عما يعانيه المحكوم عليه قليلا أو كثيرا. فمثلا عندما يتفشى وباء الطاعون أو الكوليرا فإنه يكتسح أهل البلاد بلا تفريق. فإذا أتى موت قوم من الله تعالى فليس علاجه أن يبحثوا عن الحياة، وإنما علاجه أن يقبلوا الموت.

هناك ثلاثة أنواع من الأمم: أمة تقبل الموت بنفسها، فينالون بذلك حياة أبدية،كما فعل أصحاب الرسول . لقد عُرض الموت على الصحابة رضوان الله عليهم فقبلوه، فنالوا حياة أبدية. عند غزوة بدر لم يخرج جميع الصحابة مع الرسول لأنه لم يخبرهم بالحرب لبعض المصالح، وإن كان يعرف أن الاشتباك بالعدو حتمي. وعندما خرج النبي من المدينة وقصد القتال جمع الأنصار والمهاجرين وقال: أيها الناس، أشيروا عليَّ، ماذا نفعل؟ فقام أحد المهاجرين وقال: يا رسول الله، فيم نتشاور؟ نحن هنا للقتال. ولكن الرسول كرّر سؤاله وقال: أيها الناس، أشيروا عليَّ. عندئذ أدرك الأنصار أنه يخاطبهم ويقصدهم، فقام أحدهم وقال: يا رسول الله، لعلك تريدنا نحن بسؤالك؟ قال: نعم. فقال الأنصاري: يا رسول الله ربما تشير بهذا إلى الاتفاق الذي تم بيننا وبينك قبل الهجرة.. بأننا سوف نقاتل معك إذا هاجم العدو المدينة، ولم يُذكر فيه أن نحارب معك خارج المدينة؟ قال النبي: نعم. فقال: يا رسول الله، نعم، لقد بايعناك على القتال في المدينة ولم نتفق على القتال معك خارجها، ولكن هذا كان في أول الأمر، أما الآن فقد شهدنا نور الله ينزل أمام أعيننا، فكيف نتركك تخرج إلى ساحة القتال ولا نخرج معك؟ إننا يا رسول الله –ونيابة عن إخواننا من الأنصار الذين لم يخرجوا معك لعدم علمهم بالحرب، ولو علموا أن هناك قتالا لخرجوا واشتركوا فيها إلى جوارك –نقول باسمنا جميعا: دعك من حديث الاتفاق القديم. والله، لو أمرتنا أن نخوض بخيلنا في البحر لخضناه. ما تخلف منا رجل واحد. والله لو قاتَلَنا عدوك فسوف نقاتله عن يمينك وعن شمالك ومن أمامك ومن خلفك، ولن يخلص العدو إليك ما لم يطأ على جثثنا الهامدة (البخاري، المغازي، مسلم، الجهاد، السيرة النبوية لابن هشام، غزوة بدر).

وكانت هذه المقولة الرائعة محببة إلى الصحابة حتى أن أحدهم وقد اشترك في أربعة عشر أو ثمانية عشر لقاء كان يقول: على الرغم من شرف الاشتراك في هذه المواقع إلا أني أرى مقولته هذه أفضل من قتالي في كل هذه الحروب.. ليتها خرجت من فمي وكنت قائلها! (البخاري، المغازي).

انظر إلى هذه الأمة التي قَبِلت الموت ببشاشة فعوملت بحسب هذه البشاشة، ثم -وعلى النقيض من ذلك- انظر إلى أمة موسى.. وعدهم الله بالحياة، فطالبوه الوفاء بوعده وفاء حرفيا، وقالوا: جئت بنا هنا بوعد الحياة والمُلك.. فلن نستولي على هذا الملك بالقتال. ففرض الله عليهم الموت وحرمهم من هذا الملك أربعين سنة. ولأنه وعدهم بالحياة أعطاهم الحياة فيما بعد.. وذلك بعد أن مات في البرية ذلك الجيل الذي تقاعس ورفض قبول الموت. وأخرج الله من ظهور القائلين (إنا هاهنا قاعدون) ذريةً لا تقول ذلك، فنهض بهم الله وأتم على يدهم وعد الحياة في بني إسرائيل. وإلى ذلك يشير قول تعالى (ثم أحياهم).

والنوع الثالث من الأمم هي الأمة التي ليس معها أي وعد، وعندما يُدفعون إلى فم الموت يعامَلون بحسب همتهم. أحيانا ينجون من الموت بجهودهم وتضحياتهم، وأحيانا يهلكون.

وبإيجاز: لقد بيّن الله هنا نقطة عجيبة.. هي أن الأمم المغلوبة على أمرها والمستعبدة لا يمكن أن تنال الحياة ما لم تقبل الموت على نفسها.

ثم قال (ولكن أكثر الناس لا يشكرون). أي أن ما يصفه الله لقوم من علاج في شكل كفاح وجهاد يكون ضروريا لرقيهم. الناس يصرخون ويقولون: لقد هلكنا وأثقلت علينا الأعباء. ولكن الحقيقة أنها تكون لمصلحتهم.

    وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(245)

التفسير:

يقول الله تعالى: يا أمة محمد، انظروا إلى أحوال تلك الأمة التي أتى بها موسى من مصر لينالوا الحكم على بلد وعدهم الله به.. ولكنهم عندما أُمروا بالقتال مع أعدائهم القابضين على البلد رفضوا، فحرمهم الله من تلك الأرض وماتوا تائهين في البرية. كان الموت سيأتيهم ولو كانوا في فراشهم، ولكنهم لم يقبلوا كأس الموت فهلكوا وبادوا، فيا أمة محمد، اعتبروا من أحوال هؤلاء القوم. ولا ترفضوا الجهاد في سبيل الله أبدا. إن الأمة التي تخاف الموت لا تنال الحياة أبدا.. لأن خوفها من الموت هو عين الموت.

وفي قوله (واعلموا أن الله سميع عليم) بيّن أن الله يعلم ضعفكم وقلة عددكم وعدتكم، وأن عدوكم خبير بالقتال، مزود بالسلاح والعتاد، ولكن الله تعالى (سميع) يستجيب لدعواتكم (وعليم) بكل ما يحيط بكم من مشاكل، فاتكلوا عليه ولسوف يجيب دعاءكم ويكتب لكم النصر على العدو.

Share via
تابعونا على الفايس بوك