براهين إنجيلية على نجاة المسيح عليه السلام

المسيح الناصري في الهند(3)

من الموت على الصليب

هذا الكتاب القيم لسيدنا الإمام المهدي يعتبر عملا متميزا معلما هامًا في مسيرته الدينية والعلمية والأدبية. فلقد سلط الكتاب الضوء على حياة المسيح الناصري ووفاته بأسلوب بحثي علمي متفوق وبأدلة لا يملك القارئ اللبيب إلا التسليم بها. ولئن كان المؤلف قد تلقى هذه الحقائق بوحي من الله العليم الحكيم إلا إنه قد سلك ي هذا الكتاب مسلكا بحثيا علميا محضا وقدم الأدلة الدامغة الشافية الوافية البينة من مصادر عديدة متيسرة في متناول الجميع وبين أيديهم. ولقد جاء الكتاب في أربعة أبواب. الباب الأول يتناول الشواهد من الإنجيل على حقيقة حياة المسيح وأنه قد نجا من حادثة الصلب، وقام بالعديد من الأعمال بعد هذه الحادثة، وأن عقيدة النصارى واليهود في قتله على الصليب عقيدة باطلة ينقضها الإنجيل بنفسه. ثم تناول في الباب الثاني شواهد القرآن الكريم والحديث الشريف التي تؤكد قيامه بالعمل الموكل إليه قبل أن يُتوفى عن سن متقدمة جاوزت المائة وعشرين عامًا. ثم بيَّن في الباب الثالث الشواهد التي وُجدت في كتب الطب والتي يتداولها العلماء منذ مئات السنين التي تذكر “مرهم عيسى” وتبين تركيبته وتذكر أن الحواريين قد استخدموه في علاج جروح المسيح الناصري .

وتناول في الباب الرابع الشواهد من كتب التاريخ القديم والحديث، فلقد أخرج من بطون الكتب ما يذهل القارئ من فقرات تتحدث عن رحلات المسيح وتؤكد أنه قد وصل إلى الهند وأنه قد ألقى عصى التسيار فيها.

ثم استنتج الدلائل على أن القبر الموجود في سيرينغر، كشمير في حارة خان يار والمسمى بضريح “يوز آصف” ما هو إلا قبر المسيح الناصري . ولقد اقتبس سيدنا الإمام المهدي من كتاب العلماء والباحثين الغربيين ما اعتقدوا به من أن المسيح قد انتقل إلى الهند وما وجدوه من تشابه كبير بين البوذية والمسيحية.

ولقد بين سيدنا الإمام المهدي في مقدمة الكتاب أنه سيجعله في عشرة أبواب. فبالإضافة إلى الأبواب الأربعة المذكورة أراد أن يضيف بابًا عن الدلائل التي وصلت بالمشافهة المتواترة، وبابًا آخر عن القرائن المتعاضدة التي تشد بعضها بعضًا، وبابًا عن الأدلة العقلية، وبابًا عن الأدلة التي تلقاها بالوحي المقدس. ثم أراد أن يفرد بابًا للمقارنة الموجزة بين الإسلام والنصرانية والبراهين الدالة على صدق الإسلام، ثم ينهي الكتاب بكلمة ختامية تشرح الهدف من بعثته والبراهين على أنه هو المسيح الموعود.

ولقد تدخلت الإرادة الإلهية فلم يشأ الله تعالى أن يخرج الكتاب بالصورة التي أرادها واقتصر على الأبواب الأربعة الأولى. ولعل الله تعالى قد أراد أن يخرج هذا الكتاب في صورته الحالية ليكون بحثًا علميًّا مجردًا بحجج قوية لا يردها عاقل أو لبيب، ويحقق هذا الكتاب أيضًا الإنجاز ليكون سهل القراءة والتداول. أما ما أراد شرحه في الأبواب الأخرى فلقد احتوت أعماله الأخرى معظم هذه الأغراض بشكل مطول كاف وواف. ولقد كشف الكتاب جانبًا آخر من عبقرية سيدنا الإمام المهدي ونبوغه، فبرهن هذا الكتاب أنه بحاثة لا يشق له غبار، كما برهنت أعماله الأخرى على تقواه وصدق طويته وحماسه المنقطع النظير للإسلام، وعلى قدرته المبهرة في استنباط المعارف القرآنية وسَوق الحجج والدلائل، وعلى مقدرته الأدبية بِأَلْسِنَة الإسلام الرئيسية الثلاث. وعلى كونه كاتبًا عربيًّا يَنهل من المصدر والمـَعين العذب لهذه اللغة المقدسة. ولقد بين  أن هذا الكتاب ما هو إلا مواساة للمسلمين الذين ينتظرون مسيحًا سفاكًا للدماء، ما زال حيًّا في السماء، يُكره الناس على الدخول في الإسلام بالسيف، فينقض تلك الفكرة الباطلة ويزيل الآثار السيئة التي تركتها على الحالة الخلقية للمسلمين. كذلك هو مواساة للنصارى بتِبْيان أن الإله الحق منزّه عن الولادة والألم والضعف البشري. وها نحن نقدم هذا الكتاب القيّم للقراء في حلقات آملين أن يحقق الفائدة المرجوة منه. “التقوى”

ملاحظة: الهوامش التي كُتب في آخرها (المؤلف) هي من سيدنا الإمام المهدي . أما التي كتب في آخرها (المترجم) فهي من توضيح هيئة المترجمين.

ولقد وقع هذا الحادث خلال القرن الرابع عشر بعد وفـــــاة موسـى – -، وكان المسيح قد بُعث في ذلك القرن كمجدد لإحياء الشريعة الإسرائيلية. ورغم أن اليهود كانوا ينتظرون مسيحهم الموعود في القرن الرابع عشر، وكانت نبوءات الأنبياء السابقين أيضًا تشهد على ذلك الموعد؛ ولكن مشائخ اليهود الأغبياء، مع الأسف الشديد، لم يعرفوا ذلك الميقات والأوان، فكذّبوا مسيحَهم الموعود، بل كفّروه وسمَّوه ملحدًا، وأخيرًا أفتوا بقتله، وجرّوه إلى المحكمة.

وندرك من ذلك أن الله تعالى قد وضع في القرن الرابع عشر تأثيرًا عجيبًا، حيث تقسو فيه قلوب القوم، ويطغى حبُّ الدنيا على العلماء، ويصبحون عميانًا وأعداء للحق. وإننا إذا عقدنا المقارنة بين القرن الرابع عشر بعد بعثة موسى والقرن الرابع عشر بعد بعثة مثيلِه أي نبيِّنا ، وجدنا في كل من القرنين أن رجلاً يدّعي بأنه المسيح الموعود، وكانت دعواه صادقة ومن عند الله، وأن علماء القوم كفّروا كليهما ووصموهما بالإلحاد والدجل، وأفتوا بقتلهما، وقد جُرّ كلاهما إلى المحاكم، أحدهما إلى المحاكم الرومية، والآخر إلى المحاكم الإنجليزية؛ وفي الأخير نُجِّيَ كلاهما، وخاب أعداؤهما، سواء علماء اليهود أو علماء المسلمين؛ وأراد الله أن يجعل من المسيحَين الموعودَين كليهما أمّةً عظيمة، وأن يُخيّب أعداءهما. وبالاختصار، فإن القرن الرابع عشر، سواء لموسى أو لسيدنا ومولانا ونبينا ، شديدٌ على مسيحه، ولكنه مباركٌ له أيضًا في نهاية المطاف.

ومن الشهادات التي نجدها في الأناجيل على نجاة المسيح من الصليب ما ورد في إنجيل “متى” الإصحاح 26 العدد 36-46 بأن المسيح لما تلقّى الوحيَ عن اعتقاله، ظلّ يتضرّع إلى الله ساجدًا باكيًا مبتهلاً طوال الليل؟ وكان لابدّ أن يُستجاب ذلك الدعاء الفيّاض بالتضرع والابتهال الذي مُنح المسيحُ من أجله وقتًا طويلاً، لأن دعاء المقرَّب وقتَ الاضطراب والقلق لا يُرَدّ أبدًا. فلماذا إذًا رُفض دعاء المسيح الذي كان دعاءَ مظلوم قام به طوال الليل بقلب يفيض بالألم؛ خاصة وإن المسيح يعلن بأن الأب الذي في السماء يستجيب لدعائي؟ فكيف نصدِّق إذنْ بأن الله كان يستجيب له مع أنه لم يستجب له هذا الدعاء الذي قام به في اضطراب شديد؟

كما يتبيّن من الإنجيل أيضًا أن المسيح كان على يقين تام من استجابة دعائه، وكان يعوّل على ذلك الدعاء تمام التعويل؛ ولذلك فلما قُبض عليه وعُلّق على الصليب، ولم يجد الظروف ملائمةً لآماله صرَخَ بشكل عفوي: “إيلي إيلي لَما شَبَقْتَني.. أي: إلهي إلهي لماذا تركتَني.”­ يعني لم أكن أتوقّع مطلقًا أن يكون مصيري هكذا، وأن أموت على الصليب؛ بل كنتُ موقنًا بأنك ستستجيب دعائي.

فاتضح جليًّا من كلا الموضعين في الإنجيل أن المسيح نفسه كان واثقًا من صميم فؤاده أن دعاءه مستجاب لا محالة، وأن بكاءه طيلة الليل لن يذهب هدرًا؛ وكان بنفسه قد علّم حواريّيه، بناء على أمر من الله تعالى، أَنِ ادْعُوا اللهَ يستجِبْ لكم؛ بل قصّ عليهم كمثال قصةَ القاضي الذي كان لا يخشى الله ولا مخلوقه، ليستيقن الحواريون بأن الله يستجيب الدعاء. فلا شك أن المسيح كان قد علم من الله بأن مصيبة عظيمة ستنـزل به، ولكنه، كعادة العارفين بالله، ألـحّ في الدعاء إيمانًا منه بأن لا مستحيلَ أمام الله، وأن كل محو وإثبات بيده. ولذلك فلو لم يُستجَبْ دعاء المسيح نفسه حينئذ -والعياذ بالله- لترك هذا في نفوس الحواريـين تأثيرًا سلبيًّا. فكان من المستحيل إذًا أنْ يقدَّم لهم مثل هذا النموذج الذي من شأنه أن يدمِّر إيمانهم؛ إذ لو أنهم رأوا بأمّ أعينهم أن دعاء نبي مقدّس كالمسيح لم يُستَجبْ رغم تضرّعه طوال الليل، لوقعوا في فتنة عظيمة في إيمانهم؛ ولذلك فكان من مقتضى رحمة الله تعالى أن يستجيب دعاءه. واعلموا يقينًا أن الدعاء الذي تمَّ في المكان الذي اسمه “جَثْسَيماني” كان قد لقي القبولَ من الله حتمًا.

وثمة أمر آخر يجدر بالذكر، وهو أنه كما قد تم التشاور لقتل المسيح حين اجتمع وجوه القوم وكبار علمائهم في بيت كاهن اسمه “قَيافا” للتآمر على قتله في كل الأحوال، كذلك تمامًا حصلت مؤامرة مماثلة لقتل موسى أيضًا، وتكررت المؤامرة نفسها لقتل نبيّنا في دار الندوة بمكة؛ ولكن الله القدير عصم هذين النبيـين العظيمين من شر تلك المؤامرات. وإن المؤامرة التي نُسجت لقتل المسيح يقع زمنُها بين زمن هاتين المؤامرتين؛ فكيف نصدّق أن المسيح لم يُنقَذ منها، مع أنه كان أشدّ إلحاحًا في الدعاء من النبيـين الآخَرين؟ فما دام الله يستجيب لأحبّائه لا محالة، ويخيِّـب مؤامرة الأشرار، فلِم لم يستجبْ دعاء المسيح؟

إن خبرة كل تقيّ صادق تشهد على أن دعاء المظلوم في حالة اضطراب شديد مستجابٌ، بل إن وقت المصيبة على الصادق لهو أوانُ ظهور الآية؛ وإنني صاحبُ خبرة في هذا المجال. أتذكر أنه قبل عامين رَفَعَ ضدّي الدكتورُ “مارتن كلارك” المسيحيُّ المقيم في “أمرتسر” ببنجاب قضيةً مزوّرة بتهمة القتل في محكمة محافظة “غورداسبور”، حيث زعم أني قد حاولتُ قتله، وأرسلت لهذا الغرض رجلاً اسمه عبد الحميد. وتصادف أن اجتمع ضدّي في هذه القضية بعضُ المتآمرين من الملل الثلاث: المسيحية والهندوسية والإسلام؛ ولم يدّخروا وسعًا لإدانتي بمحاولة القتل. إذ كان القساوسة ينقمون مني لأني كنت ومازلت أبذل جهدي لإنقاذ عباد الله من عقيدة القسيسين الباطلة في شأن المسيح؛ فكانت هذه القضية أول نموذج شاهدته من أخلاقهم. وأما الهندوس فكانوا غاضبين عليّ لأنني كنت تنبأتُ، بناء على وحي الله تعالى، بموت أحد من كُهّانهم اسمه “ليكهرام” بعد أن طلب هو بنفسه نبوءة كهذه، ثم تحققت النبوءة في موعدها المحدد، وكانت آيةً مهيبة من عند الله تعالى. وأما المشايخ من المسلمين فكانوا أيضًا مغتاظين مني لأني كنت أخالف عقيدتهم في صدد ظهور المهدي والمسيح السفّاكَين؛ وكذلك كنتُ أعارض عقيدتهم عن الجهاد. فتشاور زعماء من هذه المِلل الثلاث وتآمروا حتى يُثبتوا إدانتي بالقتل، لكي أُقتَل أو أُسجَن، وكانوا في ذلك عند الله من الظالمين. ولقد أنبأني الله بهذه المؤامرات حتى قبل أن ينسجوها، وبشّرني ببراءتي في النهاية. ولقد أذعتُ هذه الإلهامات الإلهية المقدسة بين مئات الناس قبل تحقُّقها. وبعد أن تلقّيت هذه الأخبار بوحي الله تعالى دعوتُه قائلاً: اللهم اكْشِفْ عني هذا البلاء، فنَبَّأَني اللهُ بالوحي أنه سوف يكشف عني البلاء، ويُبرّئني من التهمة. ولقد نشرتُ هذا الوحي أيضًا بين أكثر من ثلاث مئة شخص، وهم مازالوا أحياء إلى اليوم.

أما أعدائي فأوشكوا، بتقديم شهود زور في المحكمة، على أن يُثبتوا التهمة، حيث شهد ضدي أشخاص من الملل الثلاث المذكورة آنفًا. ولكن الله كشف بطرق عديدة حقيقةَ الأمر على القاضي الذي كانت القضية في محكمته، واسمه Captain W.Douglas، وكان نائبًا لمفوَّض محافظة “غورداسبور”؛ فتبيّن له جليًّا أن القضية مزوّرة. فعندئذ دَفَعَه حبُّه للعدل وسَهَرُه على الإنصاف أن لا يُبالي مطلقًا بذلك الدكتور الذي كان يعمل قسّيسًا، وحكم بإبطال القضية. وكما كنتُ أعلنت من قبلُ -بناء على وحي الله تعالى- في المجالس العامة وأمام مئات الناس، ظهرتْ براءتي خلافًا للظروف المخيفة السائدة آنذاك؛ مما زاد كثيرًا من الناس إيمانًا.

وليس ذلك فحسب، بل إنني قد تعرّضتُ لأنواع من التهم بالجرائم الخطيرة للأسباب العدائية السالفة الذكر، ورُفعت القضايا ضدّي في المحاكم؛ ولكن الله أخبرني بالوحي مسبَّقًا عن بداية كل هذه القضايا الخطيرة ومنتهاها، قبل أن أُستَدعَى للمثول أمام المحكمة، كما بشّرني بالبراءة منها.

إنما الهدف من هذا البيان هو التأكيد على أن الله تعالى يستجيب الدعاء بلا مراء، ولا سيّما دعاء المتوكلين عليه عندما يخرّون على أعتابه مظلومين؛ فيُغيثهم وينصرهم بطرق عجيبة، وإننا على ذلك من الشاهدين. إذًا فما هو السبب الذي حال دون استجابة دعاء المسيح الذي قام به بمنتهى الاضطرار؟ كلا، بل إن الله قد استجاب له ونجّاه، وهيأ لنجاته أسبابًا من الأرض وأيضًا من السماء. والواقع أن الله تعالى لم يُعط يوحنا أعني النبيَّ يحيى مهلةً ليدعو فيها لنجاته، لأن أجله كان قد أتى، ولكن المسيح منح مهلةَ ليلة كاملة للدعاء، فقضاها ساجدًا قائمًا لربه، لأن الله أراد أن يُبدي المسيحُ اضطرابَه وابتهالَه متوسلاً لخلاصه إلى الله الذي لا مستحيلَ أمامه، فاستجاب دعاءَه وفقَ سنّته القديمة. وأما اليهود الذين علّقوا المسيح على الصليب ثم عيّروه قائلين: لقد توكل على الله فلماذا خذله، فكانوا كاذبين في قولهم هذا، لأن الله قد أحبطَ جميع مكائدهم وأفشلَهم، ونجّى حبيبه المسيح من الموت اللعين على الصليب.

ومن الشهادات الإنجيلية التي وجدناها ما ورد في إنجيل “متى” كالآتي: “مِن دمِ هابيل الصِّدِّيق إلى دمِ زكريا بن برخياه الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح؛ الحقَّ أقول لكم: إن هذا كلّه يأتي على هذا الجيل”. (متى الإصحاح 23 العدد 35-36)

إذا تأملتم في هذه العبارة اتضح لكم أن المسيح قد صرّح فيها أنه من المقدر أن تبلغ عمليةُ سفكِ دماءِ الأنبياء بيد اليهود نهايتَها عند قتل النبي زكريا، وأن اليهود لن يقدروا بعد ذلك على قتل أي نبي. وهذا نبأ عظيم يبين صراحةً أن المسيح لم يُقتل على الصليب، بل نجا منه، وتُوفّي بعد ذلك وفاة طبيعية؛ لأنه لو كان المسيح سيُقتَل بيد اليهود كزكريا، لأشار المسيح هنا إلى قتله أيضًا.

ولو قيل إن قتل المسيح ، وإن تمّ بيد اليهود، لكنه لم يكن مأثمة لهم لأنه قُتل ككفّارة، فهذا قول باطل، لأن المسيح نفسه قد صرّح -كما ورد في إنجيل يوحنّا الإصحاح 19 العدد 11- بأن اليهود قد أتوا خطيئة كبرى إذ أرادوا قتله. وقد أشير إلى ذلك في مواضع عديدة أخرى أيضًا حيث ورد صراحة أنهم قد استحقّوا الويل من الله تعالى بسبب الجريمة التي ارتكبوها ضد المسيح. (إنجيل متّى الإصحاح 26 العدد 24)

ومن الشهادات الإنجيلية التي عثرنا عليها ما يلي: “الحق أقول لكم: إن من القِيام ههنا قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيًا في ملكوته” (متّى الإصحاح 16 العدد 28)، وأيضًا: “قال له يسوع: إن كنتُ أشاء أنه (أي الحواري يوحنا) يبقى (أي في أورشليم) حتى أجيء فماذا لك”. (يوحنا الإصحاح 21 العدد 22).. أي لو أردتُ لعُدتُ قبل أن يموت يوحنّا.

يتضح من هذه العبارات بكلّ وضوح أن المسيح وعد بأنه سيعود قبل أن يموت بعض الحاضرين هناك، بمن فيهم يوحنا؛ فكان لابدّ من أن يتحقق ذلك الوعد.

ولقد أقرّ المسيحيون أنه كان من المحتم أن يُبعثَ المسيح ثانيةً في حياة بعض أهل ذلك الزمان تحقيقًا للنبأ حسبما وعد؛ ولأجل ذلك يقرّ القساوسة بأن يسوع كان قد جاء، حسبما وعد، مرة أخرى عند دمار أورشليم، وقد رآه يوحنّا لأنه كان حيًّا إلى ذلك الحين.

علمًا أنهم لا يقولون بأن المسيح قد نزل حقيقةً من السماء آنذاك، بحسب الآيات التي ذكرها بنفسه لنـزوله، بل يزعمون أنه قد ظهر ليوحنّا في الكشف، تحقيقًا لنبأه هذا الوارد في إنجيل “متّى” الإصحاح 16 العدد 28. لكني أقول: إن مثل هذا الظهور الكشفي لا يُحقق هذا النبأ، وإنما هو تأويل جِدُّ ضعيفٍ، بل هو تهرُّبٌ مَشينٌ من الاعتراض والانتقاد. الحق أنه تأويل خاطئ وباطل بالبداهة بحيث لا حاجة لدحضه أيضًا؛ إذ لو كان المقدر أن يظهر المسيح على أحد في صورة حلم أو كشف، لأصبح هذا النبأ أضحوكة،­ لأن المسيح كان قد ظهر في الكشف لبولس أيضًا قبل ذلك بفترة من الزمن.

ويبدو أن هذا النبأ -الوارد في “متّى” الإصحاح 16 العدد 28- قد أقضّ مضاجعَ القساوسة، حيث لم يستطيعوا أن يؤوّلوه تأويلاً معقولاً حسب عقيدتهم؛ إذ من المتعذّر عليهم أن يدّعوا بأن المسيح كان قد نزل من السماء بجلاله عند دمار أورشليم، وأن الجميع رأوه كما يرى الجميعُ البرقَ اللامع في جوِّ السماء؛ كما لم يكن من السهل عليهم أن يغضّوا البصر عن كلمات النبأ القائلة بأن بعض الحاضرين هنا الآن لن يذوقوا الموت حتى يروا ابن الإنسان عائدًا إلى ملكوته؛ فلذلك لَجَأُوا إلى تكلف كبير وأوَّلوا أن هذا النبأ قد تحقق بهذا الكشف. ولكنه تأويل غير سليم، لأن أولياء الله كثيرًا ما يظهرون لبعض الخواص في الكشف؛ والظهور في الكشف ليس مشروطًا بالمنام، بل إنهم يظهرون في اليقظة أيضًا، وإنني صاحب تجربة في هذا المجال. ولقد رأيتُ المسيح مرارًا في الحالة الكشفية، ولقيتُ بعضَ الأنبياء الآخرين أيضًا في اليقظة التامة. ولقد رأيت سيّدي ومولاي وإمامي نبيَّنا محمدًا المصطفى في اليقظة التامة مرارًا، وكلّمتُه أيضًا؛ وكانت تلك اليقظة التامة لا يشوبها شيء من النوم أو الغفلة. كما اجتمعت في اليقظة التامة ببعض الموتى الآخرين عند قبورهم أو في موضع آخر، وكلّمتُهم أيضًا. وإنني لأعلم علم اليقين أن اللقاء بهذا الشكل مع الذين خلَوا من قبل ممكنٌ بالتأكيد؛ ولا يقتصر الأمر على اللقاء فحسب، بل يُمكن تحاورُهم ومصافحتهم أيضًا. ولا فرق بين اليقظة العادية وهذا النوع من اليقظة من حيث كيفية الحواس؛ حيث نرى ونحسّ وكأننا في هذا العالم نفسه، وكأن الآذان والعيون واللسان هي هي، ولكن يتبيّن بإمعان النظر أن ذلك العالم يختلف عن هذا العالم. إن الدنيا تجهل هذا النوع من اليقظة، لأنها مستغرقة في سبات الغفلة؛ وإن تلك اليقظة تنـزل من السماء على من يوهَب حواسَّ خارقةً جديدة، وإنه لحقٌّ ومن الحقائق الواقعة.

فلو كان المسيح قد ظهر عند دمار أورشليم ليوحنا في حالة الكشف، وحتى في اليقظة، وكلّمه وصافحه أيضًا، فإن تلك الحادثة لا تمتُّ إلى ذلك النبأ بأية صلة، بل إنها لمن الحوادث العادية التي تقع في الدنيا دومًا؛ ولو أنني ركّزتُ الآن أنا أيضًا، لتمكَّنتُ بفضل الله وتوفيقه من رؤية المسيح أو غيره من الأنبياء المقدّسين في اليقظة التامة؛ ولكن مثل هذا اللقاء لا يُمكن أن يعتبر تحققًا لذلك النبأ الوارد في “متى” الإصحاح 16 العدد 28.

فالحق أن المسيح كان على علم بأنه سيسافر إلى بلد آخر بعد الخلاص من الموت على الصليب، وأن الله لن يتوفّاه ولن يرفعه من الدنيا حتى يرى هو بعينه خرابَ اليهود، وأنه لن يموت حتى تؤتي المملكةُ المقدَّرة في السماء للأصفياء ثمارَها، ولذا أدلى بذلك النبأ وطَمْأَنَ حوارييه قائلاً: إنكم سترون آية لي، وهي أن الذين قد حملوا السيف عليّ سيُقتَلون بالسيوف خلال حياتي وأمام عيني.

فلو كان البرهان شيئًا يُعتدّ به فهذا أكبر برهان ضدّ المسيحيـين، لأن المسيح تنبّأ بنفسه بظهوره ثانيةً في حياة بعضهم.

وليكن معلومًا أن الأنباء الإنجيلية المتعلقة بظهور المسيح على نوعين: النوع الأول يتضمّن الوعدَ بظهوره الروحاني في الزمن الأخير؛ وكان ظهوره الثاني الروحاني هذا يُشبه تمامًا الظهورَ الثاني لِـ “إيليا” في زمن المسيح. وبالفعل قد ظهر المسيح، كظهور إيليا، في العصر الحاضر في شخص كاتبِ هذه السطور خادمِ الإنسانية، الذي بُعث مسيحًا موعودًا باسم المسيح . ولقد أَخبر المسيحُ نفسه في الإنجيل بظهوري؛ فمبارَكٌ الذي يُفكّر في قضيتي بالعدل والأمانة احترامًا للمسيح، ولا يقع في العثار.

أما النوع الثاني من الأنباء الإنجيلية المتعلّقة بعودة المسيح فإنما هي بمثابة الأدلّة على استمرار حياة المسيح بفضل الله ورحمته بعد حادث الصليب، وعلى أنه تعالى قد أنقذ عبده المختار من الموت على الصليب. والنبأ الذي ذكرناه آنفًا يندرج تحت هذا النوع. ولكن المسيحيـين يخلطون، خطأً منهم، كلا النوعين من الأنباء، فيتعرّضون لشتى الصعوبات والمشاكل.

وقصارى القول إن الشهادة الواردة في إنجيل “متى” الإصحاح 16 لبرهان عظيم على نجاة المسيح من الموت على الصليب.

ومن الشهادات الإنجيلية التي وجدناها ما ورد في “متّى” كالآتي:

“وحينئذ تظهر علامةُ ابنِ الإنسان في السماء، وحينئذ تنوح جميعُ قبائل الأرض، ويُبصرون ابنَ الإنسان آتيًا على سحاب السماء بقوّة ومجد كثير”. (إنجيل “متى” الإصحاح 24 العدد 30)

والمراد الحقيقي بهذه العبارة هو أن المسيح يقول إنه سيأتي زمن تظهر فيه من السماء، أي بمجرّد قدرة الله تعالى، علومٌ وأدلة وشواهد تقطع ببطلان عقيدة ألوهية المسيح وموتِه على الصليب وصعوده إلى السماء ونزولِه منها ثانية؛ كما أن السماء ستشهد على افتراء القبائل أي الشعوب -اليهود مثلاً- التي أنكرت كونَه نبيًّا صادقًا بل اعتبرته ملعونًا لكونه مصلوبًا؛ إذ سوف ينكشف في ذلك العصر بكل جلاء أنه لم يمت على الصليب، ومن ثَمّ فهو لم يكن ملعونًا؛ فعندئذ ستنوح جميع الشعوب التي مالت إلى الإفراط أو التفريط في أمر المسيح، وسيأخذهم أشدُّ الخجل والندامة بسبب خطئهم. وفي الزمن الذي تتجلّى فيه هذه الحقيقة، سيرى الناسُ أيضًا المسيحَ نازلا إلى الأرض نزولا روحانيًّا بمعنى أن المسيح الموعود سيُبعث في تلك الأيام متحلِّيًا بصفات وقوىً شبيهة بصفات المسيح وقواه، ومؤيَّدًا بتأييد سماوي وجلال وسلطان إلهي، ومصحوبًا ببراهينه الساطعة، وسيعرفه الناس.

وبيان ذلك هو أن الله، بمشيئته وبقضائه، قد قدّر للمسيح شخصية وأحوالا أفرط فيها قوم، بينما فرّط فيها آخرون؛ أعني هناك قوم فصلوه عن لوازم البشرية، حتى زعموا أنه لم يُتوفَّ إلى اليوم، وأنه مازال حيًّا في السماء! وأعجبُ مِن هؤلاء قومٌ يعتقدون بأنه قد قُتل مصلوبًا، ثم عاد إلى الحياة وصعد إلى السماء، واستحقّ جميع خصائص الألوهية، بل إنه هو الإله! وثمة قوم آخرون، وهم اليهود الذين يزعمون أن المسيح قد قُتل مصلوبًا، فصار ملعونًا وموردًا لغضب الله إلى الأبد؛ وأن الله بريء منه، وينظر إليه نظرةَ كراهة وعداوة، وأنه -والعياذ بالله- كذّابٌ ومفترٍ وكافر وملحد، وليس من عند الله. وإن هذا الإفراط والتفريط في حق نبيّ كان ظلمًا عظيمًا، وكان لابدّ أن يبرّئ الله نبيَّه الصادق من هذه التّهم، وإلى ذلك تُشير العبارة السالفة الذكر.

وقوله: “وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض” يشير إلى أن كل الطوائف التي يُمكن أن تُطلَق عليها كلمةُ القبيلة أي الشعب، ستضرب صدورها وتُبدي الجزع والفزع ويكون مأتمها عندئذ شديدًا. وهنا يجب على المسيحيـين أن يقرؤوا هذه العبارة بشيء من التدبر والإمعان، إذ مادامت هذه العبارة تتضمّن نبأَ لطمِ جميعِ شعوب الأرض صدورَها، فكيف يُمكن إذًا أن يُستثنى المسيحيون من هذا النياح؟ أَوَليسوا شعبًا من الشعوب؟ وإذا كانوا من جملة الشعوب اللاطمة صدورَها، فلماذا إذن لا يهتمون بنجاتهم! إن هذه العبارة صريحة في أنه عند ظهور آية المسيح في السماء ستلطم جميعُ شعوب الأرض صدورَها؛ فالذي يزعم أن شعبه لن يلطم صدره، فهو يكذِّب المسيحَ.

غير أن الذين لا تنطبق عليهم صفةُ الشعب لقلة عددهم، فلا ينطبق عليهم هذا النبأ؛ وهم أهل طائفتنا، بل إن هذه الطائفة وحدها خارجة عن نطاق تأثير هذا النبأ ودلالته؛ لأنها طائفة ذات أفراد معدودين، فلا ينطبق عليهم لفظ الشعب بشكل من الأشكال. لقد أخبر المسيح بناء على وحي الله قائلاً: حين تظهر آية في السماء فإن جميع طوائف الأرض الذين تنطبق عليهم كلمة “الشعب” بسبب كثرتهم سوف يلطمون صدورَهم، ولا يُستثنى من ذلك إلا مَن هم أقلّ من أن يُدعَوا شعبًا. فلا يمكن إذًا أن يخرج عن تأثير هذا النبأ المسيحيون ولا المسلمون المعاصرون ولا اليهود ولا سائر المكذّبين؛ وإنما طائفتنا وحدها التي هي خارجةٌ عن نطاق هذا النبأ، لأنهم لا يزالون للآن كبذرة زرعها الله تعالى.

ومن المستحيل أن يكون كلام النبيّ كاذبًا؛ ومادام هذا الكلام يؤكّد صراحة أن كلّ شعب في الأرض سيلطم صدره، فمن المستحيل أن يخرج عن نطاق هذا النبأ شعب من هذه الشعوب، إذ لم يستثنِ المسيحُ في قوله هذا أيَّ شعب. غير أن الفئة التي لم تبلغ مقدار الشعب، وهي جماعتنا، فهي خارجة عنه على كل حال.

ولقد تحقّق هذا النبأ بكل وضوح في هذا العصر، لأن الحقائق التي انكشفت اليوم عن المسيح هي، بلا مراء، مدعاةٌ لنياح هذه الشعوب كلّها؛ لأن هذه الحقائق تكشف خطأهم وتفضحهم جميعًا، وتحوِّل ضجةَ النصارى عن ألوهية المسيح إلى حسرات عليهم. كما أن إلحاح المسلمين المعاصرين على عقيدة صعود المسيح حيًّا إلى السماء قد أصبح بسبب ظهور هذه الحقائق بكاء ومأتمًا لهم. وأما اليهود فلا يبقى لهم من باقية.

ومما يجدر بالذكر هنا أن الأرض المشار إليها في هذه الشهادة الإنجيلية القائلة: “تنوح جميع قبائل الأرض” هي أرض بلاد الشام التي ينتمي إليها كلّ من هؤلاء الشعوب الثلاثة. أما اليهود فلأن هذه الأرض مولدهم ومنشؤهم وبها هيكلهم العظيم؛ وأما النصارى فلأن هذه الأرض وطن المسيح، وبها نشأ أوائلهم؛ وأما المسلمون فلأنهم وَرَثة هذه الأرض إلى يوم القيامة.

ولو أُخذت كلمة “الأرض” على عمومها فلا بأس بذلك أيضًا، لأن انكشاف هذه الحقائق سيدفع جميع المكذِّبين إلى الندامة.

ومن الشهادات الإنجيلية التي وجدناها ما ورد في إنجيل “متى” ونُسجّله فيما يلي:

“والقبور تفتّحت، وقام كثير من أجساد القدّيسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته (أي بعد قيامة المسيح) ودخلوا المدينة المقدّسة وظهروا لكثيرين”.(إنجيل متّى الإصحاح 27 العدد 52)

لا شكّ في أن هذه القصة المذكورة في الإنجيل لا تتحدث عن أيّ حادث تاريخي، إذ لو كان هذا صحيحًا لكان معنى ذلك أن القيامة قد وقعت في هذه الدنيا، وبالتالي قد انكشف للجميع الأمرُ الذي أُخفي عن أعين الناس لاختبار صدقهم وإيمانهم انكشافا جليًّا، ولم يَعُدِ الإيمان إيمانا؛ ولصار العالم الغيـبي، في نظر كلّ مؤمن وكافر، شيئا بديهيًّا بداهةَ الشمس والقمر والليل والنهار، ولما اعتُبر الإيمان عندئذ شيئا عزيزًا ذا قيمة يُرجى به الأجر والثواب.

ثم إذا كان الأموات، بمن فيهم أنبياء بني إسرائيل السابقون والصالحون الآخرون الذين يَبلغ عددُهم مئاتِ الآلاف، قد أُعيدوا حقًّا إلى الحياة في طرفة عين لدى حادثة الصليب، وعادوا إلى المدينة أحياء، كدليل على صدق المسيح وكآية على ألوهيته، لكان ذلك فرصة قيّمة لليهود ليسألوا هؤلاء الموتى الأبرارَ من أنبيائهم وأجدادهم عن ادّعاء المسيح بالألوهية: هل هو إله حقًّا أم كذّاب في هذه الدعوى؟ إذ من المرجَّح أن اليهود ما كانوا ليدَعوا مثل هذه الفرصة تفلت من أيديهم، وكان لابدّ من أن يوجهوا إليهم هذا السؤال عن صدق المسيح؛ لأنهم كانوا جدَّ متشوقين لأن يسائلوا الموتى لو رجعوا إلى الدنيا. فكيف يمكن إذن أن يُضيّعوا هذه الفرصة وقد اقتحم المدينةَ مئاتُ الألوف من الأموات، ودخل ألوف منهم في كلّ حارة من حاراتها! وكان لابدّ أن يسأل اليهود، لا واحدًا أو اثنين بل ألوفًا من هؤلاء الموتى. كما كان من المفروض عند عودة هؤلاء الموتى ودخولهم في بيوتهم أن يرتفع الضجيج والصخب في جميع البيوت، وكان لابدّ لكل بيت أن يضجّ بأحاديث الموتى وقصصهم وسؤالهم إياهم: ما إذا كانوا يحسبون هذا الذي يُدعى يسوع المسيح إلـهًا حقًّا؟ ولكن اليهود لم يؤمنوا بالمسيح بالرغم من شهادة الموتى أيضًا، على عكس المأمول، كما لم تَلن قلوبهم بل زادت قسوة وغلظةً؛ مما يعني أن الموتى لم يُدلوا، على ما يبدو، بشهادة إيجابية، بل لم يلبثوا أن ردّوا على السائلين بأن هذا الشخص كذّاب في ادّعاء الألوهية ويفتري على الله تعالى. فلذلك نجد اليهود لم يُقلعوا عن شرورهم رغم عودة مئات الألوف من الناس بل الأنبياءِ والرسل إلى الحياة، وإنما قتلوا المسيح ثم انصرفوا إلى قتل الآخرين أيضًا.

فهل يُعقل أن يُبعث مئات الألوف من الأتقياء منذ آدم إلى يحيى الذين كانوا راقدين في قبورهم بهذه الأرض المقدّسة، فيدخلوا المدينة واعظين، ويُلقي كلّ واحد منهم شهادته أمام ألوف من الناس بأن المسيح ابن الله، بل هو إله في الحقيقة، فاعبدوه وتخلَّوا عن أفكاركم البالية، وإلا فمصيركم جهنّم التي رأيناها بأعيننا؛ ولكن اليهود أصروا على الإنكار رغم هذه الشهادة المثلى من قِبل مئات الألوف من الأموات الأبرار كشهود عيان؟

إن ضميرنا لا يُسلّم بهذا الأمر مطلقًا. ولو افترضنا أن مئات الألوف من الأنبياء والرسل والصلحاء الأموات قد بُعثوا من القبور حقًّا وجاءوا لإدلاء الشهادة، فيبدو أنهم أدلوا بشهادة سلبية ولم يُصدّقوا بألوهية المسيح أبدًا؛ الأمر الذي زاد اليهود تمسّكًا بكفرهم رغم هذه الشهادات من الأموات، وأنكروا حتى نبوّة المسيح أيضًا، في حين كان المسيح يسعى جاهدًا لأن يعترفوا بألوهيته!!؟

إذًا فإن مثل هذه العقائد، أعني الإيمان بكون المسيح قد أحيا مئات الألوف من الأموات هؤلاء أو أيَّ ميت آخر، تحمل تأثيرًا ضارًّا وسيّئًا جدًّا؛ لأن عودة أولئك الأموات لم تُسفر عن أية نتيجة منشودة. فمن فطرة الإنسان أنه إذا سافر إلى بلاد بعيدة، وأقام هناك بضع سنوات، ثم رجع إلى وطنه، فإنه بطبيعة الحال يندفع إلى سرد أعاجيب تلك البلاد وغرائبها للناس، ولا يحب بعد هذا الغياب الطويل أن يمسك لسانه عن الناس ويقعد كالبُكم؛ بل إن الفطرة تدفع الناس الآخرين أيضًا في هذه المناسبة أن يأتوا إليه مسرعين ليسألوه عن أحوال تلك البلاد. أو إذا جاءهم مثلا رجل غريب بائس فقير تبدو عليه ملامح العوز والحاجة وادعى أنه ملِكُ تلك البلاد التي رجع بعضُ القادمين من زيارة عاصمتها، وأنه أعلى مرتبةً من ملِك كذا وكذا، فمن الطبيعي أن يسألوا هؤلاء السائحين القادمين عن مثل هذا المدّعي الوارد عليهم من الخارج قائلين: هل هو ملِكُ تلك البلاد حقًّا؟ فلا يلبث هؤلاء السائحون أن يخبروهم بحقيقة الأمر. فمادام الأمر هكذا فإن إحياء المسيح للأموات لا يكون مجديًا، كما أسلفتُ، إلا إذا كانت الشهادة المطلوبة من الموتى، التي كان من الطبيعي أن تُطلب منهم، قد أدت إلى نتيجة مرضية. ولكن الأمر هنا معكوس تمامًا، لأننا إذا افترضنا جدلاً أن المسيح قد أحيا الأموات حقًّا، فلا بد لنا أن نفترض أيضًا أن هؤلاء الموتى لم يدلوا في حق المسيح بأية شهادة نافعة تدفع الناس إلى تصديقه؛ وإنما أدلوا بشهادة قد زادت الطين بلّة!

ليت البهائم حلّت محلَّ الناس في قصة الإحياء هذه؛ لأن ذلك كان أَدعَى للتغطية والخفاء. فمثلا لو قيل بأن المسيح قد أحيا ألوفًا من الثيران لكان ذلك معقولاً لحد كبير، لأنه لو اعترض أحد عندئذ وقال: ما هي نتيجة الشهادة التي أدلى بها هذه الثيران التي أُعيدت إلى الحياة، لَرُدَّ عليه فورًا: الثيران عجماواتٌ لا تستطيع الكلام حتى تشهد بخير أو بشرّ. أما الموتى الذين أحياهم المسيح فقد بلغ عددهم مئات الألوف، فأين نتيجة شهادتهم؟ لو سألنا اليوم بعضَ الهندوس مثلاً: إذا عاد إليكم بعضُ أجدادكم الأمواتُ أحياء، وشهدوا على صدق دين معين فهل تشكّون بعدها في صدقه، فلا يمكن أن يكون جوابهم بالنفي. كلا، ليس ثمة إنسان في الدنيا يلجّ في كفره وعناده رغم ذلك الانكشاف المبين.

ويا أسفا على المسيحيـين، فإن “السيخ الخالصة” في بلادنا كانوا أكثرَ منهم دهاء وبراعةً في تلفيق مثل هذه القصص، إذ يزعمون أن مُرشدهم “بابا نانك” قد أحيا مرّة فيلاً ميّتًا. وهذه “معجزة” لا يرد عليها الاعتراض الذي يرد على “معجزة الإحياء الإنجيلية” فيما يتعلق بنتائجها وعواقبها، لأن “السيخ” يُمكن أن يقولوا بأن الفيل ليس بناطق حتى يُصدِّق أو يُكذِّب مُرشدَهم “بابا نانك”.

لا شك أن عامة الناس يفرحون كثيرًا بمثل هذه “المعجزات” بسبب عقلهم الناقص، ولكن العقلاء منهم يحترقون كمدًا نتيجة الاعتراضات التي تثيرها الأمم الأخرى، ويخجلون جدًّا في كل مجلس تُسرد فيه مثل هذه القصص السخيفة.

وبما أننا نكنّ للمسيح عواطف الحب والإخلاص مثلما يُكنّها المسيحيون أنفسهم، بل إننا أشدّ منهم حبًّا له، لأنهم لا يعرفون حقيقة مَن يمدحونه، ولكننا نعرف حقيقة مَن نمدحه، لأننا قد رأيناه، فلذلك نُميط الآن اللثام عن حقيقة العقيدة المذكورة في الأناجيل القائلة بأن جميع الصالحين الأموات قد عادوا إلى الحياة عند حادثة الصليب ودخلوا المدينة.

فليكن واضحًا أن ذلك كان كشفًا كالمنام رآه بعضُ الأتقياء بعد حادث الصليب حيث رأوا وكأن الأبرار من الموتى قد عادوا إلى المدينة أحياء، واجتمعوا بالناس. وكما أن الرؤى قد عُبِّرت في كتب الله المقدّسة، كرؤيا يوسف مثلاً، كذلك كان لهذه الرؤيا تعبير، وهو أن المسيح لم يُقتل على الصليب، بل نجّاه الله من الموت عليه.

وإن قيل: من أين أتيتَ بهذا التعبير؟ قلتُ: إن أئمة علم تعبير الرؤى قد سجّلوا ذلك، كما قد شهد عليه جميعُ علماء التعبير بتجربتهم. ونُورد فيما يلي ما كتبه أحد أئمة علم التعبير، وهو مؤلف “تعطير الأنام” حيث قال ما نصه: “من رأى أن الموتى قد وثبوا من قبورهم ورجعوا إلى دورهم، فإنه يُطلَق مَن في السجن”. (تعطير الأنام في تعبير المنام، لقطب الزمان الشيخ عبد الغني النابلسي ص 289)

أي أن المراد من مثل هذه الرؤيا أو الكشف هو أن سجينًا سيُطلَق سراحه ويتخلَّص من أيدي الظالمين، وفي هذا الأسلوب البياني دليلٌ أيضًا على عظمة ذلك السجين وشرفه.

والآن ترون كيف أن هذا التعبير ينطبق على المسيح انطباقًا معقولاً للغاية، حيث لا نلبث أن نُدرك أن الرؤيا، التي شوهد فيها الأبرار من الموتى يدخلون المدينة، كانت تنطوي على إشارة لأهل الفراسة بأن المسيح قد نُجِّيَ من الموت على الصليب.

وهناك مواضع عديدة أخرى في الأناجيل يتبيّن منها أن المسيح لم يُقتل على الصليب، وإنما نجا منه ورحل إلى بلد آخر، غير أنني أرى أن ما قد بيّنته يكفي لفهم المنصفين.

وقد ينشأ في بعض الأذهان اعتراض بأن الأناجيل نفسها تتحدث مرارًا عن موتِ المسيح على الصليب، ثم عودتِه إلى الحياة، فصعودِه إلى السماء؟!

وقد سبق أن رددت على مثل هذه الاعتراضات بإيجاز، وأرى من الأنسب أن أُبيّن هنا أيضًا أن المسيح قد اجتمع بحوارييه بعد حادثة الصليب، وسافر إلى الجليل، وأكل الخبز والسمك المشوي، وأراهم جروحه، وبات ليلةً معهم بقرية عمواس، وهرب سرًّا من المنطقة التي يحكمها بيلاطس، وهاجر من تلك البلاد وفقَ سنة الأنبياء، وسافر خائفًا يترقّب. وكل هذه الحوادث تؤكد على أن المسيح لم يُقتل على الصليب، وأن حوائج الجسد الفاني كلها كانت ملازمة له، ولم يطرأ عليه أي تطوّر جديد. كما لا نجد في الإنجيل أيَّ شاهد عيان­ على صعوده إلى السماء. حتى ولو وُجدت مثل هذه الشهادة في الإنجيل لما كانت أيضًا جديرة بالعناية؛ إذ من عادة كُـتّاب الإنجيل أن يُبالغوا جدًّا حيث يجعلون من الحبّة قبّة، ويحوِّلون الذرة جبلا. فمثلاً إذا كتب أحدهم أن المسيحَ ابنُ الله، وجدنا الثاني يسعى جاهدًا ليجعله إلـهًا حقًّا؛ ثم ينبري الثالث ليهب له السلطة على السماوات والأرض؛ فيأتي الرابع ويُصرّح علنًا أن المسيح هو الإله ولا إله غيره، وهكذا يتمادَون إلى ما لا نهاية له. خذوا مثلا تلك الرؤيا التي تقول وكأن الموتى قد بُعثوا من القبور وجاءوا إلى المدينة، فقد فسّرها المسيحيون، متمسّكين بظاهر الكلمات، بأن الموتى قد خرجوا من القبور حقيقةً، ودخلوا مدينة أورشليم واجتمعوا بأهلها! فانظروا كيف أنهم قد جعلوا من الريش طيرًا، ومن الطير الواحد أسرابًا. فكيف يمكن إذًا معرفة الحقائق حيث بلغت المبالغةُ ما بلغت؟!

[1] نخبة من أبناء الجماعة.

­ إنجيل متى 27: 46 (المترجم)

­ لقد قرأت في بعض الكتب أن المشايخ المعاصرين يؤوّلون هذا النبأ الوارد في “متى” الإصحاح 26 العدد 24¯ تأويلاً أغربَ من تأويل المسيحيـين أنفسهم؛ إذ يزعمون أن المسيح مادام قد اشترط لظهوره حياةَ بعض أهل ذلك العصر وحياةَ أحد حوارييه أيضًا، فقد لزم أن يكون ذلك الحواري حيًّا إلى اليوم، لأن المسيح لم يرجع حتى اليوم؛ بل يظنّون أن ذلك الحواري مازال ينتظر المسيح متخفيًّا في بعض الجبال! (المؤلف)

¯ هذا سهو، والصحيح: الإصحاح 16 العدد 28. (المترجم)

­ أي لا أحد من الناس يقول إنه شاهدُ عيانٍ على هذه الحادثة، وأنه قد رأى بأمّ عينيه المسيحَ صاعدًا إلى السماء. (المؤلف)

Share via
تابعونا على الفايس بوك