فلسفة التعاليم الإسلامية

كلام الإمام..

المعرفة الثانية

وأما المعرفة الثانية .. التي ذكرها الفرقان الحميد تبيانًا لعالم المعاد.. فهي أن جميع الأمور الروحانية في الحياة الدنيا ستتمثل في عالم المعاد مجسَّمة.

سواء أكان عالم المعاد في طور البرزخ أم في طور البعث والنشور. ومما قال الله تعالى في هذا الصدد:

وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (الإسراء: 73)

والمراد أن العماية الروحانية التي يصاب بها أحد في الدنيا تتجسم في عالم المعاد محسوسة مشهودة.

كذلك يقول في آية أخرى:

خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (الحاقة: 31-33)

..أي خذوا هذا الجهنمي، وضعوا الغُلَّ في عنقه، ثم احرقوه في الجحيم، ثم صفِّدوه في إحدى السلاسل التي طولها سبعون ذراعا.

فالآية تبين أن عذاب الدنيا الروحاني سوف يتجسد في عالم المعاد. فطوقُ الشهوات الدنيوية التي كان قد أخضع رأس الإنسان إلى الأرض سوف يتراءى في صورة غُلٍّ يُطَوِّق العنق؛ وسلاسل الشواغل الدنيوية ستظهر في صورة أصفاد قيدت الأرجل؛ ولوعات الأماني الدنيوية سوف تُرى يومئذ نارًا ملتهبة ظاهرة. إن الإنسان الفاسق في الحياة الدنيا ليحمل في داخله جحيما من الشهوات والأهواء. ويشعر بحرقة هذه الجحيم عند الخيبة والخسران. ولذلك فإنه عندما يُقذف بعيدًا عن شهواته الفانية. ويغشاه القنوط الأبدي.. سوف يكشف الله له تلك الحسرات في صورة نار مجَسّمة. كما يقول سبحانه وتعالى:

وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ (سبأ: 55)

أي سوف يوضع حاجز بينهم وبين شهواتهم. الحيلولة هذه هي نفسها أصل عذابهم.

وأما قوله تعالى:

ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (الحاقة: 33)..

فهو إشارة إلى أن الفاسق في أحيان كثيرة يعمَّر سبعين سنة. بل كثيرا ما يُرزق عمرا أطول من ذلك للعيش في هذه الدنيا، بحيث يتاح له -باستثناء أيام الصبا والهرم- سبعون عاما من حياة خالصة صافية. يستطيع أن يقضيها في جد وعمل. ولكن ذلك الشقي يضيع هذه السنين من حياته الثمينة في الانهماك في مشاغل الدنيا.. ولا يريد أن يتحرر من قيودها هذه. لذلك يقول الله تعالى أن السنين السبعين التي قضاها في قيود الشهوات الدنيوية.. سوف تتمثل يوم المعاد في سلسلة طولها سبعون ذراعًا. كل ذراع بإزاء سنة من سني حياته.

ويجب أن نتذكر هنا أن الله تعالى لا يصب من عنده على الإنسان أي مصيبة.. وإنما يعرض عليه ما ارتكب هو نفسه من السيئات .. وتبيانا لهذه السُّنة نفسها يقول الله في موضع آخر:

انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (المرسلات: 31-32)..

أي أيها الفجار الغواة، امشوا إلى ظل ذي ثلاثة فروع، لا يهييء لكم ظلا ولا يحمي من الحر.

والمقصود بالفروع الثلاث هنا هو الأقسام الثلاثة من قوى النفس: وهي القوى السبعية. والقوى البهيمية، والقوى الواهمة. فالذين لا يعدلون هذه القوى، ولا يصبغونها بالصبغة الأخلاقية.. يبرزها الله لهم يوم القبامة وكأنها ثلاثة فروع قائمة بلا ورق.. لا تحمي من الحر، ومن ثم سوف يحترقون منه. وكذلك يقول الله في أصحاب الجنة- إظهارًا للسُنَّة الإلهية المذكورة:

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ (الحديد: 13)

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ (آل عمران: 107)،..

أي يومئذ سوف تصبح بعض الوجوه سوداء وتصبح بعضها بيضاء نورانية.

ويقول في مكان آخر:

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى (محمد: 16)..

أي أن مثال الجنة التي ستوهب للمتقين كمثال بستان فيها أنهار من ماء لا يتعفن أبدا. ومن لبن لا يتغير طعمه أبدا. ومن خمر تجلب المتعة  والذة بدون أن تصيب شاربها بالسُّكْر، ومن عسل صافِ للغاية لا كثافة فيه.

لقد بيّن الله هنا بصراحة أن الجنة يمكن أن تفهموها على سبيل التمثيل – أنهارا لاحد لها من تلك النعم. ففيها أنهار ظاهرة من ماء الحياة الروحاني الذي كان العارف يشربه في الدنيا شربًا روحانيًا؛ وأنهار ظاهرة من اللبن الروحاني الذي كان يتغذى به كالطفل الرضيع في الدنيا غذاء روحانيًا؛ وأنهار من خمر المحبة الإلهية التي كان بسببها في نشوة روحانية دائمة في الدنيا..يراها يومئذ ماثلة أمامه رأى العين؛ وأنهار ظاهرة محسوسة من عسل الحلاوة الإيمانية الذي كان يدخل في فمه بصورة روحانية في الدنيا. وسوف يكتشف كل واحد من أهل الجنة مستوى حالته الروحانية عن طريق أنهاره وبساتينه. وأيضا سوف يبرز الله تعالى لأهل الجنة من الحجب.

فالخلاصة أنه لن تبقى الحالات الروحانية عندئذ على ماهي عليه اليوم من الخفاء، بل سوف تظهر أشكالاً مجسمة.

المعرفة الثالثة

المعرفة الثالثة هي أن سلسلة الارتقاء في عالم المعاد بدون نهاية. يقول الله تعالى:

وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (التحريم: 9)

فقوله عن الذين آمنوا أنهم لن ينفكوا يدعون ربهم أن يتمم لهم نورهم.. إنما هو إشارة إلى الترقيات غير المتناهية، بمعنى أنهم كلما استكملوا درجة من درجات النور.. تراءت لهم درجة أخرى منه. فيرون كمالهم الحاصل نقصًا بالنسبة إلى الكمال الثاني..

فيلتمسوا من الله إحراز تلك الدرجة، فإذا أحرزوها.. تراءت لهم درجة ثالثة منه، فيعتبرون الكمالات الأولى ناقصة، ويطمعون في هذه الأخيرة. إن هذا النزوع المستمر للرقي يعبِّر عنه قول: “أتمِمْ”.

إذن فهكذا سوف تستمر حلقات من سلسلة غير متناهية من الارتقاء تترى. ولن يصيبهم الانحطاط أبدا، كما أنهم لن يُخرجوا من جنتهم.

وأما قولهم “واغفر لنا” فينشأ عنه سؤال: ماداموا قد دخلوا الجنة.. فهل لم يغفر الله لهم؟ وماداموا قد غُفر لهم.. فما الحاجة إلى الاستغفار بعد ذلك؟

فالجواب هو أن المغفرة معناها في الأصل هو ستر الحالات الناقصة، غير الملائمة.. وتغطيتها. فالمراد أن أصحاب الجنةَ سيطمعون في نيل الكمال التام، وأن يغرقوا كلية في النور. إنهم باستمرار يجدون حالتهم الأولى ناقصة عند رؤيتهما الدرجة التالية من الكمال الثالث تمنّوا تغطية حالتهم الثانية.. أي أن تستر تغطية حالتهم الناقصة تلك وتُخفى. وهكذا سوف يظل أصحاب الجنَّة يتمنون المغفرة غير المتناهية بعد كل مرحلة.

إن كلمة الاستغفار أو الغفران هي نفس الكلمة التي يطعن بها بعض الجاهلين في نبينا . ولعلهم قد أدركوا -مما سلف- أن رغبة النفس في الاستغفار إنما هي مفخرة للإنسان. فمن كان مولودًا من بطن امرأة.. ومع ذلك لا يتخذ الاستغفار ديدنا في كل حال.. فهو دودة وليس إنسانًا وأعمى وليس بصيرا، ونجسٌ غير طيب.

فخلاصة القول إن الجنة والجحيم، بحسب تعليم الفرقان الحميد، ليستا شيئًا جسمانيًا جديدًا يأتي من الخارج.. وإنما هما في الحقيقة آثار الحياة البشرية وظلالُها. إنه لحق أن كل واحدة منها ستتمثل عندئذ مجسمة.. ولكنها لا تكون في الحقيققة إلا آثار الحالات الروحانية وأظلالها.

إننا لانؤمن بجنة هي عبارة عن أشجار مغروسة غرسًا ظاهريًّا. ولا نؤمن بجحيم فيها أحجار من كبريت مادي. بل الجنة والجحيم -طبقًا للعقيدة الإسلامية- إنما هما انعكاسات للأعمال التي يعملها الإنسان اليوم في الحياة الدنيا.  (يتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك