الجــِن بين الحقيقة والخرافة (3)

الجــِن بين الحقيقة والخرافة (3)

محمد حلمي الشافعي

كاتب

قبل عشر سنوات.. سألني بعض الأصدقاء عن ذِكر السجن في القرآن والحديث، وصادف ذلك صدور كتاب عن الجن محشو بالخرافات. فكتبت هذه الصفحات مسترشدا بتفسير القرآن الكريم لسيدنا الخليفة الثاني رضي الله عنه محمد حلمي الشافعي

ومن المناسب هنا إلقاء بعض الضوء على قول الله تعالى:

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (الأَعراف: 28)

لقد ذهبت عقول كثير من المفسرين في فهمها بعيدا، وجاءوا بأقوال هي خليط من جاهلية أهل الكتاب وخرافات الخيال! ولنبدأ القول بالحديث عن الشيطان. سبق أن ذكرنا أن الكلمة أصلُها من مادة (ش ط ن) وتعني البُعد، فيقال: شَطُنت الدارُ: بعُدت ونأت. والشيطان هو الذي ابتعد تماما عن طريق الحق والخير. أو هو الذي يُبعِد غيره عن الهداية والرشاد.

ويقال أيضا أن الكلمة أصلها من (ش ي ط) أي احترق. فالشيطان هو من اصطلى بنار الحسرة لحرمانه من الخير. وبين المعنيين قرابة.. فإن من حُرم الهداية الإلهية تحولت حياته إلى جحيم وكانت عاقبته جهنم.

والمؤثر النفسي أو المعنوي الذي يُبعد المرء عن المنهج الإلهي، ويحيد به عن سبل الخير.. شيطان. وهو شيطان الجن لأنه يفعل فعله في خفاء فلا ينتبه له المرء، ولذلك وصفه القرآن بأنه شيطان يرى ضحيته -أي يصل إليها ويؤثر فيها من حيث لا تراه الضحية- أي لا تدرك تأثيره ولا تفطن له.

وتقدم الآية الكريمة تحذيرا إلى كل البشر، إنسًا وجنًّا، من فتنة هذه المؤثرات الشيطانية، التي تتسلل إلى النفس البشرية على حين غفلة من صاحبها.. تحت ستار براق من المغريات المشروعة أو غير المشروعة.. فيقع فيها وتورثه الندم. وقد مرّ سيدنا آدم- أبو السلسلة الحالية من البشر الذين تشرفوا بالتكليف الإلهي، وأول نبي حمل شريعة الله إلى بني جنسه فنُسبوا إليه تخليدا لهذا المنعطف الخطير في تاريخ البشرية وتحولها إلى الإنسانية.. أقول مر بتجربة مع هذا الشيطان.

أُمر آدم أن يجتنب زعيما مغرورا من زعماء قومه.. كان قد أعلن العصيان والخروج على طاعة آدم الرسول المبلغ عن ربه. أعلن العصيان وأصر عليه استعلاءً واستكبار وبغيا، بل وجاهر بعزمه على مقاومة الأمر الإلهي والإفساد بكل السبل. وحذر الله آدم من نوايا هذا العدو الحاقد الحاسد. وعمل آدم فترة من الزمن بهذا التحذير، ولكنه بعد مضي الوقت قلّ حذره، ووقع تحت تأثير الاعتقاد بقدرته على إصلاح (إبليس) ومن معه من أتباع وأعوان. وظن أنه إذا نجح في هذه المهمة الصعبة فإنه يكون بذلك قد قام بإنجاز عظيم يكسبه المجد وخلود الذكر، وهو قبل كل شيء من صميم واجباته كنبي معلم. وحسب أن تكون ضغينة إبليس قد خفَّت حدتها مع الزمن ولا بأس من المحاولة الخيّرة.

لقد كانت هذه الخواطر الطيبة.. في نفس النبي الحريص على نجاح مهمته.. شيطانا أنساه الحذر الواجب، والالتزام بالتحذير الإلهي من ربه العليم الخبير.. الذي لا تخفى عليه خافية. وهكذا وقع آدم في الفخ الشيطاني، المموه بالنوايا الطيبة، واستطاع إبليس وجماعته مهاجمة آدم من حيث لم يحتسب.. بعد أن عرفوا مواطن الضعف في منطقته، وفاجأه مفاجأةً لم يُغنِ معها استنفار آدم لشباب قومه (من ورق الجنة)، وأجبر آدم وجماعته على الخروج من منطقتهم الغنية بالثمار والمياه. لقد نسي آدم ووضع سلاحه القوي الذي كان يحميه من عدوه.. ذلك بفعل الإغراء الشيطاني يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا ، فانكشفت ثغوره لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا . نعم تنكشف العورات إذا انحسر اللباس عن الجسد.

وعلى ضوء هذا الدرس القيم يعلمنا القرآن أن (لباس التقوى) هو خير وقاية لنا من هجمات الشيطان إذا أراد أن يتسلل إلى داخلنا، كما يحمينا اللباس المادي من هجمات الجو الخارجي. ولا شك أن الذين لا يقدرون التقوى حق قدرها، ويحسبون أنهم قادرون على حماية أنفسهم بأنفسهم.. لا شك أنهم جعلوا من أنفسهم أنصارا للشيطان، فيملأهم غرورا، ويوردهم شر الموارد، ولن يجدوا لهم من دون الله تعالى هاديا أو نصيرا.

كما يمكن أيضا تسمية إبليس شيطانا.. لأنه ابتعد عن طريق الخير، وأضلَّ قومه معه، وعزم على إفساد المهمة النبوية لسيدنا آدم. كما يمكن إطلاق اسم شيطان على من استعان به إبليس لإغراء سيدنا آدم كي يتصل به وبقومه، وزين له هذا الأمر وأنساه الحذر.

ولعل القارىء لسورة (الأعراف) يلحظ أن الأنبياء الكرام -صلوات الله وسلامه عليهم وعلى خاتمهم وإمامهم المصطفى- قد لاقوا معارضة وتكذيبا ومقاومة من أقوامهم بقيادة فئة بعينها:

فمن قوم نوح

قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (الأَعراف: 61)

ومن قوم هود:

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (الأَعراف: 67)

ومن قوم صالح:

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (الأَعراف: 76-77)

ومن قوم شعيب:

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا (الأَعراف: 89)

ومن قوم موسى:

قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (الأَعراف: 110)

ولعل القارىء قد أدرك بعد تلاوة هذه الآيات وتدبرها أن (الجن) هم السادة.. (الملأ الذين استكبروا) وأنهم أول من يدخل النار ويصلى سعيرها؛ وأن القرآن سماهم (الجن) لتميزهم وكبرهم ودورهم القيادي.

وتمضي آيات سورة (الأعراف) تسوق المثل تلوَ المثل لمواقف (الأبالسة) مع (الأوادم).. فكل نبي هو (آدم) روحاني لقومه ومثيل له من حيث مهمته ومنهجه. ولكل نبي وقفَ ملأ من المستكبرين، وهم أبالسة وإن اختلفت الأسماء. قد يكون الاسم (فرعون) أو (أبا لهب)؛ لا يهم الاسم.. لأنهم في أفعالهم ومواقفهم أبالسة. وكما كان إبليس مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي زعيما مأمورا بطاعة منهج الله.. كذلك الذين جاءوا من بعده كانوا من الجن وفسقوا عن أمر ربهم. وسيبقى إبليس دائما موجودا على الأرض بين الناس مُمَثَّلاً في أشخاصهم، لأن الله لم يكتب الخلود لأحد أبدا في الدنيا.. مصداقا لقوله تعالى:

وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ (الأنبياء: 35)

ولكن دور (إبليس الأول) متجدد بمن يخلفه ويسير على منواله في الغرور والغطرسة والاستكبار والعمى عن الهدى.

وتحكي السورة تلك العادة البشرية الذميمة.. فكلما أرسل الله هداية للبشر. على يد رجل صالح يصطفيه من بينهم لهذه الغاية الجليلة .. قام الأبالسة والشياطين لدعاة الهدى بالمرصاد. وما من حجة في أيديهم سوى سلاح القوة الغاشمة، والمغالطات المكشوفة، والإغراء بمتع الحياة الدنيا. ولا مناص من أن يكون عذاب جهنم من نصيب هؤلاء الأبالسة، يجدون في لظاها العقاب الرادع والعذاب الزاجر.. تقول الآية الكريمة:

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (الأَعراف: 180)

نعوذ بالله من هذا العجز التام!! لقد عطلوا حواسهم عن الإدراك السليم المنجي من الضلال، واستخدموها في الأهواء والشهوات الدنيوية، خلعوا عنهم لباس التقوى، فنال منهم الشيطان بطعناته المهلكة، وكانوا لجهنم حطبا.

وها هي الآية تعلن بجلاء تام أن الإنس والجن مشتركون في أدوات الإدراك من قلب وعين وأذن. وأنهم مشتركون في الغفلة وسوء الاستعمال لتلك الملكات والحواس. وأنهم مشتركون في سوء العاقبة، وأنهم يصلون نفس العذاب.. نار جهنم التي تشوي الأجساد وتحرق الجلود.. يصلاها ذوو الأجساد والجلود .. وهم البشر. ولقد قرنت الآية الكريمة بين الجن والإنس حتى لا يحسبن أحد من المغرورين السادة والقادة أنه بمنجي من العقاب الأليم المهين بسبب مركزه أو مكانته بين العامة. وحتى لا يظنن أحد من العامة أن انقياده ومناصرته لهؤلاء السادة في طريق الباطل ينفعه يوم الموقف بين يدي الله العزيز القدير. إن السادة والكبراء الظالمين متساوون مع العامة والأتباع يومئذ في ضعفهم وقلة حيلتهم.. بل إن السادة ينالون أشد العقاب نظير دورهم القيادي في الفساد والإفساد.

ولنتأمل كيف أن الآية الكريمة شبهت تلك الكائنات البشرية بالأنعام.. لكونها تنقاد لغرائزها انقيادا غبيا. ولقد صدقت الآية في أن البشر الذين تُنسيهم شهواتُهم حدود ما ينفعهم وما يضرهم.. هم أضلُّ من الأنعام التي تهتدى بغرائزها ولا تتمادى في الشهوات. وليس للقادة الفجرة الغافلين من كرامة تميزهم، فهم أيضا أضل من الأنعام، فإن لقطعان الماشية أيضا قادة محنكة، تقودها نحو المراعي الخصبة، وتناور بها للنجاة من العدو المفترس. ولكن القادة من البشر الذين أعماهم الغرور يقودون رعيتهم معهم إلى الهلاك. تماما كما يقود الكبشُ القطيع وراءه إلى المذبح!! والفرق بينهما أن الكبش لا يدرك الخطر الخفي، وليس بوسعه أن يدفعه. أما قادة الشر بين البشر فهم يعطّلون حواسهم ولا يستجيبون لعلامات التحذير والإرشاد!!

ثم ننتقل بعد ذلك إلى سورة (هود). تناولت السورة تكذيب قريش للنبي وزعمهم أن القرآن كتاب من افترائه. فتحدتهم السورة أن يأتوا بعشر سُور مثل سوره. وقصت السورة عليهم أنباء الأقوام السابقين وموقفهم المماثل تجاه رسلهم بدءا بقوم نوح الذين نظر زعماؤهم إلى نبيهم نظرة ازدراء، ووصفوا المؤمنين بأنهم حفنة من الأراذل لا وزن لهم. ولما رأى الملأ السفينة سخروا وضحكوا.

ثم عطفت السورة على قوم هود وكيف تبع العامة مننهم رؤساءَهم الجبارين. ومن يعدهم قوم لوط وقوم شعيب ثم فرعون وحاشيته وجنوده. لقد أفسدت تلك الأقوام في الأرض، وخالفوا منهج الله وعصوا رسله، فنزل بهم الهلاك. والهلاك إذا نزل لم يفرق بين جن أو إنس، بل يصيب السادة والأتباع معًا. لقد أخذ الطوفان قوم نوح كبيرا وحقيرا.. واستأصل العقاب عادا وثمود فلم يبق على أمير أو عبيد .. وأخزى العذاب قوم لوط ومدين فأفنى السادة مع الرعية!!

وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (هود: 103)

ولقد ألمحت الآية قبل هذه إلى السبب في ذلك حيث قالت:

فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ (هود: 98-99)

فالعذاب ينزل بالقرى عن بكرة أبيها، والعذاب يأخذ الحاكم والمحكوم ما دام الجميع في الظلم مشتركين.

وتمضي السورة تحذر أمة محمد فتقول:

وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (هود: 114)

فعلى الجماهير ألا تنقاد وراء قادتها فيما يخالف منهج الله، فإنذلك ظلم يجعلهم مستحقين للعقاب، ولن يجدوا من يحميهم من غضب الله تعالى. وعلى أولي الأمر ألا يستعملوا الظالمين من رعيتهم حتى لا يوقعوهم تحت طائلة المسؤولية في الظلم وينالهم سخط الله.

** وتُختم السورة بالقانون الإلهي:

وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ * وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (هود: 118-120)

ما دور الجِنة هنا؟ ولماذا يُهدَّدون بدخول النار مع الظالمين من أهل القرى؟ الجواب المنطقي للجمع بينهما في هذا السياق.. هو أن الجِنة فريق من أهل القرى يمتاز بالقيادة. ولذلك جاء ذكرهم في مقدمة الذين تمت كلمة رب العالمين ليدخلنهم النار.. مع من يتبعهم من الرعية. وتأمَّل كلمة (الناس) في الآية! عندما تحدثت الآية عن أهل القرى بصفة عامة أسمتهم (الناس). ثم صنَّفتهم صنفين؛ الجنة والناس. فكأن كلمة (الناس) تطلق على البشر عموما من كل صنف ونوع ولون وطبقة. وكلمة (الجن) في مقابلها تعني الخاصة. أي الطبقة القيادية أو أولي الأمر والفئة المتميزة. ويلاحظ هنا أن كلمة (الجِنَّة) تعني صنفا معينا من الجن.. هم في هذه الحالة القادة الظَلمة الفسدة، المستحقين العذاب الإلهي.

ولا يفوتنا في هذه المناسبة أن نلفت الانتباه إلى أمرين هامين وردا في الآية الكريمة، وجدير بنا أن نتفهم مغزاهما:

أولهما: أن الأمم لا يصيبها الانحطاط، وينزل بساحتها العذاب والهلاك.. وهم مصلحون، لأن ذلك ظلم تعالى الله عنه علوا كبيرا، فإذا رأينا أمة تهوي في ظلمات الجهل والفقر والمرض، فليس ذلك ابتلاء لها من الله تعالى.. كلا، بل هو عقاب أصابها بسبب انحرافها الشديد عن الصراط الإلهي المستقيم، وإمعانها في إغضاب الله ، فاستحقوا أن ينزل بهم العقاب العام.

وثانيهما: أن بعض الناس يفهمون الآية فهما خاطئا.. إذ يحسبون أن قوله تعالى وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ يعني أن الناس خُلقوا للاختلاف: والحقيقة أن الخالق.. الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، إنما خلق الناس لينهلوا من معين رحمته. فالإشارة في كلمة (لذلك) إنما تعود على المشار إليه الأقرب.. وهو قوله إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ أي.. لرحمته تبارك وتعالى.

والمعنى الإجمالي للآية: أنه لو كانت مشية الله أن يكون الناس أمة واحدة لحملهم على ذلك، أي لخلقهم مجبولين على الطاعة.. مثل الملائكة وغيرهم من الكائنات التي لا تعصي ولا تُفسد ولا تخرج أبدا عن منهج الله. ولكن الله أراد أن يكون الناس خلقا حرا مريدا، يختار اتباع منهج الله عن طواعية، فيستحق بذلك أن ينعم برحمة الله، ويستمتع بما لا يستمتع بمثله الذين جُبلوا على الطاعة الإجبارية.. من ملائكة أو غيرهم من المخلوقات الأخرى. وأن الله كما وعدهم برحمته الفياضة الواسعة، فإنه حذرهم من عقابه الأليم جزاء وفاقا للخروج عن طاعته استكبارا وعلوا. وفي النار متسع لكل عاص مُصر على العصيان، سواء كان من الجن أو من الإنس. ومثل هذا العقاب لا ينزل أيضا بالخلق المجبول على الطاعة لأنه لا يملك إرادة المعصية، فالإنسان -جنا وإنسا- هو الحر المريد.. المجازى على عمله. وإذا كانت مشيئة الله تعالى هي ألاّ يجبر البشر على منهج واحد.. فليس لكائن من كان أن يجبرهم على ذلك.

** وفي سورة (الحجر) يقول الله تعالى:

وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (الحجر: 26-28)

هذه هي الآية الأولى من القرآن الكريم التي تتحدث عن خلق الإنسان والجان. وهي تشير إلى صفة رئيسية في الإنسان، تولدت فيه بعد أن مر بسلسلة مديدة من الإعداد والتطوير.. حتى وصل إلى هيئته الحالية.

وفي آيات أخرى ذكر القرآن أن الإنسان مخلوق من تراب، ومن طين، ومن صلصال، ومن ماء. وعلى ضوء هذه الآيات يمكن أن نتعرف على المراحل الأساسية التي مر بها خلق الإنسان من ناحية البنية المادية. ولكن الأهم من ذلك هو أن نتنبه إلى الصفات الرئيسية الكامنة في الفطرة البشرية والملكات التي اختُص بها دون سائر المخلوقات.

قد نستخلص من آيات الخلق البشري أن المادة التي بدأ منها البناء الجسدي هي الماء الذي يغطي نسبة كبيرة من القشرة الأرضية. واختلط الماء بالتراب الذي يكون على سطح الأرض. وإذن فالبداية من الطين. وإذا جف الطين غلُظَ وصار صلصالا، ثم يجمد ويكون كالفخار. ثم تعرَّض الصلصال لسلسلة من تأثيرات إشعاعية وكيميائية وفيزيائية.. فتخلقت الجزيئات الأولية التي تتكون منها المركبات العضوية. وباستمرار هذه العمليات تزداد المركبات تعقدا وتنوّعا حتى تنتهي إلى اللبنة الأولى التي تتكون منها الخلية الحية [DNA-RNA] .

ولا يغيبن عن البال أن القرآن أعلنها صريحة بأن الماء هو مصدر الحياة لكل مخلوق يعيش ويدب على هذه الأرض ويعتمد على مادتها في بقائه حيا.. حيث قال:

وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (الأنبياء: 31) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ (النور: 46)

والجان من الأحياء التي تدب على الأرض، فهو مخلوق من الماء، والماء ضروري لاستمرار حياته. والماء مادة موزونة محسوسة، وإذا دخلت في بنية كائن جعلته حتما محسوسا موزونا. وإذن فالجان من الخلق المحسوس الموزون.. وليس من الخيالات أو غير الماديات كما يظن البعض.

وتفاصيل عملية الخلق بعد ذلك من الأمور المادية الكونية.. التي تخضع للبحث العلمي، ويمكن للباحثين أن يصلوا فيها إلى نتائج تشبع فضولهم. كما أنها ستبقى لغزا يتحدى العلمَ ليحاول حله.. بما يساعد على تقدم البشرية وتطورها. ولا مجال للأدعياء هنا فيزعم بعضهم علما في هذا المجال على أساس من خرافات الأقدمين أو خيالات المحدثين.

وقد اختارت الآية الكريمة “المرحلة الصلصالية” من خلق الإنسان.. إيماء إلى صفتين يتميز بهما الإنسان: الصفة الصلصالية الأولى.. هي القدرة على التشكل بيسر، والاحتفاظ بالشكل المكتسب حتى تتدخل قوى االتشكيل لتغيره. والصفة الثانية هي الرنين. وهي الانفعال الصوتي.. فكما أن الصلصال إذا جف تصلب وصار فخارا، يحدث رنينا إذا اصطدم بجسم صلب.. كذلك الإنسان إذا ما اشتد عوده بحرارة الوحي السماوي فإنه ينفعل به ويردده ويسمعه لمن حوله. فالإنسان متطور غير جامد، وهو قابل للتكلم وإذاعة ما يتعلمه.

هكذا بدأ خلق الإنسان، وتطور حتى صار إنسانا، وهكذا يمضي في تطوره قُدُما. وتلفت الآية الكريمة أنظارنا إلى حقيقة أن الصلصال قابل للتشكل، فإذا خلا من الماء تصلب وصار هشًّا قابلا للكسر.. فإذا نزل عليه الماء أمكن إعادة تشكيله. وهكذا الإنسان وهو في طريق تطوره معرَّض للضلال والسقوط، ولا بد له من ماء السماء الروحاني (الوحي) ليعيد إليه القدرة على اكتساب شكل سوي جديد. نعم، إن معاول الشهوات وأحداث الحياة وصروفها تعمل على تحطيمه، ولكن ماء السماء -أي الوحي- يعيده إلى منهج الله إنسانا سويا.

ولم يكتسب الإنسان تلك الصفات بين عشية وضُحاها، وإنما قطع المراحل من الماء والتراب إلى الطين، ثم الحمأ المسنون، ثم الصلصال حتى صار بشرا سويا.. في أحقاب طويلة. وفي الخطوات الأخيرة من هذه المسيرة التطورية كان أسلاف الإنسان -أي البشر البدائي- كائنات أشبه بالوحوش الأوابد، يسكنون الغابات وكهوف الجبال، وتحكم تصرفاتهم الغرائز الحيوانية البدائية: غريزة الحفاظ على الذات وغريزة الحفاظ على النوع. وكانوا يتعاملون مع بعضهم ومع غيرهم من منطلق تلك الغرائز، فكان القتل والسلب والعدوان والإفساد في الأرض نشاطا يوميا عاديا. وكان هذا الكائن البشري البدائي سريع الانفعال، شديد الاستجابة لغرائزه، يغلب على طبعه التأجج والثوران. كان كشعلة من نار السموم، يندفع اندفاع الرياح الساخنة. كما كان مخلوقا نافرا، لا يأنَس إلى غيره ولا يأتنس به غيره.. يميل إلى العزلة ليأمن من شر أعدائه، ويتربص بفرائسه.. كان جانّا.

وكانت عملية التسوية الإلهية في البشر تفعل فعلها يوما بعد يوم، وجيلا بعد جيل. وكانت خاصيتا التعلم والتأقلم في البشر أمضى أسلحته في هذا المسار، تعيناه على التقدم والارتقاء. ثم نمت فيه روح الجماعة، وبرزت ملكاته العظيمة الكامنة.. حتى بلغت ذروتها في الاستعداد لوحي السماء. وهكذا تأذن الله الخالق البارئ المصوّر أن يخرج إلى الوجود سيد المخلوقات.. ذلك هو (الإنسان)، الكائن الاجتماعي، الودود الأنيس، الذي قدّر له أن يصعد سلَّم الرقي قدما.. ويتعلم عن الله مباشرة، ويتأهل ليكون خليفة على الأرض. واستحق بذلك أن تسجد له الملائكة سجود تأييد وتكريم وخضوع معه لأمر الله تعالى من أجل تحقيق الهدف من خلقه. وهكذا جاء آدم ليكون الحلقة الأولى من سلسلة مباركة جليلة الشأن من الترقيات البشرية في جميع المجالات.. ماديا وفكريا وروحانيا. ولقد اختتمت السلسلة ووصلت ذروة جمالها وكمالها في شخص آدم الأعظم والإنسان الأكمل.. رسول الإسلام وحامل القرآن سيدنا محمد المصطفى .  (يتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك