الجن.. بين الحقيقة والخرافة (الحلقة السادسة)

الجن.. بين الحقيقة والخرافة (الحلقة السادسة)

محمد حلمي الشافعي

كاتب

وفي سورة (النمل) يقول الله تعالى:

وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ* (النمل: 11)

كعادة الأنبياء مر موسى (عليه السلام) بعديد من التجارب الروحية، ذكر القرآن بعضها. وهي من الوحي الذي يكلم الله به المصطفين من عباده. وفي هذه التجربة رأى موسى في الكشف – أثناء رحلة العودة مع أهله من سيناء – أن هناك نارا، فلما جاءها ناداه الله تبارك وتعالى، وأمره أن يذهب إلى فرعون لإنقاذ قومه بنى إسرائيل من نير فرعون واضطهاده لهم. ووهب الله سيدنا موسى آيات تؤيده في مهمته، وفي نفس الوقت تدله على كيفية القيام بها. وكانت عصا موسى واحدة من هذه الآيات، تعينه على إثبات صدقه.

وما يراه الرائي في الكشف هو من الأمور التي تحتاج أحياناً إلى تأويل وتفسير. وبيان هذا الكشف بحسب تأويل الرؤى كما يلي: النار تأويلها (المحبة الإلهية) وحرارتها، ففيها الدفء والهدية، تشعهما في كل اتجاه، فيتبارك من فيها ومن حولها. أما العصا فهي (قوم موسى) أي بنو إسرائيل. والجان – وهو الحية الصغيرة السريعة – ترمز لـ(عدو). ويبين الكشف أن موسى مكلّف بالعودة إلى قومه بني إسرائيل، لأنه إذا تركهم استمروا في فسادهم وحياتهم الشريرة، وظلوا أعداء لأنفسهم. ولكن إذا أخذهم وضمهم إلى رعايته انقلبوا عصا مباركة فيها النفع والخير، وليس من ورائها أذى. ومحبة الله تعالى سوف تشمل الجميع.. تبث فيهم دفء الحياة الصالحة، وتجعل منهم جماعة متألفة متآزرة من الأتقياء الصالحين.

فإطلاق اسم الجان على الثعبان يدل على أن الكلمة لا تطلق على الأرواح الشريرة فقط كما يتصور بعض الناس.. وإنما تطلق أيضا على الثعابين والحيات وغيرها من الدواب والحشرات المشابهة في اختفائها.

وبعد ذلك جاء في السورة نفسها –سورة النمل – قول الله تعالى:

وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (18)

تشير الآية إلى بعض النعم الإلهية التي تفضل الله بها على سليمان (عليه السلام)، إذ آتاه الله مُلكا كبيرا بمعيار زمانه، يقوم على حمايته جيش عظيم. كان جيشا منظما، جمع فيه كل القوى المتاحة له. فكان فيه فِرَق من المقاتلين الأشداء من قبائل الجبال المشهود لهم بالصلابة والبأس والمهارة القتالية العالية وهم (الجن)، وفرق من القوات ذات الحركة السريعة من الفرسان، أو من رجال المخابرات الذين يتراسلون ويتواصلون عن طريق الحمام الزاجل أو غيره.. وهم (الطير). ويمكن أن يكون (الجن) هم المقاتلون الخبراء في التمويه والتخفي، وذوي المهارات الخاصة في الإنشاءات أو بلغة عصرنا  ‘سلاح المهندسين ‘، و جسم الجيش من المشاة والفرسان. ثم السلاح الخاص من ذوي المؤهلات العليا في الفكر والعلم أو المستشارين – بلغة العصر – وهم (الطير). وإذا ربطنا بين هذه الآية وما جاء في سورة الأنبياء في موضوع مماثل:

وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ …. وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَٰلِكَ ۖ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (الأنبياء: 80-83)

يتبين لنا أن الجبال والطير كانت مسخرة مع داود والد سليمان (عليهما السلام). والتسخير هو الإجبار والإذلال أو الاستخدام بأجر أو بغير أجر. ولا مجال للجميع بين داود… الإنسان الملك النبي، وبين الجبال الجامدة والطير والأعجم.. والآية في معرض الحديث عما آتاه الله داود من الحُكم والعِلم، وليس في تسبيح الجبال والطير ما يقوي ويساند حكم داود أو يزيد علمه. ومثل هذا الأمر لا يكون تكريما يُذكر في مجال الحديث عن النعم التي يتمناها المسلمون ويعملون على اكتسابها. إن هذا المعنى يجعل من داود راهبا أو ‘درويشا’ يعيش في الجبال بين الوحش والطير.. ممسكا بمسبحة يتمتم بكلمات التسبيح لله تعالى، فتردد الجبال والطير تسبيحاته؛ هذه على فرض أنها تفهم قولَه، أو أن لها لغة يفهمها داود. المهم أن داود لو كان يفعل هذا ما نجح في أن يكوّن ملكا قويا ذا حكم وسلطان.. يشتغل بسياسة ملكه العظيم، ويبلغ رسالته كنبي معلّم لقومه، وهُم أولى بوقته من الجبال والطير.

الواقع أن تسبيح الله تعالى لا يصدر إلا من كائن مُدرك مُريد. والإنسان وحده هو المسبّح الحقيقي لله تبارك وتعالى. أما إذا نُسب التسبيح لغير الإنسان.. فإنما يكون بمعنى تسخير هذه الكائنات كي تُعين الإنسان وتحمله على التسبيح. فالملائكة الكرام يسبحون الله.. لأنهم جنده المنفذون لأمره، وما يقومون به يعكس في الكون كمالات الله تعالى، فيدركها الإنسان العاقل فيسبح الله. وتسبح الجبال وغيرها من الكائنات بمعنى أنها تكشف للإنسان ذي البصيرة كمالات خالقها وربوبيته الحقة، فيهتف مسبحا بحمده شاكراً لأنعمه. فقول الله تعالى:

وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم (الإسراء:45)..

يعني أن الإنسان إذا كان من أولي الألباب ونظر في خلق الله كله لتبين له بكل وضوح أن خالق هذه الكائنات إله كامل المحاسن منزه عن كل النقائض. ويتضح هذا من قوله تعالى:

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ .. (آل عمران:192).

والمراد بالجبال في الآية هم أهل الجبال، أي القبائل الجبلية المعروفة بشدة المراس. والتي تمكّن داود من إخضاعها والسيطرة عليها تحت حكومته بفضل الله تعالى ونصره (ومثاله قول الله في سورة يوسف: اسئل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها.. أي أهل القرية و أهل القافلة ). هذه القبائل الجبلية خضعت له وسارت وراءه توطيداً لحكمه، وعملا على نشر تسبيح الله. والعمل بشريعته تعالى في دولة بني إسرائيل الأولى. والطير هم علية القوم.. الخاصة من العلماء والمفكرين وأهل التقوى والصلاح الذين أعانوا داود على تسيير دفة الحكم، وتوطيد المنهج الإلهي في ربوع دولته. وبذلك كانت دولة بني إسرائيل في عهد الملك النبي داود( عليه السلام) دولة صالحة ، يتردد في جنباتها تسبيح الله تعالى وشكره على نعمتي الملك والنبوة.. وما يترتب عليهما من نعم أخرى جزيلة. هذا، ويخبرنا القرآن الكريم أن الكون بسمائه وأرضه وجباله وبحاره وطيره ووحشه وأنعامه.. كله مسخر للإنسان إلى يومنا هذا.. وأن بوسعه أن يجعله وسيلة لتسبيح الله تعالى إذا ما أحسن استخدامه في خدمة إخوانه في الإنسانية، وإذا أقام به حكومة الله في الأرض. فالتسخير لم يكن خاصا بداود وحده وإنما هو نعمة عامة للإنسان عبر الدهور. قال عز من قائل: وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه (الجاثية:14) والمراد بالشياطين الذين يغوصون ويعملون أعمالا أخرى..العمال المهرة وأهل الحرف، كالنجارين والبنائين والحدادين. فالشياطين تشمل الغواصين المهرة من أهل الخليج العربي الذين كانوا يغوصون لطلب اللؤلؤ والمرجان. وقد شرحت آيات سورة (ص) عملهم في قوله تعالى :

والشياطين كلّ بنّاء وغوّاص (ص:38)

فالشيطنة هنا تعني الخروج على المألوف، أي المهارة الزائدة في الحِرف والفنون. ولقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (( الراكب والراكبان شيطانان والثلاثة ركب )) (سنن أبي داود). وهذا يعني أن البعد عن المألوف والشذوذ شيطنة

ومن الشيطنة أيضا: العصيان والخروج على النظام، وهذا ما أشير إليه في قوله تعالى، تكملة للآية السابقة: وآخرين مقرّنين في الأصفاد (الجاثية: 29) وهؤلاء هم المتمردون على حكم سليمان، الذين مكنّه الله تعالى من قهرهم وسجن زعمائهم، والسيطرة عليهم وإدخالهم في خدمة مملكته.

وقد روى عن ابن عباس وعن ابن مسعود ومجاهد (رضي الله عنهم) أن الشياطين هم زعماء الفتنة، أي زعماء الثورات والانقلابات والاضطرابات والخروج على النظام. وكلمة ((الشياطين)) بمعنى زعماء الفتن وردت أيضا في قوله تعالى: وإذا خلوا إلى شياطينهم (البقرة)

ومجمل القول أن داود (عليه السلام) وجد المعاونة في أداء مهمته النبوية كداعية إلى عمارة الأرض وتسبيح الله تعالى .. ممن جعلهم الله في خدمته من القدوة والعلماء والصلحاء ومهرة الصناع. وقد اتسع ملكه وتوطد حتى استخدم الطير في نقل البريد والربط بين أجزاء دولته. ولقد أقام له العمال المهرة من المنشآت ما يُظهر مُلكه.. و بالتالي عظمة الله الذي بعثه نبيا وجعله ملكا مما يكشف للناس سبوحيّة الله و قدوسيته.

ولقد ورث سليمان أباه داود (عليهما السلام) في الملك، وجعله الله نبيا. وازدهر ملك بني إسرائيل ازدهارا عظيما في عهده، وكانت جنوده كثيرة العدد والعدة مرهوبة الجانب، موزعة على أسلحة متخصصة، منها سلاح المهندسين والإنشاءات وهم الجن، وسلاح المشاة وهم الإنس، وسلاح المخابرات والمستشارين والفرسان من قوله الله تعالى:

.. إذ عُرض عليه بالعشي الصافناتُ الجياد. فقال: إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي. حتى توارت بالحجاب* رُدُّها عليَّ. فطفق مَسْحاً بالسوق والأعناق.. (الجاثية:32_34)

فهو يهتم باستعراض الخيل الأصيلة وفحصها ويُعرب عن حبه لها حب الخير.. لأنها من أسلحة إعلاء ذكر الله. وعندما تختفي عن نظره يستعيدها ويكشف عن رفقه بها وسعة درايته بتعليمها.

أما اهتمامه بتدريب الطير واستخدامها وتفهم عاداتها وقدراتها فيبدو من قوله تعالى على لسان سليمان:

.يا أيها الناس علّمنا منطق الطير.. (النمل:17)

فعِلم منطق الطير أي لغته.. يعني أنه – بفضل الله – توفر لديه المختصون الذين يجيدون تدريب الطيور بحيث تفهم الطير ما يراد منها، وكأن رجاله والطير يعرفون لغة بعضهم البعض. ويمكن أيضا أن تكون الآية الكريمة إشارة إلى المستوى العلمي الرفيع، الذي توافر في شخصه وفي أهل العلم من رجاله. فالطير هنا قد تعني أيضا العلماء ذوي الفكر العالي والأدب الرفيع. أما علمه الغزير وتشجيعه لأهل العلم فتبين من قوله تعالى:

ولقد آتينا داود وسليمان علما.. (النمل:16)

وقوله:

وفهّمناها سليمان. وكلا آتينا حكما وعلما (الأنبياء:80)

أما اهتمامه بالإنشاءات ولبناء والسفن وما إلى ذلك فيبدو جليا من الآيات العديدة التي تتحدث عن عمليات الغوص والبناء والقدور الكبيرة لإطعام الجيش العظيم، والسفن الضخمة التي كانت تجوب البحار شهورا تنقل تجارته الواسعة.

ويظهر اهتمامه بالمخابرات عن البلاد المجاورة لملكه من تفقده المنتظم لعيونه الذين بثهم في الخارج ليأتوه بالأخبار، ومنهم ‘ الهدهد ‘، الذي كان عيناً له في بلاد اليمن، ولعله سُمي بهذا الاسم الحركي لمقدرته الكبيرة على النبش وراء الأخبار والأسرار الدفينة.

وكان والده داود (عليه السلام) قد أخضع الأقاليم الجبلية المجاورة، وحشد أهل العلم والخبرة في خدمته، واستخدم الطير في المخابرات والمراسلات، كما يتبين من قوله تعالى:

واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب* إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق* والطير محشورة كل له أواب (ص:18-20)

وتتبين قوة جيشه وهيبته مما قالته (النملة) تُحذِّر قومها – وهم قبيلة كانت تسكن واديا بين الجبال، سمي باسم وادي النمل، إما لكثرة مستعمرات النمل به، أو لأن القبيلة كانت كثيرة العدد وظاهرة تسمية الناس والقبائل بأسماء الحيوانات والحشرات كانت شائعة مثل أسماء: أسامة، وحيدر (اسمان للأسد) وأبو ذر (الذر :النمل) فحذرتهم المرأة الخبيرة من التعرّض لجيشه أثناء مروره بواديهم حتى لا يقضى عليهم دون جهد كبير.

ولا أحسب أن عاقلا يتصور أن حشرة النمل تستطيع أن تتعرف على الجيوش وقادتها وقوتها. أو أن النمل يصدر منه صوت أثناء اتصال أفرادها مع بعضها البعض، أو أن سيدنا سليمان يسمع هذه الأصوات ويدرك معانيها.. فليس هناك أي إشارة في القرآن تدل ذلك. كما أنها ليست معجزة لسليمان لأنه لم يشهدها أحد معه فتكون دليلا على صدقه مثلا. والناس يجوبون المناطق التي يسكنها النمل ولم يشهد أحد هروب النمل إلى مساكنها عندما يطأ الناس مناطقها. كما أن حديث النملة يدل على أنها عاقلة تخاطب جماعة العقلاء:

قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم.. لا يحطمنّكم

.. فواو الجماعة في ‘ ادخلوا ‘ والضمير (كم) للعقلاء. ونجد أن الله تعالى عندما تحدث إلى جماعة النحل – وهي حشرة مثل النمل – خاطبها بصيغة التأنيث:

اتخذي من الجبال بيوتا…كُلي من كل الثمرات…اسلكي سبل ربك ذُللا…يخرج من بطونها.. (النحل:69)

ولنتابع في هذه المناسبة بعض أحداث قصة سليمان (عليه السلام) لنحرر أفهامنا من بعض الخرافات التي دارت حولها. يحكي القرآن الكريم:

قال يا أيها الملأ! أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين؟* قال عفريت من الجن: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك. وإني عليه لقوي أمين* قال الذي عنده علم من الكتاب: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك.. (النمل:39-41)

تتحدث الآية عن ذلك العميل السري – أو ضابط المخابرات باصطلاح العصر – ‘الهدهد ‘، الذي اكتشف أخبار منطقة تسمى ‘سبأ ‘، ولعل أهلها كانوا من أهل اليمن الذين هاجروا إلى الشمال، وأطلقوا هذا الاسم على أرض مهجرهم كما هي عادة المهاجرين، وكانوا يعبدون الأجرام السماوية كالشمس والقمر، وكانت ترأسهم ونسوسهم سيدة. وكلف سيدنا سليمان هذا الضابط بالعودة إلى سبأ ليدس رسالة منه عند المرأة الحاكمة. وبعد تشاور وتحاور قررت المرأة أن تذهب مع وفد من رجال القوم لتزور سليمان فتصالحه وتهادنه. وعاد (الهدهد) إلى سليمان بالأخبار.

أراد سليمان أن يبهر المرأة القادمة بملكه العظيم، وما تحت يده من إمكانيات هائلة، ليكون ذريعة لإقناعها بنبويته وما أوتيه من حكمة وهدى؛ ومن ثم هدايتها إلى الدين القويم. ولتحقيق هذا الهدف طلب من خبرائه(الملأ) أن يصنعوا له عرشا يماثل عرشها الذي وصفه (الهدهد) بأنه عرش عظيم. فتقدم أحد المستشارين (من الجن)، وهو فنان ماهر (عفريت) واثق من مقدرته – فقال: أصنعه لك قبل أن تغادر مقامك في هذه المنطقة.. وعادة الملوك أن تكون لهم مقامات (قصور) في المواقع الهامة، يقضون فيها فترات تطول أو تقصر حسب مقتضيات الظروف. ولعل سليمان كان يتوقع وصول المرأة مع وفدها قبل ذلك بكثير، فلم يبد على وجهه علامة الموافقة. فتقدم مستشار آخر من أهل العلم والتخطيط، يجيد حسابات التشغيل وحشد مهرة العمال(عنده علم من الكتاب) وقال إنه يستطيع إنجاز المهمة قبل أن يعود رسول الملك من مهمته، وبذلك يكون العرش جاهزاً قبيل وصولها

قبل أن يرتد إليك طرفك ..

أي يرجع إليك رسولك.

وتمضي الآيات بعد ذلك تسرد الأحداث.. فتمت صناعة العرش، وحمد سليمان ربه، وطلب من رجاله أن يجهزوا صرحا من الزجاج يُجرون الماء من تحته. وجاءت المرأة، فشاهدت وأدركت الرسالة الضمنية فيما أعده لها سليمان، فآمنت بوحدانية الله تعالى وأسلمت له، ودخلت في دين سليمان.

أما الرسالة فقد كانت درسا عمليا ذكيا. عندما رأت المرأة الصرح حسبته ماء جاريا فشمّرت عن ثوبها، ولكن سليمان أفهمها أن ما ترينه ليس الماء.. وإنما هو زجاج يجري الماء من تحته. فأدركت المرأة الرسالة النبوية الذكية. لقد ضرب سليمان لها المثل الذي يوضح كيف أن الشمس ليست هي الإله المعبود، ولكن الإله الحق هو الذي يسيّرها ويسيّر الكون كله معها. إنه إله لا تدركه الأبصار لأنه فوق المادة وفوق الأبصار. إن المرأة رأت الماء ولم تر الزجاج لأنه شفاف لطيف، ولكنه موجود والماء يجري من تحته. وهكذا فهمت المرأة. واطمأن قلبها، وأسرعت تُبدي ندمها على ما فرط منها من عبادة لمظاهر قدرة الله الخالق، وأعلنت بيعتها لسليمان على عبادة الله وحده.

قالت: رب إني ظلمت نفسي. وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين (النمل:45)

والمثل العملي الذي ضربه سليمان للمرأة لا يزال صالحا لتوجيه أنظار أولئك الذين لا يؤمنون بالله، زعما منهم أنهم لا يعترفون إلا بما يقع تحت حِسّهم. إنهم هم أنفسهم يعترفون بوجود الجُزيء والذرة والإلكترون والموجات اللامرئية والكهربائية وغيرها.. يعترفون بوجودها على أساس من دراسات آثار وجودها في معاملهم ومختبراتهم. وها هو الكون كله.. مختبر هائل ليعملوا فيه عقولهم وعلومهم.. وفي وسعهم – إذا حرروا عقولهم من إسار التعصب والهوى – أن يروا يد القدرة الإلهية في ذرات الكون أو في عمالقة المجرات. إن من يتفكرون في خلق السماوات والأرض وما فيهن، وفي خلق أنفسهم وغيرهم من الكائنات.. ليرون الحكمة والعظمة والتنظيم والتدبير والرعاية والقوامة الكاملة.. التي لا تكون إلا لخالق واحد، ليس كمثله شيء، له الأسماء الحسنى.

(يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك