وسائل العلم.. أي العرفان الإلهي

السؤال الخامس

وسائل العلم.. أي العرفان الإلهي

ليكن واضحا أن المجال لا يسع قطعًا أن نذكر الآن كل ما قاله القرآن المجيد مفصلا في هذا الموضوع.. على أنني سوف أحاول الإلمامَ به على سبيل المثال.

اعلموا أن مدارج العلم بحسب القرآن الكريم ثلاثة كما ذكرناها فيما سبق عند تفسير سورة التكاثر، وهي: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. وقد قلنا هنالك أن علم اليقين هو معرفة شيء بواسطة شيء آخر لا مباشرة.. كما نستدل بالدخان المتصاعد على وجود النار. لم نر النار ولكننا رأينا الدخان ومن ثم عرفنا باليقين أن هناك نارًا. وهذه الدرجة من المعرفة تُسمى علمَ اليقين. أما إذا رأينا النار نفسها.. فهذه الدرجة تسمى عين اليقين حسب مصطلح القرآن الحكيم. ثم إذا اصطلينا بالنار صار علمُنا هذا في مرتبة حق اليقين وفقًا للتعبير القرآني. ولا حاجة لإعادة تفسير سورة التكاثر هنا، إذ يستطيع القرّاء مراجعة هذا التفسير في مكانه. واعلموا أن القسم الأول من العلم.. أي علم اليقين.. وسيلته العقل والنقل. يقول الله حكاية عن أهل الجحيم:

وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (الْمُلك: 11)..

أي سيقول أهل النار: لو كنا عقلاء، واختبرنا أمور الدين والعقائد بوسائل عقلية، أو أصغينا إلى أقوال العقلاء والباحثين الكاملين لما كنا اليوم في الجحيم.

هذه الآية تتفق في المعنى مع آية أخرى حيث يقول الله تعالى:

  لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا (البقرة: 287)..

أي أن الله تعالى لا يُكره النفس البشرية على قبول ما ليس في سعتها العِلمية، ولا يَعرض على الإنسان إلا العقائد التي في وسعه أن يفهمها.. حتى لا تكون أوامره من قبيل التكليف بما لا يطاق.

وتشير كلتا الآيتين أيضا إلى أن بِوُسْع الإنسان أن يتلقى علم اليقين بواسطة سمعه أيضا. فعلى سبيل المثال، نحن لم نـزُر لندن، وإنما سمعنا من زوارها بأنها مدينة من المدن، ومع ذلك هل نستطيع أن نشك في وجودها ظانين أن هؤلاء جميعا ربما يكذبون؟ وإننا لم ندرك زمن السلطان “عالمغير” ولم نر صورته، ومع ذلك هل انتابنا الشك مرةً في كون “عالمغير” أحد السلاطين “الجغتائين” المغول؟ فكيف حصل لنا إذن هذا اليقين؟ الجواب: بطريق السماع المتواتر فقط. فلا مراء في أن السماع أيضا يوصل الإنسان إلى مرتبة علم اليقين.

إن صحف الأنبياء كذلك وسيلة من وسائل العلم السماعي.. بشرط أن لا يكون هناك خلل في سلسلة روايتها. وأما إذا كان هناك كتاب يدعي أنه سماوي.. وله خمسون أو ستون نسخة مَثلا يناقض بعضها بعضًا، ثم اعتقد فريق من الناس أن اثنتين أو أربعًا من هذه النسخ صحيحة وما عداها موضوعة مزورة، فمثل هذا الاعتقاد الذي لم يُبنَ على البحث الكامل سوف يعتبر عند الباحث عبثًا لا قيمة له، وتكون النتيجة أن تلك الأسفار تعتبر رديئة غيرَ موثوق بها لما تنطوي عليه من التناقض، ولن يجوز مطلقا اعتبارُ مثل هذه الأقوال المتناقضة وسيلةً للعلم.. لأن تعريف العلم إنما هو ما يُكسب المعرفة اليقينية، ووجود المعرفة اليقينية في مجموعة من المتناقضات مستحيل.

 

مزية القرآن الكريم

ولنتذكر هنا أن بيان القرآن المجيد لا يقتصر على السماع فقط، بل إن فيه براهينَ عقلية عظيمة، وليس بين كل ما عرضه من عقائد ومبادئ شيءٌ فيه جبرٌ وتحكمٌ، بل إن جميع مبادئه وقواعده -كما ذكر الله فيه بنفسه- منقوشة في فطرة الإنسان. وقد سمى القرآن “الذكرَ” كما في قوله تعالى: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ (الأنبياء: 51).. أي هذا القرآن ذا البركة لم يأت بأمر مُحدَث، وإنما يُذكر الإنسانَ بكل ما هو مودَعٌ في فطرته، وما هو مرسوم في صحيفة الطبيعة.

ويقول في موضع آخر: لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ (البقرة: 257).. أي أن هذا الدين لا يُكرِه أحدًا على قبول شيء منه، بل يبين حقيقة كل أمرٍ مع أدلته.

وإلى جانب ذلك فإن في القرآن خاصيةً روحانية لتنوير القلوب.. كما يقول سبحانه وتعالى: وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ (يونس: 58).. أي بفضل خاصيته هذه ينـزع من النفوس أسقامها كلها.

لذلك فإن القرآن لا يمكن أن يسمى كتابا نقليا.. أي الذي يعتمد على النقل فقط، بل إنه يصطحب براهينَ عقلية من أعلى درجة، وفيه نور ساطع وضاء.

وبالإضافة إلى ذلك فإن الدلائل العقلية المستنبطة من مقدمات صحيحة أيضا توصل الإنسان – بلا ريب – إلى علم اليقين. وإلى ذلك يشير الله جل شأنه في قوله:

إنَّ فِي خَلْقِ السمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لايَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكرُونَ فِي خَلْقِ السمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (آل عمران: 191-192)..

أي أن الحكماء وأصحاب العقول حين يفكرون في تكوين الأرض والأجرام السماوية، ويُمعنون النظر في بواعث الظواهر الكونية.. كاختلاف الليل والنهار في القصر والطول، فإنهم يهتدون -بالنظر إلى هذا النظام- إلى دليل على وجود الله سبحانه وتعالى، فيطلبون من الله العون لمزيد من العلم والاكتشاف.. فيذكرونه قائمين وقاعدين ومستلْقين على جنوبهم، فتزداد عقولهم صفاءً وجلاءً. وعندما. وعندما يتدبرون بعقولهم الصنعةَ البديعة في الأجرام الفلكية والأرضية.. لا يملكون إلا أن يقولوا: إن هذا النظام الهائل المحكم كل الإحكام ليس عبثًا وبلا طائل، وإنما هو مرآةٌ تُرِي وجهَ الخالق. فيقرون بألوهية صانع هذا العالم، ويناجونه قائلين: ربنا، سبحانك وحاشاك أن ينكر أحد ذاتَك، فيصفها بما لا يليق بشأنك؛ فاحمِنا من نار الجحيم.. أي أن الجحود بك هو الجحيم عينها، وأن الراحة والطمأنينة كلها فيك وفي معرفتك. ومَن حُرم من معرفتك الحقيقية فإنما هو في النار وهو في هذه الدنيا.

 

حقيقة الفطرة الإنسانية

وكذلك من وسائل العلم الوجدانُ الإنساني الذي سمي في كتاب الله باسم الفطرة الإنسانية.. حيث يقول الله تعالى: فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا (الروم: 31).. أي أن الناس مخلوقون على فطرة الله سبحانه وتعالى. فما هو ذاك الطابع الفطري يا تُرى؟ إنما هو الاعتقاد بأن الله واحد، لا شريك له، وأنه خالق الكل، ومنـزه عن الولادة والموت.

وأننا نعتبر حكم الوجدان بمنـزلة علم اليقين.. لأنه – وإن كان لا يبدو في ظاهره الانتقالُ من علم إلى آخر كانتقال العلم بالدخان إلى العلم بوجود النار – إلا أنه في الحقيقة لا يخلو أيضًا من انتقال دقيق على نحو ما. وبيان ذلك أن الله قد أودع كل شيء خاصيةً مجهولة، لا يمكن أن يحيط بها الوصف والبيان، ولكن إذا نظر الإنسان إلى شيء أو تصوره.. انتقل الذهن فورًا إلى تلك الخاصية الموجودة فيه لما بينهما من تلازم شديد.. فتلك الخاصية تستلزم ذلك الشيءَ كما تستلزم النارُ الدخانَ. فمثلا عندما نتدبر في ذات الله تعالى، ونفكر كيف يجب أن يكون.. أينبغي أن يكون مولودًا كمثلنا، ويقاسي الآلام كمثلنا، ويموت كما نموت؟ فما أن يخطر هذا التصورُ عن الله تعالى ببالنا إلا وتتألم منه قلوبنا امتعاضًا، ويشمئز منه الوجدان ويثور عليه وكأنه يدفع هذا التصور بشدة.. وينادي قائلا: إن الإله الذي تتوقف جميع آمالنا على قدراته، يجب أن يكون منـزها عن العيوب والنقائص كلها، وكاملا وقويا. ما أن يمر بخاطرنا فكرة الإله إلا نشعر بوجود تلازمٍ كاملٍ بين الله ووحدانيته تلازُمَ النار والدخان أو أشد منه. وهكذا فإن العلم الحاصل لنا بطريق الوجدان يدخل أيضا في عداد علم اليقين.

ضرورة الوحي للعرفان الكامل

غير أن هناك درجةً أخرى من العرفان أعلى من هذه.. تسمى عينَ اليقين. والمراد به هو اليقين الذي لا يُبقي بيننا وبين الشيء الذي نوقن به أي واسطة. ومثال ذلك ما نشمه من رائحة زكية أو كريهة بحاسة الشم، أو ما نذوقه من الحلو أو المالح بحاسة الذوق، أو ما نحسه من الحرارة أو البرودة بالحس، فكل هذه المعلومات هي من قبيل عين اليقين.

وعِلمنا بغيبيات العالم الأخروي لا يبلغ درجةَ عين اليقين إلا إذا تشرفنا بالوحي مباشرة بلا واسطة.. وسمعنا كلامَ الله بآذاننا.. وشاهدنا الكشوف الإلهية الواضحة الصحيحة بأم أعيننا. إننا، ولا ريب، بحاجة إلى الوحي الرباني المباشر حتى نكتسب العرفان الكامل. وفعلا نجد في أنفسنا ظمأً وجوعًا لهذا العرفان الكامل. فلو لم يكن الله قد هيأ لهذه المعرفة أسبابها من قبل، لما كان سبحانه قد أوجد فينا جوعًا وظمأً لها. هل يكفينا في حياتنا هذه -التي هي المقياس الوحيد لذخيرتنا الأخروية- بأن نؤمن بذلك الإله الحق الكامل القادر الحي.. إيمانا لا يتجاوز القصص والحكايات فقط؟ أو أن نكتفي بمجرد المعرفة العقلية التي لم تزل حتى الآن معرفةً ناقصة غير كاملة؟ أَوَلا يودّ العاشقون الصادقون.. الذين تمَلّكَ حُبُّ الله قلوبهم.. أن يتمتعوا بكلام ذلك الحبيب؟ هل يمكن لأولئك الذين زهدوا في دنياهم كلها، وضحّوا بنفوسهم، وفدَوا بقلوبهم.. أن يقنعوا بالموت واقفين تحت بصيص ضوء خافت، ولا يتمكنوا من رؤية طلعة شمس الحق تلك؟ أوليس حقا أن نداء ذلك الإله الحي: “أنا الموجود” يمنح درجة سامية من العرفان، بحيث لو وضعنا نداء “أنا الموجود” في كفةٍ.. ووضعنا في كفة أخرى ما ألفه فلاسفة الدنيا كلهم في كتبهم من عند أنفسهم.. لم يبق لكتبهم وزن ولا قيمة أمام ذلك النداء؟ ماذا عسى أن يعلّمنا هؤلاء الذين لم يزالوا عميانا إن كانوا يُسمون فلاسفة؟

إذن فما دام الله قد أراد أن يهب لطلاب الحق العرفانَ الكامل.. فلا بد أن يكون سبحانه وتعالى قد ترك لهم باب المكالمة والمخاطبة مفتوحا أيضا.

قال الله جل شأنه في القرآن الكريم في هذا الشأن:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ،

والمراد بالإنعام هنا الإلهام والكشف وما شابههما من العلوم السماوية التي يؤتاها الإنسان مباشرة من لدن الله تعالى.

كذلك يقول الله في مقام آخر:

إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنّةِ التِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (فصلت:31).

لقد بين في هذه الآية أيضا بكلمات صريحة أن عباد الله الصالحين يتلقون الوحي من الله عندما يصيبهم الخوف والحزن، وأن الملائكة يتنـزلون عليهم ويطمئنونهم.

وفي آية أخرى يقول تبارك وتعالى:

الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ (يونس: 64-65)..

أي أن أولياء الله يتلقون البشارة بالوحي والمكالمة في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

(فلسفة تعاليم الإسلام)

Share via
تابعونا على الفايس بوك