الإسراء والمعراج (الحلقة الثانية)

الإسراء والمعراج (الحلقة الثانية)

محمد حلمي الشافعي

كاتب

الــمعـجزة

وينبغي أن نُشير هنا إلى أنّ لفظة (المعجزة) ليست مصطلحاً قرآنياً أو نبويّاً. وإنّما هي من وضع رجال العلم. وقد عرَّفوها بأنّها (العمل الخارق للعادة الذي يُجريه الله على يد مدَّعي النبوّة ليكون دليلاً أمام قومه على صدق دعواه).

وهذا يقتضي أن يتم هذا العمل أمام قومه. يشهدونه وهو يقع ويلمسون نتائجه بأنفسهم. وإلا فهو ليس بأمرٍ مُعجِز. فإذا ادَّعى شخصٌ أنّ أمراً حدث له وهو في خلوته – وكان ما يدَّعيه بعيداً عن المألوف وعمَّا حرت به العادات كان ذلك مدعاةً لتكذيبه، وللمكذبين عُذرهم في ذلك.

وأودُّ أن أُبيّن من الآن أن تكذيب واقعة وردت في القرآن الكريم أو الحديث الشريف لأمرٌ يوقع المكذِّب في غيابة الجهل وظُلمات الكفر. أمّا تكذيب أحداث الواقعة استبعاداً لحدوثها بسبب غرابتها أو صعوبتها فربما كان ذلك أشدّ جهالةً وأعظم كفراً.. لأنّ المولى تبارك وتعالى إذا أراد شيئاً فلا رادَّ لما أراد..

فلنترك هذا الافتراض ولا شأن لنا الآن بمن يُكذِّب الرسول أو يستبعد على الله – عزّ وجل – أمراً أراده. ولكن جديرٌ بنا أن نضع أعمال الله – جلّ وعلا – كلها هي من المعجزات.. بدءاً من جناح البعوضة إلى أعظم المجرَّات. فماذا بالله عليكم في هذا الكون ليس معجزاً لكل الكائنات؟ هل هناك شيءٌ في هذا الكون هو أبدعُ من خلق الله؟ إنّ من يرى في ما يسمُّونه خوارق شيئاً أكبر من شيءٍ آخر فهو لا يعرف لله قدره. إنّ كل صغيرةٍ أو كبيرة في هذا الكون معجزةٌ كاملة بالنسبة لكافة المخلوقات.. وعجْزُ الناس عن خلق خليّة أو ذرّة واحدة هو مساوٍ بنفس القدر عَجْزَهم عن خلق بحرٍ أو جبل أو قمر.

ولا بأس من أن نُكرِّر مرةً أخرى أنّ الآية الإلهيّة أو ما يسمُّونه معجزة لا يكون لها أي مغزى أو قيمة إذا كان شاهدها من جرت على يديه وحده. ذلك لأنّ المكذِّبين له سيُمعِنونَ في تكذيبه. والمصدِّقون له قد يُفتنُ بعضهم ويقع في التكذيب، أما الموقنون به فهم يُصدِّقونه من قبلها ومن بعدها ولا معنى لها بالنسبة لهم إذ أنّهم لم يشاهدوها بأنفسهم لتترك أثراً ما.

كما أنّ المعجزة – أو ما يعتبرها البعض معجزة – إذا لم تكن عاملاً بنّاءً في بيان صدق المدَّعي فإنّها تكون عملاً لا يتسمّ بالحكمة، لأنّها عندئذٍ تعتبر عقبة في سبيل المدَّعي وفتنةً شديدةً لقومه. إنّها لا تكون دليلاً واضحاً بل عاملاً مربكاً مُحيّراً.

ومما يُشار إليه هنا ما يزعمه بعض رجال الدين من أنّ هناك أموراً خارقة للعادة تشبه المعجزات، يسمونها (استدراجاً)، لأنّها تقع على يد الكاذب ليتمادى في كذبه.

الحقُّ إنّ مثل هذا القول افتراءٌ على الله الرحمن الرحيم الذي يُعامل الناس بالرأفة ولا يريد بهم التضليل والكيد. كما أنّ مثل هذا الاستدراج يوقع الأبرياء في خطأ لا حيلة لهم في اجتنابه.

يقول كثيرٌ من العلماء بأنّ القرآن الكريم هو معجزة رسول الإسلام الكبرى، وهذا قولٌ صحيح لأنّ القرآن – وإن كان بلسان العرب – إلا أنّهم لم ولن يستطيعوه، وإلى اليوم عاجزون أن يأتوا بمثله في نظمه وأسلوبه وجماله البياني. ولكن الأهم من ذلك، لهم ولغيرهم، أنّ العالمين جميعاً لا يستطيعون أن يأتوا بما في سورةٍ واحدة من سوره – طويلة أو قصيرة – من تشريعٍ كامل أو حكمةٍ بالغة أو تعليم رشيد أو مثلٍ دقيق أو عقيدة طاهرة أو تعريف بصاحب الملك والملكوت أو نبأٍ غيبي لا يتخلَّف.. أو .. أو.. مما نعلمه اليوم وما يتكشَّف لنا في الغد من كنوز القرآن التي لا تفنى وخزائنه لا تبلى.

إن حادثة الإسراء أو المعراج لو كانت بالجسد ما أضفت على مغزى الإسراء أو معنى المعراج مزيداً من الإعجاز.. ذلك لأنّ تحقّق ما أشارت إليه أحداث المعراج وتأويل ما ورد في واقعة الإسراء تطلَّبَ عَمَلَ آلاف مؤلفة من جند الله. إنّ روايات الحادثتين تحكي لنا انّ جبريل وملكاً أو اثنين هم الذين اشتركوا في واقعة شقّ الصدر ورحلة السماء ورحلة الأرض، ولكن الأحاديث تحكي لنا أنّ سبعين ألف مَلَك نزلوا مع سورة الكهف وعلى رأسهم مَلَك الوحي، يحرسون السورة حتى يتحقّق ما أشارت إليه من أنباء الغيب. بل إنَّ آلافاً من الملائكة نزلوا في معركة بدر الكبرى، ووعد الله بتأييد المؤمنين خمسة آلاف من الملائكة بعد معركة أُحد. وفي هذا ما يكشف لنا عن أحداث تطلّبت مدداً سماوياً أعظم بكثير مما تطلّبته حادثة الإسراء أو حادثة المعراج.

وإذن فالمسألة ليست مسألة صعوبة أو غرابة أو إمكان حدوث، فحياة الرسول زاخرة كل يوم بأحداثٍ جِسام، لا يمكن لإنسان أن يُحقّقها وحده ما لم تكن جنود العالَم العلوي في رِكابِه.

فمعركة الإصرار على كون الرحلتين بالجسد وإنكار الرحلة كليّةً معركةٌ باطلة بين طرفين لم يُدركا حقيقة المعراج وحقيقة الإسراء، ومن ثم راحا يضربان بالأدلة والبراهين التي قامت على مقدِّمات بعيدة تماماً عن واقع الأمر وحقيقة الأحداث.

إننا نقول لمن يُنكر هذه الواقعات: إنّها ليست أحداثاً جسديّة ماديّة فلا تتسرَّع بالإنكار، ولكنها إشاراتٌ روحانيّة تحمل إعجازاً أعظم بكثير مما تُنكره من حركات المادة. ونقول لمن يلحُّ على أنّها رحلاتٌ بدنيّة: رويدك فإنّك لا تُضفي على محمد المصطفى كرامةً ولا سموّاً. لأنّ ما تتوهّمه ليس في الواقع شيئاً يُذكر بجانب ما استحقّه من كرامةٍ ومنزلة، وليس من شأن هذه الحركات الجسديّة أن ترفع منازل المصطفين الأخيار، وإنّما هي شيءٌ كبير في عين أصحاب النظرة السطحيّة والهِمَمِ الضعيفة.

وقفةٌ بالأحداث

ولنتجوّل معاً في بعض الأحداث، ونتأمّل ما فيها من تكريم حسب فَهمِ أصحاب النظريّة الجسديّة. وإنّا لا نعيب على هؤلاء إلّا أنّهم لفرطِ محبتهم للرسول يريدون أن يخلعوا عليه من فهمهم ما يجعله على المستوى الذي ترسمه لهم مُخيّلتهم.. مُتناسين أنّه بشر.. وإن كان أكرم البشر، ومتغافلين عن وظيفة الرسالة التي يحملها أعظم الرسل .

ولنبدأ بحادثة شقِّ الصدر.. إذا كانت هذه حادثةً جسديّة ماديّة حقاً، فما يكون فضل الرسول على سائر البشر في مقاومة الشيطان.. واكتساب الحكمة والعدل والعلم؟ لقد أزالت الملائكة حظَّ الشيطان منه وغسلوا باطنه، وملأوا قلبه حكماً وعلماً دون كسب أو جهد من جانبه، فهل هذا يُكسبه فضلاً على أتباعه الذين جاهدوا حقَّ الجهاد لاكتساب التقوى؟

عفواً يا رسول الله.. فإنّك أطهر وأنقى وأحكم مَن ولدته أُم بحُسنِ عملك وجميل اتِّباعك لهُدر ربّك. بذلت من دمك وجسمك وروحك وملكاتك ما استحققت به أعظم شهادةٍ حصل عليها أحدٌ من خلق الله تعالى:

وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ..

شهادةً يحفظها لك القرآن المجيد وسُنّتك الطاهرة وسيرتك العبقة، وترويها الأجيال جيلاً بعد آخر. إنّ حكمتك وعلمك وطُهرك لا يكفيها طستٌ أو بحر، ولكنها جهادُ عمرك لحظةً بلحظة ويوماً بيوم وحركةً بحركة صلّى الله عليك حقّ الصلاة.

يقول المفسرون المحدثون.. إنَّ الرسول بعد أن ماتت زوجته السيدة خديجة عليها السلام ثم عمّه أبو طالب، وبعد اشتداد قريش له، وبعد رحلته إلى الطائف التي لقي فيها منهم أسوأ استقبال وأسوأ رد.. أراد الله تعالى أن يُطيّب خاطره ويجبر كسره، فأخذه إلى رحلةٍ في الملكوت الأعلى بصحبة جبريل، حيث اجتاز السموات السبع ولقيَ بعدها ربّه.

أين الترفيه؟

إنّه لقولٌ طيب، يترك في نفس المسلم أثراً  رائعاً ويتضمَّنُ في ذات الوقت حقيقة واقعة. ولكنها غير ما أراده المفسِّرون بقولهم. فإنّ الرحلة الجسديّة تُرضي الإنسان العادي، الذي يجد متعته في تغيير المكان، ومشاهدة أماكن جديدة، ورؤية مناظر الطبيعة التي تُريح بصره، وترفّه عن ملَلَه وتعبه، كما يذهب أحدنا إلى المصيف أو المشتى. لو كان المصطفى من هذا الصنف من الناس – وحاشا له أن يكون منهم – فما أحسبه رأى في هذه الرحلة لو كانت رحلةً جسديّة – أي نوعٍ من الترفيه. فقد شاهد مناظر تقشعرُّ لها الأبدان. من عُصاةِ أمته الذين تقرض ألسنتهم بالمقاريض، ومن يأكلون اللحم النيء الخبيث، ومن يأكلون الضريع والزقُّوم الخ.. فأيُّ ترفيهٍ هذا؟

وإذا كانت الرحلة للتكريم، فمن رأى؟ جبريل؟ إنّه يلقاه كل يوم. الأنبياء السابقين؟ إنّهم هم الذي يُكرَمونَ برؤيته. ربُّ العزة تبارك وتعالى؟ وهل هناك مكانٌ أو موقع للقاء الله ورؤيته أيها الناس؟ إننا لا يليق بنا ان نقول إنّ محمداً يلقى الله تعالى بل إنّه معه في كل حين.. متى غاب عنه حتى يراه؟ فأين التكريم وهو ينهل منه في لحظات حياته المباركة بلا حساب.

يقولون كانت الرحلة لترضيته! وهل لابدَّ من مغادرة الأرض لبضع ساعات أو لحظات ليُرضي الله محمداً ؟ هل نسيتم أيها الناس علاقة محمد بربّه؟ هل تذكرون دعائه: (إذا لم يكن بكَ غضبٌ عليَّ فلا أُبالي). إنّ محمداً لا يأبه لكل مصاعب الدنيا وإهانات الغوغاء وجهل الجاهلين ما علِمَ أنّ الله راضٍ عنه. ولقد علِمَ ذلك في التوِّ واللحظة. ألا تذكرون ملَكَ الجبال عندما جاءه يبلغه التحية من الله جلّ وعلا، ويعرض عليه تدمير قرية الشرك.. قرية الطائف؟! هل تذكرون جوابه.. ورحمته ورجاءه في أن يؤمن قومه؟ هل تنبَّهتم إلى معدن هذه النفس الطاهرة؟ هل تُرضيها رحلةٌ ليليّة يرى أثناءها بعض المشاهد الرمزيّة؟

والحقيقة أنّ الرحلة السماويّة كانت فعلاً للتكريم والترفيه والترضية، لا لمحمّدٍ وحده وإنّما لأمته لمن معه ولمن بعده. لقد كانت آيةً سماويّة له يشهد صدقها بنفسه ويشهد صدقها صحابته ومتّبعوه عبر الدهور. كانت معجزة رائعة، لا لأنها حركة بدنيّة لجسدٍ واحد من البشر بين الأجرام الهائلة العدد تعبر أجواز الكون المحكم العظيم.. بل لأنّها جاءت حقاً وصدقاً وواقعاً ملموساً في مجملها وتفصيلها. وسيتضح لنا ذلك عندما نتناول أحداث المعراج.

نعود إلى موضوع الكشوف والرؤى.. التي هي وحي الله في هيئة صور ومرائي وهي على ثلاثة أنواع:

الأول: ترى الأشياء والأمور مثلما تكون في العالَم المادي دون تبديل.

الثاني: تكون بعض المشاهد بحاجة إلى تأويل وتعبير.

الثالث: تكون كل المشاهد بحاجة إلى تأويل وتعبير.

ضرورة تأويل الأحداث

وسترى من تدبُّر ما ورد في أحاديث العروج والإسراء أنّ الحادثتين كانتا من قبيل الكشف لأنّ الكثير من تفاصيلهما تستلزم التأويل حتما.

رُويَ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّه قال: كان أبو ذرّ يحدّث رسول الله قال: فُرِجَ سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل، ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطستٍ من ذهب ممتلئ حكمةً وإيماناً. فأفرغهما في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعَرَجَ بي إلى السماء. (مسلم)

   ورُويَ ِأيضاً عن أنس أن رسول الله أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ – يَعْنِي ظِئْرَهُ – فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ، قَالَ أَنَسٌ: وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ. (مسلم)

  لندع جانباً الخلاف الثانوي بين الروايتين، ولنتدبَّر النقطة الجوهريّة، أعني واقعة شقّ الصدر والطست، وهنا نتساءل: ما هي تلكم العلقة، وما علاقتها بحظِّ الشيطان؟

إنَّ الشيطان كما نعلم ونفهم من القرآن يأمر بالفحشاء ويسعى لتضليل الناس ويزين لهم العداوة والبغضاء وما إلى ذلك من الشرور، وكل هذه الأمور ليست بالأشياء الماديّة التي تشغل جانباً من قلب الإنسان العضوي، وليست مما يُزال بالغسيل من ماء زمزم. وهكذا نقول عن الحكمة والإيمان الذين كانا في طستٍ من ذهب وأُفرِغا في قلبه عليه السلام.

ولا مناص من الإقرار بأنّ هذه الواقعة كانت كشفاً يرمز إلى معنى سامٍ، إذ يُصوِّر لنا مدى ما توفّر للرسول من حفاظةٍ محكمة من أيّة مؤثِّرات أو نوازع سيئة بفضل ما أُوتيَ مِن حكمةٍ سماويّة وإيمانٍ ثابتٍ قويم.

ومما يسترعي الانتباه أنّ الروايتين السابقتين لشخصٍ واحد؛ هو أنس بن مالك رضيَ الله عنه، وأنّ شقَّ قلب الرسول في إحدى الروايتين لشخص وهو صغير يلعب، وفي الرواية الأخرى وهو في بيته في مكة، مما جعل العلماء مثل الحافظ الذهبي يرى أنَّ هذا الامر حدث مرتين.

وقد رُويَ عن أنس بن مالك أيضاً أنّ رسول الله قال: (أُتيتُ، فانطَلَقوا بي إلى زَمزَم، فَشُرِحَ عن صَدري، ثُمَّ غُسِلَ بِماءِ زَمزَم ثُمَّ أُنْزِلت. (مسلم) ، وهنا لا ذكر للطست الذهبي؛ والغسل حدث عند زمزم.

كذلك تعرَّضت الروايات العديدة لكيفيّة الانتقال. فقيل إنَّ جبريل أتى بالبُراق إلى الرسول ، وهو دابةٌ أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل، حافره عند منتهى طرفه (البخاري ومسلم). وفي رواياتٍ أخرى اكتفى بأنّه دابةٌ أبيض.

ورُويَ عن رسول الله أنّ جبريل أخذ بيده فعرج به إلى السماء الدنيا (البخاري ومسلم)؛ وهنا يبدو أنّه مضى دون حاجة إلى دابةٍ يركبها.

وكذلك اختلفت الروايات في وصف جبريل .. فعن ابن الزبير عن جُبير أنّ الرسول قال: إنّه رأى جبريل يشبه دُحْية أو ابن رمح دحية بن خليفة (مسلم).

ورُويَ أنّ ذرّ بن حُبيش سُئِلَ عن قول الله تعالى (فكان قوب قوسين أو أدنى) فذكر ابن مسعود قال: إنّ النبي رأى جبريل له ستمائة جناح، وفي رواية أخرى: رآه في صورته له ستمائة جناح. (البخاري ومسلم)

ورُويَ عن عائشة عليها السلام أنّها سُئِلت عن قوله تعالى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى… الآية فقالت: إنّما ذلك جبريل. كان يأتيه في صورة الرجال، وأنّه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته، فسدَّ أُفق السماء. (مسلم).

وجديرٌ بنا ألّا نفهم من اختلاف الروايات أنّها باطلة يمكن طرحها جانباً أو إنكار كل ما جاء فيها عن المعراج أو الإسراء. فهذا تسرُّعٌ في الحكم دون تبصُّر، فإنّ من الممكن التوفيق بين بعض الاختلافات، كما أنّ مؤلفيها جماعة من المشهود لهم بالعلم والخلق، والمعروفين بالحرص الشديد على الاستقصاء والتدقيق. وغاية ما يمكن قوله عن تلكم الأحاديث التي وردت في المراجع الرئيسية بصفة عامة أنّ الذاكرة قد تخون راوياً من سلسلة الرواية فينسى جزءاً من تفاصيلها، أو يقدِّم أو يؤخِّر ترتيب بعض جزئيّاتها، فيحدث في الرواية نوعٌ من القلب، أو قد يخطئ الناسخ في النقل.. وهذا أمرٌ نجده في الكتب المطبوعة في عصرنا هذا على الرغم من توفر أسباب الضبط والتصحيح والمراجعة. ولا ننسى أنّ هذه الروايات كانت تُروى ويتناقلونها في أغلب الحالات بالمعنى لا النصّ.

ولنُلقِ نظرةً أخرى على ما رُويَ عن المطيّة التي ركبها الرسول في سفره الروحاني. فبالإضافة إلى ما رويناه من الروايات عن البُخاري ومسلم والحافظ الذهبي فقد رُويَ في تفسير الدرِّ المنثور: (أُتيتُ لَيْلَة أُسْرِيَ بِي بِدَابَّة فَوق الْحمار وَدون الْبَغْل، خَطُوهَا عِنْد مُنْتَهى طرفها، كَانَت تُسخَّر للأنبياء قبلي).

وأخرج البيهقي عن أبي سعيدٍ الخُدري أنّ أصحاب الرسول قالوا له: يا رسول الله، أخبِرْنَا عن ليلة أُسريَ بك.. وقال فيه..: (فإذا أنا بِدابّةٍ يُقَال لَهُ الْبراق وَكَانَت الْأَنْبِيَاء تركبه قبلي. يَضعُ حَافره عِنْد مدِّ بَصَره، فركبته).

وروى البيهقي أيضاً في حديثٍ طويل قال  ثم أتيت بالمعراج الذي تعرج عليه الأرواح، فلم ترَ الخلائقُ أحسنَ مِنَ المِعراج). (تاريخ ابن عساكر)

فَحملُ واقعةِ ركوب البُراق على المعنى الظاهر يعني أنّ الأنبياء أيضاً عُرِجَ بهم بالجسد العنصري، وكانت الدابّة تحمل المؤمنين الصالحين بأرواحهم!! وهذا نوعٌ من الخلط يبعث على التساؤل ويُثير الاعتراضات.

وأخرج ابن حنبل وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل وأيضاً المختار بسندٍ صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (ليلة أُسرِيَ برسول الله دخل الجنة فسمِعَ في جانِبها حسَّاً، فقال لجبريل: ما هذا؟ فقال: هذا بلال المؤذِّن. فقال النبيُّ حين جاء إلى الناس: قد أفلَحَ بلال، رأيتُ كذا وكذا). (الدرّ المنثور)

هذا وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما حديثاً مشابهاً يتضمَّنُ وجود بلال رضي الله عنه في الجنة وغن لم يردِ فيه ذكر المعراج.. فعن أبي هريرة رضيَ الله عنه أنّ النبيَّ قال لبلال عند صلاة الفجر: (يا بلال، حدِّثني بأرجى عملٍ عملته في الإسلام.. فإنّي سمعتُ دفَّ نعليكَ بين يدي في الجنة. قال: ما عملتُ عملاً أرجى عندي أنّي لم أتطهَّر طهوراً في ساعة ليلٍ أو نهار إلا صلّيتُ ما كُتبَ لي أُصلي).

دفّ نعليك، رواية البُخاري، خشف نعليك، رواية مسلم، والمعنى تحريك مشيك وصوته.

فو سلّمنا جدلاً بأنّ المعراج كان بالجسد العنصري فكيف ذهب بلال المؤذِّن إلى الجنّة مع أنّه كان نائماً في مكة؟ وهل هو أيضاً عُرِجَ به إلى السماء ليلة معراج الرسول ؟

الواقع أنّ تصوّر حدوث الإسراء أو المعراج بكيفيّة ماديّة يتعارض تماماً مع ما تضمَّنته الروايات العديدة من وقائع وصفات تنطق من نفسها بأنّ الحادثتين كانتا كشفاً روحيّاً.

وقد أورد ابن كثير في تفسيره نقلاً عن ابن جرير مايلي:

(لمّا جاء جبريل إلى رسول الله بالبُراق، فكأنّها حرّكت ذنبها، فقال لها جبريل: مَهٍ يا بُراق، فوالله ما ركبك مثله. وسار رسول الله ، فإذا هو بعجوز على جانب الطريق، فقال: ما هذه يا جبريل؟ قال: سِرْ يا محمد. فسار ما شاء الله أن يسير، فإذا شيءٌ يدعوه متنحياً عن الطريق، فقال: هلُمَّ يا محمد، فقال له جبريل: لا تلتفت إليه. فسار ما شاء الله أن يسير، فقال: فَلقيهُ خلقٌ من خَلْقِ الله فقالوا: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر، فقال له جبريل: أُرددْ السلامَ يا محمّد،  فردَّ السلام …. حتى انتهى إلى بيت المقدس، فعُرِضَ عليه الخمر والماء واللبن، فتناول رسول الله اللبنَ، فقال له جبريل: أصبتَ الفطرةَ، ولو شريتَ الماءَ لَغرِقتَ وغرِقتْ أُمتك، ولو شرِبتَ الخمرَ لَغَويتَ وغَويتْ أُمتك..

ثم قال جبريل: أما العجوز التي رأيتَ على جانب الطريق فلم يبقَ من الدنيا إلا كما بقيَ من عمر تلك العجوز، وأما الذي أراد أن تميل إليه فذلك عدوُّ الله إبليس أراد أن تميل، وأما الذين سلّموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام).

وفي روايةٍ أخرى قيل إنّ ما قُدِّمَ للرسول كان خمراً ولبناً وعسلاً، وقيل كذلك أنّهما اللبن والعسل، وفي رواياتٍ أخرى: خُيِّر النبي بين اللبن والخمر، وبعض هذه الروايات قُدِّمَ فيها ذكر الخمر على العسل (راجع البخاري وابن حنبل وابن كثير ودلائل النبوّة للبيهقي). ولكن الثابت في هذه الروايات المختلفة أنّ النبي اختار اللبن.

ويبدو أنّ الحديث الأول – الذي ذكر الأشربة الثلاثة، وبترتيبهما الوارد فيه الماء فالخمر فاللبن – هو الأولى بالاعتبار، ذلك لأنّ هذه الروايات تتضمّن ثلاثة أشربة تقابل ثلاثة أمور رآها الرسول في طريقه إلى بيت المقدِس؛ فالمرأة العجوز أوّلها جبريل بالدنيا وقُرب نهايتها، وكذلك الماء يعبّر عن الدنيا إذ أنّ حياة كل شيء حيّ فيها يتوقف على الماء وتؤدّي ندرته إلى القحط والهلاك، كما قال تعالى:

وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (أنبياء 31).

وذلك الذي نادى الرسول أوّله جبريل بأنّه إبليس، وكذلك عبّر جبريل عن امتناع الرسول عن شرب الخمر بأنّه نجّى نفسه وأمته من الغواية.. فإبليس والخمر مشتركان في الغواية وقد قال تعالى:

إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ (المائدة: 91).

أما اللبن فهو شرابٌ فطريّ طاهر وغذاءٌ رئيسي يشربه الطفل مدفوعاً إليه بفطرته النقيّة التي براه الله عليها؛ لونه البياض مثلٌ للصلاح والفلاح… وقد عبّر جبريل عن شربه بأنّه إصابةٌ للفطرة ويناسب ذلك لقاء الرسول للأنبياء وسلامهم عليه وردّه عليهم. وفي ذلك إشارةٌ إلى أنّ أمته ستُصانُ من الهلاك ولا يُقطع عنها غذاء العلوم الإلهيّة الروحانيّة الطاهرة.

ولردِّ على من يعترض أنَّ جبريل بدأ تعبيره بالحديث عن اللبن وقد ذُكر آخراً.. نقول بأنّ تأويل اللبن يحمل خبراً ساراً فبدأ به ليبشِّر الرسول ويطمئنه على أمته قبل ان يذكر له تأويل الخمر والماء..

ومن الشواهد الدالة على أنّ رحلة الإسراء لم تكن بالجسد العنصري تلك المشاهد التي احتاجت إلى التعبير.. والتي قَبِلَ بها الرسول دون اعتراض.. فلم يقل لجبريل مثلاً: كيف تفسّر لي العجوز بأنّها الدنيا مع أنّي أراها بعيني رأسي امرأةً عجوزاً.. لقد اقتنع بتفسير جبريل لأنّه يعلم بانّ ما يراه ليس من قبل الرؤية الحسيّة بالعينين وإنّما أمرٌ روحي من عالم الكشف.

ولو قلنا غير ذلك لكان التعبير – لا سمح الله – لغواً لا معنى له، فلم نسمع ولم نقرأ في كتب الله مثلاً أنّ الدنيا امرأةٌ عجوز. وليس من المعقول أنّ من يشرب الماء يغرق أو يُقضى عليه بالغرق. لقد كان رسول الله بعد ذك يشرب الماء ولم يحرّمه على أتباعه، ولم يغرق ولم يغرق أتباعه.  وهل اللبن هو الفطرة والهداية؟ الكفار يشربون اللبن ربما أكثر من المؤمنين. ومع ذلك لم يهتدوا. ولا أعتقد أنّ أحداً يختلف معنا في أنَّ هذه المشاهد كلها كانت من قبيل الكشف الروحي ولم تكن واقعاً مادياً. ومن ثم فكيف تكون الرحلة بالجسد المادي وكل ما يجري فيها من قبيل الرؤى والكشف؟

وما معنى أن يتحرّك الجسد أو ينتقل من موضعه إذا كان في عالم الرمز، ولن يكون للجسد المادي دورٌ ما فيما يجري من أحداث؟

(يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك