في رحاب القرآن
وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(125).

وقوله تعالى (قال ومن ذريتي. قال لا ينال عهدي الظالمين). عندما قُطع لإبراهيم الوعد عن مستقبله، فكر أني ما دمت سأكون نموذجا للناس من بعدي، فيجب أن يكون هناك سبيل لهداية ذريتي، فقال: إلهي، أسألك أن تستُر أولادي أيضًا بيد رحمتك. فقال تعالى: حسنا، ولكن عهدي هذا لن يصل إلى الظالمين. ولا يعني ذلك أن كل ذريته ستكون ظالمة، وإنما يعني أن الأولاد على قسمين: قسم يكون ظالما، وقسم يكون مسلما مطيعا. ونفى الله وعده عن الأولاد الظالمين، وأقر استمرار النعمة في أولاده المطيعين.

و(عهدي) يمكن أن يُفسّر بطريقين؛ الأول: العهد بمعنى المعهود، أي أن هذا الشيء الذي أعدك به لن يناله الظالمون، والثاني: أنني لا أقطع أي عهد للظالمين، وإنما أقطعه لغير الظالمين.. أي الأمة التي تكون ظالمة في مجموعها سوف أنـزع منها سلسلة النبوة.

يتبين من هذه الآية أولا: أن الله وعد إبراهيم أنه سوف يجعله إماما، وثانيا: أن إبراهيم التمس من الله تعالى أن يُوسع هذا الوعد لأولاده أيضًا، فوعده بذلك وعدا مشروطا، وقال له إن بعض أولادك سوف يتمتعون بهذا العهد، ممن لم يحرموا أنفسهم من هذه النعمة بسبب ظلمهم القومي. فما دام بنو إسرائيل مستحقين وفّى الله معهم هذا العهد، وعندما أصبحوا كقوم غير جديرين بالوفاء لهم بنعمة هذا العهد نقله الله منهم إلى الفرع الثاني من أولاد إبراهيم – وهم بنو إسماعيل.

لقد ذكرت التوراة أيضًا أن هذا العهد كان مشروطا، فقد ورد فيها قول الله تعالى لإبراهيم: (وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالكم عهدا أبديا. لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك. وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكا أبديا. وأكون إلههم. وقال الله لإبراهيم: وأما أنت فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك. يختتن منكم كل ذكر. فتختتنون في لحم غرلتكم. فيكون علامة عهد بيني وبينكم. ابن ثمانية أيام يختتن منكم كل ذكر في أجيالكم. وليد البيت والمبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك. يختتن ختانا وليد بيتك والمبتاع بفضتك. فيكون عهدي في لحمكم عهدا أبديا. وأما الذكر الأغلف الذي لا يُختن في لحم غرلته فتُقطع تلك النفس من شعبها. إنه قد نكث عهدي) (تكوين 7:17-14).

يتبين من هذه الفقرات أن العهد الذي عهده الله مع إبراهيم في أولاده كان مشروطا، وكان علامته الظاهرة الاختتان، وقد قيل فيه بوضوح تام لإبراهيم إن أولاده الذين لن يعملوا بحسب هذا العهد لن يكون لله معهم عهد، ولن ينالوا تلك النعم التي وُعد بها إبراهيم في هذا العهد.

إن العلامة الظاهرة للعهد، أي الاختتان، استمر في بني إسرائيل إلى زمن عيسى، وورثت هذه الأمة نعم الله إلى ذلك الوقت. ولكن عندما جاء عيسى خرج الكافرون به من دائرة المنعم عليهم من بني إسرائيل، ولم يستحق هذه النعم إلا المؤمنون به. ولكن هؤلاء أيضًا أخلفوا الوعد وتركوا التمسك بالعلامة الظاهرة لهذا العهد وهي الاختتان. إذن فجزء من هذه الأمة حرم من هذه النعم بسبب رفضهم لعيسى، أما الذين آمنوا به فقد حرموا أنفسهم من هذه الأفضال الإلهية بتركهم الاختتان واعتبارهم الشريعة لعنة، فانتقل هذا العهد من بني إسحاق إلى بني إسماعيل.

وأرى أن نفس الأمر قد ذكر في هذا المكان بأن منصب الإمامة لن يناله بنو إسحاق، لأنهم كجماعة صاروا ظالمين. نعم سيناله بنو إسماعيل لأنهم كجماعة لن يكونوا ظالمين.. بل سوف يكون في كل زمن أناس يؤمنون بنـزول وحي الله فيهم، ولأجل ذلك جُعل النبي إماما لكل العالم. ومن بين أمته قد وُهب هذا المنصب والمقام في هذا الزمن لسيدنا المهدي والمسيح الموعود.

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (126).

شرح الكلمات:

مثابة – المثابة مُجْتَمَع الناس بعد تفرقهم (الأقرب). وهي المكان الذي يكتب فيه الثواب (المفردات)، أي ذلك المكان الذي إذا زاره الإنسان أثيب عليه.

المثابة هنا إما أنها مفعول ثان، أي صيَّرنا البيت مثابة؛ أو أن المثابة حال.. أي جعلنا البيت حال كونه مثابة للناس، بمعنى: جعلنا الكعبة – وهي تتضمن في نفسها خصوصيات لأن تكون مثابة.

أمنا – الأمن: طمأنينة القلب؛ سلامة من الخوف. والإنسان عندما يكون محفوظا من الأخطار الظاهرة، ويكون قلبه مطمئنا.. فهذا هو الأمن الكامل.

من – لها عدة معاني، ووردت هنا في قوله تعالى (من مقام إبراهيم) بمعنى التبعيض أو أنها زائدة (معجم النحو للدقر ). ولا يعني قولنا زائدة أنها لا تحمل معنى، وإنما (زائدة) اصطلاح نحوي يفيد أنها لا تستعمل بمعناها العام، وإنما وردت للتأكيد. و(من) هنا جاءت لتأكيد فعل (اتخذوا).

مُصَلّى– هو مكان الصلاة.

عَهِدَ– أوصاه وشرط إليه (الأقرب). و(عهد إليه) ألقى إليه العهد وأوصاه بحفظه (المفردات). فالمعنى أننا أوصينا إبراهيم وإسماعيل وفرضنا عليهما الالتزام بهذا الوعد.

الطائفين-الطائف الذي يزور مكانا ما مرارا، أو يمشي حوله (المفردات).

العاكفين-العاكف من يُقبِل على شيء ويلازمه على سبيل التعظيم، ومنه الاعتكاف (المفردات).

الركَّع– جمع راكع، وهو الذي يركع أو الذي يتمسك بالتوحيد (المفردات).

السجود– جمع ساجد، ومعناها الذي يسجد، أو الذي يطيع طاعة كاملة (الأقرب).

التفسير:

البيت هو اسم للكعبة المشرفة. ويقال لها البيت لأنها تتضمن كل خواص البيت. ومثال ذلك قولنا: زيد الرجل.. والمراد أن زيدا يحمل كل الخصال التي يمكن أن توجد في شخص عاقل. فما هي خصوصيات البيت؟

أولا – يحفظ من السرقة والنهب،

ثانيا – مكان إقامة دائمة،

ثالثا –يحفظ مال الإنسان ومتاعه،

رابعا – يجمع الأقارب والأعزاء،

خامسا –مكان آمن إذا دخله الإنسان نجا من المصائب.

ولو تدبرنا في هذه الخصوصيات الخمس لوجدناها متوفرة في الكعبة المشرفة، فهي تستحق في الواقع أن تسمّى بيتا. فلو أخذنا معنى الحفاظة – فإن الناس يدمرون القلاع الحصينة ويفنون سكان المدن الكبيرة.. ولكن الكعبة المشرفة تتميز بأن الله تعالى وعد بحفظها على الدوام. كل من أراد أن يهاجمها شلّ الله يده أو كسرها. وما حدث لأبرهة مثال باق للأبد على ذلك.

كان أبرهة حاكما على اليمن من قبل الحكومة المسيحية في الحبشة، وأراد أبرهة أن يدمر الكعبة المشرفة ليُكْرِهَ العرب على الحج إلى كنيسة في صنعاء بدل الحج إلى بيت الله الحرام، كي تنتشر المسيحية بينهم. وعندما اقترب من مكة بجنوده بعث رسولا له إلى أهل مكة يخبرهم أني ما جئت إلا لهدم الكعبة ولا أُكِنّ لكم أي عداوة، فإذا خلَّيتم بيني وبينها فلن أمسَّكم بسوء، وسوف أعود إلى بلدي بعد هدمها.

وعندما وصل رسوله إلى مكة سأل أهلها: من سيدكم؟ فقالوا: عبد المطلب. فجاء إليه وأبلغه رسالة أبرهة. فقال له سيدنا عبد المطلب: ما دام أبرهة لم يأت لحربنا فنحن أيضًا لا نريد محاربته. أما هذا البيت فهو بيت الله الذي وعد بحفظه، فإذا شاء أن يحمي بيته فهذا شأنه، أما نحن فلا نملك محاربة أبرهة وجنوده. فقال رسول أبرهة: إذا كنتم لا تريدون الحرب فلماذا لا تصحبني لمقابلة أبرهة، لأنه يريد مقابلة أحد رؤساء مكة، وهذا يسُرُّه وقد يكفه عن هدم الكعبة.

فاصطحب عبد المطلب بعض الرؤساء وأولاده وخرج للقاء أبرهة. وتأثر أبرهة بلقائه وعبّر له عن سروره بهذا اللقاء، وطلب منه أن يذكر له حاجته. فقال عبد المطلب: لقد استولى رجالك على إبل للمكيين فيها مائتان تخصُّني فردّها عليّ. وعندما سمع أبرهة ذلك اغتاظ وقال: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدتُ فيك حين كلمتني. أتكلمني في مائتي بعير أصبتُها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئتُ لهدمه.. لا تكلمني فيه! قال عبد المطلب: أنا ربُّ الإبل، وإن للبيت ربًّا يحميه. قال: ما كان ليمتنع مني. قال: أنت وذاك (السيرة النبوية لابن هشام، ج1،أمر الفيل). فاشتد غيظ أبرهة، وأمر برد الإبل لعبد المطلب، ولكنه أصر على المضي لهدم الكعبة. وقبل أن يهاجم جيش أبرهة الكعبة تفشى فيهم مرض الجُدري، وبدءوا يموتون كالكلاب الضالة.. وأخيرا دبت فيهم الفوضى والخوف وتراجعوا عن حصار الكعبة بعد أن مات ألوف في الوديان تائهين.

فتعني كلمة (البيت) أن الناس سوف يتمتعون فيه بالحماية الحقيقية. إنه بيت الله الذي لا يمكن أن يفلح أي عدو في الهجوم عليه.

والميزة الثانية للبيت أنه مكان إقامة دائمة، وبهذا المعنى فإن بيت الله هو الذي يستحق أن يسمى بيتا، لأن الحياة الأبدية إنما تُنال في بيت الله. والذين لا يذهبون إلى بيت الله تعالى لا حياة لهم، ولا قيمة لحياتهم. أما البيت الدنيوي فيقول الله عنه: (متاع قليل) وأما عن بيته فيقول (فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) (الفجر: 30).. أي عندما يصبح الإنسان عبدا صادقا لله تعالى، ويصبح المسجد بيتا له فإنه يدخل الجنة. فهذا هو البيت الذي يمكن أن يُمتّع الإنسان بحياة أبدية.

والميزة الثالثة للبيت أنه مكان لادِّخار الأموال والأمتعة. وهذا البيت فيه ذخائر البركات الروحانية، وهو الذي يحفظها. أما الذخائر الأخرى مهما كانت غالية وقيِّمة فإنها تضيع، ولكن الوقت الذي يبذله الإنسان في عبادة الله تعالى فلا يضيع، بل كل لحظة يقضيها في ذكر الله وعبادته يحولها الله إلى آلاف النعم الروحانية، ويحفظها ذخيرة ويمتّع عبده بها.

والميزة الرابعة للبيت أنه مكان لاجتماع الأقارب كلهم. وهذه الخصوصية موجودة أيضًا في الكعبة المشرفة بصورة كاملة.. لأن مسلمي العالم أجمع يجتمعون هناك كل عام للحج، ويزيدون إيمانهم بالاجتماع مع إخوانهم.

ثم إن الكعبة المشرفة مكان لاجتماع الناس بشكل آخر. فالمكان الذي سيجتمع فيه الإنسان مع أقاربه وأحبائه هو الجنة، والمسجد ظل للجنة يجتمع فيه المسلمون خمس مرات يوميا، ويسجدون أمام ربهم، ويطلعون على أخبار بعضهم.

والميزة الخامسة للبيت أن الإنسان يتمتع فيه بالأمن عموما. وهذا أيضًا يتيسر في الكعبة المشرفة، لأن الأمن إنما يتيسر للإنسان فقط إذا انمحت كل النـزاعات. والكعبة المشرفة هي المكان الوحيد الذي لكونه مركزا للتوحيد يمكن أن يكون ذريعة لاتحاد العالم كله وجمعهم حول مركز واحد.

فالكعبة المشرفة هي البيت الحقيقي والكامل في الواقع، إذ تتمتع بكل الخصوصيات التي ينبغي أن تكون في البيت.

وقوله تعالى (مثابة للناس وأمنا)؛ المثابة هي مكان اجتماع الناس بعد تفرقهم. لقد ذكر هنا بأن بيت الله قد أقيم لكي يجمع العالم كله على مركز واحد، وعن طريق هذا البيت يجتمع مرة أخرى كل أولئك الذين تفرقوا.. بمعنى أن هذا البيت متعلق بدين عالمي، إنه سوف يكون سببا لتوحيد العالم كله.

لا شك أن الأنبياء وحَّدوا الناس في زمنهم، ولكن إذا كانوا من جانب يوحدون أفراد قوم ما.. فإنهم من جانب آخر كانوا يسببون الاختلاف مع أمم أخرى من العالم. فمثلا كان من الضروري لبني إسرائيل أن يتبعوا موسى فقط، وكان على أتباع كرشنا أن يتبعوه وحده، وكان على الفرس أن يتبعوا زردشت وحده، لذلك إذا كانوا قد وحدوا أقوامهم من جهة فإنهم تسببوا في الخلاف بين الأقوام الأخرى. ولكن الكعبة المشرفة وحدها التي تحمل خصوصية أنها جامعة لأمم العالم كلها على مركز واحد، فقد أعلن النبي بأنه قد بعث للعالمين (الأعراف: 159)، ثم أعلن أنه سوف يُجمع على يده كل الأمم والجماعات المتفرقة في دين واحد. وانظروا كيف تحقق هذا النبأ بطريقة عجيبة ومدهشة. منذا الذي يمكن أن ينبئه بجمع الناس هكذا إلا الله تعالى؟ أما الذي قُدّر للنبي في مستقبل الأيام فإنه أكثر من ذلك كثيرا.. فقد أعلن سيدنا المهدي والمسيح الموعود أن الله تعالى سوف يجمع عن طريقه الأمم كلها، وسوف يأتي وقت يصبح فيه الأشرار كالمنبوذين. فقد قال (لقد خطط الشيطان لإهلاك آدم واستئصاله، وطلب من الله المهلة فأمهله إلى يوم الوقت المعلوم. وبسبب هذه المهلة لم يقضِ عليه أي نبي. أما الوقت الذي حُدِّد لقتله وهلاكه فهو أن يقتل على يد المسيح الموعود. كان ينطلق في الأرض كاللصوص وقطاع الطرق ولكن حان هلاكه الآن. إلى اليوم كان هناك قلة من الأخيار وكثرة من الأشرار، ولكن سوف يهلك الشيطان ويكثر الأخيار، أما الأشرار فسوف يصبحون أذلة كالمنبوذين.. وعِبرة للآخرين) (جريدة الحكم. مجلد5 عدد34، 17/9/1901).

 

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك