الجن.. في القرآن الكريم

الجن.. في القرآن الكريم

محمد حلمي الشافعي

كاتب

الجن.. بين الحقيقة والخرافة (3)

سورة الأعراف

وعندما ننتقل إلى السورة التالية.. سورة (الأعراف) يزداد المعنى السابق وضوحاً. فقد جاء في الآيات الأولى منها (8-38).. سلسلة من النداءات تقول يَا بَنِي آدَمَ . وتتضمن هذه النداءات توجيهاتٍ كريمة، تحثُّ المخاطبين على التحصُّن من الشرور والوقاية من السيئات بارتداء اللِّباس المناسب.. وخصوصاً لباس التقوى، ليكون ردءاً يقي ابن آدم من تأثيرات الشيطان.. ذلك الــمُضلِّل الذي يتسلَّل من منافذ الغرائز والشهوات والأهواء.. والذي يفعل فعله المـُتلصِّص في غفلة من المرء، ذلك لأنّ مثل هذه المؤثرات تسري في النفس دون أن ينتبه لها المرء تماماً وهو في خضِّم انشغاله بها. أما المــُتحصِّنُ بلباس التقوى فلا سبيل لها إليه. فهو كالمتدثِّرُ بثوبٍ من الصوف يحميه من لسعات البرد.

ولعلَّ التحذير الإلهي في قوله تعالى:

إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ.. (الأعراف: 28)

من الأسباب التي جعلت البعض يقول بوجود خلق آخر، يختلف عن الإنسان.. وأنّ من صفاته أنّه غير مرئيٍّ لنا. والآية بريئةٌ من هذا المفهوم لأنّها تتحدَّثُ عن الشياطين.. ومنهم شياطين الإنس، كما أنّ منهم شياطين الجِنّ. والإنس مرئيٌّ ظاهر، والفتنة والخطر ليسا وقفاً على شياطين الجِنِّ وحدهم. فكلمة يَرَاكُمْ يعني أنه يرى مواطِنَ ضعفكم فيَصِلُ إليها، أما قَبِيلُهُ فهو ما يلحق به من عوامل تساعده على التأثير. وقوله مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ أي من حيث لا ينتبه المرء إلى تأثيرهم.. وذلك حين الغفلة.. حين الانشغال بالهوى عن التعقُّل والتفكير.

وإبصار الشيطان وعدم رؤيته لا يُحدِثُ فرقاً في مدى تأثيره، فمثلاً إذا أغرى صاحبٌ صاحبَهُ وزيَّن له ارتكاب منكرٍ حتى استجاب، فماذا يجديه الإبصار هنا؟ لقد وصل إليه التأثير مع أنّه يراه ويصاحبه، ولا معنى للتحذير مما لا تأثير له. إنّ الصاحب أطاعَ صاحبه المضلِّل لأنّه غفل ولم يدرك بقلبه تأثيرَه السيء. فغفلة القلب هي الخطر الحقيقي الذي لا بدَّ من علاجه. و وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ، لأنّه الدرع الواقي من خطر الشيطان.. رأته العين أم لم ترَه. فالخفاء ليس صفةً ذاتيّة للشيطان، وإنما هي تأثيراته المتسلِّلة إلى القلب الغافل.. لأنّها تخاطب الغرائز الباطنة التي تجري من الإنسان مجرى الدم – حسب قول المصطفى الحكيم الأمين – فلا ينتبه لها الإنسان. ومن غفل فقد عَمِيَ وفقد الرؤية.

فإذا وصلنا إلى قوله تعالى:

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (الأعراف: 36)

 أدركنا أنّ الرسل الذين يهدون منهج الله تعالى هم من بني آدم.. من البشر، وأنّ من اتّقى واهتدى بما جاء به رسل الله من بيِّنات.. وأصلح في قصده ومسلكه، لا يلقى خوفاً ولا حُزناً.. لا في دنياه ولا في آخرته، بل له الأمن والطمأنينة والسعادة والنعيم. أما من أشرك وكفر فحقَّ عليه قول الله:

قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ.  كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا. حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ: رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا.. فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ. قَالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (الأعراف: 39)

وهكذا يزداد الأمر وضوحاً. فالأمم التي يخاطبها القرآن الكريم تتكون من (جنٍّ) و(إنس). الجنّ هم أصحاب القيادة في الحياة الدنيا، ومن ثم يُقَدَّمون على غيرهم عند دخول النار. وهذا الوعيد يُبرز دور القيادة ومسؤوليتها.. فمن يقود قومه إلى الشرّ يقودهم أيضاً إلى جهنم. ولقد أشار القرآن إلى هذا عندما حكى عن فرعون وقومه فقال:

يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (هود: 99)

فَهو يخجل على رأس قومه ليكون أول من يَصْلَى لظَى جهنم.. كما كان على رأس قومه الذين غرَّر بهم في الدنيا. فإذا تمّ عدد الزعماء (الجنّ) في النار دخل بعدهم الأتباع (الإنس).. وهناك يلتقي الفريقان ليتلاعنا. الأتباع يلعنون سادتهم غضباً وتحسُّراً.. لأنّهم كانوا سبب ضلالتهم وسوء مآلِهم، ويدعون الله أن يُضاعف العذاب لمن كانوا السبب في هلاكهم.

وعذاب الخروج على منهج الله شديدٌ أليم، بالغ الشدّة والألم.. بحيث أنّ من رماه سوء فِعالِه فيه أحسَّ كأنّ عذابه مضاعف.. فما للإنسان طاقةٌ على احتماله والصبر عليه.

ثم تمضي الآيات بعد ذلك لتبشِّر المؤمنين الصالحين بأنّ الخلود في نعيم الجنة هو جزاؤهم، فيحمدون الله تعالى على ما أتاهم من هدايةٍ على يد رسله وحمَلة وحِيه ومنهجه. وهكذا نرى أنّ القرآن المجيد لم يُفرِّق بين جِنٍّ وإنس.. سواءً في التكليف أو في الجزاء. ولا معنى لذلك إلا أنّ الجنّ والإنس سواء في تكوينهم النفسي والجسدي.. وأنّهم نوعٌ واحد.. لا فرق بينهم إلا في الدور الوظيفي داخل المجتمع البشري. ولذلك أرادَ الله تعالى أن يؤكِّد للجميع بأنّ البشر أمامه سواء.. كلهم مكلَّف حسب طاقته، وكلّهم مُحاسب حسبَ وعيه ونيَّته. ولا فرق بين سيّدٍ ومَسَوُد.. أو تابعٍ ومتبوع. فهم جميعاً خلقٌ ضعيف، بحاجة إلى المنهج الإلهي للفوز برضوان الله تعالى.

يتّضح من الحوار الذي يجري بين الجِنِّ والإنس من أهل النار.. أنّ التابعين ليسوا بأفضل من المتبوعين من شيء، وأنّه إن كانت القيادة في الشرِّ جريمةً قبيحة.. فإنّ الانقياد أيضاً جريمةٌ شنعاء. والعقاب الشديد نازلٌ حتماً بالفريقين، جزاءً وفاقاً لمن أفرط ولمن فرَّط.

ونوجِّه الانتباه هنا إلى أنّ النداءات القرآنيّة في هذه السورة.. والتي تكررّت عدة مرات قائلةٍ: يَا بَنِي آدَمَ ، تناولت من التوجيهات الإلهيّة ما يتعلّق بالجنس البشري وحده؛ من لباسٍ خارجيّ يستر العورات فلا تنكشف، ولباسٍ معنوي يستر النفوس من الشرور والآثام، والتزيُّن للصلاة، وعمارةِ المساجد، وبعث الأنبياء ليُعلِّموا البشر آيات الله، وثوابِ المطيع الذي اهتدى وأصلح، وعقابِ الخالفِ الذي استكبر وأفسد.

ثم تناولت الآيات يوم الحساب.. يوم يتلاقى المكذبون الظالمون في النار، فيكون أول الداخلين فريقاً سمَّاه القرآن باسم (الجِنّ)، ويدخل من بعدهم الفريق الذي دعاه القرآن باسم (الإنس). والفريقان كلاهما يدخلان تحت النداء القرآني: يَا بَنِي آدَمَ . وليس ثمة مجال للجمع بينهما في هذا النداء، وتبادلُ الشماتة والتلاعن بينهما إلا إذا كان سويَّاً من (بني آدم) فعلاً، وما فرَّق بينهما تحت اسم (الجِنّ) و (الإنس) إلا الدور المتميّز لكل فريق منهما في الظلم والتكذيب والإفساد. فأولئك القادة، وهؤلاء الأتباع.

ومن المناسب هنا إلقاء بعض الضوء على قوله تعالى:

يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (الأعراف: 28)

لقد ذهب كثير من المفسرين في فهمها بعيداً، وجاءوا بأقوال هي خليطٌ من جاهليّة أهل الكتاب وخرافات الخيال! ولنبدأ القول بالحديث عن الشيطان. سبق أن ذكرنا أن الكلمة أصلها من (ش ط ن) وتعني البُعد، فيقال: شَطُنت الدارُ: بَعُدَتْ ونَأَتْ. والشيطان هو الذي ابتعد تماماً عن طريق الحقّ والخير، أو هو الذي يُبعِد غيره عن الهداية والرشاد.

ويقال أيضاً أنّ الكلمة أصلها من (ش ي ط) أي احترق. فالشيطان هو من اصطلى بنار الحسرة لحرمانه من الخير. وبين المعنيين قرابة.. فإنّ مَن حُرِمَ الهداية الإلهية تحوّلت حياته إلى جحيم وكانت عاقبته جهنم.

والمؤثر النفسي أو المعنوي الذي يُبعد المرء عن المنهج الإلهي، ويحيد به عن سُبل الخير.. شيطان. وهو شيطان الجِنّ لأنّه يفعل فعله في خفاء فلا يتنبَّه له المرء، ولذلك وصفه القرآن بأنّه شيطان يرى ضحيّته – أي يصل إليها ويؤثِّر فيها – من حيث لا تراه الضحية، أي لا تُدرك تأثيره وتفطن له.

وتقدِّم الآية الكريمة تحذيراً إلى كل البشر، إنساً وجِنّاً، من فتنة هذه المؤثرات الشيطانيّة، التي تتسلل إلى النفس البشريّة على حين غفلةٍ من صاحبها.. تحت ستارٍ برَّاقٍ من المغريات المشروعة أو غير المشروعة.. فيقع فيها وتورثه الندم. وقد مرَّ سيدنا آدم – أبو السلسة الحالية من البشر الين تشرَّفوا بالتكليف الإلهي، وأول نبي حمل شريعة الله إلى بني جنسه، فَنُسِبوا إليه تخليداً لهذا المنعطف الخطير في تاريخ البشرية وتحولِّها إلى الإنسانيّة.. أقول مرَّ بتجربةٍ مع هذا الشيطان.

أُمِرَ آدم ( ) أن يجتنب زعيماً كان مغروراً من زعماء قومه.. كان قد أعلن العصيان والخروج على طاعة آدم الرسولِ المــُبلِّغ عن ربِّه. أعلن العصيان وأصرَّ عليه استعلاءً واستكباراً وبغياً، بل وجَاهَرَ بعزمه على مقاومة الأمر الإلهي والإفساد بكل السُبل. وحذَّر الله آدم من نوايا هذا العدو الحاقد الحاسد. وعمل آدم فترةً من الزمن بهذا التحذير، ولكنه بعد مُضي الوقت قلَّ حذرُه، ووقع تحت تأثير الاعتقاد بقدرته على إصلاح (إبليس) ومن معه من أتباع وأعوان. وظنَّ أنه إذا نجح في هذه المهمّة الصعبة فإنّه يكون قد قام بإنجاز عظيمٍ يكسبه المجد وخلود الذكر، وهو قبل كلِّ شيء من صميم واجباته كنبيٍّ معلم. وحَسِبَ أن تكون ضغينة إبليس قد خفَّت حِدَّتها مع الزمن، ولا بأس من المحاولة الخيِّرة.

لقد كانت هذه الخواطر الطيِّبة.. في نفسِ النبيِّ الحريص على نجاحِ مهمته.. شيطاناً أنساه الحذرَ الواجب، والالتزام بالتحذير الإلهي من ربِّه العليم الخبير.. الذي لا تخفَى عليه خافية. وهكذا وقع آدم في الفخِّ الشيطانيّ، الممَوَّه بالنوايا الطيِّبة، واستطاع إبليس وجماعته مهاجمة آدم من حيث لم يحتسب.. بعد أنْ عرفوا مواطن الضعف في منطقته، وفاجأه مفاجأةً لم يُغْنِ معها استنفار آدم لشباب قومه (من ورق الجنّة)، وأجبر آدم وجماعته على الخروج من منطقتهم الغنيّة بالثمار والمياه. لقد نسيَ آدم ووضعَ سلاحَه الذي كان يحميه من عدوِّه.. ذلك بفعل الإغراء الشيطانيّ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا ، فانكشفت ثغوره لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا . نعم، تنكشف العورات إذا انحسر اللِّباس عن الجسد.

وعلى ضوء هذا الدرس القيِّم يُعلِّمنا القرآن أنَّ لِبَاسُ التَّقْوَىَ هو خيرُ وقايةٍ لنا من هجمات الشيطان إذا أراد أن يتسلل إلى داخلنا، كما يحمينا اللِّباس الماديّ من هجمات الجوِّ الخارجيّ. ولا شكَّ أنّ الذين لا يُقدِّرون التّقوى حقَّ قدرها، ويحسبون أنهم قادرون على حماية أنفسِهم بأنفسِهم.. لا شكَّ أنهم جعلوا من أنفسهم بذلك أنصاراً للشيطان، فيملأهم غروراً، ويُورِدهم شرَّ الموارد، ولن يجدوا لهم من دون الله تعالى هادياً أو نصيراً.

كما يمكن أيضاً تسمية إبليس شيطاناً.. لأنّه ابتعد عن طريق الخير، وضلَّل قومه معه، وعزمَ على إفساد المهمّة النبويَّة لسيدنا آدم. كما يمكن إطلاق اسم شيطان على من استعانَ به إبليس لإغراء سيدنا آدم كي يتصل به وبقومه، وزيَّن له هذا الأمر وأنساه الحذر.

ولعلَّ القارئ لسورة (الأعراف) يَلحظُ أن الأنبياء الكرام – صلوات الله وسلامه عليهم وعلى خاتَمهم وإمامهم المصطفى – قد لاقوا معارضةً وتكذيباً ومقاومة من أقوامهم بقيادة فئة بعينها:

فمن قوم نوح:

قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (الأعراف: 61)

ومن قوم هود:

قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (الأعراف: 67)

ومن قوم صالح:

قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ.. أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ *  قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (الأعراف: 76 – 77)

ومن قوم شعيب:

قالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا… (الأعراف: 89)

ومن قوم موسى:

قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (الأعراف: 110)

ولعلَّ القارئ قد أدرك بعد تلاوة هذه الآيات وتدبُّرِها أن (الِجنّ) هم السادة.. (الملأ الذين استكبروا) وأنّهم أوّل من يدخل النار ويصلى سعيرها؛ وأنّ القرآن سمَّاهم (الجِنّ) لتميُّزهم وكِبرِهم ودورهم القيادي.

وتمضي آيات سورة (الأعراف) تسوق الـمـَثلَ تِلوَ الـمَثل لمواقف (الأبالسة) مع (الأوادم).. فكلُّ نبي هو (آدم) روحاني لقومه ومثيلٌ له من حيث مهمته ومنهجه. ولكلِّ نبي وقفَ ملأٌ من المستكبرين، وهم أبالسة وإنْ اختلفت الأسماء. قد يكون الاسم (فرعونَ) أو (أبا لهب)؛ لا يهم الاسم.. لأنّهم في أفعالهم ومواقفهم أبالسة. وكما كان إبليس مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي “زعيماً” مأموراً بطاعة منهج الله.. كذلك الذين جاءوا من بعده.. كانوا من الجن وفسقوا عن أمر ربِّهم. وسيبقى إبليس دائماً موجوداً على الأرض بين الناس مُمَثَّلاً في أشخاصهم، لأنّ الله لم يكتب الخلود لأحدٍ أبداً في الدنيا.. مصداقاً لقوله تعالى:

وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (الأنبياء: 35)

ولكن دور (إبليس الأول) متجدِّدٌ بمن يخلفه ويسير على منواله في الغرور والغطرسة والاستكبار والعَمَى عن الهُدى.

وتحكي السورة تلك العادة البشريّة الذميمة.. فكلّما أرسل الله هدايةً للبشر، على يد رجلٍ صالحٍ يصطفيه من بينهم لهذه الغاية الجليلة.. قام الأبالسة والشياطين لدعاة الهُدى بالمرصاد. وما من حُجَّةٍ في أيديهم سوى سلاح القوة الغاشمة، والمغالطات المكشوفة، والإغراء بمُتع الدنيا. ولا مناصَ من أن يكون عذاب جهنّم من نصيب هؤلاء الأبالسة، يجدون في لظاها العقاب الرادع والعذاب الزاجر.. تقول الآية الكريمة:

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (الأعراف: 180)

 نعوذ بالله من هذا العجز التام!! لقد عطَّلوا حواسَّهم عن الإدراك السليم الـــمُنجي من الضلال، واستخدموها في الأهواء والشهوات الدنيوية. خلعوا عنهم لباس التقوى. فنال منهم الشيطان بطعناته المهلكة، وكانوا لجهنّم حطباً.

وها هي الآية تُعلن بجلاءٍ تام أنّ الإنس والجِنّ مشتركون في أدوات الإدراك من قلبٍ وعينٍ وأُذن. وأنّهم مشتركون في الغفلة وسوء الاستعمال لتلك الملكات والحواس. وأنّهم مشتركون في سوء العاقبة، وأنّهم يَصْلونَ نفسَ العذاب.. نارَ جهنّم التي تشوي الأجساد والجلود.. وهم البشر. ولقد قَرَنت الآية الكريمة بين الجِنِّ والإنس حتى لا يحسبنَّ أحدٌ من المغرورين.. السادة والقادة.. أنّه بمنجى من العقاب الأليم المــُهين بسبب مركزه أو مكانته بين العامّة. وحتى لا يظننَّ أحدٌ من العامّة أنّ انقياده ومناصرته لهؤلاء السادة في طريق الباطل ينفعه يوم الموقف بين يديّ الله العزيز القدير.

إنّ السادة والكبراء الظالمين متساوون مع العامّة والأتباع يومئذٍ في ضعفهم وقلّة حيلتهم.. بل إنّ السادة ينالون أشدَّ العقاب نظيرَ دورهم القيادي في الفساد والإفساد.

ولنتأمل كيف أنّ الآية الكريمة شبَّهت تلك الكائِنات (الأنواع) البشريّة بالأنعام.. لكونها تنقاد لغرائزها انقياداً غبيّاً. ولقد صدقت الآية في أنّ البشر الذين تُنسِيهم شهواتُهم حدود ما ينفعهم وما يضرُّهم.. هم أضلُّ من الأنعام التي تهتدي بغرائزها ولا تتمادى في الشهوات. وليس للقادة الفَجَرَة الغافلين من كرامة تُميِّزهم، فهم أيضاً أضلُّ من الأنعام، فإنّ لقطعان الماشية أيضاً قادة مُحنَّكة، تقودها نحو المراعي الخصبة، وتناور بها للنجاة من العدو المفترس. ولكن القادة من البشر الذين أعماهم الغرور يقودون رعيتهم معهم إلى الهلاك.. تماماً كما يقود الكَبشُ القطيع وراءه إلى المذبح!! والفرق بينهما أنّ الكبش لا يدرك الخطر الحقيقي الخفي، وليس بوسعه أن يدفعه.. أما قادة الشرّ بين البشر فهم يُعطِّلون حواسهم ولا يستجيبون لعلامات التحذير والإرشاد!!

سورة هود

ثم ننتقل بعد ذلك إلى سورة (هود). تناولت السورة تكذيبَ قريش للنبيّ وزعمَهم أنّ القرآن كتابٌ من افترائه. فتحدَّتهم السورة أن يأتوا بعشرِ سورٍ مثل سُورَه. وقصَّت السورة عليهم أنباء الأقوام السابقين وموقفهم المماثل تجاه رسلهم بدءاً بقوم نوح ، الذين نظر زعماؤهم إلى نبيِّهم نظرة ازدراء، ووصفوا المؤمنين بأنّهم حفنةٌ من الأراذل لا وزن لهم. ولما رأى الملأ السفينة سخروا وضحكوا.

ثم عطفت السورة على قوم هود وكيف تبع العامة منهم رؤساءَهم الجبَّارين. ومن بعدهم قوم لوط وقوم شعيب ثم فرعون وحاشيته وجنوده. لقد أفسدت تلك الأقوام في الأرض، وخالفوا منهج الله وعصوا رسله، فَنَزلَ بهم الهلاك. والهلاك إذا نزل لم يُفرِّق بين جِنٍّ وإنس، بل يصيب السادة والأتباع معاً. لقد أخذ الطوفان قوم نوح كبيراً وحقيرا.. واستأصل العقاب عاداً وثمود فلم يبقِ على أميرٍ أو عبيد.. وأخزى العذاب قوم لوط ومَدْيَن، فأفنى السادة مع الرعيّة!!

وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (هود: 103)

ولقد ألمحت الآية قبل هذا إلى السبب في ذلك حيث قالت:

…فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (هود: 99)

فالعذاب ينزل بالقرى عن بُكرة أبيها، والعذاب يأخذُ الحاكِمَ والمحكوم ما دام الجميع في الظلم مشتركين.

وتمضي السورة تحذِّر أمة محمد فتقول:

وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ (هود: 114)

فعلى الجماهير ألا تنقاد وراء قادتها فيما يخالف منهج الله، فإنّ ذلك ظلمٌ يجعلهم مستحقين للعقاب، ولن يجدوا من يحميهم من غضب الله تعالى. وعلى أولي الأمر ألا يستعملوا الظالمين من رعيَّتهم حتى لا يوقعوهم تحت طائلة المسئولية في الظلم وينالهم سخطُ الله.

وتُختم السورة بالقانون الإلهي:

وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ * وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً.. وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (هود: 119)

ما دور الجِنّة هنا؟ ولماذا يُهدَّدون بدخول النار مع الظالمين من أهل القرى؟ الجواب المنطقي للجمع بينهما في هذا السياق.. هو أنّ الجِنّة فريقٌ من أهل القرى يمتازُ بالقيادة، ولذلك جاء ذكرهم في مقدمة الذين تمَّت كلمة ربِّ العالمين ليُدخِلنَّهم النار.. مع من يتَّبعهم من الرعيّة. وتأمّل كلمةَ (الناس) في الآية! عندما تحدَّثت عن أهل القرى بصفة عامّة أسمتهم (الناس)، ثم صنَّفتهم صنفين: الجِنّة والناس. فكأنّ كلمة (الناس) تطلق على البشر عموماً من كلِّ صنفٍ ونوع ولونٍ وطبقة، وكلمة (الجن) في مقابلها تعني الخاصّة، أي الطبقة القيادية أو أولي الأمر والفئة المتميِّزة. ويلاحظ هنا أن كلمة (الجِنَّة) تعني صنفاً معيّناً من الجِن.. هم في هذه الحالة القادة الظَلَمة الفَسَدة، المستحقين للعقاب الإلهي.

ولا يفوتنا في هذه المناسبة ان نلفت الانتباه إلى أمرين هامين وردا في الآية الكريمة، وجديرٌ بنا أن نتفهَّم مغزاهما:

أولهما: إنّ الأمم لا يصيبها الانحطاط، وينزل بساحتها العذاب والهلاك.. وهم مصلحون، لأنّ ذلك ظلم.. تعالى الله عنه علوّاً كبيراً. فإذا رأينا أمّة تهوي في ظلمات الجهل والفقر والمرض، فليس ذلك ابتلاء لها من الله تعالى.. كلا، بل هو عقاب أصابها بسبب انحرافها الشديد عن الصراط الإلهي المستقيم، وإمعانها في إغضاب الله عز وجل، فاستحقوا أن ينزل بهم العقاب العام.

وثانيهما: إن بعض الناس يفهمون الآية فهما خاطئا.. إذ يحسبون أن قوله تعالى ولذلك خلقهم يعني أن الناس خُلقوا للاختلاف: والحقيقة أن الخالق.. الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، إنما خلق الناس لينهلوا من معين رحمته. فالإشارة في كلمة (لذلك) إنما تعود على المشار إليه الأقرب.. وهو قوله إلا من رحم ربك أي.. لرحمته تبارك وتعالى.

والمعنى الإجمالي للآية: أنه لو كانت مشيئة الله أن يكون الناس أمة واحدة لحملهم على ذلك، أي لخلقهم مجبولين على الطاعة.. مثل الملائكة وغيرهم من الكائنات التي لا تعصي ولا تُفسد ولا تخرج أبداً عن منهج الله. ولكن الله أراد أن يكون الناس خلْقا حُرا مريدا، يختار اتباع منهج الله عن طواعية، فيستحق بذلك أن ينعم برحمة الله، ويستمتع بما لا يستمتع بمثله الذين جُبلوا على الطاعة الإجبارية.. من ملائكة أو غيرهم من المخلوقات الأخرى. وأن الله كما وعدهم برحمته الفياضة الواسعة، فإنه حذرهم من عقابه الأليم جزاء وفاقا للخروج عن طاعته استكبارا وعلوا. وفي النار متسع لكل عاص مُصر على العصيان، سواء كان من الجن أو من الإنس. ومثل هذا العقاب لا ينزل أيضا بالخلق المجبول على الطاعة لأنه لا يملك إرادة المعصية. فالإنسان –جنا وإنسا- هو الحر المريد.. المجازَى على عمله. وإذا كانت مشيئة الله تعالى هي ألّا يجبر البشر على منهج واحد.. فليس لكائن مَن كان أن يجبرهم على ذلك.

Share via
تابعونا على الفايس بوك