الهدف الذي خُلقنا من أجله

الهدف الذي خُلقنا من أجله

محمد حلمي الشافعي

كاتب

الجن.. بين الحقيقة والخرافة (1)

قبل عشر سنوات.. سألني بعض الأصدقاء عن ذِكر الجِنِّ في القرآن والحديث، وواكب ذلك ظهورُ كتابٍ عن الجن محشوٍّ بالخرافات، فكتبت هذه الصفحات مسترشداً بتفسير القرآن لسيدنا الخليف الثاني – .

قال الله تعالى:

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: 57) إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ (الزمر: 3)

إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ *…* وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ (آل عمران: 20-86)

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (الصف: 10)

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (الشورى: 53-54)

تدلنا الآيات الكريمة السابقة على أن الله تعالى قد حدَّد الهدف من خلق الجن والإنس، وحصره في أمرٍ واحد.. هو عبادة الله؛ وأنّ الله أنزل على النبيّ محمد كتاباً يقوم على الحق، وقرره منهجاً لعبادته؛ وأن كل منهج غير القرآن عند الله مرفوض مردود.. لأنّ القرآن هو المنهج الوحيد الصحيح الذي يحقِّق عبادة الله سبحانه.. والذي يُخلِص به العابد دينَه لله وحده، ويُسْلمُ إرادته كاملةً له. وهذا المنهج الإلهي ليس لغير الله يدٌ فيه، فهو من عنده.. أنزله على رسوله محمد ليكون نوراً لهداية العِباد إلى العبادة الحقَّة.. ولِيُعرِّفهم الطريق الصحيح لتحقيق لعبودية المقصودة.

فاهدف من خلق الجن والإنس جميعاً هو العبادة…

والمنهج الذي يحقِّق العبادة هو الإسلام..

والوسيلة لذلك هي العمل بما في القرآن المجيد..

والأسوة والبيان هما في اتِّباع رسول الإسلام محمد ، والعمل بسُنّته وسُنّة خلفائه الراشدين المهديين من بعده.

والإخلال بشرطٍ واحد مما سبق يحيد بالمرء بعيداً عن الغاية المطلوبة. وليس هناك عاقلٌ عارف بالقرآن يُماري في الحقائق المبيَّنة آنفاً..

ثم إنّ القرآن المجيد وصف نفسَه بأنّه لاَ رَيْبَ فِيهِ ، وحرص على تأكيد هذه الحقيقة منذ البداية، فأعلنها في مستهلِّ سورة “البقرة”. ومعنى ذلك أنّ هذا الكتاب مُنزَّهٌ عما ينتقص شيئاً من كماله.. لأنّه تنزيلُ ربِّ العالمين.. الحكيمِ العليم الخبير.. الذي لا تفوتُه شاردةٌ ولا واردة.. الذي يعلمُ ما في السماوات وما في الأرض. فإذا قرأنا القرآن ودار بخلدنا معنىً يخالف ما ينبغي لكتاب الله من الكمال المطلق.. فعلينا أن نراجع أنفسنا لنُعدِّل من فهمنا كي نصل إلى ما يتفق والكمال. هذه حقيقةٌ ينبغي ألا تغيب عن بالنا أبداً. فالقرآن بريءٌ من أي عيبٍ أو نقص؛ ضعفٍ أو خطأ؛ شكٍّ أو تناقض؛ تفكُّكٍ أو تعارض؛ سهوٍ أو كذب؛ حشوٍ أو لغو؛ تفريطٍ أو إفراط. لا شيء في القرآن من ذلك كله.. فهو كتابٌ مجيد؛ حكيم؛ عظيم.. من لدن أصدق القائلين.

حسناً.. فما هي إذن تلك العبادة التي من أجلها خلق الله “الجنَّ والإنس”؟ هل هي تلك الكلمات التي نقولها عند النطق بالشهادتين؟ أم هي تلك الحركات الجسدية التي نقوم بها أثناء الصلوات؟ أم هي تلك الدراهم التي نبذلها في الزكاة؟ أم هي تلك الساعات التي نُحرمُ فيها من الطيِّبات أيام الصيام؟ أهذه هي العبادة؟ وأين الحكمة فيها ليُخلَقَ الجنُّ والإنس من أجلها؟ تعالى الله الخالِقُ أحكمُ الحاكمين!

إنه إذا ارتضى بعضُهم أن تكون هذه الأمور الجسدية المادية هي العبادة التي من أجلها خُلقوا.. فهُمْ وشأنهم، ولكن العاقل لا يرتضي لنفسه هذا الهوان بعد أن كرَّمه الله وقال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ . إنه إذا كانت هذه هي العبادة فإنّ المخلوقات الأخرى أقدرُ منا على القيام بها.. ونكون نحن في مؤخرة الخلق درجةً وأهمية، ولا نكون جديرين بخلافة الله تعالى. ثم إنّ الله جلّ وعلا غنيٌّ تماماً عن مثل تلك الأعمال. نعم، لقد قال لنا المصطفى : بُنيَ الإسلامُ على الشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج، وأنّ هذه المظاهر للعبادة مطلوبةٌ مشروعة.. ولكن لا لأنها هي الغاية، بل لأنها الوسائل التربوية لإدراك الغاية الحقيقية.. ألا وهي عبادة الله تبارك وتعالى. لقد سُمِّيَت عبادة الله من باب تسمية الشيء بسببه.. كأنْ نُسمِّي الخُبْزَ عيشاً لأنه ذريعةٌ له.

فالقرآن بريءٌ من أي عيبٍ أو نقص؛ ضعفٍ أو خطأ؛ شكٍّ أو تناقض؛ تفكُّكٍ أو تعارض؛ سهوٍ أو كذب؛ حشوٍ أو لغو؛ تفريطٍ أو إفراط. لا شيء في القرآن من ذلك كله.. فهو كتابٌ مجيد؛ حكيم؛ عظيم.. من لدن أصدق القائلين.

هناك حديثٌ قُدسي مشهور يقول فيه ربُّ العِزّة:

«كنتُ كَنْزاً مَخفيَّاً، فَأحبَبتُ أن أُعرَفْ. فَخَلقتُ خَلْقاً، فَتَعرَّفتُ إليهم.. فَبي عَرَفوني».

ومعرفة الله لا يمكن أن تكون معرفةً ماديّة كما تعرف فلاناً بملامح وجهه وخطوط جسمه، لأنه سبحانه لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ . وإنما يُعرَف الله تعالى معرفةً روحيةً عقلية. لذلك اقتضى الكمالُ الإلهي الربَّاني أن يكون من بين خَلْقِهِ كائِنٌ ذو ملكات عقليّة روحيّة.. يمكن أن يتعرَّف بها على المحاسن الإلهية كما أعلنت عنها الأسماء الحُسنى.. فَيُعجَب بها، ويُشغَف بها حُبَّاً، وينفعل لها منجذباً إليها، ويسعى لاكتسابها وتَمَثُّلِها في نفسه، ويتخلَّقُ بها قدرَ استطاعته، ويُقدِّرها حقَّ قدرها، ويتغنَّى بذكرها. هذا هو ما يُفهمُ من قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا .. أي كشفَ لآدم عن صفات كماله، ووهبه القدرة على استيعابها، ثم إشعاعها.. كما تعكس المرآة ما تستقبله من نور الشمس لعلّ الإنسان يستطيع أن يضع اسماً من عنده لكلِّ شيء من الأشياء الماديّة، أما أسماء الله تعالى.. فأنّى للإنسان أن يتعلَّمها بدون مصدرٍ إلهي؟

هكذا يُعرَفُ الكنز، وتُعرَف جواهِرُه الفريدة، ويتغنّى العِباد بحُسنِها وكمالها وجلالها، ولا يسعُ العابِد إزاءها إلا أن يهتِف من كل قلبه: «سبحان الله الملكِ القُدُّوسِ العزيزِ الحكيم!!… الحمد لله ربِّ العالمين!!»

فعبادة الله تعني معرفته. ومن عرفه أُعجِب به وأحبَّه، وحاول ما استطاع أن يُصبِّغ نفسه بصبغته القُدسيَّة.. ليقترب من محبوبه قدر المستطاع. أليس هذا ما يفعله كلُّ مُحبٍّ مع حِبّه؟ هكذا ينفعل المحبُ الصادق لمحاسن محبوبه وسيده.. كما ينفعل الطريق لُخطَى السائرين حتى يتعبَّد لهم، ويصبح طريقاً معبَّداً. وعندئذٍ يصير المحبُّ عبداً من عباد الله، وتصبح نفسه مُعَبَّدةٍ لخُطى الأسماء الحُسنى. وتكون هذه العلاقة الرائعة شرفاً وفخراً يتيه به على سائر المخلوقات.. التي لم تُؤهّل لهذا المقام، ويُكرِّمه الله ويسخِّرُ له ما في السماوات والأرض، ويرفعه إلى مراتب ودِّه ومحبته، ويصبح عبداً ربَّانياً.

وكلما نهل العابدُ من هذا الشَهْدِ المصفَّى كلما ازداد حبَّاً لربِّه، وشوقاً إلى المزيد من قربه ووصاله، فيزداد سعياً ونشاطاً لإرضاء مولاه، فيزيده الله قُرباً ورِفعةً. وهكذا يمضي العابد في مِعراجِه صُعُداً إلى ترقِّياتٍ وكمالات.. درجةً بعد درجة.. في مسيرةٍ لا تنتهي.

هذا أيها الناس، هو الهدف الذي من أجله خُلقنا.

وهذا أيها الناس، هو الهدف الذي ارتضاه الله لنا.

وهذا أيها الناس، هو ما أراده الحكيم العليم من وجود خليفةً في الأرض.

ولا يحسبنَّ أحدٌ أن سائر المخلوقات –من غير الجنّ والإنس- تدخل في زمرة العباد. كلا، إنها جميعاً مخلوقة لله خاضعةٌ لأمره، لا تملك إرادة العصيان والمخالفة، إنها عبيد.. تسير وفقاً للسنن التي قدَّرها الله لا تستطيع منها فِكاكاً. وهي حقّاً تُسبِّح الله.. بمعنى أنها آياتٌ بيِّناتٌ على أن خالقها ومدبِّر أمرها إلهٌ ورب حق، متصفٌ بكل المحامد، منزَّهٌ عن كلِّ النقائص. يرى ذلك كل ذي بصيرةٍ فيُسبِّح الله. أما الذين لهم عيونٌ بلا بصيرة، وقلوبٌ بلا إدراك.. فإنّهم لا يفقهون تسبيحَ الكائنات. وأما أولو الألباب فإنّهم يسمعون التسبيح في جنباتِ الكون، ولا حاجةَ بهم إلى لفظٍ أو صوت. إنّهم يقرأون آيات الله في صفحات الخلق كله.

إنّ العباد هم أولئك الذين يختارون بإرادتهم الحرَّة أن يسيروا حسب المنهج الإلهي، وينشطون فيه، شأن المحبّ المشوق إلى إرضاء حبِّه. ولهذا الغرض السامي – الذي لا يُدانيه غرضٌ آخر – خلقَ الله الجِنَّ والإنس.

جاء الإسلام.. ذلك الدينُ الذي ارتضاه الله للبشر منذ أن كان على الأرض بشرٌ مُدرِك، جاء بمنهجه النهائي على يد خير البشر.. إمام الأنبياء وصفوةِ الرسل .. ليضع الّلمسات الجماليّة الأخيرة التي تُحدِّد معالم الطريق السَّويّ إلى الله تعالى.. أي العبادة. ولقد تضمَّن المنهج القرآني، متلُوَّاً في آيات القرآن، أو مُطَبَّقاً في سُنّةِ محمد المصطفى .. كلَّ المبادئ والسلوكيات التي توجِّه الإنسان في طريقه إلى الله تعالى.. تُحدِّد له اتجاه المسير، وكيفيّة الخطو، والوسائل التي تُعينه على اجتياز الطريق في سعادةٍ واطمئنان، وعلاقته بِرفاق المسيرة. كما حذَّره من المزالِقِ التي قد يقع فيها، والمصاعب التي قد تَعوقُ خُطاه، ودلَّهُ      فعبادة الله إذن تعني معرفته. ومن عرفه على وسائل الوقاية منها.

وسار المصطفى في مقدمة الركب .. أسوةً حسنة.. ونوراً هاديا. وسار وراءه آلاف القديسين. فكانت الجماعة الإسلامية المحمدية الأولى، التي استنارت الدنيا بها، وقطعت بالإنسانية شوطا بعيدا. بل أقول قفزت مرحلة هائلة في تلك الرحلة القدسية، وكانت بذلك خير أمة أخرجت للناس حقا وصدقا.. إذ حققت بنفسها وفي نفسها الغرض الذي من أجله خُلق الجن والإنس، وبفضلهم أشرقت الأرض بنور ربها، وأسمعت الدنيا تلك النداءات القدسية: الله أكبر* لا إله إلا الله* سبحان الله* الحمد لله….

ومضى المصطفى إلى الرفيق الأعلى وقد أدّى الأمانة وبلَّغ الرسالة. ثم مضى من بعده قرنُه خير القرون، ثم من يلونهم ثم من يلونهم. وبعدها اضطرب ركبُ الأمة الإسلامية، وخلف من بعدهم خلف مزق صفوفها فرقا متناحرة، وشِيَعاً متنافرة. وحاد الناس عن المحجَّة البيضاء، وانحرفوا عن الصراط المحمدي المستقيم، ومضوا يضربون في الأرض على غير هدى.

ولقد وفّى الله تعالى لهم بوعده.. فأقام لهم رجالا كانوا كنجوم السماء، يُرشدون السُّراة إلى الدرب الذي سار فيه المصطفى وصحبُه الكرام. أولئك الرجال العظام الذين جددوا للأمة أمر دينها، ودَعَوا أقوامهم إلى التزام الطريق المحمدي، وأن يستمسكوا كما استمسك بكتاب الله الفرقان، وأن يسلكوا مسلك نبيهم . ولكن الكثرة الغالبة من الناس- وأسفاه!- هامت في شِعاب الهوى لا تلوي على شيء.

ومضت القرون، وإذا بالأمة الإسلامية التي كانت شمسا تستضيء بها المعمورة، تُمسي غاربة في عين حَمئة، وهوت إلى الحضيض بين أمم الأرض، وفقدت كل ما كان لها من عزة وكرامة. فانقَضَّت عليها الأمم تنهشها .. وصدق فيها تحذير المصطفى: “تداعَى عليكم الأمم كما تداعَى الأكلة إلى قصعتها”. وباتت بلاد الإسلام خاوية من مؤهلات الخلافة: فلا تقدم ولا حضارة، ولا علم ولا خُلق، ولا عزة ولا أنفة.. وباتت مثلا بشعا ينفر منه أهل الشرق قبل أهل الغرب.. ومثلا يضربونه للضعف والفوضى والتمزق والتسيب..

لقد فرَّطوا في نعمة العبادة، فحق عليهم ضياع نعمة الخلافة والعزة والتمكين التي وعد الله عباده.. الله الذي لا يخلف وعده حيث قال:

وَعَدَ اللهُ الَّذينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذي ارْتَضَى لَهُم وَلَيُبَدّلَنَّهُم من بَعْدِ خَوْفِهِم أَمْناً، يَعْبُدُونَني.. (النور:56)

فهل قصَّر المسلمون في شعائر العبادة الظاهرية، فحجب الله عنهم نعمته؟ اللهم إن المساجد كثيرة عامرةٌ بالمصلين. وهم يحتفلون بشهر رمضان ويصومونه. وهم يحرصون على رحلات الحج والعمرة وينفقون عليها الملايين. وهم يُشَيدون الجوامع الفخمة ويزينونها ويفرشونها. وهم لا يتركون مناسبةً دينيةً أو شبْه دينيةٍ إلا ويحتفلون بها أيّما احتفال. وهم يملأون وسائل إعلامهم بالبرامج والأناشيد الدينية!! لو كانت تلك الطقوس والرسوم هي العبادة الحقة التي من أجلها خُلق البشر.. لكانت أمة المسلمين اليوم هي أعظم أمم الأرض، ولما تركهم الله تعالى هكذا وصمةَ عار على الإسلام!!

نعم، إن الله تعالى يبتلي الأمم كما يبتلي الأفراد.. فيختبرهم بنقص في الأموال والأنفس والثمرات. ولكن شتان ثم شتان ما بين الابتلاء والعقاب!! إن الابتلاء تجربة ربانية بنَّاءة.. يمر بها الأفراد والأمم. والذين يتمسكون فيها بالصبر والمثابرة، والثبات على بذل الجهد الصادق، ومضاعفة العمل البناء بما يجذب رضوان الله ويستدر رحمته.. أولئك ينجحون. فسرعان ما يرفع الله عنهم الكرب، ويبدل حالهم إلى أحسن حال. فالابتلاء فرصة عظيمة، من اغتنمها فاز وعاقبتُه الفلاح، كما قال تعالى:

وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ منَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ منَ الأَمْوَال وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشّرِ الصَّابرِينَ* الَّذينَ إذَا أَصَابَتْهُم مصيبَةٌ قَالُوا إنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُوَلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ من ربهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأَولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (البقرة: 156)

أما العقاب، أعاذنا الله من عقابه، فهو نازلةٌ شديدة يصيب المنحرفين عن منهج الله. فإن لم يتنبهوا لها ويدركوا مغزاها، وأصروا على زيغهم وصممهم وعماهم.. اشتد بهم البلاء، وزادت وطأته عليهم حتى يرميهم في هاوية الانحطاط والمذلة والهوان.

نعم، الابتلاء فرصة للمؤمن كي يزداد إيمانا وتشبثا بحبل الله، فيعود أقوى وأصلب وأفضل. أما العقاب فهو إذلال ومهانة تُعبر عن سخط الله وغضبه على من استحقوا ذلك. وما نجده اليوم واقعا بالأمة المنتسبة إلى الإسلام ليس من قبيل الابتلاء أبدا.. إنه عقاب شديد أليم مهين.. يصرخ بأن الله غاضب أشد الغضب.. فلم يعد يبالي بهذه الأمة.. وأنه بصدد أن يستبدل بهم قوما غيرهم، ثم لا يكونوا أمثالهم. وقد اعترف الشاعر باستحقاقهم لما أصابوا فقال متحسرا:

رأى قضاؤك فينا رأْيَ حكمتهأكرمْ بوجهِك من قاضٍ ومنتقم

حقا.. إن عقاب الله تعالى- المعبر عن غضبه- لا ينزل بالأمم خبط عشواء، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيراً. إنه لا يصيب أصفياءه.. الذين خلقهم لعبادته وليُظهِر فيهم محاسنه.. لا يصيبهم بما يُذِلُّ أَعناقهم، ويجعلهم فتنة للكافرين والملحدين. إن عقاب الله ينزل في إطار رحمته وربوبيته.. فلا يحيق إلا بمن سدر في غيه بعد إرشاد كافٍ لهم وتحذير وإنذار. ولا ينزل بالأمم إلا عم فيها الفساد، وشارك فيه العامة والخاصة.  ولا يصيب الأمم إلا إذا وضعوا أصابعهم في آذانهم.. واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا.

لقد تعرضت الجماعة الإسلامية الأولى.. بقيادة المصطفى للهزيمة العسكرية.. وأصابتهم البأساء والضراء.. وزلزلوا، وفر بعضهم لينجو بحياته. ولكن ذلك كله كان سحابة صيف سرعان ما انقشعت.. وبادروا يمدون أيديهم يمسكون بسبب السماء.. ويستغفرون ربهم، ويصححون أخطاءهم. ويصلحون أعمالهم. فانقلب الابتلاء نصرا يتلوه نصر، حتى أضاءوا الأرض بنور دينهم. أما أن يستمر الهوان والانحطاط قرنا بعد قرن. ويزداد الأمرُ سوءا كل يوم.. فذلك الغضب الإلهي.. وذلك المقت الإلهي.. وذلك ما يجب أن نتداركه.. فإن رحمة الله قريب لمن

تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى .

ولقد عم الفسادُ شعوبَ المسلمين.. وشارك فيه القادة مع الجماهير، وعشش الضلالُ في عقول المنتسبين إلى الإسلام.. فلم ينجُ منه الخاصة ولا العامة. ونزلت بساحتنا المصائب من كل نوع ولون.. وضربتنا الشدائد فما أفَقْنا ولا استحيينا. ولقد بعث الله تعالى مُجدد العصر وإمام الوقت.. مصدقا لبشارة نبي الإسلام . جاء الإمام المهدي والمسيح الموعود مبشرا بالخير.. يقود سفينة نوح.. يدعو إلى المنهج الذي جاء به المصطفى قبل أربعة عشر قرنا.. عسى أن تنهض الأمة من كبوتها.. وتُشفَى من علتها. جاء ليجدد لها أمرَ دينها.. وليطهر القلوب من أدران الشر ودنس الهوى. جاء حَكَما عدلا وإماما مهديا ليفصل بين الفِرَقِ والشّيَعِ .. وليجمع البشرية على الكلمة الطيبة (لا إِلَهَ إلا اللهُ مُحَمَّدٌ رَّسُولُ الله) تحت لواء النبي الأكرم محمد المصطفى .

جاء ليعيد للقرآن المجيد قداستَه في القلوب والعقول.. ويخرجه من عالم الشعارات والغناء والارتزاق.. إلى واقع التطبيق والاتباع. جاء ليفلت الأنظار والأفكار إلى كمالاته وعلومه وحكمته، ويزيل ما ألصقه به المبطلون من أعدائه.. والجاهلون المحسوبون عليه.. من ضلالات وخرافات. والحق أنه لو أحسن الناس فهْمَ القرآن الكريم فقد فُتح أمامَهم طريقُ العبادة الحقة.. الطريق المستقيم الذي لا يبرح المسلمون يطلبونه كل يوم.. ويرددونه في صلواتهم:

اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

وبوسع الطبيب الروحي أن يُشخَّصَ في جسد الأمة الإسلامية عددا من الأمراض التي أنهكت روحها وجسدها. ومن أشدها ضررا على الأمة تلك المفاهيم الباطلة التي أعاقتهم.. ولا تزال تعوقهم.. عن الانتفاع الكامل بالمنهج القرآني، ودفعتهم بعيدا عن حبل الله المتين وحصنهم الحصين. وأدت تلك المفاهيم الباطلة إلى إصابتهم بمضاعفات مَرَضِية.. أنهكت قواهم وأضعفت مقاومتهم، وعجلت بسقوطهم الذريع الذي هُم فيه اليوم. ولكنهم للأسف الشديد لا يرتدعون وإن كانوا يصرخون.. ولا يعملون وإن كانوا يرفعون الشعارات وبها يهتفون. ولقد اخترت لكم في هذه المعالجة آفةً من الآفات العديدة التي تنخر في جسد الأمة الإسلامية.. وتلوث عقيدتهم وتشوه تفكيرهم.. تلك هي آفة سوء فهم حقيقة “الجن”.. التي أصيب بها الخاصة قبل العامة.

فمنذ سنوات- بعد مصيبة 1967 الشهيرة ووقوع سيناء «مصر» في أسر إسرائيل- ألقت بي الأقدار للعمل في بعض بلاد الإسلام بالقارة الإفريقية، فوجدت القومَ هناك يكادون لا يتصرفون في أمر من أمور حياتهم المتواضعة إلا بعد استشارة أحد (عملاء الجن) .. من المشعوذين والدجالين. يسمون الواحد منهم (فَكِي)، ولعل أصلها (فقيه). ومن فضل الله أني تحديتهم ليثبتوا صدقهم أمامي ففضح الله دجلهم وفشلوا فشلا ذريعا، حتى اضطر أعوانهم إلى القول بأني ساحر أشد منهم مهارة!!

وقد لا يخفى على أحد منا ما يمارسه كثيرٌ وكثير من أهل الإسلام في بلاد الإسلام من طقوس وأفعال لاستشارة (الجن) في حل مشكلاتهم، والاستعانة بهم لقضاء حاجات مستعصية على هممهم السقيمة. بل لقد وصل الحال ببعض من ابتُلي المسلمون بهم من القادة والحكام أنهم لجأوا إلى هذا الأسلوب الزَّري.. يستفتون وسطاء الجن في مسائل الحرب والحكم والسياسة! وتعرفُ الدنيا ما تحقق على يد هؤلاء الخبراء في معاركنا القريبة ونكساتنا الشهيرة!! وتخرج علينا الصحف بأنباء أبطال الرياضة الذين يلجأون إلى الجن لضرب الأرقام القياسية، والفوز على المنافسين في المسابقات الدولية والمحلية.. وليتهم حققوا شيئا!!

ونقرأ في مجلات دينية أن (فضيلة الشيخ الفلاني) أخرج الجن من جسد فتاة؛ وكان يكلمه ويعظمه وينهره أحيانا كي يستسلم وينصرف! وها هي المطابع العربية تتمخضُ أخيرا عن كتاب (من التراث!!).. تحت   عنوان: (عجائب وغرائب الجان.. في السنة والقرآن).. لأحد قضاة عصور الظلام.. حققه محقق عصري.. زعم أن الكتاب يقدم الحقائق العلمية الصحيحة.. التي تقوم على الحجة والبينة والدليل الصادق. ولو أن أحداً من غير المسلمين ذا بقيّة من عقل وفهم قرأ هذا الكتاب.. لفرَّ من الإسلام كما يفرّ السليم من المجذوم. أما الكثرة الغالبة من المسلمين فإنهم يعطلون عقولهم لمرأى نصوص في الكتب، مع أن الكاتب أوردها في غير مناسبتها، وأوّلها على غير وجهها الصحيح.. فيصدقون تلك الترّهات، ويعتقدون بصحتها. ولذلك لم نسمع عن أحد منهم تصدّى لتصحيح تلك الخرافات وتطهير عقول المسلمين من رجسها.

وقد يوجد من بين رجال الدين والفكر من يعارض بعض الممارسات البدائية، ويرمي أهلها بالدجل والشعوذة، ولكنهم في الواقع لا ينكرون ما وراءها من فكر وعقيدة.. وإنما هم يتّهمون المحترفين لها بالكذب والتزوير. إن هؤلاء المشايخ يعترفون بخرافة الجن وقدراتهم، ويعتقدون بالسحر وتأثيراته الخفية، ومع ذلك يكذّبون المشتغلين بالسحر والتعامل مع الجن!! وبذلك يظن البسطاء من الناس أنه إذا كان أغلبُ مَن يزعمون استخدام الجن هم من المشعوذين الدَجالين.. فليس هناك ما يمنع أن يكون بعضهم من الصادقين.. ذلك ما دام هناك جن وسحر، كما يتخيل أولئك المعترفون بالجن والسحر من بين رجال الدين والعامة!!

وبعد ذلك خرجت علينا السينما العربية منذ شهور معدودة بقصة تحت عنوان (الجن والإنس).. صورت فيه شيئاً مما ينسبه الناس، بما فيهم رجال الدين، إلى الجن من خوارق وعجائب. ومن الغريب أن بعض النقاد، ممن يشتغلون بالنقد الفني ولا علاقة لهم بالمسائل الدينية، عابوا على الرواية ما تحتويه من خرافة. ولكنهم بالطبع لم يُبينوا أين وجه الخرافة في القصة.. لأن ما كُتب في التراث عن الجن أغرب بكثير مما جاء في الفيلم السينمائي. نعم، هناك تناقض في عقول الناس. يؤمنون بالخرفات على أنها من الدين، ومع ذلك ينكرونها على من يمارسها من هذا المنطلق. والحق أن الباطل لا يثمر إلا باطلاً، ولا تلد الخرافة إلا مسخاً مُشوّها.

إن العاقل يعترض على كل فكر ليس له سندٌ منطقي معقول.. ويعُدُّه فكراً هدّاماً للعملية العقلية الإنسانية، فما بالُك إذا كان الفكرُ منتسباً إلى الدين؟ إنه يصير سُما زعافاً يفتك بالقلب والعقل.. فلا يستطيع بعد ذلك أن يجد طريقه الصحيح إلى منهج الله تعالى.. إلى الصراط المستقيم. ويبقى الفكر مكبلاً بهذا القيد، وتتعطل ملَكة الفهم الصحيح عن الله، ويعجز عن إدراك المقاصد الإلهية السامية، ويمضي الناس في ممارسات سطحية تُرضي المظهر.. ولكنها لا تسمن ولا تغني من جوع في المجال الروحاني. وتنتفخ جنبات النفوس بحشْوٍ فارغ كالورَم الذي يحسبه الجاهل قوة وصحة.. وهو في حقيقته مرض وضعف!!

وبوسع الطبيب الروحي أن يُشخَّصَ في جسد الأمة الإسلامية عددا من الأمراض التي أنهكت روحها وجسدها. ومن أشدها ضررا على الأمة تلك المفاهيم الباطلة التي أعاقتهم.. ولا تزال تعوقهم.. عن الانتفاع الكامل بالمنهج القرآني، ودفعتهم بعيدا عن حبل الله المتين وحصنهم الحصين.

هناك ما يبدو كأنه انفصام في شخصية المتدينين ورجال الدين!! في أمور حياتهم الدنيوية يحشُدون كل ما لديهم من ملكات البحث والتقدير والتمحيص والوزن والقياس.. أما في المجال الديني فهم مقلدون، مستمسكون بتراث ورثوه. وهنا تتوقف عن العمل ملكاتُهم العقلية!! مع أنهم يقرأون في القرآن آياته الكريمة وهي تخاطب أولي الألباب، وتنادي قوماً يفقهون أو يعقلون أو يسمعون أو يبصرون؛ ويعرفون أن القرآن يُندّد بأمم قالوا:

[RB]بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون (الشعراء:75)

ويلوم قوماً صمّوا وعموا، وحكى عن مصيرهم يوم الحساب حين يقولون نادمين:

[RB]لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير (الملك: 11)

ولا شفاء اليوم من مرض (الشيزوفرينيا) الفكرية العقائدية إلا إذا أدركوا أن دينهم الإسلام منهجُ حياة متكامل. إنه عبادة لله.. يتناول كل أنشطة الإنسان. إن أسماء الله ومحاسنه لا تنتهي.. ومن ثم فإن مجالات العبادة لا تقع تحت حصر.. والترقيات في معراج المنهج الإلهي لا تتوقف ولا تنتهي.. ما دام العابد يسير في هذا الطريق.. إذن فالعقل ومن ورائه الحواس والملكات.. جميعاً تشارك بدورها الأساسي في العبادة.. أعني في الحياة. وكلُّ نشاط لا ينبع من عقل مدرك واع لا قيمة له من الناحية التعبدية، وإن أفتى الفقهاء بأنه “يُجزىء” أو يُسقط الفريضة!!

فالعمل لا يُقبل عند الله تعالى إلا بنيّة، وما النيةُ إلا توجُّه الفكر والوجدان. فالصلاةُ إذن حركاتٌ فارغة.. إلا ما وَعى المصلي منها بعقله وقلبه. والصيام مجردُ جوع وعطش.. إلا ما استفاد الصائم منه سلوكاً وأدباً. والصدقات مال ضائع مفقود.. إلا من إنسان مؤمن مدرك لمغزى ما يفعل ويريد به وجه الله تعالى. وكل عمل يفقد قيمته التعبدية إذا خلا من التعقل والإدراك والفهم والوعي. ولا يغيبن عن البال أن كلَّ عمل يدخلُ في نطاق العبادة.. ولذلك أمرنا المصطفى أن نبدأه باسم الله. والحق أن الذي أرْدى الأمة المنتسبة للإسلام إلى ما هي فيه اليوم.. هو فراغ عبادتها من التعقل والوعي والإدراك. (يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك