نور الدين

كان من أنباء الصادق المصدوق سيدنا محمد المصطفى :

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : “تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَتَ”. (مسند أحمد، كتاب أول مسند الكوفيين).

لقد حقق الله هذا النبأ حيث كانت الخلافة الراشدة على منهاج نبوة النبي .. هذه الخلافة التي حقق الإسلام في ظلها في أول أيامه أيما ازدهار، وبزوالها زال مجد الإسلام وتشتت شمل المسلمين، وزالت عن حمايتهم يدُ الله التي تكون مع الجماعة ، فذهبت ريحهم. ثم جاء مُلكٌ عاض ثم جبريٌ في زمن الأمويين والعباسيين، وإن كانوا يسمون ملوكهم خلفاء. ثم رفع هذا الملك أيضًا إلى ما شاء الله حتى بعث الله قبل قرن من الزمان الإمامَ المهدي والمسيح الموعود على لسان النبي في شخصية حضرة مرزا غلام أحمد القادياني ، فأقام بعده نظام الخلافة على منهاج النبوة لتتحقق غلبة الإسلام الموعودة. وقد وعده الله تعالى أن بركة الخلافة هذه سوف تستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وكان الحاج نور الدين أول خليفة له. وُلد حضرته سنة 1841م في مدينة بهيرة (بمحافظة سرجودها، باكستان الآن). تعلم حضرته القرآن الكريم في صغره من أمه الفاضلة. ثم خرج متجولاً في الهند لطلب العلم، وأتى الحرمين الشريفين، وتتلمذ على يد العلماء الكبار، ورافق الأبرار حتى برع في العلوم المتداولة، وأُشير إليه بالبنان في الورع والتقوى. وحذق في الطب ، فاتخذه “مهراجا کشمیر، طبيبًا خاصًّا له”.

غلبت عليه صفتان حمیدتان؛ التوكل على الله تعالى وعشق القرآن الكريم. ويكفيه شرفًا وفخرًا أن سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود قد سماه (صِدّيقًا)، لورعه وتقواه وصدقه في حبه ونصرته له ولدين الله تعالى، وأنه كان أول خلفائه عليه الصلاة والسلام.

عندما تولى زمام الخلافة في 27/5 /1908م، أيقن أعداء الأحمدية أنها قد ماتت بموت مؤسسها، ولكن الله تعالى قد وفقه بالاضطلاع بمسئوليات الخلافة على أحسن وجه.. مگن الله بوجود الخليفة دينه وجماعته من الداخل والخارج. فغرس حضرته في نفوس الإخوة حب الأخلاق النبيلة والمبادئ الإسلامية. كما بدأ بعثَ الدعاة إلى الخارج، حيث أرسل أول داعية إلى بريطانيا. وهكذا وضع الأساس لتحقيق إلهام لسيدنا المهدي والمسيح الموعود : سوف أجعل دعوتك تصل إلى أرجاء المعمورة.

وبعد أن غرس حضرته حب الإسلام وحب القرآن وحب نظام الخلافة في نفوس الأحمديين استأثره الله لجواره في ۱۳ مارس 1914م، رضي الله عنه.

سبب تصديقه لمؤسس الأحمدية .

کتب حضرته عن الأسباب التي جعلته يصدق بالإمام المهدي والمسيح الموعود قائلا:

الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين ، والصلاة والسلام على سيد وُلْدِ آدم.. سید الرسل والأنبياء ، أصفي الأصفياء .. محمدّ خاتم النبيين.. وآله وأصحابه أجمعين.

أما بعد، فيقول العبد الضعيف، المفتقر إلى الله القوي الأمين، نور الدين، عصمه الله من الآفات، وأدخله في زمرة الآمنين، وجعله کاسمه نور الدين: إني قد كنت لهجت مذ رأيت المفاسد من أهل الزمان، وشاهدت تغير الأديان، أن أُرْزَقَ رؤيةَ رجل يجدد هذا الدين، ويرجم الشياطين. وكنت أرجو هذه المنية لأن الله قد بشر المؤمنين في كتاب مبين ، وقال وهو أصدق القائلين :

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.. (النور: 56)

إلى آخر ما قال رب العالمين. وكذلك قال الذي ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحْيٌ يُوحَی، وهو الصدوق الأمين :

“إن الله يبعث في هذه الأمة.. على رأس كل مائة سنة.. من يجدّد لها دينَها”.

فكنتُ لرحمته من المنتظرين.

فقصدتُ لهذه البُغْية بيتَ الله، مهبط أنوار الحق واليقين. فكنت أجوب البراري، وأقطع الصحاري، وأستَقْرِی عبدًا من العباد الربانيين. فتوسَّمتُ في البقعة المباركة المكرمة.. شيخي الشيخ حسين المهاجر، الورع الزاهد التقي؛ وشيخي الشيخ محمد الخزرجي الأنصاري. وفي طَابَة الطيبة تشرفت بلقاء شيخي وسيدي ومولاي الشيخ عبد الغني المجددي الأحمدي، وكلهم كانوا كما أظن من المتقين، جزاهم الله عني أحسن الجزاء ، آمین یا رب العالمين!

وهؤلاء الشيوخ رحمهم الله، كانوا على أعلى المراتب من التقوى والعلم، ولكن لم يكونوا على أعداء الدين من القائمين، ولا لشبهاتهم مستأصلين؛ بل في الزوايا متعبدين، وبمناجاةِ ربهم متخلين.

وما رأيت في العلماء مَن توجَّه إلى دعوة النصارى والآرية والبراهمة والدهرية والفلاسفة والمعتزلة وأمثالهم في الفرق المضلين، بل رأيت في الهند ما ينيف على تسع مائة ألف من الطلبة رفضوا العلوم الدينية، واختاروا عليها العلوم الإنكليزية والألسنة الأوروبية، واتخذوا بِطانةً من دون المؤمنين. وأزْيد من ستين ألفَ ألفِ رسالةٍ طبعت في مقابلة الإسلام والمسلمين.

هذه المصيبة وعليها نسمع المشائخَ وأتباعَهم أنهم يقولون إن الدعوة والمناظرات خلاف دَيْدَن أهلِ الكمال وأصحاب اليقين. وعلماؤنا.. إلا من شاء الله.. مايعلمون ما يُفْعَل بالدين وأهل الدين. والمتكلمون مُنتهَى تدقيقاتهم مسألةُ إمكان كذب الباری (نعوذ بالله) وامتناعه، لا لتبكيت الكافرين ورد مكائد المعاندين. ومع هذه الشكوى فنشكر مساعي الشيخ الأجل، وأستاذي الأكمل، رحمة الله الهندي المكي والدكتور وزیر خان، رحمهما الله تعالى، والسيد الإمام أبي المنصور الدهلوي، والزكي الفطن السيد محمد علي الكانفوري، والسيد اللبيب مصنف (تنزيه القرآن)، وأمثالهم سلمهم الله! فشكر الله سعيهم وهو خير الشاکرین. لكن جهادهم مع شعبة واحدة من مخالفي الإسلام، ثم ما كان بالآيات السماوية والبشارات الإلهية.

وكنت حريصًا على رؤية رجل، أي رجل واحد من أفراد الدهر، قائم في المضمار لتأييد الدين وإفحام المخاصمين. فرجعت إلى الوطن وأنا كالهائم الولهان، أخبطُ وَرَقَ نَهاري بِعَصا تسْیَاري ومن المتعطّشين الطالبين. فبينما أنتظر النداء من الصادقين، إذ جاءتني بشارة من جناب السيد الأجل والعالم الحبر الأَبَلّ.. مجدد المائة ومهديّ الزمان ومسيح الدوران مؤلف (البراهين). فجئته لأنظرَ حقيقة الحال. فتَفَرَّسْت أنه هو الموعود الحَكَم العَدْل، وأنه الذي انتدبه الله لتجديد الدين، فقال لبيك يا إله العالمين. فسجدتُ لله شكرًا على هذه المنة العظيمة. لك الحمد والشكر والنعمة يا أرحم الراحمين. ثم اخترت محبته واستحسنت بیعته، حتى غمرتنی رأفته، وغشيتني مودته، وصِرتُ في حبه من المشغوفين. فآثرتهُ على طارفي وتالدي، بل على نفسي وأهلي ووالدي، وأعزتي الأقربين. أَصْبَی قلبي علمُه وعرفانه. فشكرًا لمن أتاح لي لُقيانه. ومن سعادة جَدّي أني آثرته على العالمين. فشَمَّرتُ في خدمته تشميرَ مَن لا يألُو في میدان من الميادين. فالحمد لله الذي أحسن إليَّ وهو خير المحسنين.

(کرامات الصادقين، ص 149 إلى 151).

حبذا (نور الدين)

وكتب الإمام المهدي والمسيح الموعود يمدح نور الدين :

“إن أحبائي المتقون جميعهم، ولكن أقواهم بصيرة، وأكثرهم علمًا، وأفضلهم رفقًا وحلمًا، وأكملهم إيمانًا وسلمًا، وأشدهم حبًا، ومعرفة وخشية ويقينًا وثباتًا، رجل مبارك کریم، تقي عالم صالح، فقيه محدث جلیل القدر، حکیم حاذق عظيم الشأن، حاج الحرمين، حافظ القرآن، القرشي قومًا والفاروقي نسبًا، واسمه الشريف مع لقبه اللطيف: المولوي الحكيم نور الدين البهيروي، أجزل الله مثوبته في الدنيا والدين.

وهو أول رجال بایعوني صدقًا وصفاء، وإخلاصًا ومحبة ووفاء. وهو رجل عجيب في الانقطاع والإيثار وخدمات الدين. أنفق مالاً كثيرًا لإعلاء كلمة الإسلام بوجوه شتی، وإني وجدته من المخلصين.. الذين يؤثرون رضى الله على كل رضاء ونساء وبنات وبنين. ووجدتُه من قوم يبتغون مرضاة الله، ويجتهدون لرضوانه ببذل أموالهم وأنفسهم، ويعيشون في كل حال شاکرین.

وإنه رجل رقيق القلب، نقي الطبع، حلیم کریم، جامع لمآثر الخير، كثير الانسلاخ عن البدن ولذَّاته. لا يفوته موقع من مواقع البر، ولا موضع من مواضع الحسنات. يحب أن يسكب دمه كماءٍ في إعلاء دین رسول الله ، ويتمنى أن تذهب نفسه في تأييد سبيل خاتم النبيين. ويقفو أثر كل خير، وينغمس في كل بحر لإجاحة فتن المتمردين.

(الخزائن الروحانية، ج ۷، حمامة البشری ، ص ۱۸۰).

وقال أيضًا في موضع آخر:

ما زلتُ مذ أُمِرتُ من حضرة الرب، وأُحييت من الحي ذي العجب، أَحِنّ إلى عيان أنصار الدين، ولا حنينَ العطشان إلى الماء المعين. وكنت أصرخ في ليلي ونهاري، وأقول يا ربّ من أنصاري؟ يا رب من أنصاري؟ إني فرد مهين.

فلما تواتر رفع يد الدعوات، وامتلأ منه جوّ السماوات، أجيب تضرعي، وفارت رحمة رب العالمين. فأعطاني ربي صديقا صدوقا، هو عين أعواني، وخالصة خُلصاني، وسلالة أحبائي  في الدين المتين. اسمه كصفاته النورانية نور الدين. هو بَهيرَوي مولدًا، وقُرَشي فاروقي نسبًا، من سادة الإسلام ومن ذرية النجيبين الطيبين.

فوصلتُ بوصوله إلى الجَذْل المفروق، واستبشرت به كاستبشار السيد (( بالفاروق، ولقد أُنسيتُ أحزاني، مذ جاءني ولقّاني، ووجدته في سبل نصرة الدين من السابقين. وما نفعني مال أحدٍ كماله الذي آتاه لوجه الله، ويؤتي من سنين. قد سبق الأقران في البراعة والتبرع والجدوى، ومع ذلك حلمه أرسخ من رَضوى. نبَذ العُلَقَ لله تعالى، وجعل كل اهتشاشه في كلام رب العالمين. رأيت البذلَ شِـرْعتَه، والعلم نُجْعتَه، والحلم سيرته، والتوكل قوته، وما رأيت مثله عالمـًا في العالمين، ولا في خُلقِ مِمْلاقٍ من المنعِمين، ولا في الله ولله من المنفقين. وما رأيت عبقريًا مثله مذ كنت من المبصرين.

ولما جاءني ولاقاني ووقع نظري عليه، رأيته آيةً من آيات ربي، وأيقنت أنه دُعائي الذي كنت أداوم عليه، وأُشْرِبَ حسّي ونبّأني حَدَسي أنه من عباد الله المنتخبين. وكنت أكره مدح الناس وحمدهم وبثَّ شمائلهم، خوفًا من أنه يضر أنفسهم، ولكنني أرى أنه من الذين انكسرت جذباتهم النفسية، وأزيلت شهواتهم الطبعية، وكان من الآمنين.

ومن آيات كماله أنه لما رأى جروح الإسلام، ووجده كالغريب المستهام، أو كشجر أُزعجَ من المقام، أشعرَ همًّا، وانكدر عيشه غمًّا، وقام لنصرة الدين كالمضطرين. وصنف كتبًا احتوت على إفادة المعاني الوافرة، وانطوت على الدقائق المتكاثرة، ولم يسمع مثلها في كتب الأولين. عباراتها مع رعاية الإيجاز مملوّة من الفصاحة، وألفاظها في نهاية الرشاقة والملاحة، تسقي شرابًا طهورًا للناظرين. ومثل كتبه كحرير يضمَّخ بعبير، ثم يُلَفّ فيه من درر ويواقيتَ ومسك كثير، ثم يُرتَن فيه العنبر ويجعل كله كالعجين.

ولا شك أنها جامعة ما تفرق في غيرها من الفوائد، فاقت ما عداها لكثرة ما حواها من الشوارد والزوائد، ولجذب القلوب بحبال الأدلة والبراهين. طوبى لمن حصّلها وعرفها وقرأها بإمعان النظر.. فلا يجد مثلها من معين. ومن أراد حلَّ غوامض التنـزيل، واستعلامَ أسرار كتاب الرب الجليل، فعليه بالاشتغال بهذه الكتب وبالعكوف عليها، فإنها كافلة بما يبغيه الطالب الذهين. يُصبي القلوب أَريجُ ريحانها، والثمرات مستكثرة في أغصانها، ولا شك أنها جنة قُطوفها دانية، لا يُسمَع فيها لاغية، نُزُلٌ للطيّبين. منها: “فصل الخطاب لقضايا أهل الكتاب”، ومنها: “تصديق البراهين”. تناسَقَ فيها جزيل المعاني مع متانة الألفاظ ولطافة المباني، حتى صارت أسوة حسنة للمؤلفين، ويتمنى المتكلمون أن ينسجوا على منوالها، وترنمت بالثناء عليها ألسنة النِحْريرين. جواهرها تفوق جواهر النحور، ودررها فاقت درر البحور، وإنها أحسم دليل على كمالاته، وأقطع برهان على ريّـا نفحاته، وستعلمون نبأها بعد حين.

قد شمر المؤلف الفاضل فيها لتفسير نكات القرآن عن ساق الجِدِّ والعناية، واعتنى في تحقيقه باتفاق الرواية والدراية، فواهًا لهممه العالية، وأفكاره الوقّادة المَرضية، فهو فخر المسلمين. ولـه ملكة عجيبة في استخراج دقائق القرآن، وبثّ كنوز حقائق الفرقان، ولا شك أنه ينوَّر من أنوار مشكاة النبوة، ويأخذ نورًا من نور النبي بمناسبة شأن الفتوة، وطهارة الطين. امرؤ عجيب، وفتى غريب، تتفجر أنهار أنوار الأسرار بلمحة من لمحاته، وتتدفق مناهل الأفكار برَشْحةٍ من رشحاته، وهذا فضل الله يهب لمن يشاء وهو خير الواهبين….

وإني قد أطلقتُ أَجْرَدَ فكري إلى كمالاته، فوجدته وحيدَ الدهر في علومه وأعماله وبرّه وصدقاته، وأنه لَوْذَعِيٌّ أَلْمَـعِيّ، نخبة البررة، وزبدة الخيرة. أعطي لـه السخاء والمال، وعُلّقت به الآمال، فهو سيد خَدَمِ الدين، وإني عليه من الغابطين. ينـزل أهل الآمال بساحته، ويستنـزلون الراحة من راحته، فلا يَلوي عِذارَه عمن ازداره، وأمَّ دارَه، وينفَح بعُرْفه من وافاه من المملِقين.

وهو يجد للُقياني بكمال ميل الجنان، كوَجْدِ المثري بالعِقْيان، يأتي من بلاد نازحة على أقدام المحبة واليقين. فتى طيب القلب، يحبّنا ونحبّه، يسعى إلينا بجهد طاقة، ولو وجد فواقَ ناقة. انثال الله عليه من جوائز المجازاة، ووصائل الصلات، وأيد ببقائه الإسلام والمسلمين. لـه بقلبي عُلَقٌ عجيبة، وقلبه نَفوح غريبة. يختار في حبّي أنواع الملامة والتعنيف، ومفارقة المألف والأليف. ويتسنّى لـه هجر الوطن لسماع كلامي، ويدَعُ التذكر للمعاهد لحبّ مقامي، ويتبعني في كل أمري كما يتبع حركة النبض حركة التنفس، وأراه في رضائي كالفانين.

إذا سئل أعطى ولم يتباطأ، وإذا دعي إلى خطّة فهو أول الملبين. قلبه سليم، وخلقه عظيم. كرمه كغزارة السحب، وصحبته يُصلح قلوب المتقشفين. ووَثْبُه على أعداء الدين وثبة شبلٍ مثار، قد أمطر الأحجار على كفار، ونقّر عن مسائل الويديين ونقّب، ونزل في بقعة النَّوكى وعاقبَ، فجعل سافل أرضهم عاليَها، وثقّف كتبه تثقيف العوالي لإفضاح المكذبين. فأخزى الله الويديين على يده، فكأن وجوههم أُسِفّتْ رمادا، وأُشربت سوادًا، وصاروا كالميتين…

والفاضل النبيل الموصوف من أحب أحبائي، وهو من الذين بايعوني وأخلصوا معي نية العقد، وأعطوني صفقة العهد، على أن لا يؤثروا شيئًا على الله الأحد، فوجدته من الذين يراعون عهودهم ويخافون رب العالمين. وهو في هذا الزمن الذي تتطاير فيه الشرور، كالماء المعين الذي ينـزل من السماء، ومن المغتنمين. ما آنستُ في قلب أحد محبةَ القرآن كما أرى قلبه مملوًّا بمودّة الفرقان. شغفه الفرقان حُبّا، وفي ميسمه يبرُق حبُّ آيات مبين. يُقذَف في قلبه أنوار من الله الرحمن، فيرى بها ما كان بعيدًا محتجبًا من دقائق القرآن، ويَغبِطني أكثر مآثره، وهذا رزق من الله، يرزق عباده كيف يشاء وهو خير الرازقين..

قد جعله الله من الذين ذوي الأيدي والأبصار، وأودع كلامه من حلاوة وطلاوة لا يوجد في غيره من الأسفار. ولفطرته مناسبة تامة بكلام الرب الجليل، وكم من خزائن فيه أُودعتْ لهذا الفتى النبيل. وهذا فضل الله لا منازع له في أرزاقه، فمن عباده رجال ما أعطي لهم بُلالة، ورجال آخرون أعطي لهم غَمْر، وما هم به من المتعللين. ولعمري إنه امرؤُ مواطنَ عظيمة، صدَق فيه قول من قال: “لكل علم رجال، ولكل ميدان أبطال”، وصدَق فيه قول قائل: “إن في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا”. عافاه الله ورعاه، وأطال عمره في طاعته ورضاه، وجعله من المقبولين.

إني أرى الحكمة قد فاضت على شفتيه، وأنوار السماء قد نزلت لديه…

فقام هذا الفتى وسقط على أعداء الرسول كسقوط الشهب على الشياطين. فهو كحدقة العيون في العلماء، وفي فَلك الحكمة كالشمس البيضاء. لا يخاف إلا الله، ولا يرضى بالآراء السطحية، التي منبَتها النَّجْد غيرُ خَوْر، بل يبلغ فهمه إلى أسرار دقيقة المآخذ المخفية في أرض غَوْر. فللّه درّه، وعلى الله أجره. قد أعاد الله إليه دولة منهوبة، وهو من الموفقين. والحمد لله الذي وهب لنا هذا الحِبّ في حينه ووقته وأيام ضرورته، فنسأل الله تعالى أن يبارك في عمره وصحته وثروته، ويعطينا أوقاتا مستجابة للأدعية لـه ولعشيرته، ويشهد فراستي أن هذه الاستجابة  أمر محقوق لا مظنون، ونحن في كل يوم من الآملين…

وإني أرى علمه وحلمه كالجبلين المتناوحين.. ما أدري أيهما فاق الآخر، إنما هو بستان من بساتين الدين المتين. رب أنزل عليه بركات من السماء، واحفظه من شرور الأعداء، وكن معه حيثما كان، وارحم عليه في الدنيا والآخرة، وأنت أرحم الراحمين. آمين ثم آمين!».

(الخزائن الروحانية ، ج 5، مرآة كمالات الإسلام ص582ه إلى 589)

وماذا عسى أن يكتب أحد عن رجل قال عنه الإمام المهدي والمسيح في بيت شعر بالفارسية ما ترجمته:

يا حبذا لو أن كل واحد من الأمة يكون (نور الدين) !

ولكن هذا لن يمكن إلا إذا أُفعم كل قلب بنور اليقين..

شرح الكلمات:

عيان: رؤية، مَهين: ضعيف، خالصة خلصاني: أصدق أصدقائي، سلالة: خلاصة، بهيروي: من بلدة بهيرة، فاروقي: ينتسب إلى الفاروق عمر بن الخطاب، الجذل المفروق: الفرح الذي طالما فارقني، الجدوى: العطاء، رضوی: اسم جبل، العلق: علاقات المحبة، اهتشاشه: ارتياحه ومشتهاه، نجعته: مطلبه، خلق مملاق: تواضع الفقير، المنعمين: الأغنياء، يضمخ: يمسح بالعطر، يرتن: يمزج، نحریرین: العلماء الحاذقين، ريا: الرائحة الطيبة، نكات القرآن: دقائقه ولطائفه. أجرد فكري: شبّه الفكر بالجواد، لوذعي. ألمعي: ذكي فصيح، بررة: جمع بار، يلوي عذاره: يعرض، ازداره: زاره، أمَّ داره: قصده، عرفه: خيره، مثرٍ: ذو ثروة، العقيان: الذهب الخالص، فواق ناقة: الفترة القصيرة بين حلبتين، انثال: صب عليه، الويديين: الهندوس کتابهم الويد، النوکی: الحمقی، بلالة: القليل من الماء، غمر: الماء الكثير، خور: أرض منخفضة، غور: عمق، المتناوحين :المتقابلين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك