حقيقة عقوبة الردة في الإسلام  !

نشرنا في عدد (أبريل) الماضي نخبة من آراء الهيئات الإسلامية، ورجال الدين المسلمين حول قضية كتاب سلمان رشدي الشيطاني، ووعدنا بنشر مقالة لإمام الجماعة الإسلامية الأحمدية.. أيده الله تعالى بنصره العزيز، تتناول موضوع (حقيقة عقوبة الرِّدة في الإسلام)، ألقاها في الاحتفال السنوي لجماعة بريطانيا يوم 27 ، 7 ، 1986 بإسلام آباد، تلفورد وها نحن ننشر في هذا العدد الجزء الأول من مقالة الإمام، وسنوالي إن شاء الله تعالى نشرها  كاملة، حتى تتضح الحقيقة أمام القراء الكرام

(المحرر)

أشهد أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أما بعد، فأعوذ بالله الشيطان الرجيم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ آمين

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (المائدة: 55).

تُحدق بالعالم الإسلامي في هذا الزمن الأخير أخطارٌ جسيمة، وتتربَّص به قوات معادية من الشرق والغرب، تهاجمه بأسلحة متنوعة متجددة، وأدهىَ وأمرُّ من ذلك أنهم يستخدمون أسلحة ذات صبغة إسلامية، ويشنّون الحرب على الإسلام باسم الإسلام. ومن يُلْقِ نظرة عابرة على العالم الإسلامي.. يندهش إذ يرى القائلين بجهَاد السيف وقتال أعداء الإسلام بقوة السلاح، هم أنفسهم لا ينفكون يضرب بعضهم رقابَ بعض، وسيف الإسلام مسلول على العالم الإسلامي، وخناجر المسلمين لا تطعن إلا في صدور المسلمين. فسواء أكان الخلاف بين العراق وإيران، أو بين طائفتين من المجاهدين الفلسطينين، أو بين سوريا والأردن، أو بين ليبيا ومصر أو حيثما نظرتَ إلى العالم الإسلامي، وجدتَ أن قواتِه متشابكة متقاتلة فيما بينها، وذلك بالطبع على حساب الإسلام.

ومن العجب العجاب أن يفترق العالم الإسلامي اليوم إلى معسكرين متحاربي : معسكر تعلن دُولُه الإسلامية أن الإسلام أحمر اللون، اشتراكي الهويَّة، وتستدل على ذلك في زعمها بآيات من القرآن الكريم والحديث النبوي، كما يرى هذا المعسكر أنه لا فرق بين الإسلام والاشتراكية في حقيقة الأمر إلا من جهة الاسم فقط، إذ يقولون: لو أضفنا فكرة الإله إلى الاشتراكية، أو نزعنا فكرة الإله من الإسلام لظل الحال كما هو، ولبقيت كلتا نظريتي الحياة في الحالين متشابهتين تماما.

أما المعسكر الآخر، فتقوم دُوَلُه الإسلامية بتمثيل الاستعمار الغربي وتأييده علنا، وتقف في صفه بكل حماس، مرتديةً رداء الإسلام أيضا، وكأن الإسلام لم يكن له من هدف آخر سوى تأييد الرأسمالية.

مؤامرة عالمية خطيرة ضد الإسلام

هذا وبتأثير الاستعمار الغربي وترتيبه في الآونة الأخيرة.. يقوم أعداء الإسلام، من صفوف المعسكر الثاني بإشاعة وترويج نظريات معينة داخل الشعوب الإسلامية.. نظريات بالغة الخطورة، بحيث إنها لا تُبقي رحَى الحرب دائرة بين دولة إسلامية وبين أختها فحسب بل وتحوِّلها أيضا إلى حرب أهلية داخل كل دولة، وأشد هذه النظريات خطرًا بل قل أقوى أسلحة الاستعمار فتكًا ضد الإسلام هو سلاح (قتل أهل الرّدة) وتشاع هذه النظرية وتلقى اهتماما كبيرا على وجه الخصوص.. في الدول الخاضعة للنفوذ الأمريكي، التي تؤيد السياسة الأمريكية علنا ، وتشكل نظام حياتها تحت إشراف أمريكي، وهناك استعدادات واسعة النطاق، تجري في هذه الدول لتطبيق هذه النظرية الخطيرة. ولذلك رأيت من الضروري أن أقدم لكم تعليمَ الإسلام الحقيقي.. التعليم الخالد الرائع في شأن موضوع الردّة ذلك كي تستطيعوا حسبما تسمح لكم الظروف محاربةَ هذه المؤامرة الكريهة الدنيئة المروِّعة.

الخطوة الأولى لمناقشة الموضوع

وقبل البحث التفصيلي في عقيدة (قتل أهل الردة).. لابد لنا من تعريف مصطلحَيْن جوهريين، وهما: (أولا) من هو المسلم؟ و(ثانيا) من ذا الذي يُسمَّى مرتدًا؟ وكيف يصير مرتدا؟

وعندما أجلْت فكرى في هذا الموضوع، خطر ببالي تقريرُ محكمةِ التحقيق في الفتن التي حدثت في باكستان عام 1953م.. التي تشكَّلت برئاسة القاضيين الفاضلين: السيد منير والسيد كِياني ولقد قام القاضيان بتحقيقٍ دقيق كل الدقة، وقدّما خلاله استفتاءً إلى علماء ومشائخ جميع الفرق الإسلامية على اختلافها، وأراد منهم معرفةَ الجواب على مسألتين هامتين للغاية هما: ما هو تعريف الإسلام؟ ومن هو المسلم؟

وأعلن القاضيان بكل وضوح.. أنه ما لم يتعيّن أولاً تعريف المسلم.. لن يمكن لهما الانتقالُ إلى الخطوة التالية، ويكون البحث في مسألة الارتداد غيرَ المنطقي أصلاً أمّا إذا تحدَّد تعريف المسلم فعندئذ يمكن الفصلُ في مسألة (هل خرج أحدٌ ما عن الإسلام أم لا)؟

بعد بحث طويل ودقيق، واستفسارات شتى، ومناقشات مفصَّلة، انتهى القاضيان الفاضلان إلى نتيجة أذكرها لكم بنَصِّها الحرفي:

“كان من المسائل الجوهرية الهامة معرفةُ هل فلانٌ مسلم أم لا؟لذلك طالبنا معظَم العلماء البارزين أن يُعرِّفوا لنا المسلم والحكمةُ من وراء ذلك أنه إذا كان علماء الفِرق الإسلامية المختلفة يُكفِّرون الأحمديين.. فلابدَّ وأنهم على بصيرة ويقينٍ بشأن فتواهم، وأن أسبابَها واضحةٌ في أذهانهم بدرجةٍ يستطيعون معها بيسرٍ أن يأتوا بتعريف دقيق قطعيّ للمسلم، ذلك أن الدعوى بخروج شخص أو جماعة عن دائرة الإسلام.. يستلزم أن يكون في ذهن المدَّعي تصوُّر واضح عن من ذا الذي يُسمَّى مسلما؛ ولكن التحقيق في هذه الجزئية من القضية للأسف.. لم يُسفِر عن نتيجة مُرضية، فإذا كان علماؤنا ومشائخنا يتخبطون هذا التخبَط في مثل هذه القضية البسيطة.. فمن السهل جدا تصور مدى اختلافهم في القضايا الأكثر تعقيدا”. (السيد م. ر كياني والقاضي السيد محمد منير. تقرير محكمة التحقيق في فتن بنجاب سنة 1953 مطبعة إنصاف لاهور: ص 231، 232)

لم يتفق المشايخ على تعريف واحد للمسلم !

وقدم القاضيان نماذج لهذه التعريفات، وأثارا المسألة التالية:

“لم يتفق العلماء على تعريف واحد للمسلم، فهل بقيت هناك حاجة.. بعدما قدمه العلماء من تعريفات متضاربة متعددة.. إلى تعليق من ناحيتنا، إلا أن نقول: إنه لا يوجد بين علماء الدين، حتى ولا اثنان، يتفقان على هذه المسألة الجوهرية الخطيرة.. نعني (تعريف المسلم) ولو أننا قدَّمنا بدوْرنا أي تعريف للمسلم، كما فعل كل واحد من العلماء، وكان تعريفنا معارضا لتعريفاتهم المختلفة.. لأفتوا بالإجماع بكوننا خارجين عن دائرة الإسلام، ولو قبِلنا تعريفَ واحدٍ منهم لبقينا عنده من المسلمين لكننا نصير في عداد الكافرين حسب تعريفات الآخرين”. ( المرجع السابق ص 235، 236)

قدَّمت لكم هاتين العبارتين كنموذج فقط، وإلا فإن القاضيين الفاضلين قد جاءا ببحث شيق دقيق مفصل، ومن أراد المزيد فليرجع إلى الكتاب الأصلي.

تعريف النبي للمسلم

والآن أسوق لكم تعريف المسلم.. كما عرَّفه سيدُنا محمد بنفسه. ولقد ذكره باثنين أو ثلاثة أساليب متنوعة، ولا يعقل أن تغيب هذه التعريفات النبوية عن ذاكرة المشائخ، وما منعهم أن تجول هذه التعريفات الجلية في أذهانهم، إلا لأنها تعريفات لا تسمح لهم بتكفير الجماعة الإسلامية الأحمدية بأية صورة من الصور. وإذن فهو ظلم عظيم وخيانة كبرى.. أن يُعرضوا عن هذه التعريفات النبوية الواضحة، وينبذوها وراء ظهورهم، ويحاولوا اختلاق تعريف للمسلم من عند أنفسهم، وما ذلك إلا لفرط عداوتهم للجماعة الإسلامية الأحمدية ومع ذلك فقد فشلوا في محاولاتهم فشلا ذريعا.

التعريف النبوي الأول

أما التعريف الأول، كما جاءنا على لسان سيدنا محمد فهو أعمُّ التعريفات وأوسعها نطاقا، بحيث لا يترك مجالاً لأحد أن يفتي بارتداد أحد من المسلمين، اللهم إلا إذا أعلن المرء بنفسه ارتدادّه وخروجه عن دائرة الإسلام، ويؤخذ هذا التعريف من الرواية التالية:

قَالَ النَّبِيُّ : “اكْتُبُوا لِي مَنْ تَلَفَّظَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ النَّاسِ…” (صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير).

وقد صدر هذا الأمر النبوي الكريم بغرض إحصاء عام لسكان المدينة المنوَّرة، ولما كانت قضية الإحصاء أعمَّ وأشملَ تصنيفا، ذكر النبي في هذه المناسبة أشملَ التعريفات وأعمَّها، فطلب لإحصاء المسلمين.. أن يكتبوا له اسمَ كل من يقول بأنه من المسلمين ولم يسمح النبي بأي بحث أو فحص أو نقاش، حتى إنه لم يهتم في هذا الصدد بما إذا كان القائل بالإسلام ينطق بالشهادتين أم لا، بل قال إنه فيما يختص بالإحصاء العام وبالسياسة فهذا التعريف يكفيني فكل من يسمي نفسه مسلما فاكتبوا اسمه “لي”.. أنا نبي الإسلام.. في قائمة المسلمين.

وقوله: “لي” جديرٌ بالانتباه، فهي كلمة حُلوة، حبيبة جدا، وكأنه يقول: إنني أقبل هذا التعريف للمسلم، ولا أبالي أيقبله الآخرون أم لا أو بعبارة أخرى: أمّا أنا.. محمد الذي بعثه الله رسولاً، فيكفيني.. كتعريف عام للمسلم.. أن يقول أحدٌ: إني مسلم.

التعريف النبوي الثاني

وهو تعريف ديني إلى حد ما وهو أيضا من البساطة والوضوح والحسن بحيث لا يُبقي لسامعه مجالا للمِراء والخلاف، قال :

“مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلَا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ” (صحيح البخاري، كتاب الصلاة).

فما أعظَمَه.. وما أوضَحَه.. وما أحسنَه من تعريف! ولكن انظروا كيف يجترئ المشائخ في باكستان على تلفيق تعريف جديد للمسلم يخالف تعريف النبي ، وكان من نتيجة تعريفهم أن أُوذي اليوم مئاتٌ من المسلمين الأحمديين، وزُجَّ بهم في السجون.

وعندما يُفتي هؤلاء المشائخ علنًا بقتل المسلمين الأحمديين، يبّررون قتلهم قائلين: إنهم خرجوا من ذمتنا، لأنهم يقومون بنشاطات خطيرة فما هي تلك النشاطات الخطيرة يا تُرَى؟ قالوا إنهم يصلّون صلاتنا، ويستقبلون قبلتنا، ويأكلون ذبيحتنا. ولئن لم ينته الأحمديون عن هذه الأمور.. لن ندخلهم في ذمتنا، وبمجرد أن ينتهوا عنها ندخلهم في ذمتنا!

فهل ذمتهم هذه هي نفس الذمة التي ذكرها الرسول ؟ كلاّ، بل إنهم اصطنعوا من عند أنفسهم، ذمة مخالفة تماما.. في كل جُزئية من جزئيَّاتها.. لذمّة الله وذمّة رسوله، إنهم قد وضعوا تعريفا جديدا للمسلم، أَتَوْا بِقبلة جديدة، إذ يطالبون بهدم مساجد المسلمين الأحمديين، لتحويل قبلتهم إلى غير الكعبة المشرفة.. فعلّموا العالم بذلك أساليبَ جديدة للعبادة. أما بالنسبة للجماعة الإسلامية الأحمدية.. فحسبُها تعريفُ سيدِّنا محمدٍ وكفى، وتُرضيها ذمة الله وذمة رسوله فحسب، ولا تحفَل مطلقًا بأية ذمة أخرى من هؤلاء المولويين والمشائخ.

التعريف النبوي الثالث

ثم إن هناك تعريفا ثالثا، يختص بمن يحاولون تبرير قتل غير المسلمين، إنه وإن لم يكن تعريفا بمعنى الكلمة.. إلا إنه يُستنبط من واقعة حدثت في زمن النبي ، وكان موقف الرسول منها بمثابة تعريف المسلم. تقول الرواية:

عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَهَذَا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ فِي سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِك،َ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : “أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنْ السِّلَاحِ قَالَ: “أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا”. فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ. (صحيح مسلم، كتاب الإيمان)

وفي رواية:

“حَتَّى تَمَنَّيْت أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْت قَبْل ذَلِكَ الْيَوْم”

وفي رواية ثالثة: قال :

“فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: “وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: فَجَعَلَ لَا يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”. (صحيح مسلم، كتاب الإيمان)

أي إذا جاءت يوم القيامة تشهد عليك.

ولاحِظوا أن الرجل اقتصر على قول (لا إله إلا الله)، ولم يشفَعها بقول (محمد رسول الله) ولكنهم اليوم برغم ذلك كله، يلفَّقون تعريفًا معاكسا ومُخالفا تماما لهذا التعريف النبوي، فهل من المعقول أن يَخْفَى هذا الحديثُ أو يفوت على هؤلاء المشائخ.. حتى يعلنوا على الملأ بأن أي أحمدي يتفوه بقول (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) يستحق القتل، ويقولوا بأنهم لن يصبروا.. بأي صورة وبأي ثمن.. على أن يسمعوا من الأحمدي (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، أو أن يمشي بها بين الناس معلَّقةً في شارة على صدره، بل لقد بلغ بهم غيظهم درجة دفعتهم أن يقولوا:

“لو رأينا بعد ذلك أحمديا ينطق بالشهادتين لنَجدَعنَّ أنفه ولنقطعن أذنه”.

كما أفتَوا بأن قتلَ هذا الأحمدي واجب على كل مسلم وحجتهم على فتواهم هذه هي نفس الحجة التي رفضها سيد الكونين رفضا قاطعا أبديًا، فحجتهم أن الأحمديين ينطقون بشهادتين بلسانهم ولم يدخل الإيمان في قلوبهم وإنه لعمْري أمرٌ يثير الدهشة والحيرة! فهذا ولا شك، تمردٌ وخروج على ذلك السيد الذي يدينون في زعمهم.. لسيادته ، ويفتخرون بها، وأعجب من ذلك أيضا أنهم يُصرُّون على هذا الخروج السافر والمروق الواضح، بل بلغ بهم الظلم والعداون أنهم يُجبِرون الحكومة على أن تعلن.. مع المولويين والمشائخ.. عن قتل عامّ لكل من يتلفظ من الأحمديين بقول (لا إله إلا الله، محمد رسول الله).

وخلاصة القول، إنني لم أجدْ إلا هذه التعريفات النبوية الثلاثة، وهي التي أحِبُّها وأفضِّلها، ولست مستعدا لقبول أي تعريف سواها، لأنها تعريفات بلسان مؤسس الإسلام، نبينا محمد .

عذرٌ  واهٍ من المشائخ

والجدير بالذكر، أنه لما بلغ المشائخ والمولويين أن تقرير المحكمة المذكورة، يقول بأنه لم يتفق منهم اثنان على تعريف واحد للمسلم، علّقوا على ذلك قائلين.. بأنهم لم تُتَحْ لهم فرصة كافية لذلك، وأنهم لم يكونوا مستعدين مطلقا للإجابة على هذا السؤال، ولو أنهم أُعطُوا المهلة الكافية لوجدوا تعريفا يتفقون عليه يقينا.

(مرتضى أحمد خان دراني، “محاسبة” أي التعليق على تقرير محكمة فتن بنجاب سنة 1952، مكتب جريدة نواء وقت لاهور)

ثم ما زالوا في الانتظار والاستعداد لذلك زمنا طويلا، ومضت سنوات وسنوات بعد عام 1953.. حتى جاء عام 1974، وكانوا قد أعدُّوا عُدَّتهم كاملة، ولفَّقوا تعريفا جديدا للمسلم.. تعريفا لا يمُتُّ إلى مؤسس الإسلام ، ولا يمُتُّ إلى القرآن المجيد.. كتاب الإسلام، ولا يمت إلى السنة النبوية الشريفة على الإطلاق.

تعريف جديد من تلفيق المشائخ

أدخلوا في تعريفهم إقرارًا سلبيا.. حيث قالوا: (إن المسلم من يُقِرُّ بلا إله إلا الله محمد رسول الله، ويكذِّب مرزا غلام أحمد القادياني، ويكفُر بنبوته صراحة) ومن لا يستكمل هذه العناصر لا يُعدُّ مسلما؟ إن هذه الثغرة التي فتحها المشائخ في حصن الإسلام.. قد ظهرت، ولا تزال تظهر آثارها السيئة الكثيرة، إلا أنني أتوجه إلى صميم الموضوع وأقول:

مناقشة تعريفهم الملفق

إن تعريفهم هذا من أساسه يُواجه اعتراضا له قوته وثقله، ذلك أن أيَّ تعريف يُشترط لصحته ألاَّ يتقيَّد أبدا بزمان أو مكان، أعْني أنه لا يخضع لعصر أو لحدود جغرافية فالتعريف الذي لا ينطبق على زمن النبي .. من المحال أن يُعتبر اليوم تعريفا صحيحا إنما التعريف المقبول.. هو ذلك الذي ينطبق على زمن النبي ، ثم لا يزال ينطبق على كل زمان بعده، فلا تأتي لحظة من الزمن يكون فيها هذا التعريف غيرَ صالح. كما يجب ألا ينطبق التعريفُ على باكستان فحسب، بل يصلح بعينه لكل بلد آخر.. شرقيًا كان أو غربيًا، جنوبيًا كان أو شماليا. ولكنّ تعريفهم هذا غريبٌ جدا، إذ يستحيل انطباقُه على ما قبل عام 1974م، حتى إنه لا ينطبق على عهد المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام.. فكثيرٌ من الأحمديين قد ارتحلوا من هذه الدنيا قبل اختلاق هذا التعريف، وكانوا يُسمَّون مسلمين، فبما أن هذا التعريف لم يُلفَّق، ولم يخطر ببال أحد في زمنهم.. فهُم كانوا مسلمين.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى.. فما قولُهم فيمن خَلوا من المسلمين قبل بعث سيدنا مرزا غلام أحمد.. المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، الذين لم يكفُروا به.. بل اقتصروا على شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ إذن، فالتعريف الذي لا ينطبق على القرون الماضية.. هو اليوم أيضا تعريفٌ خاطئ باطل، ولا يصح الأخذ به بتاتا.

ولو أنهم قالوا: لم يكن بالإمكان ذِكرُ تكذيب متنبئ كاذب في التعريف وقتئذ.. لأنه لم يكن يوجد أي متنبئ كاذبٍ في ذلك العهد.. لكان ذلك منهم كذبًا ما بعده كذب، لأن أول من ادَّعى النبوةَ الكاذبة بصورة قطعية ٍ ضد النبي محمد كان موجودا في زمنه . (صحيح البخاري، كتاب الحيل، باب إذا طار الشيء في المنام)

ورغم وجود ِ هذا المتنبئ الكذاب.. فإن النبي لم يُدخل تغييرا في تعريف المسلم، ولم يفعل ذلك أحدٌ من خلفائه، ولا أحد من التابعين، ولا أحد من الأجيال التالية لهم، فهل لم يفكر النبي في ضرورة أن يضاف إلى تعريف المسلم إنكارُ هذا (المتنبئ الكاذب) حتى يكتمل التعريف؟

فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، وأعيدوا النظرَ في كل العصور الإسلامية، وأرونا كيف تطبقون تعريفكم المنحول على أي زمن قبل عام 1974م. نعم، أرونا ولو لمرة واحدة، كيف تطبِّقون تعريفَكم الذي تقولون فيه بأنه لا يمكن أن يكون المرءُ مسلما (والعياذ بالله) إلا إذا أقر بتكذيب متنبئ كاذب.

تعريف المسلم في رأي المودودي، وتطبيقه على المسلمين في باكستان

ولنترك الآن تعريفاتِهم تلك، ونتوجه إلى تعريف المودودي.. فهو يختلف عن كل ما سبقه من تعريفات. ومع أن المودودي لم يذكر تفاصيل تعريفه.. إلا أنه أرانا كيف يطبِّقه وسأقرأ عليكم بعض ما قاله عن تعريفه وتطبيقه، لننظرَ في ضوء تعريفه إلى وجوه المسلمين في باكستان، لنتبين هل هي وجوهُ المسلمين أم الكافرين.. خاصةً وإن الفئةَ الحاكمة في باكستان اليوم فئةٌ مودودية، وزمامُ الحكومة ليس في الحقيقة إلا في أيدي المشائخ الوهابيين والمودوديين، فلذا كان من الضروري أن أعرض عليكم أيضا تعريفَ المودودي. يقول المودودي:

(أما هذه الجموع الغفيرة.. التي يطلق عليها الأمة الإسلامية.. فإن تسعَمائة وتسعة وتسعين بالألف منهم لا يعرفون ما الإسلام، وما القرآن، ولا يقدرون على تمييز الحق من الباطل. ولم يطرأ أيُّ تغييرٍ على سلوكهم الأخلاقي، ولا على اتجاههم الفكري نحو تعاليم الإسلام، وإنما ورث الابن اسمَ المسلم من أبيه، وهذا ورثه عن جده، وهكذا هم مسلمون. وإلّا فَهُم لم يقبلوا الحقَّ لأنه الحق، ولم يكفُروا بالباطل لأنه الباطل. ولو ظنَّ أحدٌ أنه لو سلّمنا القيادة لأيدي الأغلبية منهم لسارت عجلةُ الإسلام في طريقها بسلام.. لم يكن ظنُّه هذا إلا ضربًا من الخبل والجنون..)). (المودودي، المسلمون والصراع السياسي الراهن، الطبعة السادسة، الناشر مكتبة الجماعة الإسلامية، لاهور، ج3، ص105، 106).

  وأقول: هل كان الذي حدث عام 1974م.. أعني اختلاق التعريف الذي عدُّوه تعريفًا حقيقيًا للمسلم.. إلا نتيجةً لتسليم قيادة الإسلام في أيدي قومٍ كهؤلاء؟.

وربما يظنُّ أحدٌ أنَّ هدف المودودي من مقالته.. هو أنَّ إجماع عامة الناس على أمرٍ ما لا يكون له وزن ولا قيمة، ولكن المشائخ والعلماء البارزين.. بما لديهم من ذوق إسلامي وتفقُّه في الدين يكون لهم الحق في ذلك.. ولما كان الذين أصدروا الفتاوى ضد المسلمين الأحمديين.. هم من أمثال هؤلاء العلماء البارزين.. فيؤخذ قولهم مأخذ الجد، ويكون لفتاواهم قوتها وثقلها. أو ربما يظنُّ أحدٌ آخر أنَّ قول العامة مرفوضٌ تمامًا.. لأنهم من العوام الذين وصفهم المودودي آنفًا، ولكن أعضاء مجلس الشعب يتمتعون بهذا الحق، لأنهم هم نخبة القوم وصفوتهم، ولا يعنيهم المودودي بما قاله.

وبدلاً من أُبدِّد هذه الأوهام بنفسي.. أترك المودودي ليردّ بنفسه على ذلك.. فهو يستطرد ليُزيل هذا الوهم قائلاً:  (سواء أكانوا زعماءَ سياسيين ذوي ثقافةٍ وتربيةٍ غربيّة، أو علماءَ الدين المفتين..)

أقول: وهل كان أعضاء مجلس الشعب الذي أصدر تلك الفتوى، والتعريف الذي يعدُّ المسلمين الأحمديين خارجين عن دائرة الإسلام.. إلا من هذين الصنفين؟ ويستمر المودودي قائلاً:

((.. فَكِلا الصنفين من القوم.. بسبب آرائهم ونظرياتهم.. على السواء ضالّون، في الظلمات يعمهون، وعن الصراط ناكبون، وليس لأحدٍ منهم البصيرة الإسلامية..)). (المرجع السابق، ص77، 78).

أما فيما يتعلق بالوهم القائل.. بأنَّ أعضاء مجلس الشعب.. مهما ساءت حالهم.. فهم إذا حصلوا على تأييد الجماهير، ونالوا حقَّ تمثيل الشعب، فلا بد من تنفيذ فتاواهم وقبول تعريفهم.. فيردّ المودودي على هذا الوهم أيضًا في نفس الكتاب قائلاً:  (إنَّ الانتخاب الجمهوري مثله كمثل استخراج الزبدة من اللبن..)

أقول: ما أحسنه من مثال! ومن يُنكر أنه حقًا مثالٌ رائع للغاية، ولكن ما هي نتيجته؟

 (.. فإذا كان اللبن مسمومًا لا بد وأن تكون الزبدة المستخرجة أشدَّ من اللبن سُمًّا. فالذين يظنُّون أنه إذا تحرّرت مناطق الأكثرية المسلمة من السيطرة الهندوسية، وأُقيم فيها نظامٌ جمهوري، لأمكن بذلك تأسيس دولةٍ إلهية فيها، فظنُّهم هذا باطل، وإنّما يؤدّي ذلك كلُّه إلى إيجاد حكومةٍ كافرة بأيدي المسلمين).

  أقول: هذا ما قالوه بالأمس القريب، أما اليوم فلهم رأيٌ آخر. فهل هكذا يتلوّن الإسلامُ ويتحوّل من الشيء إلى ضده؟ وهل بهذه السرعة، وإلى تلك الأشكال المختلفة الغريبة يتنكَّر الحق؟

ثم يستطرد المودودي ويقول: (.. فالذين يُسمَّون هنا مسلمين فيهم الغثُّ والسمين، وما من خُلقٍ من أخلاق الكفار إلا ويوجد فيهم..). (المرجع السابق، ص107، 108).

تعريف الارتداد

والآن، نتناول الحديث عن تعريف الارتداد. يقول العلّامة الأصفهاني:

(الارتداد أو الرِّدة هو الرجوع في الطريق الذي جاء منه، لكن الردّة تختصُّ بالكفر، والارتداد يستعمل فيه وفي غيره؛ قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ.. ، وقال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ.. ،

وهو الرجوع من الإسلام إلى الكفر). (المفردات في غريب القرآن، للإمام الراغب الأصفهاني، تحت مادة: ردد).

الحكمة الإلهيّة في استخدام كلمة (يرتدَّ)

الفعل (ارتدَّ، يرتدُّ، ارتدادًا) لا يكون إلا لازمًا، ولا يُمكن استخدامه استخدامًا متعدّيًا أبدًا، بمعنى أنَّ قواعد اللغة العربية لا تُجيز القولَ بأنَّ فلانًا صيَّر غيره مرتدًا، ذلك لأنَّ المرتدَّ لا يكون مرتدًا إلا إذا أعلن بنفسه خروجه عن دائرة الإسلام. فليس في لفظ الارتداد ما يدلُّ على أنَّ أحدًا غيرَ المرتد يُخرجه عن دائرة الإسلام، وإنّما يَتوقف ارتداده على رغبته الشخصية.

ومن عجائب قدرة الله، سبحانه وتعالى، وحكمته البالغة.. أنّه استخدم لمفهوم الارتداد كلمةً تنفي نفيًا تامًا تدخُّل الغير في ارتداد أحدٍ ما. وقد ذكر القرآن الكريم أيضًا تعريفًا للارتداد يُماثل ذلك تمامًا حيث يقول:

  وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ .. فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ.. . (الكهف: 30).

لا يحِقُّ لأحدٍ تكفيرُ غيره

والواضح أنَّ المشيئة والإرادة من الأمور القلبيّة. ولهذا فليس في أيّ موضعٍ من القرآن الكريم ما يُبيح لكم أن تُفتوا بإسلام هذا أو كفر ذاك بحسب هواكم، بل أعطى كل واحدٍ الحق، وسمح له وحده بهذا النوع من الإعلان. وبعد هذا التصريح الربّاني.. مَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن.. وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ لم يبقَ أي مجال للجبر والإكراه. ذلك لأنه لو كانت عقوبة الارتداد والكفر بعد الإيمان هي القتل، فما معنى قوله: “من شاء”؟ وهل يُفصح عن إرادة امرئٍ ورغبته إلا المرءُ نفسُه؟ فمثلاً لو سُئِل أحد: هل أنت مسلم أو غير مسلم؟ فقال: إنني من المسلمين؛ فحيث إنَّ كلمة (شاء) تتعلق بالقلب، فثبت أنَّ القرآن لا يمنح أحدًا الحق في الحكم على ما في قلب هذا المسلم بعد إعلانه هذا.

القرآن دستورُ الحرية الدينية

والآن، أُورِد لكم بعضًا من الآيات القرآنية.. التي تنصُّ على ذلك التعليم السماوي السامي الذي جاء به الإسلام في شأن الحرية الدينية؛ ثم أتوجه إن شاء الله.. إلى تلك الحُجج التي يُجيز بها المشائخ قتل المرتدين.

الآية الأولى

يقول الله في شأن الحرية الدينية التامة:

  لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا.. . (البقرة: 257).

  أي اعلموا أنّه فيما يتعلّق بالدِّين.. لا يجوز الجبر والإكراه بأي شكل أو أسلوب. ولا داعيَ لذلك على الإطلاق.. لماذا؟.. لأنَّ الفرقَ بين الهُدى والضَّلال قد أصبح واضح جليًّا. فمن كفَرَ بكل ما يَصُدُّ عن الحق، ويمنع من الخير، وآمَنَ بالله عن طيب خاطر ورغبةٍ شخصية، فقد استمسك بالعروة الوثقى التي لا تنحلُّ ولا تنفكُّ، أو التي لن يتركها هو ولن يتخلَّى عنها أبدًا.

ولا غروَ أنَّ هذه الآية ذاتُ حكمةٍ بالغة، ومضمونها يُعاكس تمامًا ما يزعمه القائلون بقتل المرتدين، إذا لم يقُل الله .. بأنَّ لكم الحق في أن تمنعوا الناس من الارتداد؛ بل قال: ليس لأحدٍ أن يُكرِهَهم على ترك دينكم. وهكذا فإنَّ مضمون الآية على عكس ما قالوا، وكأنه يقول: أمَا وقد تبيّن الحق تمامًا.. وها نحن قد أبلغناكم أنّه لا إكراه في الدين، فلا شكَّ أنكم لا تلجأون بعد ذلك إلى الجبر والإكراه، بل ولن يستطيع غيرُكم أيضًا أن يُكرهكم على الارتداد، لأنكم آمنتم بالحق مقتنعين به؛ فمن يقاوم قُوى الطاغوت، ويرفض الرجوع إلى دينها.. مؤمنًا بالله تعالى.. فكأنّما استمسك بالعروة الوثقى المتينة بحيث من الــمُحال أن يُفصَل عنها؛ أو بعبارةٍ أخرى.. يقول : إننا نعلم أنَّ الجبر والإكراه سيُسْتَخْدَم ضدكم، ولكنّنا نعلم أيضًا أنّكم على البصيرة التامة واليقين الكامل.. بحيث إنّه من المستحيل أن تعودوا إلى الظلمات مرةً أخرى.

الآية الثانية

ويقول تعالى:

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ . (المائدة: 93).

  أي عليكم بطاعة اللهِ وطاعة رسوله، وكونوا حذِرين، فإن تولّيتم وارتددتم بعد ذلك فاعلموا أنَّ مُهمَّة رسولنا هي البلاغ المبين.. وليس القتل كما يزعمون. فلو كان جزاء الارتداد هو القتل.. لقال تعالى: ما دُمنا قد بيَّنا الأمر بيانًا كاملاً، فلو حدثت منكم رِدَّةٌ عن الإسلام رغم هذا التبليغ الصريح الجلّي.. فالسيف في انتظاركم، والقتل عقوبتكم.

الآية الثالثة:

وفي موضعٍ آخر من القرآن الكريم.. يكشف الله تعالى عن خطَّته، ليُبيّن كيف أنها على خِلاف ما يزعمون. لقد شيّد الله صَرْحَ هذا الدين.. بحيث لم يترك فيه أيَّ منفذٍ ليتسرَّبَ منه الإكراهُ والقهر إليه، ورَسَمَ له صورةً.. وهو تعالى المصوِّر الكامل، لم يجعل فيه ظلّاً للجبر والقسر في العقيدة. وهذه الخطَّة الإلهية تبدو جليّةً في قوله تبارك وتعالى:

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ . (يونس: 100).

  أي أنه لو كانت مشيئة الله تعالى أن يزداد عدد المؤمنين بحيث يدخل الناسُ جميعًا في زمرتهم.. لكانت المشيئةُ الإلهية وحدها كافيةً لتحقيق هذا الغرض؛ ولكن ما دام الله تعالى لم يشأ ذلك.. فهل أنت.. يا محمد!.. تُكرِه الناسَ حتى يكونوا مؤمنين!؟

رسالتان هامتان

ولنعلم أنَّ في هذا القول الإلهي رسالتين هامتين:

إحداهما أنّه تعالى نفى بها عن النبي الجبرَ والإكراه نفيًا تامًا أبديًا، لأنَّ إرادة النبي إنما هي إرادة الله تعالى.. كما بيَّن ذلك في قوله تعالى:

وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى . (النجم: 4-5)..

وهو المأمور من الله تعالى:

قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الأنعام: 163).

فهو إذًا النبي الوحيد الذي يُعلن بأمرٍ من الله تعالى.. أنه لم يَبقَ من نفسي لنفسي شيء، فجميع عباداتي تضحياتي.. بل سائر حياتي ومماتي.. أصبحت لله تعالى.

وما دامت إرادة الله تعالى أن يتمتّع الناس بالحرية الدينية الكاملة، وألا يُكْرَه أحدٌ أبدًا على الإيمان، فلا بد وأن تكون هذه هي إرادة النبي وسُنّته.

ولنعلمْ أنه ليس في الآية الكريمة

أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ

أيُّ زجرٍ أو لوْم للرسول ، بل هي كلمةُ حُبٍّ وتقدير؛ وكأنَّ الله تعالى يقول له: إننا نعلم جيدًا أنَّ مثل هذا الفعل لا يمكن أن يصدُرَ منك أبدًا.. لأنّك قد عرفت مشيئتنا.

والرسالة الثانية.. هي أنَّ في الآية بلاغًا للأجيال القادمة كلها، بأنّكم بعد هذا الإعلان الصريح، لو قمتم بإشاعة وترويج عقيدة الجبر في الدين.. فاعلموا أنّكم تُخالفون بذلك مشيئة الله تعالى ورسوله الواضحةَ الصريحة، وإلا فلن تفعلوا ذلك أبدًا.

الآية الرابعة

ويقول الله تعالى:

فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ . (الغاشية: 22 – 25).

  أي أنّك مبعوثٌ للتذكير والوعظ، ولم تُبعث مُصيطِرًا مُراقِبًا.. فعليك أن تستمر في مُهِمتك مُذكِّرًا واعظًا. وإذا لم يؤمِن منهم أحدٌ، فلن تُحَاسَبَ على ذلك كما يُحاسَب الحارسُ الذي يُوكَلُ عليه حِراسةُ متاع.. فإن ضاع منه شيء حُوسِب عليه. هذا هو معنى قوله: لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ .

وبعبارةٍ أخرى: إننا بعثناك لهداية الناس، ولكننا لم نُعطِك حقَّ الجبر والإكراه، وما عليك إلا أن تستمر في تذكيرهم. ولا يُهِمَّنَّكَ عدمُ إيمانهم شيئًا، ولن تُسألَ عن أصحاب الكفر، بل سنُعذّبهم أشدَّ العذاب.

مناقشة الحُجَج (القرآنية) للمشائخ

والآن أعرض عليكم بعضَ الحُجج التي يحتجُّ بها المشائخ لتأييد موقفهم، ويستنبطونها بزعمهم من القرآن الكريم، ويحسبونها نصوصًا قرآنية صريحة تؤيّد رأيهم.

دليلهم الأول

ويُقدِّمه العلّامة شبير أحمد العثماني، وهو دليله القرآني الأوحد ولم يجد في القرآن الكريم شيئًا يستدلُّ به سواه. بنى استدلاله على قول الله تعالى:

إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ..

واستشهد بالآية على جواز قتل المرتدين قائلاً:

(ومع أنَّ هناك العديد من الآيات القرآنية الدالة على قتل المرتدين (كذا!)، وردت في القرآن الكريم واقعةٌ بشأن قتل جماعة المرتدين، بأمرٍ صريح من الله ، بحيث لا تَدَع أي مجال للتأويل.. عند الذين يخافون ربَّ العالمين..).

أقول: وكأنَّ الآيات القرآنية التي تلوتها عليكم آنفًا.. فيها مجالٌ بل مجالاتٌ للتأويل، عند الذين يخافون ربَّ العالمين!

ثم يقول  العلّامة: (إذ لم يَرِد هنا أيُّ ذِكرٍ للمحاربة، ولا لقطع السبيل، ولا لأية جريمةٍ أخرى، بل السبب الوحيد هو الارتداد فقط، والارتداد هو الجريمة الوحيدة التي لأجلها أمر الله تعالى بقتل هؤلاء القوم، قتلاً جماعيًا بدون هوادة).

أقول: وكأنَّ العلّامة لم يجد أية واقعةٍ حدثت في العهد النبوي، أو ذُكِرت في القرآن الكريم كما يزعم بنفسه، وكل ما اطَّلع عليه أو وصل إلى علمه.. فإنّما هو واقعةٌ حدثت لقوم موسى .. وذكرها القرآن، فبنى عليها العلّامة عقيدته في قتل المرتدين!.. ثم يُبيّن تفصيل الواقعة قائلاً: (وقام كل واحد من الذين لم يعبدوا العجل.. يقتل بيديه أقربَ أقاربه ممن اتخذوا العجل إلهًا.) (المولوي شبير أحمد العثماني، عقوبة الارتداد في الإسلام، مجلة الشهاب لرجم الخاطف المرتاب، الناشر: المولوي محمد طيب والمولوي محمد طاهر، مطبعة القاسمي، ديوبند، الهند، ص 15 إلى 17).

أقول: ولم يأتِ العلّامة على قوله هذا بأي دليل. وسوف أُناقش هذه الآية بعد قليل، وسيتبيّن لكم كيف أنَّ العلّامة قد انحرف عن فحْوى الآية انحرافًا واضحًا. ويُكمل بيانَه قائلاً:

(فلأنَّ الذين عبدوا العجل صاروا مرتدين، لذلك نُفِّذ فيهم هذا الحد كعقوبة على عبادتهم للعجل.. فقُتلوا. ومن المعلوم أنَّ كل ما ذكره القرآن الكريم من تشريعات وأحكام للأمم السابقة.. فنحن مُلزَمون باتِّباعها وتطبيقها، وذلك مالم يمنعنا الرسول أو القرآن الكريم عن شيء منها بصفةٍ خاصة. فإذًا كان من واجبنا أيضًا أن نَقتُل المرتدين.. اتِّباعًا لِما جرَى في هذه الواقعة). (المرجع السابق ص19).

تزييفٌ جريءٌ لحقيقةٍ تاريخية!

أقول: إنَّ ما ادَّعاه (العلَّامة) بأنَّ كل ما ذكره القرآن الكريم من شرائع وأحكام للأمم السابقة.. يُصبح بالضرورة جزءًا من شريعتنا، مالم يمنعنا عنه القرآن أو الرسول بصراحة.. فهو ادِّعاءٌ باطلٌ تمام البُطلان، وتزييف شديد لحقيقةٍ تاريخيةٍ ثابتة. والحق إنّه في فترة ما قبل اكتمال التعاليم القرآنية، وعندما كانت الشريعة الإسلامية لم تنزل بعد بصورتها الكاملة، كان من عادة الرسول أن يوافقَ أهلَ الكتاب، ويعملَ بالتعاليم الواردة في كتب الأُمم السالفة.. إذا عَرَضت له مسألةٌ خاصة.. لم يَرِد بصددها أيُّ حكمٍ في القرآن. ولكن فيما يخصُّ المسائل التي قد نَزَل فيها الحكمُ القرآني بنصٍّ صريح.. فلم يَرجع الرسول في شأنها قط إلى الكتب السابقة، لأجل أمور المسلمين، وما تمسَّك عندئذٍ بالشرائع السابقة على الإطلاق.

هذا، وليس في القرآن الكريم أيُّ ذكرٍ لقتل المرتدين، مع أنه تناول ذكرَهم مرارًا، وجاء بتعليماتٍ مفصّلةٍ كثيرةٍ في شأنهم. فإذا كان القرآن الكريم قد ذَكَرَ المرتدين مرارًا وتكرارًا، ومع ذلك لم يأمر بقتلهم، فقد ثبت بذلك بطلانُ هذا الزعم الفاسد بكل وضوح وجلاء.. أعني الزعمَ القائل: إذا ذكر القرآن حادثة جرت لأمةٍ من الأمم السابقة.. فعلينا أن نلتزم بها ونُطبّقها كجزءٍ من شريعتنا. إنّه بلا شك خطأٌ فاحش، ومُخالفةٌ صريحة للسُنّة النبوية الشريفة، لأنَّ الرسول لم يكن يتبعُ الكتبَ السماوية السابقة قط، اللهم إلا إذا لم يجد في القرآن الكريم حُكمًا واضحًا في مسألةٍ جدَّت. فإذا وَجدَ في القرآن حُكمًا في شأنها.. لم يلتفتْ إلى الكتب السابقة أدنى التِفات.

أين هو الاستدلال؟!

والآن، استمعوا معي إلى قصة استدلال (العلّامة) لنرَى هل تتحدَّث الآيةُ عن عقوبة الارتداد، وهي القتل في زعمه، أم لا؟.

يكتب العُثماني:

  وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . (الأعراف: 150)..

ولكن توبتهم هذه أيضًا لم تُنجِهم من العقوبة الدنيوية. (المرجع السابق ص18).

أقول: وكأنَّ الأمر بقتلهم لا يجعلهم من الخاسرين في نظر المولوي العُثماني!!

تفصيل قصة القتل المزعومة

في ضوء السياق القرآني 

وإليكم تفصيلَ هذه الواقعة.. في ضوء السياق القرآني، ومنه الآيات القرآنية التي حرَّف المولوي العثماني معانيها، يقول الله تعالى:

  وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *  وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . (البقرة: 52 -55).

.. أي اذكروا يا بني إسرائيل.. عندما ظلمتم أنفسكم واتخذتم العجل إلهًا، ولكننا رغم ذلك عفَونا عنكم لعلّكم تشكرون. ولكن العفوَ الربَّاني عند المولوي العثماني.. هو أنَّ الله تعالى قال لهم: عفونا عنكم، ومن ناحيةٍ أخرى.. أَمَرَ بقتلهم، وكأنّهم قُتِلوا وهم يشكرون.. ويقولون: يا رب، نحن جِدُّ شاكرين على عفوك الكامل النادر هذا!.. فما رأينا مثيلا له، ولم نسمع بمثل هذه المغفرة المنقطعة النظير! وكأنّما كان هذا العفو يصدر من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى كان هناك تدبير بقتلهم. فما أعَظَمَ هذا العفو وما أحسَنَه!

ثم يقول الله لهم: اذكروا عندما قال موسى لقومه إنكم قد ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل معبودًا، فالآن توبوا إلى الله خالقِكم، ثم بعد التوبة.. اقتلوا أنفسكم!.

ومما يُلاحَظ أنَّ الــمُخاطَبين في قوله تعالى فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ .. هم المخاطَبون في قوله ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم ؛ وكأنَّ الله تعالى أمر الظالمَ بأن يقَتلَ نفسَه بنفسِه، لا أن يَقتلَ الأبرياءُ الظالمين؛ لأنه لم يقل (اقتلوا بعضُكم بعضًا). فالخطاب موجَّه لمن ظلموا أنفسهم، وهم الذين أُمِروا أن اقتلوا أنفسكم التي ظلمتوها.

معنى قتل النفس

ومعنى قتل النفس هنا واضحٌ بيِّنٌ من حيث اللغة، وهو قتلُها بالبكاء والابتهال. فالله تعالى يقول: اقتلوا أنفسكم الأمَّارةَ بالسُّوء.. بالبكاء والابتهال، والتوبة والاستغفار، فأنتم ظلمتموها بوقوِعكم في الإشراك بالله من قَبل، فالآن، لكي تمحو آثارَ الشِّرك السيئةَ.. اظلموها مرةً أخرى، واقتلوها عن طريق ذكر الله تعالى، والتوبة والإنابة والاستغفار.

والعَجَب كل العجب، أنَّ المولوي العثماني يأبَى أن يفهم هذه الحقيقة الواضحة، ويذكر معنىً لا يمُتُّ إلى القرآن بأية صلة، لا من قريب ولا من بعيد. وعندما أدرَك أنه ليس من المعقول أن يقتُل الظالمُ نفسَه بنفسه وينتحر بعد التوبة، سعى للتخلّص من هذا المأزق فلجا إلى ذكرِ هذه القصة السخيفة.. زاعمًا أنَّ الله تعالى أمر الأبرياء منهم بقتل الآثمين! أي أنَّ الباقين القائمين على الدين قتلوا المرتدين، مع أنَّ القرآن لم يُخاطب هنا إلا الظالمين، ولم يأمر الله تعالى في أيةِ آيةٍ أخرى ذكر فيها هذا الموضوع، أن يقتل الأبرياءُ منهم الآثمين.

القرآن يُعارض رواية التوراة

نقول: لعلَّ العلّامة اطلع على القصة في التوراة، ولكنه لو كان راجع التوراة، واقتبس منها لما نسج القصة على هذا المنوال، لأنَّ التوراة تتعارض مع القرآن في هذا الشأن تعارُضًا بيّنًا، ومن ثم يستحيل أن تَلْقَى رواية التوراة أيَّ قبولٍ وهوىً لدى المسلمين. فالتوراة تقول بأنَّ جميع بني إسرائيل كانوا آثمين، وأنَّ أول الآثمين الذي حضَّ على ارتكاب هذا الإثم كان هارون  .. وليس السامري. ولما زجَر موسى هارون (عليهما السلام) على هذا الشرك (والعياذ بالله).. ردَّ عليه بأنني كنت مضطرًا لذلك، فإنَّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني. فرواية التوراة تقرّر أنَّ بني إسرائيل تغلَّبوا على هارون، واضطروه للاشتراك معهم في الجريمة. فلجأ إلى حيلةٍ بأن جَمَعَ حُلِيَّهم، وألقاها في النار وصنع منها العجل. وعندئذٍ، كما تقول التوراة، قام موسى بهذا الإجراء العادل المنصف، (والعياذ بالله).. فدعا بني لاوي.. وهم عشيرته، قائلاً: إن كنتم صادقين في وفائكم وولائكم لي، فتعالوا الآن لنُصرتي.. مع أنّهم كانوا أولَ المجرمين، وأصحابَ أكبر دور في الجريمة، وأَمَرَهم بقتل الآثمين. وهكذا قُتِل من القوم ثلاثة آلاف في ذلك اليوم. (الكتاب المقدّس، سفْر الخروج، 32: 2 إلى 28).

هذا هو (الدليل) العثماني الذي يُقدِّمونه في زعمهم.. كدليلٍ قرآني على جواز قتل المرتدين، على الرغم من أنَّ القرآن الكريم يرفضه رفضًا صريحًا، لدرجة أنَّ من كان في قلبه مثقالُ ذرّةٍ من تقوى الله وخشيته.. لن يجترئ بعده أن يُجيز بهذه الآية قتلَ المرتدين، وذلك لأنَّ السامريّ الذي كان صاحب فكرة هذا الظلم العظيم، والذي تولّى كِبْرَهُ حسب النصّ القرآني.. لم يُقتَل، بل قيل له:

فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ.. . (طه: 98)..

بمعنى أننا سنعزلك ونُقاطعك مقاطعة اجتماعية، أو أنّك ستُصاب بمرضٍ يُفسد بدنك فيَكرهك الناس وينفِرون منك، أو أنّك بنفسك تقول: لا تقربوا مني ولا تمسُّوني، بل ابتعدوا عني لأنّي نجس. وهكذا لم يَرِد في القرآن الكريم أي ذكرٍ لقتله.

القرآن يؤكِّد قبول توبة اليهود الآثمين

ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ القرآن الكريم.. كلَّما ذكر الحادث بيَّن بوضوحٍ كامل.. وفي كل موضع بدون استثناء.. أنَّ الله قَبِلَ توبتهم، ولم يكتفِ بقول: إنّكم تُبتم فحسب، بل قال: فَتَابَ عَلَيْكُمْ .. أي قد قَبِلتُ أنا أيضًا توبتكم، وهذه هي نعمتي التي أُذكِّركم بها. فيقول الله :

إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ.. ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ.. فَتَابَ عَلَيْكُمْ.. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . (البقرة: 55).

.. أي ارجعوا إلى الله مولاكم، وأنيبوا إليه، واقتلوا أنفسكم، ذلكم خيرٌ لكم عند ربكم. وقوله فَتَابَ عَلَيْكُمْ .. أي عندما تبتم أنتم ورجعتم إلى الله.. لم تكن التوبة من جانبكم وحدكم، بل إنَّ الله تعالى أيضًا تاب عليكم، أي قَبِلَ توبتَكم. وقوله: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يعني حتى أنكم بأنفسكم أقررتم قائلين: ما ألطَفَ ربَّنا وما أرحَمَه، وما أكْرَمَ قَبولَه لتوبتنا مرةً بعد أخرى!..

فهل يمكن أن يصدر مثل هذا النداء.. من قلوب الذين كانوا يعلمون أنّه قد صدر الحكمُ بضرْب رقابهم رغم توبتهم، وكان مصيرُهم القتل لا محالة؟! فما أفْحَشَها، وما أَقبَحَها تهمةً.. يُلصقونها بالقرآن الكريم! وما أوضَحَ وما أشَدَّ انحرافَهم عن مراده!.. ومع ذلك يزعمون أنهم يستنبطون البراهين القرآنية القاطعة على قتل المرتدين، ويدَّعون أنه لن يخرج من هذه الأحبولة مَن له مثقال ذرّة من العقل السليم!.. كلا! بل يجب أن يُقال: إنه لن يقع أبدًا في هذه المصيدة.. من عنده مثقالُ ذرَّة من العقل، لأنَّ آيات الله البيِّنات لا تسمح مطلقًا باستنباط قتل المرتدين منها بطريقٍ أو بآخر.

القرآن يُصرِّح بأنَّ القتل هنا غيرُ مادِّيّ  

ثم يقول الله بعد آية القتل:

ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . (البقرة: 57).

وهكذا بيَّن نوعيةَ الموت الذي ماتَه بنو إسرائيل؛ فقوله

ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

يوضّح كيفيةَ ونوعية هذا الموت، ويبيّن أنهم لم يموتوا ميتةً مادية، ولم يُقتَلوا قتلاً ظاهريًا، بل أماتوا أنفسَهم بأنفسِهم بقتل أهواءهم، وقمع شهواتهم، وكان هذا بالضبط المطلوب منهم، ذلك لأنَّ الإنسان حينما يُمِيتُ نفسَه لله تعالى تصبحُ حياتُه في ذمِّة الله تعالى.

هذا، وقد أوضح هنا أيضًا كيفية قبول توبتهم؛ فلما قَتلوا أنفسَهم وأهوائَهم.. وهَبَهم الله حياةً جديدة، فشكروا قائلين: إننا كُنَّا أمةً تُعدُّ من الأموات، فأحيانا الله تعالى حياةً روحيةً جديدة، لذا وجب الشكر علينا.

آراء المفسِّرين القُدامى في

قوله تعالى (فاقتلوا أنفسكم)

هذا، وهناك آياتٌ وأدلة قرآنية أخرى تدلُّ على خطأ هذا الزعم الفاسد والتفسير السخيف، إلا أنني نظرًا لافتنان علماء هذا العصر بفتاوى الفقهاء والعلماء من القرون الوسطى، أكتفي بهذا القدر من الآيات والأدلة القرآنية على بطلان هذا التفسير.. وأذكر لكم الآن بعض ما قاله المفسرون السابقون في هذه الآية.

  1. يقول صاحب روح البيان :

“فاقتلوا أنفسكم” بقمع الهوى، لأن الهوى هو حياة النفس، وارجعوا بالاستنصار على قتل النفس بِنَهْيِها عن هواها، فاقتلوا أنفسكم بنصر الله وعونه. “ذلكم خير لكم عند بارئكم” يعني قتل النفس بسيف الصدق خير لكم، لأن بكل قِتْلةٍ رفعةً ودرجة لكم عند بارئكم، فأنتم تتقربون إلى الله بقتل النفس وقمع الهوى، وهو يتقرب إليكم بالتوفيق للتوبة والرحمة عليكم. وذلك قوله : “فتاب عليكم إنه هو التوّاب الرحيم”. (الشيخ إسماعيل حقّى البروسوی، تفسیر روحُ البیان، سورة البقرة. الآية 55 وما بعدها).

إذن فالقتل هنا قتل الأهواء النفسية والقضاء على الشهوات الشيطانية.

۲. ويقول الإمام الراغب:

“وقوله “فاقتلوا أنفسكم” قيل: معناه: ليقتلْ بعضُكم بعضًا، وقيل: عُنِيَ بقتل النفس إماطةُ الشهوات”. (الإمام الراغب الأصفهاني، المفْرَدات في غريب القرآن، تحت مادة قتل).

أرى أنه قد كفى (الدليلَ) العثماني ما فعلنا به..

دليلهم الثاني

أما ثاني الأدلة القرآنية المزعومة.. فقد ذكره المودودي في مجلته، ولكنه لم يذكر فيما ذكره الدليلَ العثماني السالف الذكر، وكأنه لا وزن له عند المودودي أيضًا.. وإلا لاستشهد به هو أيضًا، لو رأى فيه شيئًا من وزن أو قوة. على كل حال، إن المودودی استدل استدلالاً آخر من الآية التالية:

فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (التوبة: 11-12).

ثم يقول المودودي: “أي فإن تابوا من الكفر، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين. نحن نفصّل آياتنا وأحكامَنا لقوم يعلمون. وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، أي بعد عهد قبول الإسلام.. وبسطوا ألسنتهم بالطعن في دينكم، فقاتلوا أئمة الكفر، لأنه لا اعتبار لأيمانهم وأقسامهم، لعلهم ينتهون”..

أقول: إن هذه الفقرة من الآية.. أعني “لعلهم ينتهون”.. تُبطل كليًّا ما يحاول المودودي استنباطَه منها، وتجعله هباء منثورًا؛ إلا أنني الآن أؤجّل تفصيلَ ذلك، وأذكرُ استدلالَه أولاً..

استدلال المودودي

“لو أنهم تابوا وواظبوا على أداء الصلاة والزكاة فهم إخوانكم في الدين. فإن عادوا بعد ذلك إلى الكفر ناكثين عهودَهم، فقاتلوا أئمة الكفر.ويجب أن نعلم أنه لا يمكن، بصورة من الصور، أن يَعني نقضُ العهد هنا نقضَ المعاهدات السياسية، بل إن السياق بنفسه يعيّن المعني بكل وضوح.. ألا وهو الارتدادُ عن الاسلام. إذن فلا يعني قوله تعالى “فقاتلوا أئمةَ الكفر” إلا محاربةَ زعماء وأئمة حركة الارتداد”. (المودودی، عقوبة الارتداد في القانون الإسلامي، الناشر: المكتبة المركزية للجماعة الإسلامية، لاهور، الطبعة الأولى، سنة 1951، ص ۱۰، ۹).

هناك في هذا البيان عدة أمور تستحق النظر والفحص، منها (أولاً): دعوى المودودي بأن سياق الكلام نفسه يعين هذا المفهوم، ولكننا إذا تأملنا السياق وجدنا أن السياق نفسه يُبطل دعواه، وذلك أن هذه الآيات من سورة التوبة التي يذكر فيها الله .. أن المشركين الذين عاهدوكم سینکثون معاهداتِهم، لأنه لا اعتبار لعهدهم، فلذا عليكم أن تحاربوا من ينكث العهد منهم؛ فالسورة تبتدىء بقوله تعالى:

بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (التوبة: 1)

فمتى ذُكر المسلمون هنا؟ ومن أين عرف أن هؤلاء المشركين كانوا مسلمين؟ مع أنه تعالى يقول: إننا إنما نتحدث عن المشركين وعن عهودهم، فمن ينكث من هؤلاء المشركين عهودهم فهم الذين نأمركم بقتالهم. ثم يقول الله تعالى:

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (التوبة: 7)

فلم يرد هنا أيضًا أي ذكر للمسلمين حتى ولا بأدنى إشارة، بل يقول الله تعالى: لا تصيبوا هؤلاء المشركين بأي أذىً ما داموا على عهدهم، ولا تقوموا بأي نشاط حربي ضدهم، بل يجب أن تراعوا أنتم أيضًا هذه العهود ما راعَوْها، إن الله يحب المتقين.

ثم يقول سبحانه:

كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (التوبة: 8-10).

أي كيف يكون لأيمانهم وعهودهم وزن واعتبار، والحالُ أنهم إن ينتصروا عليكم لن يراعوا فيكم أي رحم ولا قرابة، ولا أي عهد ولا ذمة. هم يُرضونكم بكلامهم فقط، وإلا فهم يتربصون بكم الدوائر، ويكنّون لكم حقدًا وبغضًا شديدًا. اشتروا بآيات الله ثمنًا قليلاً ، فصدوا عن سبيله، إنهم ساء ما كانوا يعملون.

فهل كلُّ هذا الحديث يدور حول المسلمين؟ هذا هو سياق الآية، والعجب كل العجب، أن المودودي مع ذلك يقول: انظروا إلى السياق تجدوا، على وجه اليقين، أن العهد المذكور فيها هو عهد قبول الإسلام.. أو عهد البيعة.

ثم يقول الله :

فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (التوبة: 11).

 وردت هذه الآية هنا، كجملة اعتراضية، حيث تُرك ذِكرُ العهد مؤقتًا، وقال تعالى: لو آمن بعض هؤلاء المشركين المعاهدين وأسلموا.. فخلُّوا سبيلهم، واصرفوا النظر عنهم، لأن سبب النزاع بينكم وبينهم قد زال، وانقلب الوضع تمامًا، فيجب ألا يبقى بعد ذلك أي نزاع ولا خصومة. ثم يستأنف الله ذكرَ نفس المعاهدة السالفة الذكر، ويقول:

وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (التوبة: 12).

لاحظوا ! إن الله .. لا يعتبر نقض العهد وحده سببًا كافيًا لقتلهم. فما أعظَمَ كلام الله، وما أوسع رحمته، حيث لا يأمر بقتل المشركين رغم نقضهم العهود والمواثيق، بل يقول: لو بلغ بهم اللؤم والخسة بحيث أنهم.. إلى جانب نقضهم العهود والمواثيق.. خرجوا عليكم خروجًا واضحًا، واعتدوا عليكم مرة أخرى: فقاتلوا أئمة الكفر عندئذ.. لأنهم لا أيْمان لهم، ولا رعاية لديهم للمعاهدات والمواثيق.. لعلهم ينتهون عن خُبثهم وخستهم.

ولكن المودودي.. ومن كان على شاكلته من المشائخ.. يروَن أن انتهاء المرتدين عن خبثهم وفجورهم أيضًا لن يغني عنهم شيئًا، إذ لا بدَّ من قتل المرتد على كل حال.. حتى وإن تاب؛ وأن توبته مرفوضة مردودة.

حسنا، لمَ ينتهون؟ ولمَ لا يموت هؤلاء المجانين وهم يقاتلون؟ ولماذا يستسلمون، ما داموا يرون أن القتل مصيرهم أيضا بعد الاستسلام؟ فقوله “لعلهم ينتهون” يدل دلالةً واضحة على أن استنباطَ قتل المرتدين من هذه الآية استدلالٌ باطل، وظُلم عظيم. فيا ليت هؤلاء المشائخ ينتهون عن هذه الفعلة الشنيعة.. والأقوال السخيفة، فلا يعزوه إلى القرآن الكريم ما لا صلة له به.. لا من قريب ولا من بعيد، بل هو منه بَراء!

القرآن لا يتحدث هنا عن المرتدين وقتلهم

إلى هنا كنا في صدد سياق الآية، أما الآن فهلموا نتدبر في الآية التالية.. لنعرف مَن هم هؤلاء الذين يذكرُهم القرآن الكريم هنا؛ وما إذا كان يتحدث عن عقوبة المرتدين، وهو القتل كما يزعمون، أم هو في صدد موضوع آخر، ولنعلم من هم هؤلاء الذين يأمر الله بقتالهم. يقول الله تعالى:

أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (التوبة: 13).

 فما أكمَلَه من وصف! وما أوضَحَه من بيان!.. كلُّ شئ واضح جليٌّ كالشمس في نصف النهار، حيث يقول عز وجل: هم ليسوا أقلَّ منكم عددًا ولا أضعفَ جندا، حتى تظنوا أن رقابهم في أيديكم، بل نأمركم بقتال قوم هم من القوة والبأس، والعدة والعتاد.. بحيث أنكم بوصفكم بشرًا تخشونهم وتخافون من الاصطدام بهم، وعلى الرغم من ذلك كله، نحن نأمركم بالتصدى لهم وبقتالهم دون تردد أو خوف، لأن الله معكم.

ثم ذكر الأسباب التي دعت إلى قتالهم، فلم يقل: قاتلوهم لأنهم ارتدوا عن الاسلام، ورجعوا إلى الكفر مرة أخرى؛ كلاّ، وإنما لأنهم نكثوا أيْمانهم، وهموا بإخراج الرسول محمد من المدينة، وهم بدأوكم أول مرة بالاعتداء عليكم، وهم الذين شهروا السيف في وجوهكم.

قال الله “تُقَاتِلون”، ولم يقل “تَقْتُلون”

هذا، وإن قوله تعالى “ألا تُقَاتِلون” يدُّل على أن الأمر بالقتال ليس إلا ضد قوم اعتدوا عليكم، ونصبوا الحرب عليكم؛ إذ أن المـُقاتلة من المـُفاعلة. ولو كان المراد مجرد قَتْل المرتدين لقال: ألا تَقْتُلَون.. وهذا لا يَخفى على من له أدنى إلمام باللغة العربية. فالقرآن الكريم لا يقول: ألا تَقْتلون، بل: “ألا تُقاتِلون”.

ثم إن جملة “وهم بدءوكم أول مرة” أيضًا تبين السبب بكل وضوح وجلاء، وهو أنهم سلّوا السيف عليكم، وكانوا ولا يزالون يعتدون عليكم، وينكثون عهدهم، ويتآمرون عليكم، ويكيدون کیدًا لإخراج الرسول . فبما أنه لم يبق لمعاهداتهم أي وزن ولا اعتبار، وما داموا قد ارتكبوا كل هذه الجرائم، فلذا قاتلوهم، لأنهم هم الذين بدأوكم في الحرب.

فهذه هي حقيقة دليل المودودي.. الذي يزعم أنه دلیل قرآني، فضلاً عن أن دليله أيضًا وحيدٌ فريد.. كمثل الدليل العثماني الوحيد، فلم يستطع أن يجد شيئا سواه من القرآن الكريم كله.

دليلهم الثالث

والآن أتجه إلى مناقشة الآيات القرآنية التي قدَّمها المشائخ أمام المحكمة الشرعية الباكستانية كأدلة قرآنية حسب زعمهم.. على وجوب قتل المرتدين وهي:

إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم (المائدة: 34).

فالذين يقومون بمحاربة الله ورسوله.. أي يستخدمون السيف ضد المسلمين اعتداءً عليهم، ويقومون بنشاطات تخريبة مُخلَّة بالأمن، ويسعون جاهدين ليُظهروا في الأرض الفساد، ويضرُّوا بأمن البلاد.. يُعاقَبون بحسب جريمتهم.. بالقتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل أو الطرد من البلد.

فترى أنه لم تذكر الآية أية كلمة يمكن أن يراد بها الارتداد، بل لم تتناول الآية موضوع الارتداد.. لا تصريحًا ولا تلميحًا! إن إصرار المشايخ.. على أن المراد بالمحاربة في هذه الآية هو الارتداد.. لَهو من الظلم العظيم بالقرآن الكريم واللغة العربية أيضًا. والغريب حقًا كيف أنهم رغم تسميتهم بالعلماء.. يجدون في أنفسهم هذه الجرأة.

تفسير الآية من عالِم كبير من الهند

غير أن عالمـًا من علماء هذا العصر، ومفتيًا من بلاد الهند، له مكانة عالية في بلاده كلها، واحترام بالغ في نفوس أهلها، وهو المفتي محمد شفیع.. يقول في تفسير هذه الآية الكريمة:

“ومما يجب التدبر فيه هنا هو، أولاً: ما هو المراد من محاربة الله ورسوله والفساد في الأرض؟ ومن هؤلاء الذين يحاربون الله ورسوله؟فلنعلم أن لفظ المحاربة مشتق من الحرب وهو السلب والنهب لغةً. ويُستخدَم لفظ المحاربة اصطلاحًا ضد السّلم.. وهو السعي في الأرض للفساد والإخلال بأمن البلاد. ومن البيّن أن حادثًا أو حادثتين للسرقة أو القتل لا يخلاّن بأمن العامة..”.

أقول: حقًّا إنه يستدل استدلالاً معقولاً جدًا، لأنه كان يخاف أن يستنبط الفقهاءُ من الآية .. أن القرآن يشرع عقوبات قاسية غير عادية.. لجريمة السرقة البسيطة.. فيعرّضوا الإسلام لتهمة التشدُّد والهمجية. ثم قال:

“ومن أجل ذلك لقد رأى الفقهاء الكرام أنه لا يعاقب بهذه العقوبة القاسية إلا الفرد أو العصابة المسلحة التي تقطع السبيل على الناس.. بِنيَّة خرْق القوانين، ومخالفةِ نظام الحكومة بالقوة، أو هم.. بتعبير أدق.. قطَّاع الطرق والبُغاة المتمردون. أما الذي يرتكب جريمة فردية في بعض الأحيان من سارق أو نشال وغيرهما، فليس من هؤلاء في شيء.

وثانيًا: من الملفت للنظر.. أن المحاربة في الآية وردت منسوبةً إلى الله ورسوله، حيث قال :

“يحاربون اللهَ ورسولَه، مع أن قطاع الطرق والبغاة المتمردين إنما يحاربون البشر، والسّر في ذلك.. أنه عندما تحاول أية فئة ذات قوة انتهاك قوانين الله ورسوله بالقوة، فعلى الرغم من أنها تحارب الناس وتقاتل البشر.. إلا أن حربها في حقيقة الأمر تعتبر حربًا على الحكومة. وحيث إن قوانين الله ورسوله.. هي المـَدارُ والقِوام لهذه الحكومة، فلذلك تعتبر هذه المحاربة محاربة الله ورسوله”. (المولوي محمد شفیع، مفتي باكستان السابق، تفسیر معارف القرآن، إدارة المعارف، كراتشي، المجلد 3، ص 119،120، سورة المائدة).

تفسير الآية لأحد القضاة بالمحكمة الشرعية الباكستانية

وحول تفسير هذه الآية كتب القاضي بیر محمد کرم شاہ، أحد كبار القضاة بالمحكمة الشرعية الباكستانية:

“لقد أمر الله تعالى ورسوله بإقامة الأمن، وحفظ الطرق العامة، وقمع الفتنة والفساد في جميع أرجاء الدولة الإسلامية، ومن خالف هذا الأمر.. فقَطَعَ السبيل، وقتَلَ النفوس، ونهبَ الأموال.. فكأنما خرجَ على الله و رسوله؛ لذلك يعتبر القرآن الكريم كلَّ اعتداء على أي مواطن .. مسلمًا كان أو ذِميا.. محاربةً لله ورسوله.

و(الواو) الواردة في قوله تعالى : “وَيسعوْن في الأرض فسادًا” واوٌ بيانيةٌ، جِيء بها لتوضيح المحاربة المذكورة في الجملة الأولى.

أمّا المحاربون الذين ذُكرت عقوبتهم هنا.. فقد قال الفقهاء بأنهم الذين تتوفر فيهم خصالٌ ثلاث:

أولاها: أن يكونوا محاربين، أي متسلحين بالبنادق والسيوف وغيرها من الأسلحة.

وثانيتها: أن يقوموا بقطع السبيل على الناس ونهب أموالهم ، بعيدًا عن الأماكن المأهولة في البراري والصحراء. ولكن الأئمة الشافعي والأوزاعي والليْث، رحمهم الله تعالى، يرون أن من قطع الطريق في المدن والقرى فهو أيضًا يعدُّ محاربًا، ويُعاقَب بنفس العقوبات.

وثالثها: ألا يكونوا يقومون بهذه النشاطات سرًّا، بل يتحدَّون الناس علنًا، ويهاجمونهم جَهرةً، وينهبون أموالهم على الملأ”. (بیر محمد کرم شاہ، تفسیر ضیاء القران ، دار ضیاء القرآن للنشر، لاهور).

هذا هو تفسير الآية الكريمة كما ذكره علماؤُهم، والذي يتفق تمامًا مع قواعد اللغة العربية، ويتناسب مع محاورة القرآن، ويتلائم مع السياق. ولا يمكن لأي إنسان ذي عقل بسیط أن يُسِيغ من هذه الآية قتل المرتدين؛ ولن يستطيع أن يُخلَّ بمعنى هذه الآية، إلا إذا كان برأسه خلل، والعياذ بالله.

 دليلهم الرابع

وهذا أيضًا من الأدلة المرغوبة لدى المحكمة الشرعية الباكستانية، وهي نفس المحكمة التي قرأتُ عليكم آنفًا بعض ما كتبه أحدُ قضاتها الشهيرين، مما يخالف تمامًا ما حکمت به المحكمة الآن. دليلهم هو قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (المائدة: 55).

هذه هي نفس الآية التي بدأت بها خطابي هذا، وهيهات أن تقبل هذه الآية الكريمة استدِلالاً سخيفًا كما يبغون. على كل حال إنهم قد بنَوا استدلالهم على الفقرات الثلاث التالية:

  1. فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه.
  2. أذلة على المؤمنين أعزة على الكفرين.
  3. يجاهدون في سبيل الله.

وقالوا: من الواضح الجليّ أن الله تعالى يقول هنا: ليعلم الذين يرتدون عن الإسلام أنه سوف يأتي بقوم يحبهم ويحبونه، ولا خفاء في أن الضمير في “يجاهدون” عائد إلى المذكورين في “قوم يحبهم ويحبونه”، وهكذا فهُم الذين سوف يأتون ويجاهدون في سبيل الله، ويضربون رقاب المرتدين. ذلك لأنهم كما وصفهم الله.. يكونون أذلة على المؤمنين رحماء بينهم، وفي نفس الوقت يكونون أشداء على الكفار. إذن، فالمذكورون في قوله تعالى: “سيأتي الله بقوم” هم قوم لمـَّا يأتوا.. بل سيأتون فيما بعد”.

ولكننا نقول: إذا كان القتل جزاءَ المرتد، أفلم يكن أحد (والعياذ بالله !) من بَيْن النبي وأصحابه، رضوان الله عليهم أجمعين.. الذين أُخبروا بهذا الارتداد.. ألم يكن منهم أحدٌ يحبُّ اللهَ ويحبُّه الله ؟ ألم يكن بينهم من يغار لدين الله ويتحمس لطاعته، حتى يتصدى لهؤلاء المرتدين ويجاهدهم في سبيل الله؟ ألا ما أسخَفَه من دليل! وما أفحَشَه وأشنَعه من هجوم.. على إيمان سيدنا محمد ، وإيمان أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين! إنه في ضوء استدلالهم.. كأن الله تعالى (والعياذ به!) يقول لسيدنا محمد وأصحابه الذين رباهم بنفسه الطاهرة، وزكَّاهم بروحه القدسية: لو ارتد أحد منكم، فلا يُهِمَّنكم ارتداده شيئًا، لأننا سوف نأتي بقوم آخرين.. يحبهم الله ويحبونه، ويكونون رحماء بالمؤمنين وأشداء على الكافرين، وهم يجاهدون في سبيل الله ويقاتلون المرتدين للقضاء عليهم واستئصال شأفتهم!!

من العجيب حقًا أن يجول بذهن المشائخ هذا المعنى الغريب لقوله تعالى: “يجاهدون في سبيل الله”، مع أن للجهاد معاني أخرى عديدة؛ فقد ورد في القرآن الكريم :

وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (الفرقان: 53)..

وهذا هو الجهاد بالقرآن. وعلاوة على ذلك، ليس هناك في قوله تعالى : “يجاهدون في سبيل الله” أدنی إشارة إلى الجهاد بالسيف.

إن في هذا الاستدلال السخيف إهانةً شديدة للرسول ولأصحابة ، حيث لم يوجد فيهم.. والعياذ بالله .. من أحدٍ يقاتل في سبيل الله ويغار لدينه، حتى إن الله تعالى أخبرهم ألا يهتموا بأمر المرتدين، لأنه سوف يرسل فيما بعد قومًا يكفونهم مئونةَ قتال المرتدين. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم!

ويعني هذا القول الرباني في ضوء استدلالهم.. أنكم يا محمد أنت وأصحابك.. إن لم تستطيعوا أن تنالوا هذا الفضل العظيم، فلا داعي للقلق، فسوف نأتي بقوم غيركم ينالون هذا الفضل العظيم.. أي التوفيق لقتال الأعداء وضرب رقاب المرتدين.

ثم إن المشائخ ينسون أن كلمة (عزيز) هذه قد وردت في القرآن الكريم في حق الرسول ، ولقد وصف الله حُبَّه للمؤمنين وعطفه عليهم.. وصفًا أسمى درجة وأعظَم شأنًا بكثير من كلمة (أعِزة) حيث قال الله :

عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (التوبة: 128).

أي أنه يَعِزُّ ويشُقُّ على هذا الرسول مايكابده المؤمنون من عنف واضطهاد.. ويؤذيه ذلك لدرجة أنه يثير في نفسه غضبًا شديدًا على الأعداء الذين يؤذونهم. والواضح أنه لم يقل: “عزيز عليه ما عنتم” إلا لأنه كان هناك بالفعل من يؤذي المؤمنين حتی شق على الرسول إيذاؤهم، فقال عز وجل: “عزيز عليه ما عنتم”.

ثم يستمر في تأكيد حب النبي للمؤمنين قائلا:

“بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ” فأين “أذلة على المؤمنين” من هذا الوصف الرائع: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ؟! الحق، والحق أقول، إنه قد ظهرت هاتان الصفتان اللتان هما من صفات المولى .. في ذات النبي بوضوح وجلاء حتى إن الله تعالى سماه في القرآن الكريم بأنه رَءُوفٌ رَّحِيمٌ أقول: فلِم َ لم يأمر الله تعالى بقتل المرتدين وهذا الرؤوف الرحيم كان بين أظهر المؤمنين؟ ولماذا سوَّفَهم قائلا: لا بأس عليكم، سأرسل عن قريب قوما يقومون لكم بهذه المهمة.. مهمة قتل المرتدين.

خلاصة القول، إنني لم أجد فيما قدمه العلماء من الأدلة القرآنية، في زعمهم، على وجوب قتل المرتدين سوى هذه الأدلة الأربعة ولو اطَّلع أحدُكم على دليل آخر منهم، فعليه مشكورا بإبلاغي، وسأرد عليه أيضا، إن شاء الله تعالى.  (يتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك