سرّ البقاء والازدهار بين المجتمعات غير الإسلامية
التاريخ: 1989-06-16

سرّ البقاء والازدهار بين المجتمعات غير الإسلامية

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

خطبة الجمعة التي ألقاها سيدنا أمير المؤمنين مرزا طاهر أحمد، أيده الله بنصره العزيز

الخليفة الرابع للإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام

يوم 1989،6،16 في تورنتو، كندا

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ .

في سورة الرحمٰن ذكرٌ لبحرين يلتقيان، ولكن يفصل بينهما برزخ. ويخبرنا القرآن أنه سيأتي وقت يختلط فيه ماؤهما. وفي موضع آخر قال: هذا عذْبٌ فُراتٌ وهذا مِلحٌ أجاجٌ. فطعم أحدهما عذب حلو، وطعم الآخر مالح لاذع مر.

قالوا إن هذا الخبر قد تحقق من الناحية المادية. وفي الحقيقة لا أعرف بحرا ماؤه حلو ولا أحسب أن أحدًا يعرفه كذلك. فماء البحر دائما مالح. قد يختلف البحران في درجة الملوحة، فيكون أحدهما أشد ملوحة من الآخر، ولكنهما يبقيان مالحين. وإذَنْ فالقرآن الكريم يشير إلى بحرين من نوع آخر.. بحرين من البشر.. بحرين من الحضارة.. بحرين من الدين. وذكر القرآن صفاتهما الطيبة بالعدل والميزان. قال إن أحدهما مالح والآخر عذب، ونجد في كل منهما بعض اللآليء، وفيهما طعام وأسماك وأشياء أخرى نافعة للناس. فالاختلاف في الطعم، في اللون والطبيعة. أما مرارة البحر المالح فستبقى كذلك. وكما ينبيء القرآن الكريم، سوف يلتقي البحران. فماذا سوف يحدث، وما هي نتيجة هذا المرج الكبير؟ هذا ما سوف أحدثكم عنه اليوم.

عندي أن هذين البحرين هما البحر الإسلامي والبحر الإلحادي أو بحر العداء للإسلام الذي سوف يتلاطم أو يختلط معه. وعند تحقق هذه النبوءة القرآنية.. يكون من مجافاة الصواب أن يقال بأن الفضائل قد حازها المسلمون وحدهم، أو أن غيرهم محروم منها تماما. قد يقال بأن الإسلام فيه منافع للناس، لذا يثمر أناسا طيبين؛ أما العالم خارج نطاق الإسلام فهو مجدب لا يخرج منه أمثال هؤلاء الصالحين.. وهذا أيضا قول غير صحيح تماما. إن الآية إنما تخبرنا عن زمن يتقارب فيه أتباع الديانات المختلفة تقاربا كبيرا في أفعالهم وقيمهم الخلقية؛ وتكون فلسفتهم الفكرية وأهدافهم العليا لا علاقة لها بنمط حياتهم اليومية. أقول في مثل هذا الحال لا يكون من المعقول الادعاء بأن الأخلاقيات السامية سمة مميزة لقوم بعينهم؛ كما أنه من غير المنطقي أيضا القول بأن الأخلاقيات المنحطة وقف على قسم معين من الناس. فالقواعد الإنسانية العامة السارية في جميع البحار.. مالحها وحلوها.. تولد كل صنوف الكائنات. فتجد في كل مكان حيوانات جيدة ورديئة، وأشياء طيبة وسيئة. وبالمثل، فإن هذه النبوءة تنتمي إلى ذلك العصر الذي يكون فيه الإنسان قد دب فيه الفساد بحيث لا يكون الفارق بين الحلو والمالح كما يجب أن يكون، حتى لا يصح نسبة الخير إلى مجموعة من الناس، وعزو الشر إلى مجموعة أخرى. وفي هذا الحال سوف يدبر الله تعالى للإسلام أن يحصل على طاقة تجديدية من أجل انتصاره. وفي رأيي أن هذا الحال هو يومنا الحاضر.

وبودي أن أضع أمام أعينكم بوضوح ما يجب أن تنتبهوا إليه من الخير، وما يجب أن تحذروا من شر. وأود أن تنصتوا جيدا لتنتفعوا.

في الوقت الذي يقع فيه الامتزاج العظيم بين البحرين.. يكون الطيب والقبيح من الأمور قد صار ميراثا عاما لكل البشر، ولم يعد ينسب للفوارق الدينية. وإذا نزلتم من عالم المثاليات إلى دنيا الواقع، وإذا درستم العالم بنظرة صادقة، سواء أعجبتكم نتيجة الدراسة أم لم تعجبكم.. فستجدون الناس قد صاروا متشابهين: اللاأخلاقية موجودة في عالم المسلمين كما هي موجودة في خارجه.

هناك فساد في دنيا المسلمين بمثل ما هناك فساد في دنيا غير المسلمين. بل أحيانا تجد أنواعا من الفساد في المسلمين أكثر من وجودها بين من ليسوا مسلمين. وبالمثل هناك علل تكثر في عالم غير المسلمين وهي أقل انتشارا في المسلمين، ولكن الإنسان صار نوعا واحدا بوجه عام.

لم يعد من الممكن مثلا القول بأن البوذيين هم أتقى وأطهر، أو أن الأصلح والأورع هم الهندوس أو المسلمون أو النصارى أو غيرهم.. فالعالم في مجموعه غارق في الشرور، ويزداد انهماكه خطورة يوما بعد يوم. وإذا نظرتم إلى الموقف في باكستان.. فستدركون هذه الحقيقة بكل وضوح، إنهم هناك يستخدمون اسم الإسلام كثيرا، ويتحدثون عن الإسلام بقوة وحماس بحيث يبدو كما لو أن كل ذرة في باكستان قد تشبعت بالإسلام. ولكن على الرغم من هذا المظهر المتكرر.. لا يمكن أن تجدوا ولو أثرا طفيفًا للإسلام في حياتهم اليومية؛ وكأنهم يتصرفون على مستويين: أحدهما المستوى المثالي النظري، حيث يعرضون الإسلام بقوة وحماس؛ وثانيهما مستوى الأفعال والأخلاق، حيث لا تجد انعكاسا ولو طفيفا لما يقال في المثل والأفكار. وفي خلال حكم ضياء الحق الذي طال أحد عشر عاما.. زاد عدد الجرائم بدلا من أن ينخفض، وزاد في جميع مجالات الحياة، زادت الجرائم عددا وشدة كما زادت شناعة وفظاعة. هذه ملاحظة من الحياة الواقعية لا يجسر على إنكارها أحد.

ويمكن أن يمتزج البحران المذكوران في القرآن بطريقتين: الطريقة الأولى عندما يختلط البحر الديني الشرقي (أي الديانات التي تنتمي إلى بلاد الشرق) مع البحر الغربي (أي ديانات الغرب). وعندئذ يصب كل منهما مساوئه في الآخر. ويمكن أن يمتزجا بطريقة ثانية، وذلك عندما تنتقل الحسنات من أحد البحرين إلى الثاني. هذا الموقف، وهو موقف حساس جدا. وهذه هي المرحلة الفريدة من بين مراحل التاريخ الحاسمة. في هذه المرحلة ينبغي على الجماعة الإسلامية الأحمدية أن تقوم بدور أساسي.. فهي مسئولة فيها عما يمكن أن يكون ذا صلة بالإسلام. يجب على العالم الإسلامي أن يكون البحر الذي يعطي الخير، كما ينبغي ألا يتقبل الشر. ومن هذا المنطلق يبدو من الوجهة العملية كأن البحار صارت أربعا: العالم المشهود في دنيا المادة، وهو تلك المجتمعات الكبيرة التي وصلت إلى حد من الضخامة جعلها كالبحار، تتعارك دائما مع بعضها، وتتلاطم أمواجها؛ وكثيرا ما تتداخل الأمواج إلى الأعماق، ويؤثر كل منها في مواقف الآخرين.

وهناك بحران آخران يمكن أن يدخلا في تفسير البحرين المذكورين في القرآن: محيط الإسلام باعتباره حامل راية الحق، والمحافظ على الفكر الإسلامي المثالي، ليس من الناحية النظرية فحسب، وإنما في التطبيق العملي كذلك. هذا البحر يقف بإزاء البحر الخارجي الذي يعمل بشكل أو آخر ضد الإسلام. ومن هنا أحس بأن هناك مسئولية عظمى تقع على كاهل الجماعة الإسلامية الأحمدية. وعلى المسلمين الأحمديين الذين يعيشون في هذه البحار. أحد البحار يسمى كندا والثاني يسمى أمريكا، والثالث هو المجموعة الأوربية التي تسعى للتجمع لتكون بحرا كبيرا. وهناك البحر الرابع للمجموعة الشيوعية. وحيثما دخلت الأحمدية لتمد جذورها رأيت ظاهرة (يلتقيان). والسؤال الحاسم عندئذ: هل سوف نصب مثلنا العليا وأخلاقياتنا الإسلامية في هذه البحار التي نلتقي معها، أم سوف نتخذ من قيمها المالحة قيمًا لنا؟

ويجب أن يكون معلوما لنا منذ البداية.. أنه بحسب المفهوم القرآني.. ليس من الصواب الادعاء بأننا نمتلك كل الفضائل ونخلو من جميع العيوب، أو أن الآخرين خلو من الفضائل حائزين كل الشرور. هذا قول يخالف الحقائق أيضا. ففي هذه الأمم التي تقيمون بينها خصال عظيمة، تتألق كاللؤلؤ. وفيهم مزايا جليلة ونافعة.. كالسمك، ذلك الطعام المفيد الذي يحمي صحة الإنسان. وقد مس القرآن الكريم حكمة عميقة عندما أشار القرآن إلى السمك، لأن حماية الحياة الإنسانية والحيوانية يتوقف على البحار. والمنبع الحقيقي لكل القوى هو البحر. وبذلك وضع الله تعالى أمام أعينكم حكمة بالغة، ومثالا أساسيا مركزيا. فلحماية الإنسان، ولحماية قيمه الروحية وحياته المادية أيضا تكون البحار قادرة على العطاء، تعطي أشياء وأشياء. إن البحر يحتوي على قيم أساسية طيبة، وهي تسهم في حماية الحياة المادية، وفي حماية الحياة الروحية والخلقية أيضا.

فمن مسؤليات الجماعة الإسلامية الأحمدية ألا يكونوا كأمثال أولئك المتعصبين الدينيين الذين يزعمون أنهم أهل الحق وغيرهم محروم منه. ينبغي أن تقدسوا الحق، لأن الحق من أسماء الله جل وعلا، وأن تتمسكوا بالحق حتى تكونوا قادرين على تقبل كل ما هو حق، وأن تكونوا قادرين على رؤية الحسن على أنه حسن، وأن تقبلوه كذلك. وبهذا الصدد أيضا ينبغي أن يتوطد فيكم مستويات الحياة الطبيعية وفي دنيا العلوم، كما يعمل أيضا في الآلات التي يصنعها الإنسان بيده، وفي الأجسام الحية وفي الكون. يجب أن تتعلموا الدرس منها. هناك صمامات تسمح بمرور إشعاعات معينة، وتمنع غيرها من الوصول إلى جو الأرض أو الدخول في جسم الإنسان. وهناك صمامات تتحكم في تأثير جسم على الآخر. والأجهزة الإلكترونية التي تشاهدونها حولكم يقوم عملها على نظام الصمامات. هذا عصر الكمبيوتر، ولا يمكن تخيل الكمبيوتر بدون صمامات، وإذا تعطل بعض صماماته توقف عن العمل. وفي الحياة الروحية أيضًا يحتاج المرء إلى صمامات مماثلة. وعلينا أن نستفيد في عملية الحياة من نظام الصمامات الذي أقامه الله تعالى، ونتعلم منه.

وعندما نتحدث عن موضوع امتزاج البحار يتجه فكري إلى الخاصية الأزموزية (osmosis)، وهي خاصية طبيعية وقانون فطري، درسه العلماء دراسة عميقة، ووجدوا أن الحياة بأشكالها المختلفة.. خضرية كانت أو حيوانية.. تعتمد على الخاصية الأزموزية. فهو قانون أساسي بالغ الأهمية، يعمل في سكون على حماية واستمرار الحياة. وتنشأ القوة الأزموزية عندما يلتقي سائلان، فيتأثر السائل الذي يحتوي على تركيز ملحي مرتفع بالسائل ذي التركيز الملحي الأقل؛ فالماء، وهو المذيب، ينتقل من المحلول المخفف إلى المحلول المركّز. وقد تبدو هذه الظاهرة قليلة الأهمية، وقد يتعجب المرء من علاقتها بالحياة عموما؛ ولكن عندما أشرحها لكم ستعرفون وتعجبون.. كيف أن كل ظواهر الحياة في عالم الأحياء تقوم على هذه الظاهرة الأساسية.

في كل لحظة من الحياة، وفي كل خلية حية، وفي كل كائن حي.. تُبدي أمامنا الطبيعة مهارتها وحفاظتها على استمرار الحياة، بفضل القانون الإلهي: الضغط الأزموزي. ومن المعروف أن كل أنواع الحياة على الأرض يعتمد في النهاية على النباتات الخضراء؛ وبقاء عالم النبات يعتمد على الأزموزية. إذا غرسنا نباتا في الأرض، أرسل جذوره في التربة بحثا عن السائل الذي يحتوي على غذائه. فإذا كان محتوى خلايا النبات مخففا، ومحتوى ماء التربة مركزا.. فإن الماء، تطبيقا للخاصية الأزموزية، ينتقل من المحلول المخفف إلى المحلول المركز، أي في حالتنا هذه: من النبات إلى التربة، وبذلك يفقد النبات عصارته ويذبل وسرعان ما يجف ويموت. وهذه خاصية طبيعية لا يمكن أن تتغير بحال من الأحوال، وما من قوة تغير اتجاه سريان الماء بحسب هذه الخاصية. ولذلك فإنه من المشاهدات المعروفة أن النباتات لا تنمو في الماء المالح. ولعلكم لاحظتم أن الأرض القاحلة لا تعطي محصولا مهما اجتهد وكد فيها الفلاحون. وإذا نمت فيها النباتات لبعض الوقت فما أسرع ما تذوي وجف. السبب في ذلك أن المحلول المائي في النبات أقل تركيزا من محلول التربة، ولا يستطيع النبات مخالفة قانون الطبيعة الرباني، فبدلا من أن يمتص الماء الذي يحتاجه لغذائه وحياته.. تجده يفقد ماءه هو ويتسرب منه إلى الخارج.

إن تشبيه الإسلام بالماء العذب لمن معجزات القرآن العلمية والبلاغية. فهو لا يتقبل تأثيرا من خارجه، وإنما هو الذي يؤثر في غيره. إن القول بوجود الماء المالح في جانب، والماء العذب في جانب آخر، وأنهما سوف يلتقيان ويمتزجان.. لهو وصف صادق معبر عن قدرة الإسلام على الاختراق؛ ومن ثم فهو نبوءة تبشرنا بالفوز النهائي للإسلام.

ونعود إلى قانون الأزموزية، الذي يعتمد على كل أنواع الحياة على الأرض، والذي يستلزم أن يكون المحلول خارج الخلية أخف تركيزا من المحلول داخلها.. حتى يتسنى للماء العذب أن ينفذ من الخارج إلى الداخل. ففي المفهوم الروحاني يكون الماء الخارجي ضروريًا لحماية النفس من الداخل؛ وإذا لم يدخل الماء من الخارج مات الفرد. إذا لم يخترق الإسلام البحر المالح، فلا فرصة للحياة أن تستمر فيه، وفي النهاية الموت والهلاك.

من هذه الناحية يمكن فهم المثال كما شرحته، ولكن هناك جانب ثان.. لو نظرنا إلى المثال من جهته فإنه يلقي ضوء مختلفا، وأود أن ألفت نظركم إليه أيضا.

تصوروا نباتا يمتص مما حوله الماء الذي يعطيه الحياة. وإذا دخل هذا الماء على نفس الحال الذي هو عليه.. فإنه سينتقل ما فيه من مواد ضارة إلى النبات، وعندئذ سوف يموت النبات، وليس هناك ضمان لحياته ما لم تكن لديه القدرة على تغيير هذا الماء، وتحويله إلى جزء من تكوينه ووجوده. وهذا لا ينطبق على السوائل فقط، بل وعلى المواد الصلبة أيضا، لأن الحياة لا تعتمد على الضغط الأزموزي وحده. لذلك أود أن أضع مثالا آخر أمامكم ليتبين لكم ما تحتاجون إلى عمله هنا. أنظروا إلى المثال من هذه الناحية: الحياة بكل أنواعها لا تستطيع الاستمرار بنفسها، بل إن استمراريتها تتوقف على دوام قدرتها على امتصاص أشياء مما حولها. لقد جئتم إلى هنا، والذين يعيشون في أوروبا أيضا.. لا يمكنهم البقاء أحياء دون استمداد الحياة مما حولكم. ولو درستم نظام الحياة لعلمتم أن الله تعالى وضع قانونا بأن كل ما يدخل الجسم لا بد له من المرور بعملية هضم، يتم فيها التخلص من بعض الأشياء وقبول البعض الآخر. وما يقبله الجسم لا بد وأن يتشكل ليتحول إلى مادة الجسم؛ وعندئذ فقط يمكن أن يصل إلى الأعضاء الأخرى دون أن يضيرها. وإذا لم يحدث ذلك كان الطعام والشراب سببا في هلاك الحياة.

إن الطعام الذي تأكلونه يوميا، ولا شك أن بعضكم قد أكل شيئا قبل حضوره لصلاة الجمعة، إذا دخل هذا الطعام إلى دورة الدم مباشرة فلا بد أن يموت المرء أيا كان بلا استثناء. لو حاولنا إدخال قطعة من اللحم أو الخضر، وهي من مصادر الطاقة والحماية، إلى الشرايين مباشرة.. فلسوف يؤدي ذلك إلى الموت الحتمي، بفرض أن الطعام لن يسد العروق تماما. لقد خلق الله تعالى نظاما دقيقا يحول هذه المواد الضرورية لحياة الإنسان إلى صورة خاصة، وتمر بالتعديلات اللازمة لتكون جزءًا من الجسم، وعندئذ فقط يسمح لها لأن تكون جزءا عضويا من جسم الإنسان. ولهذا الغرض أقيمت مصانع ومعامل كثيرة داخل جسم الإنسان.. تعمل في سكون. هناك مثلا نخاع العظام، وهناك الأمعاء التي لا تتوقف عن العمل، ولكن ما يدخلها من طعام لا يصير جزءًا من الدم.. بل لا بد من مروره أولا بالكبد، حيث توجد معامل كيماوية، لصناعة صيدلية كبيرة جدا، لا يستطيع الفرد العادي تصورها، بل إن العالم الذي يدرسها يدرك أنه لا يحيط بكل دقائقها، وأن العلم لا يزال لا يعرف الإجابة على كل غوامضها حتى اليوم. هذا الكبد الذي تشويه وتأكله في لحظات، ولا تتوقف لتفكر كيف التهمت.. فيه صناعات صيدلية، ليست بالعشرات، بل قل بالمئات ولا تكون مخطئا في ذلك.. تقوم باختبار المواد، وتنتج الكيماويات التي يحتاجها الإنسان، وتستبعد ما لا حاجة للجسم فيه، وهناك نظام للتخلص من المواد الضارة.

هذا عضو واحد يقوم بعمله، وهناك أعضاء أخرى تقوم بوظائف مشابهة. ثم هناك نخاع العظام، الذي لو توقف عن العمل أو عَمِلَ بطريقة مختلفة لأصيب المرء بمرض سرطان الدم، وبدلا من أن يستفيد من الكيماويات التي يمتصها كما يحدث في الجسم السليم.. فإنه يسيء العمل ويخرج طاقة ضارة.

عليكم أن تتفكروا في القانون الإلهي. هناك قوانين مختلفة، فقانون الأزموزية له رسالة خاصة إليكم، ثم قانون الهضم ينقل لكم رسالة أخرى. إذا تأملتم في هذه الرسائل انكشفت لكم الحكمة العميقة التي تعمل في كل قانون. وعن مسألة التقاء البحرين على وجه الخصوص.. أود أن أضع أمامكم قانونين:

الأول: أنه ينبغي عليكم أن تنفذوا داخل هؤلاء وهذا يتطلب أن يكون لكم مزاج رفيع ممتاز، وأن تكون أخلاقياتكم منتقاة بعناية.. لتكونوا قادرين على التأثير والوصول حتى إلى داخل من يكرهونكم، ويكون كل من يقترب منكم مضطرا للتأثر بكم. وبهذا المعنى يكون بحركم عندئذ هو العذب الفرات، وتحققون الشرط الأول للنفاذ في هذه الأمم.. أما إذا أردتم توصيل فكركم إليهم من دون سند من الأخلاق الرفيعة الصالحة.. فإن المجتمع سيرفض فكركم لأنه غير نظيف. في هذا العالم، من الصعب دائما قبول الأفكار، لذلك يجب أن تصوغوها في شكل جميل مستساغ، له قدرة على النفاذ إلى الآخرين. وبحسب ما أعرفه.. فإنه لا يمكن لدين أن ينفذ من قوم إلى قوم من غير القيم العالية. وإلى هذه القيم الأخلاقية السامية يعود النصر العظيم الذي حققته قداسة النبي الكريم محمد المصطفى . كان هذا الخلق متشربا بتعاليم القرآن، فحيثما نفذت أخلاقياته كانت تنفذ معها تعاليم القرآن المجيد. وأينما وجدت خلال النبي طريقها إلى نفس إنسانية.. كانت تعاليم القرآن تجد طريقها معها في نفس الوقت. لقد أدركت السيدة عائشة الصديقة رضي الله عنها هذا السر جيدا عندما سُئلت عن خلق النبي فقالت: كان خُلقه القرآن. وهذا معناه أنه كان إنسانا لا فرق فيه بين النظرية والتطبيق بين القول والعمل. وعندما تصبح الفكرة والعمل معا في كيان الإنسان بحيث لا يمكن الفصل بينهما.. عندئذ يتجلى المرء بأخلاقه. ولذلك صار القرآن خلقا للنبي ، وكانت أخلاقه بحيث أودع الله تعالى فيها تلك الصفة الحتمية اللازمة.. صفة النفاذية التي هي للخلق الحسن. وإذا كان محمد المصطفى قد استخدم إلى جانب قوة الدعاء قوةً أخرى للفوز على القوى المعارضة له.. فهي هذ القوة.. قوة النفاذية لأخلاقه السامية. ولذلك عندما حلل سيدنا المهدي والمسيح الموعود أسباب النصر في المرحلة الأولى للإسلام.. ذكر أن الدعاء يأتي في المقام الأول، ثم الخلق  العظيم للنبي . وأكد على أنه من دون محاسن الأخلاق لا يمكن لنا الانتشار في العالم.. دَعْك من الفوز على الآخرين. لذلك فإني أؤكد عليكم أن تهتموا بالأخلاق. إنها الماء العذب.. الماء الذي سينفذ إلى الماء المالح. ولكنكم إذا خلطتم سوء السلوك مع هذا الماء العذب، وأدخلتم فيه العادات السيئة والأفعال الشائنة.. فمن الممكن أن يتحول ماؤكم إلى ماء غليظ فلا ينفذ إلى الآخرين، بل إن نقائصهم وعيوبهم تنتقل إليكم، وتلقَون نفسَ المصير الذي يلقاه النبات التعس الذي غرس في أرض قاحلة، فلا تمتصون الماء بل تفقدونه وتفقدون معه الحياة.

هذا هو أعظم الأخطار التي أحس بها في زياراتي للعالم الغربي. إن من واجبكم أن تحموا أخلاقياتكم، وأن تقدموا أنفسكم إلى هذه الأمم وأنتم على خلق طيب.. له رائحته وعطره ونقاؤه.. الذي لا بد وأن ينفذ إلى قلوب الآخرين. ومع هذه الرائحة العطرة.. يمكن لفكركم أن يصل إلى هؤلاء الناس ويتغلغل فيهم. هذه هي الطريقة التي يمكن بها لأهل الروحانيات أن ينفذوا ويفوزوا.

وثانيا: إنكم ستأخذون منهم، لأنكم معهم. ولاستمرار حياتكم لا بد أنكم تأخذون عنهم. فيجب حينئذ أن تكونوا انتقائيين. ولا تنتقوا إلا الطيب. عندما يكون الإنسان جائعا فإنه يحتاج إلى أي طعام.. أي شيء يمكن أن يمده بالطاقة، ويكون قابلا للتحول إلى أنسجة الجسم. ومهما كانت هذه المادة.. لحما أو بيضا أو خبزا فهي جسم غريب. تذكروا دائما أن الجسم الغريب إذا دخل جسما فإنه يسبب الهلاك، لذلك لا بد من تحوله أولا إلى ما يناسبكم، ثم دعوه بعد ذلك يدخل. فأول شيء هو حسن الاختيار.. ننتقي الأفضل، ثم نُؤسْلِمُهُ، أي نجعله إسلاميا. يجب أن تصوغوه طبقا للمفهوم الإسلامي، وتشكلوه ثم تنتهجوه. رأينا هذا النظام في بعض الأمم التي تعودت أن تأخذ من غيرها الأفكار والثقافات، واليابان من هذه الأمم. فأي فكر أو أسلوب حياة يصل إلى اليابان لا بد أولا أن يُقَوْلِبُوه يابانيا، ثم يتخذونه منهاجا. وأي شكل من أشكال النصرانية دخل اليابان صاغوه نصرانية يابانية. فكيلا يخرب هؤلاء القوم إسلامكم.. عليكم أن تأخذوا صفاتهم الحسنة وتُؤَسْلِمُوها. كل ما هو حسن في نظامهم اتخذوه وسيلة لحماية حياتكم بينهم، واجعلوه مصدر طاقة لكم. كونوا انتقائيين، حريصين على اختيار الخصال الطيبة. وقبل هضمها اجعلوها في صيغة إسلامية. وطهِّروها ونقُّوها بحيث تصير جزءًا من مقدساتكم، ثم بعد ذلك اهضموها ومثلوها في أنفسكم. هذا هو الجانب الثاني الذي يجب على من يعيشون في الغرب مراعاته دائما.

وثمة جانب آخر، فعندما نعطي مثالا فلا يعني ذلك بالضرورة أن تناسب كل نواحيه الموقفَ تماما. الواقع أن بعض النواحي يمكن أن تناسب الموقف وبعضها لا تناسبه. لذلك يحسن أن تكون المسألة مفهومة من عدة طرق. أود أن أوجه انتباهكم إلى أنه ما دمتم سوف تتشربون القيم الأخلاقية، وستجذبون الناس إلى صفوفكم، لذلك يجب أن تتذكروا نفس المبدأ.. إذا انضم إليكم أحد من الأمة الغربية فأسلِموه. وإن لم تفعلوا ذلك فإنه سينقل إليكم تأثيره، ويجركم إليه فتصبحون مثله. ذلك لأنه عندما يصير الامتزاج بدرجة واسعة، فمن المؤكد أن يحدث هذه الصراع: إما أن تكونوا لهم أو يكونوا لكم.

إنهم سيكونون مسلمين من حيث الظاهر، ولكن يبقى الخطر من أنهم لم يحصلوا على التطهير والتصفية اللازمة لتخليصهم من قيمهم التي تنذر بالانتقال إليكم. هذا هو الخطر الذي يذكركم به القرآن المجيد.. حيث يقول إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا . سيأتي الوقت الذي يعتنق فيه الناس الإسلام بأعداد كبيرة، وعندئذ يجب أن تتذكروا ضرورة تحويلهم إلى جزء عضوي من كيانكم، وإن لم تفعلوا فسوف تواجهون المخاطر. واذكروا أنكم بحاجة إلى تسبيح الله تعالى وطلب المغفرة منه. التسبيح والاستغفار.. هما الأمران اللذان يذكرنا القرآن بهما بصفة خاصة إزاء هذا الموقف. فالتسبيح، وهو تنزيه الله تعالى عن النقائص والعيوب، وليس بالتسبيح يكون الله تعالى قدوسا، ولا يكون كذلك بدونه.. معاذ الله، وإنما المراد بالتسبيح أن يوسع المرء نظرته، ويعمق معرفته بالله تعالى، ويغرس في نفسه وفي فكره سُبوحية الله، ومن ثم يدرك أن كل ما خلا الله منقوص ومعيب بشكل أو آخر. وفي نفس الوقت تزداد معرفته بكمال الله وقدوسيته، ولذلك يقول القرآن: سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ .. تذكَّر صفات الله الحسنى حيثما توجهتَ للصلاة والدعاء. أدِر بصرك في العالم كله لا تجد حسنا إلاّ واللهُ مصدره الحقيقي. وكل كمال وجمال من الله تعالى وإليه. فهو الأول والآخر. يجب أن يكون هذا المعنى في بالكم وأنتم تستعدون للترحيب بالأمم القادمة إلى الإسلام.

هذه التعاليم.. تعني أنكم عندما تدركون هذه النقطة إدراكا كاملا بأن الله منزه عن العيب، وأنكم تدعون الناس إلى الله القدوس.. فمن المؤكد أنكم تطهرون من يأتون إليكم. وبديهي أنكم إن لم تنظفوا أنفسكم من هذه العيوب.. فلن يكون بوسعكم دعوة غيركم إلى الله القدوس. تقولون: يا الله، أنت القدوس المنزه عن كل نقص، ونحن ندعو الدنيا باسمك وإليك.. ثم لا تطهرون أنفسكم من كل العيوب؟ ولا تستطيعون تطهير القادمين الجدد إليكم؟.. فليس لكم الحق لتكونوا دعاة إلى الله.. إذا بقي حالكم كما هو، ولا تنمّون الصفات الطيبة في أنفسكم. إن الله تبارك وتعالى، الذي تتصادقون معه هو صاحب الأسماء الحسنى كلها. فإذا أردتم الفوز بقربه لزم أن تكونوا على مثاله، وتوقظوا هذا الوعي في أنفسكم، وتقوموا بجهد واع نحوها، وتظهروا الاهتمام والتفكر في أمر القادمين الجدد، وتناضلوا لنقل هذه الصفات الطيبة إليهم أيضا.

بعد ذلك تقول الآية:

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ..

فعلى الرغم من كل ذلك ستبقى فيكم نقاط ضعف، لأن كل إنسان بإزاء الله ضعيف ويعاني من النقائص. فما من جهد له يخلو تماما من الخطأ، ويكون لهذا تأثير سيء على القادمين الجدد. لذلك ينبغي طلب عون الله بالدعاء والاستغفار، ومداومة الابتهال إليه قائلين: إننا يا ربنا، فعلنا كل ما في وسعنا، ونعرف أننا ضعفاء. نعلن ذلك جازمين، موقنين أن الله هو القدوس وأننا لسنا قدوسين، وأنه لا يمكن لأحد أن يتطهر بفضل جهوده وحده إذا ما هو حُرِمَ من عون الله. فالاستغفار ليس لجبر أخطائنا فحسب، وإنما لستر ما نفشل في استكماله أيضا.. فلا يحدث تأثير سيّء على الآخرين ويلوثهم.

هذه هي الطريقة التي يمكن أن نعيش بها في الغرب، وإذا لم نتبعها فإن اختلاط البحرين سوف يسير حسب قانون الطبيعة كما أسلفت. فإن لم تنفذوا أنتم إليهم فسوف ينفذون هم إليكم. إذا لم تطوروهم وتغيروهم فإنهم بالتأكيد سوف يغيرونكم. في مقابلة مع أحد الصحفيين هذا الصباح سألني: هل تدركون تبعات المعايشة مع الأمم التي قررتم العيش معها، ومدى الأخطار التي تواجهونها؟ هل تنصحون جماعتكم بالمتاجرة في مبادئها، والذوبان في تلك الأمم؟ وإذا لم تفعلوا ذلك.. فكيف ستعيشون إذن؟ فقدمت إليه نفس الجواب بإيجاز: إن قانون التعايش لدينا لا يسمح لنا أبدا بالمتاجرة في مبادئنا. إننا نسعى لاكتساب ما فيكم من صفات طيبة، ونجتهد لنعطيكم ما لدينا من صفات طيبة.. بحيث نتعايش في مكان مشترك بفهم متبادل. وليس من الضروري أبدا أن تذوب أمة من خلال المتاجرة بالمبادئ، بل الأحرى بالمحافظة على المبادئ العليا يمكن للمرء أن يصل إلى صيغة واعية للتعارف وإقرار الفهم المتبادل، ومن خلال هذا الفهم يمكن أن نظل مُختلفين من عدة نواح. كان سؤال هذا الصحفي من باب المصادفة، وكان الموضوع في ذهني كاملا معدا لأعرضه عليكم.

والآن أود أن أتحدث إليكم بشأن مسألة ذات أهمية أساسية. إنكم دخلتم القرن الجديد، وانتقلت عائلات كثيرة واستقرت هنا. وترجع خلفيتكم الثقافية إلى بلاد الشرق. والخلفية الشرقية ليست بالضرورة إسلامية، وينبغي ألا تغفلوا عن هذه الحقيقة. ومصدر الخطر في هذا أنكم تأتون معكم بعلل الشرق، ويحسبها الناس هنا خلفية إسلامية، ويكون رد فعلهم إزاءها مضادا للإسلام. هذه مسألة حساسة للغاية. وثمة خطر ثان: فبعض التقاليد الشرقية متدنية ولا تستطيع البقاء. وقد يختلط عليكم الأمر ولا تدركون أن القيم الشرقية، وليست قيم الإسلام، هي التي اندحرت أمام القيم الأخرى.. ومن ثم يتولد فيكم شعور بالنقص، وهذا خطر عظيم. لذلك من المهم جدا أن تفصلوا ما بين الإسلام والقيم والعادات الشرقية. يجب أن تصبّغوا أنفسكم بالقيم الأخلاقية الإسلامية، فهي التي تتميز بالقدرة على العالمية. يجب أن تحسنوا تعاملكم ومسلككم مع الآخرين، فهذه هي التحسينات التي تؤثر فيهم حتما، وهي القادرة على النفاذ إليهم.. ومن ثم تصبحون قادرين على اجتذابهم نحوكم. فإذا ما انجذبوا إليكم بادِروا إلى إصلاحهم، وعلِّموهم أسمى القيم الإسلامية، واجتهِدوا ألا تتأثروا بعللهم. ومع تحصنكم من أمراضهم.. استمسكوا بصفاتهم الطيبة، ومن دون ذلك ينظرون إليكم على أنكم جهلة أو عميانا. إن القرآن الكريم يذكر لنا أن البحر المالح، رغم ملوحته، به أشياء نافعة، فيه السمك، اللحم الشهي الطري، وفيه اللآلئ. وعلى سبيل المثال: هذه الأمم في حياتهم اليومية من الصدق ما يتفوقون به كثيرا على الأمم الإسلامية. ومهما كانت مرارة الاعتراف.. وقد يغضب أبناء تلك الأمم إذا سمعوا ذلك القول مني، وقد ينادي بعضهم بقتل من يقول ذلك بتهمة التشهير بالإسلام.. مع ملاحظة أن الإسلام لا يناله التشهير إلا إذا أُسيء إلى الحق باسم الإسلام، نعم، الإساءة إلى الإسلام تكون بالإساءة إلى الصدق ورفع الباطل. الأمر حقيقة ثابتة، على كل أحمدي أن يعترف بها، وأن يملك الشجاعة والجرأة على ذلك. وفي نفس الوقت.. عليه ألا ينسى أبدا أن مصدر كل حق هو الإسلام، وأن المسلم ليس هو الإسلام.. ومسلم اليوم بصفة خاصة لا يمثل الإسلام. وإذا كان هناك إنسان هو الإسلام فذاك هو سيدنا محمد المصطفى ، وإذا كان في الحياة رجل يجسد صورة الإسلام فذاك حبيبنا محمد المصطفى ، وإذا كان من الممكن أن يصاغ الإسلام أشخاصا من البشر لكان ذلك أولا سيدنا المصطفى .. ثم أصحابه الذين رباهم وصنعهم بيده، في العصر الأول، زمن القرن الأول، عندما كان الإسلام حقيقة في حياة الناس. واليوم قد تغير الحال، ولكن ذلك لا يلوث الإسلام، وإنما يلوث الذين يرتبطون بالباطل، ويزعمون انتسابهم للإسلام.

ليس الصدق وحده، وليس الخلق الطيب وحده وإنما هناك خصال كثيرة طيبة في هذه البلاد، هم يحترمون الوفاء بالوعد والاتفاق. وفي معاملاتهم اليومية يحسنون الظن بالآخرين، فلا يتشككون دونما مبرر، ولا يرتابون بغير أساس، ولا يجادلون في الأشياء التافهة، ولا يختلقون أسبابا للعراك. وإذا كنتم ترون خصالا خلاف هذه في أماكن أخرى، وبصور شتى.. فلن تجدوها هنا. ولكن بالمقابل سوف تجدون أشرارا أخرى كثيرة وخطيرة.. فعليكم بالانتقائية. وما دمتم مستمسكين بالحق فسوف تختارون من خصالهم ما هو طيب، ولن تكون فيكم عقدة الدونية. سوف تتقبلون خصالهم الطيبة انطلاقا من المبدأ الإسلامي: الحكمة ضالة المؤمن، الحكمة هي الناقة الضالة التي يبحث عنها صاحبها المؤمن في كل مكان.. حتى إذا وجدها فهي ناقته وحلاله. والإسلام منبع كل الحق، فكيف نكره أجزاء الحق المبعثرة هنا وهناك.. مع أنها الحق الذي ينتمي للإسلام. عليكم أن تتبنوها، وعلى كل صادق أن يفتح قلبه لحبها.

ينبغي عليكم الاعتراف بخصالهم الطيبة، وعندئذ يبدون اهتماما نحوكم، لأن الصدق أشد الأمور تأثيرا في النفس. فإن وجدوا المسلمين الأحمديين أهل صدق، يستمسكون بالصالحات، ويرفضون القبائح.. فمهما كان الواقع.. حامضا أو حلوا.. فعندهم الشجاعة للتعرف عليه وقبول الحق، ولسوف تنظر إليكم الأمم نظرة الاحترام والتقدير.. وسوف يهتمون بفكركم. ومن هذا الجانب يجب أن تنفذوا إليهم، وتؤثروا روحانيا عليكم.

إنكم تزدادون عددا من طريق الأولاد، ولا أحد يمنعكم من ذلك، بل أدعوكم ليكون لديكم رصيد من الأبناء “للوقف الجديد”، ولكن لا يكفي التكاثر العددي عن طريق المواليد فقط. عندما وصلتُ هنا سألت الناس: أخبروني عن تقديركم لعدد الأحمديين هنا. فأعطوني تقديراتهم، وأضاف بعضهم قائلا: لسنا كثيرين في الوقت الحاضر، ولكننا إن شاء الله تعالى سيزداد عددنا كثيرا بعد ثلاث سنوات. فقلت: كيف ستكثرون؟ قالوا: بالمواليد الجدد. ولم يقل أحد منهم بأن الزيادة ستكون عن طريق التكاثر الروحاني.. من خلال قيم الإسلام الرفيعة.. باختراق المجتمع بالسلوك الأخلاقي العظيم.. سوف نزداد عددا ولن يستطيع أحد إيقافنا. لم يعطني أحد الرد. فأصابني القلق.. ولذلك توجه ذهني إلى هذا الموضوع في حديثي إليكم. إن زيادة المواليد قد تبارك عددكم، ولكنها لا تزودكم بالوسائل التي تحمي فكركم. وإذا تناقصت سرعتكم في التقدم الروحي فإن هذه الأمم، إن لم تتمكن من احتوائكم، فسوف تحتوي أبناءكم وأجيالكم القادمة. إذا فشلتم في الاستحواذ عليهم روحانيا وأخلاقيا.. فسوف يستحوذون هم عليكم. افهموا هذا السر.. إنه سر البقاء. إني أستغرق وقتا في توضيحه لكم، وقد يحس بعضكم بالنعاس، ولكن يجب علي أن أؤكد لكم بأنه حكمة عميقة، وهي مسألة حياة لكم أو موت. سر حياتكم وبقائكم أن تكون لكم القدرة على النفاذ الروحي والأخلاقي. يجب أن تخلقوا في أنفسكم القدرة على تخلل المجتمع ثم اجتذابهم وإدخالهم في الإسلام. فإذا ما اعتنقوه.. فعليكم إصلاح عاداتهم وتقاليدهم. يجب أن تنقوهم كما تنقى الخامات في المصانع قبل استخراجها، وكما ينبغي أن يجهز الطعام ويعالج قبل هضمه. على هذا المبدأ يكون احتواؤهم، حتى تكون الصبغة الحقيقية والنهائية لضمهم واجتذابهم.. هي ما أنتم عليه من قيم أخلاقية رفيعة.. يجب انتهاجها بحسب قواعد الإسلام.. كما لو أن تعاليم الإسلام صارت جزءًا لا يتجزأ من كيانكم وشخصيتكم، ولا يجدا اختلافا بين الإسلام وبين سلوككم الأخلاقي.. السنَّةِ التي كان عليها محمد المصطفى . القرآن الحي. ينبغي أن تطرحوا شباك أخلاقياتكم، وهي خيوط قوية متينة، وإن كانت رقيقة دقيقة، وأحيانا لا تكاد تلحظ. قال أحد الشعراء ما معناه: قوة رداء الملك تقيدها الحبال الواهنة. فما هي تلك الحبال الواهنة التي تفعل ذلك؟ إنها قوة الحب العميق، والقيم الأخلاقية السامية. إنها تبدو واهنة. ولكنها قادرة على سحب القوى الكبرى نحوها. فخيوط أخلاقكم الرقيقة سوف تقيد هذه الأمم، وتجذبهم، وتضعهم تحت أقدام الحق تبارك وتعالى وتحت أقدام رسله. وليس لديكم دون ذلك من قوة أخرى. إن هذه الأمم تملك الموارد المادية الهائلة، وأنتم لا تملكون منها شيئا. فعليكم بخيوط الأخلاق: خيوط القيم الرفيعة، وتجنبوا التعالي، وعندئذ سيكون بوسعكم حيازة هذه الأمم.. وإلا فإنهم سيملكونكم. وليس هناك من ضمان، إن لم يأخذوكم اليوم، فسوف يأخذون أجيالكم القادمة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك