دروسٌ وعِبر في الأنعام والنحل!!
التاريخ: 1990-01-05

دروسٌ وعِبر في الأنعام والنحل!!

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

خطبة الجمعة لمولانا أمير المؤمنين نصره الله نصرًا عزيزًا

ألقاها في مسجد “الفضل” بلندن في 9 جمادي الثانية 1410 هـ الموافق 5 يناير 1990م

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ .

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (النحل: 67-69).

لقد اخترت اليوم هذه الآيات الكريمة لموضوع الخطبة، لأنه قد لفت انتباهي إليها مكتوب أحد الأصدقاء. كتب إلي يقول: أنا أجد إشكالاً في هذه الآيات، وألتمس منكم إيضاحه. وأرى أن في ترتيبها ارتباطًا قويًا، ومفهومًا عميقًا، أرجوكم لفت انتباه جماعتنا إليه.

وأضاف الكاتب معترفًا بأنه لم يصل إلى تلك المفاهيم العميقة حتى الآن، ولكنه يشعر أنها تحتوي على مضمون سام وعال، يجب أن يشرح للجماعة. وأضاف: لا أريد رد رسالتي برسالة فحسب، بل أطلب إلى حضرتكم أن تتحدثوا حول هذه الآيات في إحدى الخطب إذا تيسر لكم.

إن الإشكال الذي أبرزه صاحب المكتوب هو أن القرآن يحرّم السكر والخمر، بينما ذكر الله في هذه الآية السكر كنعمة من نعمه ، قائلاً: انظروا إلى النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا . وهنا ينشأ السؤال: كيف ذكر شيء حرام ومكروه وكأنه من نعم الله .

سيأتي الجواب على هذا الإشكال حينما أفسر وألقي الضوء على علاقة الآيات المذكورة بعضها مع البعض. ولكن قبل كل شيء عليكم أن تدركوا جيدًا بأن هذه الآيات تتضمن موضوع العبرة، أي أن يتخذ الإنسان موعظة ودرسًا منها. وإذا لم يتخذ الإنسان منها عبرة فيصيبه ضرر بدل الفائدة. وعندما نسترجع أحداث الماضي أمام عيوننا، نرى أن الذين لم يتخذوا درسًا من العبرة، قد أصيبوا بضرر كبير، وتحملوا خسائر فادحة، ولنأخذ مثال ذلك قوم فرعون الذين أصبحوا آية وعبرة للناس، وكذلك الشعوب الذين عادوا الأنبياء، فغدوا عرضة لغضب الله .

وأُعيد كلامي وأقول بأن هذه الآيات تبحث في موضوع العبرة وقوله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا أيضًا ذُكر في محل العبرة، وليس فيه أي ذكر لنعم الله . وفي الحقيقة تشير هذه الأمثلة الثلاثة إلى التطورات البشرية المختلفة. ففي المثال الأول ذُكرت الأنعام والحيوانات والمواشي التي منحها الله القدرة على إعطاء الحليب، مع أن الغذاء الذي تأكله تلك الحيوانات يُعد من أبسط الأغذية. فهي تأكل الأعشاب والحشائش وغيرها من الأشياء، وإذا لم تجد العشب الأخضر أكلت الأعشاب اليابسة وأوراق الشجر، وهو أدنى أنواع الأغذية والطعام التي تأكلها الحيوانات النباتية. وعدا عن هذه الحيوانات النباتية، تأكل كل الحيوانات غذاء أحسن منها. فقد قال الله : أيها الناس عليكم باتخاذ العبرة من الحيوانات والأنعام المجردة من العقل والفهم. انظروا إلى أكلها، فهي تأكل من بين كل الأغذية التي خلقناها لاستمرار الحياة وبقائها ونموها، ما هو أدنى. فالبقر والجواميس والماعز والأغنام والإبل تأكل أدنى نوع من الأغذية، بل إن الإبل تأكل الأعشاب والنباتات الضارة بالنسبة لنا، ولا يأكل مثلها تلك النباتات ذات الأشواك المخفية من الحيوانات إلا الماعز. وكما تعرفون فالماعز أيضًا نوع من الأنعام. إذن فالأنعام التي تعطي الحليب للناس تأكل النوع الأدنى من أغذية الحيوانات، ولكن انظروا ماذا تصنع بهذا الغذاء. فأولاً تنظف وتخرج الفضلة والروث، ثم تصنع الدم لنفسها ولجسمها، وتصنع غذاء آخر بين الروث والدم وذلك هو اللبن. ولقد ذهب بعض المفسرين المذاهب في تفسير قوله تعالى: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ ، فقالوا بأنه الجزء أو العضو الذي يُصنع فيه الحليب أو اللبن، وأنه واقع بين فرث ودم داخل جسم الحيوان. وقاموا بمحاولات عديدة لإثبات صحة استنتاجهم، ولكن هذا الاستنتاج خاطئ وبعيد عن الحقيقة. وعندما نتعمق في جسم الأنعام ظاهريًا، لا نجد فيه عضوًا واقعًا بين فرث ودم حيث يُصنع فيه الحليب، وإنما يقع هذا في موضع آخر في جسمها. مع العلم أن الآية تفهمنا تفسيرًا باطنيًا وليس ظاهريًا.

فالمعنى بأن اللبن يصنع من الغذاء في بطون الأنعام خلال فترة يمر فيها الغذاء من حالته الأولى إلى حالته الأخيرة، أي يُصنع اللبن في بطنها قبل أن يصبح الغذاء دمًا. واللبن لا يستفيد منه الأنعام فحسب، بل يستفيد منه الآخرون وأنتم أيضًا من هؤلاء المستفيدين.. فعليكم أن تدركوا، بأنكم لن تستطيعوا أن تستفيدوا من الأعشاب والحشائش وأوراق الأشجار مباشرة كغذاء، وإنما بعد أن تأكل الأنعام تلك الأعشاب والحشائش الخطيرة والمرة الخالية من الطعم واللذة، وتحولها لبنًا خالصًا طيبًا، لتخدم الإنسان خدمة عظيمة بلبنها.

ثم ضُرب مثل لبعض من البشر وقال الله : نحن خلقنا للناس أعلى الأغذية من الثمرات والنخيل والأعناب، ولكن بعض الناس لا يستفيدون منها استفادة صحيحة، ولا يستعملونها رزقًا حسنًا، بل بالعكس، يصنعون منها سكرًا وخمرًا. وبهذا يبدلونها من رزق حسن إلى شيء خبيث ومكروه، ويسببون الضرر لبني جنسهم بدل الاستفادة.

ومن المعلوم بأننا نعتبر الأنعام من أسفل المخلوقات وأرذلها، في حين يُعتبر الإنسان من أشرف المخلوقات. والأنعام تأكل أدنى الأغذية، وتصنع منها رزقًا طيبًا لنفسها ولأشرف المخلوقات، لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ . فانتبهوا إلى الفرق الذي ذكر هنا عبرة للناس. فالأنعام تأكل الأعشاب والحشائش وأوراق الأشجار والأشواك التي هي النوع الأدنى من الأغذية، وتصنع للناس لبنًا، وهو أعلى أنواع الأغذية، أما للناس الذين وهبوا الثمرات كالنخيل والأعناب، وهي من أعلى أنواع الأغذية، فبعضهم يصنعون منها سكرًا وخمرًا للإضرار بالناس. ومن المعلوم أن الخمر والسكر أم الخبائث وأسفل أنواع المكروهات، ومنها تنبع جميع أنواع الفسق والفجور. ولا يختلف اثنان بأن الشعوب التي تتعاطى السكر يفسقون ويفجرون، لأن الفسق والسكر مرتبطان، ومن المستحيل أن ينفصل أحدهما عن الآخر. ولا تشاهدون على وجه الكرة الأرضية شعبًا يعاقرون الخمر، وبنفس الوقت يكونون من الصالحين. قد تصدر منهم بعد إفاقتهم من نشوة الخمر بعض من الأخلاق الحسنة والآداب الطيبة، ولكنهم في نشوة الخمر يفقدون الخصائل الحميدة والمزايا العالية كلية، وتصدر منهم الرذائل، حتى يضرب بعض شاربي الخمر أزواجهم بالجدران ويشجون رؤوسهن، وأحيانًا تضرب الأمهات أولادهن في الجدران وهن في حالة سكر ويقتلنهن. ونسمع هذه الأخبار المؤلمة ونقرأها يوميًا في أوروبا والولايات المتحدة.

وإذا شاهدتم بأن بعض العائلات قد اشتبكت في النزاعات الخطيرة، ودمرت وأهلكت، فأغلب الأحيان يلعب السكر دورًا هامًّا في تدميرها وهلاكها. وعلاوة على السيئات والفسق وسوء الأخلاق التي تخلفها الخمر، يبذر في شاربي الخمر بذور الظلم والاعتداء.

فهذه عبرة لنا، وعليكم أن تنتبهوا إلى هذا المضمون. إن الله ذكر نوعين من الحيوانات؛ نوع الأنعام، ونوع الإنسان. والأول يعتبر من النوع الأسفل أو من النوع المتوسط بين الحيوانات، والثاني يعد من النوع الأعلى من بين الحيوانات. والثاني يُعدّ من النوع الأعلى من بين الحيوانات. وهذا النوع الأسفل يأكل أردئ الأغذية، ويصنع منها أعلى أنواع الأغذية لفائدتكم. والنوع الأعلى أي البشر يتناول أعلى أنواع الأغذية، ويصنع منها أردئ الأشياء، ويحولها إلى قذارة ومواد فاسدة.

وبعد ذلك ذُكر مثال عن النحل في الآيات المذكورة.. ينطبق على طبقة عليا من الناس، لأن الله سبحانه وتعالى أشار في ترتيب الآيات أولاً إلى الناس العاديين، ثم جاء ذكر النحل، مما يدل على أن المقصود من النحل هو أصحاب المستوى الأعلى من الناس في الروحانية. ثم وضح الله هذا الموضوع قائلاً:

وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ،

أي أنزل الله وحيه على النحل. وهذا الوحي يُحدث تطورات عظيمة في باطنها، خلاف الذباب المحرومة من الوحي. الذباب والنحل متساويتان ومتشابهتان في الشكل ولكن إحداها تتهافت على القذارة والنجاسة، والثانية تمتص رحيق الأزهار.

وهناك سر عميق في امتصاصها رحيق الأزهار بدل الأثمار، وذلك أن الأزهار هي بمثابة أم للثمار، وجوهرها يبقى متواجدًا في الأزهار. وهو قوت لطيف ولا يعادلها قوت آخر من الأقوات. وعندما نتأمل في النحل والذباب فسرعان ما ينتقل الوجدان إلى الفرق بينهما، ولقد أخبرنا الله بذلك الفرق ألا وهو الوحي، وعلاقتها بالله . فالناس العاديون يرزقون رزقًا طيبًا، ولكنهم يصنعون منه سكرًا، وهو شيء مكروه، ويحولونه إلى مواد فاسدة وقذرة. ولا أنكر بأن هؤلاء يستعملونه أحيانًا كرزق طيب أيضًا، ولكن ذلك نادرًا جدًا، ولا تكون فيهم، مثل الأنعام، تلك القدرة التي تحول الرزق المعطى لهم إلى نوع أفضل من الغذاء. أما المتفوقون في الروحانية فهم يتمتعون بعلاقة قوية مع الله ، والذين ينزل عليهم الوحي، يصلون به إلى درجة عالية في الروحانية، ووضعهم يختلف بكثير عن الناس العاديين. فالوحي هو الفارق بين النحل والذباب. فالوحي الذي رفعها من الأسفل إلى الأعلى، وأحدث ثورة عظيمة في باطن النحل، أفلا يمكن للوحي أن يغير حالة المنزل عليه؟ نعم يغيره حتمًا.

لقد ذكر الله الناس بمثال النحل الذي ينزل عليه وحيه، وشبه جماعة المؤمنين بالنحل قائلاً: إننا أوحينا إلى النحل بأنا نمنحك رزقًا، ونعلمك طريقًا تحولين به ذلك الرزق إلى رزق أفضل. ولما لم يكن من المناسب أن يوضع ذلك الرزق في موضع غير نظيف، وإنما يتطلب الوقاية من التأثيرات الخارجية والفساد، فقد وصى الله النحل: أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ، لأن جو الجبال يكون أنظف وأقل غبارًا من سطح الأرض، ويعد من أحسن الأجواء.

ثم أضاف وإذا لم تتمكني من صنع البيوت على الجبال فاتخذي من الشجر بيوتًا، لأن الجو على الشجر أيضًا يكون نظيفًا بعد الجبال، وعندما يصعد الإنسان على الأشجار العالية وينظر إلى الأسفل يشعر وكأنه في جو لطيف ونظيف، لأجل ذلك قال الله للنحل: إن لم تقدري أن تعمري بيتك على الجبال فعليك أن تبني بيتك على الأشجار.

والمكان الثالث الذي قدره الله للنحل بيتًا لها هو: وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ، أي في عروش الكروم وفي مدادات الزهور والنباتات المتسلقة على الجدران، وعلى أعمدة الحدائق والعمارات العالية.

إن مضمون الرفعة والارتقاء والصيانة هو ما ذكر في هذه المواضع الثلاثة المذكورة. إن الله قد أمر المؤمنين الذين يتلقون الوحي منه، ضاربًا بمثال النحل، بأن عليكم أن تتخذوا الاحتياطات اللازمة لصيانة الوحي، وأن تضعوه في مكان عال. فلأجل ذلك ذكر الله تعالى عن القرآن بأنه كلام سام ويُتلى على مكان عال.

وكما أسلفت فإن المقصود من النحل هو تلك الأمم التي تنمو وتزدهر على ضوء الوحي، والإلهام، ونصحهم الله تعالى قبل نزول الوحي أو القوت الروحاني المقدس بأن عليكم الاهتمام والاستعداد لصيانته والمحافظة عليه.

وبعد الاطمئنان عن صيانة الوحي أو القوت الروحاني، أمر الله : ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ . لقد ذُكرت فيها نكتة دقيقة جديرة بالمعرفة، وهي بأن الذين يدخرون أشياء غالية، ولا يهتمون في صيانتها، فإنهم يضيعونها، وعلى الإنسان أن لا يدخر الأشياء الغالية قبل الاهتمام بصيانتها، إذ من غير المعقول أن يدخر شيئًا من جهة، ويضيعه من جهة أخرى، هذا كفران بالنعمة. ولأجل ذلك قال الله : علمناها أولاً طريق الصيانة، ثم أمرناها “كُلِي”. وهذا تمامًا ما تفعله النحلة في الحقيقة، وإنكم عندما تراقبون النحل ترون بأنها أولاً تبني بيتها في الجبال أو على الأشجار أو في العروش أو في مدادات الزهور، وتهتم بذلك لصيانة العسل، ثم تمتص من الزهور والأثمار غذاءها.

ثم أضاف قائلاً: فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا . لقد أوضح هذا الجزء من الآية الكريمة ما ذكرته آنفًا، بأن المقصود من النحل هو الرجال ذوو المستوى العالي في الروحانية. إن الله قد أنزل الشريعة للإنسان، وأرشده إلى سبيل الهداية بوضوح. وكما تعرفون فإن معنى السبيل هو الصراط الذي نطلبه منه سبحانه في سورة الفاتحة كل يوم في الصلوات مرارًا وتكرارًا. فمعنى: سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا هو سلوك التعليمات المنزلة. وإذا لم تسلكي هذه التعليمات فإنك تفقدين تلك الفائدة التي تفيدك وتفيد الآخرين أيضًا. ولا يكفي بأن تأكلي الثمرات، بل عليك أن تأكليها وتمتصي رحيق الأزهار كما هداك القرآن الكريم. فهذا المثال ينطبق على النحل وكذلك على جماعة المؤمنين بنفس الوقت.

ثم قيل:

يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ .

إن كل نحلة تمتص رحيقًا من نفس الأزهار والأثمار، وبعد هضمها إياه يخرج من بطونها شيء مختلف الألوان، وفيه شفاء للناس.

ويطلق لفظ شفاء في القرآن المجيد على كلام الله أيضًا، وكذلك سُميت سورة الفاتحة الشفاء، لأنها خلاصة القرآن المجيد. وكما أسلفت فقد ذُكر هذا المثال باسم النحل، ولكنه ينطبق على الشعوب التي تجعل كيانها حسب الوحي والإلهام، وتنمو وتتقدم بنور كلام الله . وينطبق هذا المثال على (جماعة المؤمنين) التي أسسها سيدنا محمد المصطفى : ثم قيل: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . إن الله حينما ذكر الآية السالفة مثالاً عن الأنعام، قال في نهايتها لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، وفي مثال النحل قال: لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . وهنا يطرح سؤال نفسه: ما هو الفرق بين (يعقلون) و(يتفكرون)؟ أوضح هذا الفرق على ضوء حديث الرسول . لقد أفهمنا الرسول مفهوم العقل بنوعين: حيث قال: “ما خلق الله خلقًا أكرم عليه من العقل”، أي يُعرف إكرام المخلوق حسب مستوى عقله. لقد منح الله لكل مخلوق درجة من العقل، وأثبته عليها، ووضعها في فطرته بدون سعيه وتدخله. وهذا هو النوع الأول من العقل الذي أشار إليه الرسول في حديثه المذكور.

وعلاوة على هذا فقد حدد لكل نفس مستوى العقل ونطاقه الذي لا تستطيع أن تتجاوزه. وإكرامها بمستوى درجة عقلها. إن حكمة عميقة قد ذكرت في هذا الحديث، وعليكم أن تتأملوا حسب هذه القاعدة في البشر، ثم في الحيوانات درجة بعد درجة. سوف تشاهدون أن كل واحد منها حصل على الإكرام حسب مستوى عقله. ولقد ألقيت ذات مرة محاضرة في جامعة موريشوس حول الارتقاء (Evolution)، وتطرقت فيها إلى أن علماء الطبيعة يحددون درجات الحيوانات بشكل آخر، ويقسمون أنواعها في أقسام عديدة، حسب تطور أجسامها ومكانتها بين مجتمعها وهيئتها الخارجية. فيوجد في بعض الحيوانات العمود الفقري، وبعضها متجردة منه، وتوجد في بعضها خلايا، وبعضها تعيش بدونها، ومثل الدود والعث والسوسة. على هذا الضوء قسم علماء الطبيعة أنواع الحيوانات أي طبق تركيب أجسامها. ولكن القرآن يرشدنا بأن نشأة العقل والوعي هو النمو الحقيقي، ويجب أن تقسم الحيوانات طبق نشأة عقلها. وإذا تأملنا في تاريخ الحيوانات تبين لنا جليًا بأن نمو الأجسام لم يكن ذات أهمية في قوانين الطبيعة.. وليست هنالك فضيلة للجسم على العقل أبدًا. فبعض الحيوانات كانت لها أجسام كبيرة فخمة ويسمونها (الديناصور). ولا نستطيع أن نتصور حيوانًا أكبر منها جسمًا، ولكن ذلك النوع من الحيوانات قد انقرض في دقائق حسب توقيت الطبيعة. وإذا يقول علماء الطبيعة بأنها قد انقرضت خلال لحظات أو دقائق، فلا يقصدون الدقائق حسب التوقيت المعروف، بل يطلقون هذه المصطلحات حسب تاريخ الحيوانات. ومن المعلوم بأن تاريخ الحيوانات ممتد على ملايين أعوام خلت. فحينما يقول العلماء (خلال لحظات) يقصدون مليون سنة أو بضعة آلاف سنة. وهذه الفترة حسب اصطلاحهم تعد من اللحظات.

وأعود إلى كلامي الأول بأن تلك الحيوانات الضخمة هلكت وانقرضت خلال لحظات، ولم يؤخذ بعين الاعتبار ضخامتها عند إهلاكها.. وعندما قال الله في الآية المذكورة (يعقلون) أفهمنا بأن مضمون الآية يتطلب العقل لتفهمه، وأن عليكم التدبر بالعقل.

وإذا نخوض في عمق حديث الرسول نجد مفاهيم واسعة وبليغة جدًا، فلم يقصد الرسول من العقل، العقل المكتسب الذي يُكتسب بالعلم، بل العقل الموهوب من الله في فطرة كل نفس ولا يستطيع المخلوق أن يختاره أو يجلبه بإرادته وقوته.

ثم ذكر الرسول النوع الثاني للعقل في حديث آخر وهو العقل المكتسب حيث قال: “ما كسب أحد شيئًا أفضل من عقل يهديه إلى هدى أو يرده عن ردى”. هذا الحديث ينطبق على قسم من أقسام التقوى، وكأنه اسم واحد لشيئين. تحدث الرسول في هذا الحديث عن نوعين من العقل: النوع الأول يكتسب بالعلم والجهد، ومن مميزاته بأن الإنسان يبدأ بإدراك الهداية، ولكن لا يكفي مجرد عرفان الهداية، بل إذا تقبلها وبدأ يمشي حسبها فتقول بأنه نال النوع الثاني من العقل. ومن مميزات العقل بأن الإنسان يفرق بين الخبيث والطيب، ويتجنب من الخبيث. فيطلق على هذا الوصف العقل وبمفهوم آخر هذه هي التقوى. ولتوضيح الأمر أقدم إلى حضراتكم مثالاً من القرآن الكريم حيث قال: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ . وهذا يعني بأن هذا الكتاب مجرد من الشك والريب. ولم يكتف بقوله بأنه لا يوجد في القرآن ريب ولا شك، وأنه هداية للنجاة، بل أضاف: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ، أي إن تريدوا أن تستفيدوا من هذه الهداية فزودوا أنفسكم بالتقوى. فسيدنا محمد المصطفى أيضًا فسَّر (العقل) هكذا مثل تفسير (التقوى) حيث قال: “عقل يهديه إلى هدى ويرده عن ردى”.

ورد تفسير التقوى في موضع آخر في القرآن بمفهوم آخر بأن يجتنب الإنسان من السيئات والآثام، وكذلك وصف في حديث الرسول : “يرده عن ردى”. فحينما قال الله : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، فكأنه أفهمنا بأن في هذا المثال آية للعقلاء ودرسًا لذوي الألباب الذين حينما يشاهدون شيئًا جيدًا فيقبلونه، وعندما يشاهدون شيئًا خبيثًا أو معصية يتجنبون.

وخلاصة القول بأن العقل يطلق على قدرة التمييز الذي منح للبشر ذوي الشعور، وتتمتع الحيوانات أيضًا بجزء من العقل المذكور.

أما قوله تعالى: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، فأقول: لم توهب الحيوانات مثلما وهب البشر من ميزة التفكر. وحينما ذكر الله مثال النحل وقال في آخر الآية (يتفكرون)، أفهمنا بأنكم لن تستطيعوا أن تدركوا مفهوم الآية بسهولة، فعليكم التوقف عند هذه الآية والتدبر ويتتبعه بفكره. وتشير القواميس كذلك إلى هذا المعنى، فحينما يتفقد الإنسان شيئًا بنور العقل يقال: فلان (يتفكر). ومن الممكن أن ندرك مفهوم العقل والتفكر من (الكمبيوتر)، فهي آلة قريبة جداً من العقل. فحينما تشغلون الكمبيوتر وتطلبون منه عددًا أو إيضاح شيء فيدور التيار الكهربائي بسرعة داخل نظام الكمبيوتر، ويتفقد ذلك العدد أو الإيضاح المطلوب، وحينما يجدها يتوقف عندها، وينفتح منفذ الضوء، وتظهر الأعداد أو الصور بضوء الكهرباء على الشاشة. فالكمبيوتر مثل العقل، وتيار الكهرباء الذي يتفقد في داخله هو بمثابة (التفكر). فالعقل له المرتبة الأولى، والتفكر له المرتبة الثانية.

وإن القرآن الكريم خاطب الناس الذين يشاهدون أمورًا عادية ولا يهتدون قائلاً: أَفَلَا تَعْقِلُون ، وقال عنهم في موضع آخر

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (البقرة: 172).

إن الله ذكر أمورًا عادية آملاً بأن الناس حينما يدرسونها سوف يهتدون بها، وإذا كان بعض الناس يمرون عليها بدون أن يهتدوا فإنه تعالى نبههم قائلاً: أَفَلَا تَعْقِلُون . وأضاف بأن هذه الأمور العادية لا تتطلب منهم (التفكير العميق) لاستيعاب الهداية. وإذا لم يهتدوا بها فتصبح حالتهم مثل الصم، البكم، العمي. وبالرغم من أن الحواس الخمسة متواجدة فيهم ولكنها أصبحت معطلة وصدئة.

وكما أسلفت فإن الله استعمل لفظ (التفكر) للمضامين العميقة والدقيقة، وأينما ورد في القرآن (التفكر) فمطلوب من القارئ هناك التفكر العميق والدقيق، وعلى سبيل المثال قوله تعالى: (أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جِنة) (الأعراف: 185). إذا كان بعض الناس لم يستوعبوا صدق النبي من المظاهر البارزة، فلماذا لا يُشغلون (تفكرهم) لإدراك صدقه. فعليهم أن يتفكروا في أن علامات المجانين غير موجودة فيه. وكذلك فإنه حينما كان يبلّغ كلامه ورسالته إليكم كان يتحمل الإساءة والخسائر، ويتلقى الضرب، ويسمع الشتائم، ويواجه الصعوبات والإهانات منكم، ورغم ذلك كان يستمر في إبلاغ رسالته بالصبر، ولم يتوقف أبدًا. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هذه أوصاف مجنون أو أوصاف رجل ذكي عاقل وثابت على الحق. ولو لم يكن هو بالرجل الذكي العاقل لما قدم إليكم كلامًا بليغًا وفصيحًا. فهذه المقارنة تتطلب منكم التفكر.

إن الله خاطب الناس بهذه الآية وقال: إنكم تعرفون جيدًا بأن محمدًا رجل عاقل فهيم، وهل يليق به أن يختلق الافتراء، وبعد الافتراء يتحمل مصيبة على مصيبة من الأعداء، ولا يتخلى عنه. فكل ذي عقل يستنتج من هذه الأوصاف أنها ليست بصفات مجنون، ولكنه رسول صادق وقائم على الحق.

لقد أدركتم هذا المضمون بعد التفكر والتأمل في الآية المذكورة، ولأجل ذلك استعمل الله لفظ يتفكرون، تشجيعًا للتفكر فيها.

وأيضًا يقول الله تعالى:

كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (البقرة: 220-221).

أي ليس من الميسور أن تستوعبوا مضمون الآخرة بسهولة، لأنه يتعلق بالغيب والعالم الآخر، فبإمكانكم استيعابه بالتفكر في الدنيا الموجودة أمامكم. ولا يكفي الاستيعاب بالعقل وحده، بل المفروض متابعته بالتفكر.

المثال الثالث بهذا الشأن هو قوله:

لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (الحشر: 22).

علينا أن نتوقف برهة ونتأمل في قوله تعالى:

تِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ،

لندرك أننا لا نستطيع استيعاب مضامين الآية بدون التفكر، لأن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: كيف ينزل القرآن على جبل وكيف يتصدع ويتقطع بنزوله. وبما أننا لا نستطيع أن نشاهد تحقيق هذا المضمون بالبداهة، لذلك نصحنا الله بالتفكر والتدبر فيه.

وأعود إلى تفسير الآية عن النحل. لقد فهمنا الله تعالى بأن (التفكر) في مضمون الآية مطلوب منكم، وحينما تخوضون في عمق الآية بقيادة العقل والتفكر تدركون مفاهيمها الدقيقة، وننبهكم بأن لا تتلوها تلاوة عابرة، وإنما عليكم التوقف والتفكر فيها واستيعاب الرسالة الكامنة فيها وتفهمها.

لقد أُلّفَتْ كتبٌ قيّمة عن النحل، وكنت أود أن أقدم إلى حضراتكم تفاصيل النحل على ضوء تلك الكتب لتتفكروا، ولكن وقت الخطبة قصير ومحدود، لذا لا أستطيع الخوض في تفاصيل النحل، وأؤجلها إلى وقت آخر، وإذا وفقني الله تعالى فسألقي عليها الضوء في المستقبل. وهنا أريد أن أقول بأن جماعة المؤمنين هذه المكونة من أفراد الجماعة الإسلامية الأحمدية قد حظيت بالتربية تحت ظل الوحي، وتعلمت التعاليم الربانية بالإلهام، وبدأت تعمل وتمشي حسبها، متجنبة الكِبْر والأنانية، ومتحلية بالتواضع، وبدأت تسير دونما اعتراض على السبل التي حددها لها ربها. وبفضل هذه الخصال الحميدة تلقت رحيقًا روحيًّا كقوت لها. وبعد الحصول عليه تبذل كل جهد لتحسينه. كما قلت فمضمون هذه الآية التي طُلب منا التفكر لفهمه ينطبق أيضًا على المؤمنين، لأنهم حينما ينالون رحيقًا روحيًا (أي نقاط روحانية) لا يتركونه كما هو، بل يتفكرون فيه، ويصقلونه، ويصنعون منه شيئًا جديدًا هو بمثابة عسل روحاني، ثم لا يستفيدون منه بأنفسهم فحسب، بل يستفيد منه الآخرون كذلك. وفيه شفاء عظيم لأمراض الناس الروحانية.

ونحن على يقين تام بأن الجماعة التي ذُكرت في هذه الآية، أسست حسب نبأ القرآن على يد سيدنا محمد المصطفى في الأميين، وفي العصر الحاضر في الآخرين، أي الجماعة الإسلامية الأحمدية. ومن الضروري بأن يعوّد أفرادها أنفسهم على التفكر في الأمور الروحانية. عندما تفكرون في شيء فعليكم أن تتفكروا على ضوء الوحي والإلهام، وليس بمشاعر الكبرياء. لأنه إن لم يتخل المرء عن مشاعر الكبرياء، وبدأ التأمل في آية من القرآن الكريم، فمن الممكن بأن تخدعه نفسه، وليس من المستبعد أن تنشأ فيه أفكار شيطانية بسبب الكبرياء، فيستحيل عليه عرفان القرآن الكريم بالمعنى الحقيقي. ولقد ذُكرت لنا في الحقيقة رسالة هامة في قوله تعالى: فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا .. بأنكم لن تستطيعوا أن تستوعبوا المفاهيم الروحانية متكلين على أنفسكم فقط، بل عليكم أن تسلكوا سبل التواضع والتذلل، وتحسبوا أنفسكم لا شيء محضًا، وتتبعوا تعليمات القرآن وسنة محمد ، ثم عليكم بالتفكر والتدبر فيها، واجترارها كما يجتر البعير أكله، لأن الاجترار الفكري هو مفهوم التفكر. ثم عليكم باستمداد النور من العقل مع التقوى. وكما أسلفت، فإن المقصود هنا من العقل حسب حديث الرسول هو التقوى. ومعنى التفكر أن يتتبع الإنسان المضامين بنبراس العقل. فعليكم أن تبحثوا عن النقاط الجديدة بمصباح العقل، وإذا وجدتموها فعليكم أن تستغلوها لفائدة البشرية، لأن فيها شفاء للناس. وكل واحد منكم مصبوغ بصبغة مختلفة عن أخيه، وكل واحد يتمتع بالعقل والفكر بمستوى مختلف عن الآخر. كلكم تمتصون رحيقًا من مصدر واحد، وهو تعليمات القرآن المجيد والرسول ، ولكن تأتون منها بمضامين جديدة مختلفة الألوان، فيها شفاء للناس. وإن الجماعة الإسلامية الأحمدية تمتص رحيقًا من القرآن الكريم ومن كلام الرسول . هذا هو سر طاقتها وقوتها. وكل فرد منها يجب أن يتفكر بالتواضع متجنبًا الكبرياء، واضعًا ثقته على نور الوحي، وليس على نفسه.

وحينما نتأمل في الماضي لإدراك مضمون الوحي، نجد بأن بعض الناس العاديين وهم من المحدثين قاموا بعد نزول الوحي وعملوا حسب الوحي كما كان مطلوبًا منهم، ثم ترقوا في التفكر والتأمل، فقام من بينهم بعض الرجال الذين تلقوا الوحي مباشرة من الله . والذي وصل إلى هذا المقام، أصبح علمه كاملاً. فمثل هؤلاء صنعوا العسل لشفاء الناس. وكثير من علماء المسلمين تأملوا في القرآن الكريم والأحاديث، وكتبوا كتبًا قيمة، ولكن الشفاء والجمال والرائحة العطرة التي نجدها في كلام سيدنا أحمد بفضل الوحي لم نجدها في كلامهم.

فالمطلوب منكم أن تترقوا إلى هذا المقام الرفيع، كي تدخلوا في زمرة أصحاب الوحي. وحينما تدخلون في تلك الزمرة يوضع الشفاء في كلامكم، وتتصبغ أقوالكم بصبغة جميلة.

لقد ذكرتُ مثال النحل وقلت لكم بأن هذا المثال ينطبق على الجماعة الإسلامية الأحمدية من نواح عديدة. إن النحل تدور على الزهور، وتمتص رحيقًا، وتصنع منه العسل. ومن المعلوم بأن العسل له أنواع عديدة وتأثيرات متنوعة. وعندما تأكل النحل هذا العسل تصنع غذاء آخر، يسمونه العسل الملكي (Royal Jelly)، والنحلة بنفسها تأكل قليلاً من العسل الملكي ومعظمه يُقدم إلى ملكة النحل التي لا تأكل العسل العادي الذي يُصنع من رحيق الزهور، بل تعيش على العسل الملكي فقط، الذي يولد فيها قدرة غير عادية على أن تلد أولادًا كثيرين.

وينطبق هذا المثال بعينه من هذه الناحية على الجماعة الإسلامية الأحمدية. إن أفرادها يتفكرون في كلام الله ، وفي أمور دنيوية أخرى، ويمتصون منها رحيقًا، وينالون منها العقل والفهم. وكأنهم يصنعون العسل، ويستفيدون منه بأنفسهم، كما يفيدون الآخرين. كلما وجد أحدهم نكتة ممتعة يرسل إلي عن طريق الرسائل أو يذكرها عند اللقاء. والنكات التي أقدمها إلى حضراتكم إنما هي خلاصة الهدايا المرسلة من طرفكم، وأنا بدوري أوزعها بينكم مرة ثانية. وهذا المثال ينطبق على كل خليفة من خلفاء سيدنا أحمد . فالخلفاء لا يمنحونكم كنوزًا روحانية فقط، بل ويستلمونها منكم أيضًا، وتصل إليهم من مختلف أنحاء العالم نقاط لا تصل إلى كل واحد منكم مباشرة، فتصل إلى الخليفة خلاصة عقول أفراد الجماعة الإسلامية الأحمدية ولب أفكارهم.

وإذا كتب إلي أحد من أفراد الجماعة نكتة علمية، فلا يخطر في بالي أنه رجل عادي لا يجوز له أن يكتب إلي تلك النكتة، وإنما أعتبر رفضها فسقًا وكبرًا. أحيانًا يرسلها إلي بعض القرويين والأميين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، فيطلبون من الآخرين أن يكتبوا أفكارهم إلى الخليفة. وأحيانًا يكتب هؤلاء القرويون من نكات المعرفة ما يدهش الإنسان، وحينما أقرأها أغتبط جدًا، وأستفيد منها. فعليكم أن تدركوا جيدًا بأنكم حينما تصنعون (العسل الملكي)، وترسلونه إلى الخليفة فإنه يستمد منه قوة وطاقة روحية. لذلك أنصحكم أن ترسلوا ملخص أفكاركم إلى الخليفة. وهذا يجلب عليكم فائدة مزدوجة، فعندما يشعر الخليفة بأي خطأ في نكاتكم وأفكاركم ينبهكم إلى الخطر، ويخبركم بأن تلك النكات ليست حسب (سبل ربك)، ويحذركم بأن لا تمتصوا الرحيق من تلك الزهور السامة، وأن لا تصنعوا منها شيئًا، لا لأنفسكم، ولا لغيركم. مع العلم أن النحل أحيانًا تمتص رحيقًا من الزهور السامة، ولا تظنوا بأنها دائمًا تمتص من الزهور الجيدة. فعلينا أن نأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار، لأن آية النحل تتحدث عن العبرة. بيَّن الله بأن النحل تصنع أحيانًا عسلاً سامًا، مضر للناس، بل وفي بعض الظروف يكون مهلكًا. ولقد فحص الخبراء هذا الموضوع، وعرفوا تلك المناطق التي توجد فيها تلك الأخطار. وكما تعرفون فأغلب الأحيان يكون العسل شفاء للناس، ولكن، كما أسلفت، فمن المحتمل أن يمتص بعض الإخوان سمًا عوض العسل خطأ، لذا أنصحكم أن تظلوا دائمًا تحت ظل الخليفة الرقيب عليكم.

ثم المطلوب منكم أن لا تقدموا أمام الخليفة كل أفكاركم، بل تقدموا (العسل الملكي) فقط، أي ملخص أفكاركم، وفيه حكمة هامة، لأنه إذا قدم كل واحد بأفكاره أمام الخليفة مفصلاً، فلا يتمكن الخليفة من أن يفكر في أمور أخرى. نقول اليوم بأن عدد أفراد الجماعة الإسلامية الأحمدية في العالم هو عشرة ملايين، وسوف يزداد هذا العدد في المستقبل إن شاء الله، إلى ألف أو ألفي مليون. فإذا بدأ كل واحد منهم بكتابة أفكاره إلى الخليفة حتى وملخص أفكاره فقط، فلن يتمكن الخليفة حتى من أن يلقي نظرة عابرة وخاطفة على رسائلهم.

فعليكم أن تتعلموا درسًا من عملية تقديم (العسل الملكي). فأولاً تأملوا في نكاتكم وأفكاركم جيدًا، وبعد التأمل إذا أدركتم منها نكتة هامة جديرة بأن ترسل إلى الخليفة، فأرسلوها إلي. وانا أفحصها، فإن وجدت فيها خطأ، أو شعرت أن فيها شيئًا من السموم، أنبهكم وأفهمكم الحقيقة. هذا دأبي وأسلوبي، فبعض الناس يكتبون إلي أحيانًا نكتة تنم عن معرفة وعرفان حسب زعمهم، وأنا أحس أن فيها السم، وأشعر أن فيها خطرًا لهم، وأعرف بأن هؤلاء الناس إذا لم يتجنبوا أفكارهم الخاطئة سوف تؤدي بهم إلى الهلاك. فاحذرهم منها بحب ورفق، وبعد أن يتلقوا جوابي أجد من غالبيتهم ردود فعل إيجابية، وليس سلبية إلا ما شذ وندر. فيشكرونني ويدعون لي على هذا التوجيه إلى الصراط المستقيم قائلين: لقد شعرنا بخطئنا، وإننا تائبون ومستغفرون.

أعزائي! كان هذا هو مضمون للآيات المذكورة التي استمعتم في مستهل الخطبة. وأقول لكم بأن هذا الموضوع طويل، لا أستطيع حصره الآن. وأعتقد بأنني وضحت جزء من الأمور الهامة التي ذكرت في الآيات المذكورة. ونسأل الله أن يوفقنا أن نتفكر في هذه المضامين أكثر من ذي قبل، وأن يصبح كل واحد منا النحلة التي تسلك سبل ربها ذللاً، ونمتص من الثمرات الروحانية رحيقًا، ونصنع منه العسل شفاء للناس، وليس سكرًا مضلاً لهم. آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك